الحلقةالثالثةوالثلاثون
**********
بعد الانتصار الذي حقّقته، ليلة أن أفسدت ُ على أروى سعادتها، شعرت بنشوة كبيرة!
كيف لا، و ليلتها.. بقى وليد قلبي معي في المستشفى ، يحيطني بالرعاية و العطف !
لقد زالت جميع الآلام المفتعلة التي أرغمت معدتي على التظاهر و الإحساس بها ، بمجرد أن رأيت وليد مقبلا نحوي بقلق !
و تحوّلت إلى رقص عندما رأيه أصابع يده خالية من أي محابس !
سألته بعد ذلك، و نحن في المستشفى، و أنا أنظر إلى يده اليمنى :
" أين خاتمك ؟ "
وليد فكّر قليلا ثم قال :
" في علبته ! "
شعرت بسعادة كدت معها أضحك بقوة ! لكنني منعت نفسي بصعوبة لئلا يكتشف وليد بأنني لا أشكو من أي شيء !
إلا من غيرتي من الدخيلة، و رغبتي في إبعادها عني نهائيا
أخفضت نظري لئلا يقرأ وليد ما بعيني من فرح و مكر .. و بقيت كذلك بضع ثوان، ، إلى أن سمعته يقول :
" و أنت ؟؟ "
رفعت نظري إليه ، في بلاهة ! ماذا يعني ؟؟
قال :
" أين خاتمك ؟ "
و من عينيه إلى يدي اليمنى مباشرة ! لم أرتده مذ خلعته تلك الليلة !
قال :
" لا تقولي أنك أضعته مجددا ! "
قلت مداعبة :
" هل وجدته ؟؟ "
وليد اندهش و قال مستغربا :
" أحقا أضعته ثانية ؟؟ أي فتاة أنت ! "
قلت مباشرة :
" أنا رغد ! "
ابتسم و قال :
" حقا !؟ كدت ُ أنسى ! كنت ِ تضعين ألعابك و تأتين إلي طالبة مني البحث عنها ! "
ابتسمت ُ بخجل...
قال :
" لكنها كانت ألعاب .. أما هذا .. "
و بتر جملته...
و ظل ينظر إلي بصمت برهة.. ثم وجه عينيه نحو الجدار...
قلت :
" وليد .. "
بصوت خافت هامس، التفت إلي و أجاب :
" نعم ؟ "
" هل.. ستظل تعتني بي .. فيما لو بقيت ُ دون زواج عشر سنين أخرى ؟ "
استغرب وليد من سؤالي، ثم قال :
" و عشرين، و خمسين ، و مئة ! "
قلت بخجل :
" حقا وليد ؟ "
" طبعا صغيرتي ! إنك جزء مني ! "
كدت ُ أقول بسرعة :
" و أنت كلّي ! "
و لكنني خدّرت الجملة في لساني لئلا تصحو !
قلت و أنا أعبث بأصابعي :
" وليد ... "
و أتممت :
" تخلّصت ُ من الخاتم "
و نظرت إليه لأرى تعبيرات وجهه
بدا مستغربا حائرا
قلت موضّحة أكثر :
" سامر حل ّ رباطنا و لذلك .. خلعته "
هي تعبيرات غاية في الغموض ، تلك التي ارتسمت على وجه وليد لحظتها... ذهول مفاجأة ، صدمة، استياء... عدم تصديق، أو .. لا أدري.. لا أدري ما كان معناها...
بعد صمت الاستيعاب و التفكير ، قال :
" إذن .. إذن ... أنت و سامر ... "
أتممت ُ جملته :
" لم نعد مرتبطين ! "
وليد وقف فجأة ، و أخذ يحوم...في الغرفة ، يفكّر .. ثم استدار إلى فجأة و سألني :
" لماذا يا رغد ؟ "
تبادلنا نظرة عميقة، ثم أحنيت رأسي و أخفضت عيني نحو الأسفل.. خشية أن تصرخ الجملة من عيني : ( لأني أحبك أنت ! )
التزمت الصمت، و لم أرفع بصري إليه مجددا... فما كان منه إلا أن أقبل نحو الستارة ليغلقها
بعدما أغلقها حول سريري، قال جملة أخيرة :
" مهما كان السبب، و لأنك تحت رعايتي الآن، فاحذفي فكرة الزواج من رأسك نهائيا.. طوال السنين المقبلة "
~ ~ ~ ~ ~ ~
[COLOR=dark blue]
الآن، و أخيرا..أصبحت رغد حرّة !
اتصلت بسامر و علمت منه بالتفاصيل، و الجملتان اللتان ظلتا معلقتين في رأسي كانت أولاهما :
" لا داعي لأن تأتيا لزيارتي ، لا أريد أن أراها "
أما الثانية، فهي :
" تستطيع أن تتزوّج الآن ممن أرادت "
" من تعني ؟ "
" اسألها ! "
كل هذا أكد لي ، أن رغد بالفعل انفصلت عن سامر من أجل رجل آخر... و هذا الآخر لن يكون غير حسام، و أنا لن أكون وليد إن سمحت لها بالزواج من أي مخلوق على وجه الأرض.. فرغد من هذه اللحظة أصبحت لي ! نعم لي !
و مهما كانت العقبات، و مهما عاندت الظروف، فسوف لن أسمح لأي رجل بدخول حياتها و سرقتها مني مجددا.. و لن تكون في النهاية إلا لي أنا..
توالت الأيام، و رفع الحظر أخيرا عن المدينة الصناعية و صار بإمكان الناس التحرك منها و إليها دون خطورة .. و ما أن حدث ذلك ، حتى طالبتي رغد بأخذها إلى بيت خالتها و ألحّت علي بالطلب ، الأمر الذي جعل الشكوك في رأسي تكبر و تتفاقم و أصبحت مهووسا باسم حسام حتى صرت أراه في الكوابيس...
و بعد إلحاح شديد منها وافقت على اصطحابها لزيارة عائلة خالتها بمجرد انتهاء موسم الحصاد .
~ ~ ~ ~ ~
بعد أيام، سيأخذني وليد أخيرا لرؤية خالتي و نهلة و الجميع ... كم اشتقت إليهم ! كم من الشهور مضت مذ افترقنا في تلك الليلة الحمراء ...
كنت رغم ذلك على اتصال شبه يومي بنهلة أخبرها عن كل شيء يدور من حولي و داخلي ...
في أحد الأيام، كان وليد يعمل في المزرعة كالعادة، و كنت أراقبه و أرسم منظرا جميلا على مقربة منه، الشقراء كانت داخل المنزل مشغولة ببعض الأمور مع والدتها
فجأة ، إذا بي أرى أناس غرباء يدخلون المزرعة، و يعبرون الممر و يقتربون منّي !
كانوا أربعة رجال... تقدّم أحدهم نحوي أكثر و سأل :
" أأنت الآنسة أروى نديم ؟؟ "
قال آخر مقاطعا :
" أرأيت ؟ كما توقّعت ! إنها فتاة قاصر ! "
قال الرجل الأول و هو يقترب أكثر :
" أنت هي ؟ "
تراجعت أنا للوراء، و ألقيت بالفرشاة و علبة الألوان جانبا و هتفت :
" وليـــــد "
وليد كان يعمل بالجوار.. ، و حين سمع ندائي أقبل مسرعا .. فلما ظهر أمام عيني ركضت إليه في ذعر ...
" رغد .. ماذا هناك ؟ "
و نظر إلى الرجال الغرباء ...
ثم سألهم :
" من أنتم ؟؟ "
قال الرجل الذي تحدّث إلي :
" أنا المحامي يونس المنذر، و هؤلاء رجال قانون أتباعي ، أتينا بحثا عن الآنسة أروى نديم "
و نظر باتجاهي أنا
اختبأت أنا خلف وليد، و أطللت برأسي لأراهم !
قال المتحدّث :
" أهي هذه ؟ "
قال وليد :
" لا ، لكن هل لي أن أعرف ماذا تريدون منها ؟ "
قال المتحدّث :
" أهي هنا ؟ أ هذه مزرعة المرحوم نديم وجيه ؟ "
" نعم . فماذا تريدون منها ؟ "
" عفوا من تكون يا سيد ؟ "
" وليد شاكر، زوج أروى نديم "
تبادل الرجال جميعهم النظرات ، ثم قال المتحدّث :
" هل يمكننا التحدث إلى السيدة أروى ؟ فالأمر مهم "
قال وليد :
" هل لي أن أعرف .. الموضوع ؟؟ "
قال الرجل :
" الموضوع يتعلق بإرثها، و لكن لا أريد مناقشته دون حضورها شخصيا و مع البطاقة المدنية ، بعد إذنك "
وليد استدار ليتحدّث معي ...
" رغد، من فضلك، استدعي أروى، و اطلبي منها إحضار بطاقتها ، و احضري بطاقتي من محفظتي ، تجدينها في أول أدراج الخزانة في غرفتي "
أذعنت للأمر و ذهبت مسرعة نحو أروى ، و أخبرتها بالأمر، ثم أسرعت إلى غرفة وليد أفتّش عن محفظته
استخرجت المحفظة من أحد أدراج الخزانة، و أخرجت البطاقة منها و أثناء ذلك ، لمحت شيئا داخل المحفظة أثار فضولي !
مجموعة من قصاصات الورق مرصوصة خلف بعضها البعض و مدسوسة خلف البطاقة !
بفضول سحبت واحدة منها فاكتشفت أنها جزء ممزق من صورة فوتوغرافية ما !
استخرجت القصاصة الثانية ، و الثالثة ، و الجميع، حتى وجدت قطعة حاوية على وجه شخص !
رتبت القصاصات .. حتى اكتملت الصورة ، و صارت جليّة أمامي ...
صورة لفتاة صغيرة، تجلس على الأرض، و أمامها علبة ألوان و دفتر تلوين تلّون رسومه ... صورة لا يقل عمرها عن 13 عاما كما لا يزيد عمر الطفلة الظاهرة فيها عن 5 سنين !
إنها صورتي أنا !!
" رغد "
سمعت صوت أروى مقبل نحوي فأعدت القصاصات بسرعة كيفما اتفق، و أخذت البطاقة و خرجت مسرعة من الغرفة ...
" ها أنا "
خرجنا سوية من المنزل إلى المزرعة، فوجدنا وليد و الرجال الأربعة و قد جلسوا على المقاعد الموجودة حول طاولة موضوعة على مقربة من المنزل ...
حينما أقبلنا.. وقف الجميع .. و قال وليد مشيرا إلى أروى :
" هذه هي أروى نديم وجيه "
و بعد أن استوثق الرجال من البطاقة ، قال ذلك الرجل نفسه :
" إذن فأنت لست فتاة قاصر كما اعتقدنا "
قالت أروى :
" أنا في الرابعة و العشرين من العمر ! "
قال الرجل :
" هذا سيسهّل مهمّة استلامك للإرث "
أورى و وليد تبادلا نظرة التعجب ، ثم قالت :
" الإرث ؟ أي إرث ؟ والدي رحمه الله لم يترك لنا غير هذه المزرعة ! "
و أشارت بيدها إلى ما حولها ...
الرجل تحدّث قائلا :
" لا أتحدّث عن إرث والدك رحمه الله "
تعجبت أروى ، و سألت :
" من إذن ؟؟ "
قال الرجل :
" عمّك المرحوم عاطف وجيه "
حملقنا نحن الثلاثة في وجوه بعضنا البعض، في منتهى الدهشة و الاستغراب ، و إن كنت أنا أقلهم استغرابا !
قال وليد :
" عاطف وجيه ؟؟ أبو عمّار ! "
أجاب الرجل :
" نعم أبو عمّار ، رحمهما الله "
وليد و أروى نظرا إلى بعضهما .. ثم إلى الرجل الغريب ...
سألت أروى :
" عمّي عاطف ! عجبا ! لقد مات قبل عام ! هل ذكرني في وصيته !؟ "
الرجل قال :
" لم يترك المرحوم وصية، كما لم يترك وريثا ، لكنه ترك ثروة ! "
ازداد تحديق وليد و أروى في بعضهما البعض ، ثم سألت أروى :
" ثروة ؟ "
قال الرجل :
" نعم ، و لك منها نصيب كبير "
حلّ الصمت برهة ، ثم قالت أروى :
" ما يصل إلى كم تقريبا ؟ "
قال الرجل بصوت تعمّد أن يكون واضحا رنانا :
" ما يصل إلى الملايين يا سيدتي ! "
فغرت أروى ، و كذلك وليد و أنا.. كلنا فغرنا أفواهنا من الذهول ... و قالت أروى غير مصدّقة :
" ملا...يين ؟؟ تركها لي ..!! "
قال الرجل :
" نعم ملايين ! "
هزّت أروى رأسها غير مصدّقة... و هي تضع يدها على صدرها من الذهول ...
قال الرجل :
" يبدو أنك لم تكوني على علم ٍ يا سيّدتي.. بأن عمّك المرحوم عاطف وجيه كان مليونيرا فاحش الثراء ! "
~ ~ ~ ~ ~
لقد كانت مفاجأة هزّت كياننا جميعا ...
عاطف وجيه، هو والد عمّار القذر، الذي قتلته بيدي قبل تسع سنين ..
و عاطف هذا ، كان رجلا شديد الثراء و يملك العديد من الأملاك ... و من بينها مصنع كبير كان يضاهي معظم مصانع المدينة الساحلية، و هو مصنع لم تلمسه يد الحرب، كما فعلت بمصانع أخرى ، منها مصنع والدي السابق ...
حقيقة، كان حدثا مزلزلا شل ّ حركتنا و أفكارنا طوال عدّة أيام...
و الفتاة الفقيرة التي ارتبطت بها ، و التي قبلت بي على حالي و عللي ، و فتحت قلبها و بيتها و كل ما لديها من أجلي، و التي كنت أفكر بالانسحاب من حياتها من أجل رغد... أصبحت الآن..مالكة لثروة كبيرة !
يا للأيام ...
يا للزمن .. الذي يؤرجحنا و مصائرنا إيابا و ذهابا... علوا و هبوطا... مستقبلا و ماض ٍ !
كان يفترض عليها السفر إلى المدينة الساحلية من أجل إتمام الإجراءات اللازمة شخصيا.. و استلام نصيبها العظيم من تلك الثروة...
و كان علي أنا ترتيب الأمور من أجل هذه الرحلة، إلى المدينة الساحلية، مدينتي الأصلية، و التي لم أزرها منذ زمن..
" هل تصدّق يا وليد ؟؟ إنني لا أكاد أصدّق ! كأنه حلم ! آخر شيء كنت أتوقعه في الوجود على الإطلاق..هو أن أرث شيئا و من ثروة عمّي الذي لم أره في حياتي غير بضع مرّات عابرة ! "
قالت ذلك ، و هي بين التصديق و التكذيب.. تشع عيناها فرحا و ابتهاجا..
قلت :
" سبحان الله ! "
أروى، مدت يديها و أمسكت بيدي و قالت :
" شدّ على يدي ّ بقوّة يا وليد ! دعني أحس بالألم لأتأكّد من أنها حقيقة "
ابتسمت لها و قلت :
" إنها حقيقة مذهلة ! صدّقي يا أروى ! أصبحت ِ ثرية ! "
أروى نظرت إلي بسعادة، و اغرورقت عيناها بالدمع، ثم ارتمت في حضني ...
" ضمّني بقوّة يا وليد.. فأنا أريد أن أشعر بأنها الحقيقة..بأنني لا أحلم..بأنني في الواقع..وبأنك معي ! "
أحطتها بذراعي مشجعا ..و مؤكدا لها ما أعجز أنا نفسي عن تصديقه... و مكررا :
" سبحان الله...سبحان الله "
أغمضت عيني، و نحن متعانقين، و سبحت في بحر الذكرى البعيدة... استعرض شريط حياتي و المفاجآت التي اختزنها القدر لي ، و صدمني بها مرة تلو أخرى ...
قالت أروى :
" ماذا سنفعل الآن؟؟ "
" لا أعرف ! لازلنا في أول الطريق ! "
ابتعدت أروى عن صدري قليلا، و نظرت إلي مطولا، و ابتسمت و قالت :
" لا حاجة للقلق..ما دمت معي "
ابتسمت لها، فعادت و غمرت رأسها في صدري بارتياح...
أما أنا فأغمضت عيني في ألم...و مرارة ..في حيرة و ضياع.. ماذا سأفعل الآن؟؟ ماذا ينتظرني بعد ؟؟ ماذا تخبئين لي أيتها الأقدار ؟؟
و عندما فتحتهما..لمحت عينين حمراوين..ملأتهما الدموع..تنظران إلي بألم، مطلتين من فتحة الباب.. و ما أن رأيتهما ..حتى انسحبت صاحبتهما مبتعدة .. تاركة إياي في بحر من الضياع..
لم استطع البقاء مكاني لحظة بعد.. أبعدت أروى عني قليلا و قلت :
" دعيني أذهب لترتيب بعض الأمور.. من أجل السفر "
أروى ابتسمت و قالت :
" و أنا أيضا سأرتب بعض أموري... لا أدري كم سنغيب هناك ! "
و تركتها و تسللت نحو غرفة رغد..
طرقت الباب مرارا لكنها لم تجبني، و حين هممت بالانصراف رأيت مقبض الباب يتحرك أخيرا...
في الداخل، وجدت رغد غارقة في الدموع المريرة..فتصدّع فؤادي و طار عقلي خوفا عليها...
" ما بك صغيرتي؟؟ ماذا حصل ؟"
رمتني رغد بنظرة ثاقبة .. لم يكفها تمزيق أحشائي بل و صهرت الجدار الذي خلفي من حدّتها...
" رغد !؟ "
قالت :
" متى ستسافران ؟ "
قلت :
" خلال أيام معدودة "
قالت :
" هل يجب أن تذهب أنت ؟ "
استغربت سؤالها و أجبت :
" طبعا ! فأروى ستكون بحاجة إلي بالتأكيد ! "
قالت بنبرة حزينة :
" و أنا ؟ "
نظرت إليها بتعجّب ، و قلت :
" بالطبع ستكونين معنا ! "
رغد لم تعقّب، بل أحنت رأسها للأسفل بحزن...
اقتربت منها أكثر ، ثم قلت :
" رغد ! و هل تظنين أنني سأترك هنا و أذهب ؟؟ "
رغد رفعت رأسها و نظرت إلي نظرة جعلت قواي تخور فجأة ...
قلت بصوت ضعيف واهن :
" أرجوك يا رغد.. ماذا تقصدين ؟ أخبريني بلسانك فلغة العيون هذه ..ترسلني إلى الجنون "
قالت رغد :
" ستصبحان ثريين ! "
ثم أضافت :
" هنيئا لكما ! "
و غطت وجهها بيديها كلتيهما و بكت بكاء ً مؤلما...
" أرجوك يا رغد، لم كل هذا ؟؟ ماذا يجول برأسك الآن ؟؟ "
رغد قالت و هي على وضعها هذا :
" دعني وحدي "
لم أقبل، قلت مصرا :
" ما بك الآن ؟ أخبريني أرجوك ؟؟ "
أزاحت رغد يديها و رمقتني بنفس الناظرة ، و قالت :
" أريد الذهاب إلى خالتي ! هلا ّ أخذتني إلى هناك ؟ "
رتبنا الأمور للسفر برا ، أنا و رغد و أروى و الخالة ليندا ، فيما ظل العم إلياس في المزرعة، يهتم بأمورها بمساعدة الأشخاص الذين عيّنتهم أنا للعمل عندنا قبل مدّة.
خطة سفرنا كانت تقتضي منا التعريج على المدينة الصناعية أولا ، من أجل زيارة عائلة أم حسام، كما ترغب رغد و تلح، و من ثم الذهاب إلى المدينة الساحلية.
في السيارة، كانت أروى تجلس على المقعد المجاور لي، و كنا نتبادل الأحاديث معظم الوقت، بينما يخيم صمت غريب على المقعدين الخلفيين، رغد و الخالة !
الخالة سرعان ما غلبها النعاس فنامت، أما الصغيرة الحبيبة، فكلما ألقيت نظرة عبر المرآة إليها وجدتها تحدّق بي بحدّة ! و كلما حاولت إشراكها في الحديث معنا ردت ردا مقتضبا سريعا ، باترا !
المشوار إلى المدينة الصناعية المنكوبة لم يكن طويلا، لكن الشارع كان خاليا من أية سيارات، الأمر الذي يثير الوجل في قلوب عابريه !
عبرنا على نفس محطة الوقود التي بتنا عندها تلك الليلة.. و نحن مشردون في العراء !
المحطة كانت مهجورة، و البقالة مقفلة... المكان ساكن و هادىء ، لا يحركه شيء غير الريح الخفيفة تعبث بأشياء مرمية على الأرض ...
كم كان يومنا مأساويا...
خففت السرعة، و جعلت أراقب ما حولي و أستعرض شريط الذكريات... لقد نجونا بأعجوبة ! سبحان الله ...
" وليد .. "
كان هذا صوت رغد، تناديني بوجل.. و كأن الذكرى أثارت في قلبها الفزع... التفت إليها فوجدتها تكاد تلتصق بمقعدي ! و علامات التوتر و الخوف مستعمرة تقاسيم وجهها الدائري...
قلت مشجعا :
" نجونا.. بفضل الله .."
و سبحنا في بحر عميق من الهدوء الموحش ...
تابعنا طريقنا ، و الذكرى تجول في رأسينا... هنا مشينا حفاة.. هنا ركضنا... هنا وقفنا... هنا حملت رغد... هنا وقعت رغد ... هنا أصيبت رغد ! آه ..ما كان أفظع ذلك الجرح ! ...
و هنا ...
هنا ...
ماذا تتوقعون هنا ؟؟
إنها سيارتي !
" وليد ! "
نادتني رغد و هي ترى سيارتي القديمة واقفة إلى جانب الطريق ، مع سيارات أخرى في نفس المكان !
أوقفت السيارة ، و أخذت أتفرج على سيارتي القديمة هناك !
التفت إلى رغد فوجدتها تنظر إلي ...
يا للأيام ! بل يا للشهور ! أما زالت سيارتي القديمة واقفة في انتظار عودتي في مكانها !
فتحت الباب و هممت بالنزول ، ناو الذهاب و تفحصها عن كثب !
" إلى أين وليد ؟؟ "
سألني رغد ، قلت :
" سألقي نظرة ! "
و قبل أن أخرج كانت رغد قد فتحت بابها و سبقتني !
وقفت إلى جانبها ، و قلت :
" سأرى ما إذا كانت تعمل أم لا ! "
" سآتي معك "
و طبعا لا داعي لأن اعترض !
ذهبنا سوية، و بيدي نفس الميدالية التي أهدتني إياها صغيرتي، و التي تضم جميع مفاتيحي ، و اقتربنا من السيارة.
فتحت الأبواب الغير موصدة، و تفحصت ما بالداخل ...و رغد إلى جانبي..
" كما هي ! لم يتغير شيء ! أ رأيت يا رغد ؟؟ "
لم تعقّب ، بل ظلت تتفحصها بعينيها ، و ربما تستعيد الذكرى المرعبة ..
ركبت مقعدي الأمامي ، فأسرعت هي لركوب المقعد المجاور...و أغلقت الباب.
شغّلت المقود فعمل كما ينبغي،
" سليمة لم يصبها شيء ! رغد .. أتصدّقين ذلك ! سبحان الله ! "
رغد قالت :
" هيا بنا..ننطلق للخلف، و نعود من حيث أتينا تلك الليلة، و نعود بالزمان للوراء، و ننسى ما حصل انطلاقا من هذه النقطة ! "
ابتسمت و قلت :
" يا ليت ... "
و تنهّدت و أضفت :
" يا ليتنا بعدما وصلنا إلى هذه النقطة، رجعنا للوراء ، و رجع كل شيء كما كان... "
و أسندت رأسي إلى مسند المقعد.. و أغمضت عيني ...
لست أريد العودة للوراء بضعة اشهر، بل تسع سنين ، بل عشر... بل 15 ...
إلى ذلك اليوم الذي اقتحمت فيه مخلوقة صغيرة حياتي فجأة ! و ملأتها صراخا ، و بكاء ، و دموعا.. و ألما...
فتحت عيني و التفت إلى رغد، فوجدتها تنظر إلي بقلق..
إنها هي ذاتها... المخلوقة التي غزت عالمي منذ سنين .. ذاتها التي تجلس قربي الآن ، لا يفصلني عنها سوى بضع بوصات...
تنظر إلي نظرتها للعالم بأسره، و أمثّل بالنسبة لها كل الناس