* * الحلقة الأربعون * *
~ مُفترق الطرق ~
وقفتُ عند أسفل عتبات السلّم... مأخوذا بهول ما سمعتُ... مشلول الإرادة...
اختفتْ رغد بعدما صرختْ في وجهي ( أكرهكَ يا بليد )
إن أذني ّ لم تسمعا... إنما هو قلبي الذي اهتز بعنف بعد الصدمة...
التفتُ إلى الوراء بجهد فرأيتُ أروى تقف ملتصقة بالجدار محملقة بي تكاد بنظراتها تثقبُ عيني ّ فيما تعبيرات الذهول طاغية على وجهها الملوّن...
كانتْ أمسية جميلة و قد استمتعتُ فيها مع سيف و طفله... ثم سهرتُ مع أروى نشاهد مسرحية فكاهية رائعة... كان كل شيء رائعا قبل قليل...
لماذا يا رغد ؟
لماذا ؟؟
" وليد "
الحروف خرجتْ متقطّعة من فم أروى المصعوقة بما سمعتْ... و بالتأكيد تريد الآن أن تسمع من جديد...
" وليد... وليد... ماذا قالتْ رغد ؟؟ "
ركّزتُ نظري في أروى ... و لم أرد...
أروى اقتربتْ منّي خطوة بعد خطوة ببطء ... كأن قدميها قد ثقلتا فجأة و ما عادتْ بقادرة على رفعهما
و لما صارتْ أمامي أبعدتُ نظري عن عينيها... فقد كانتْ نظراتها قوية جدا... و مركزة جدا إلا أنها سرعان ما مدّتْ يدها إلي و سألتْ :
" وليد ... أنت َ ... أنت َ ... من... قتل عمّار ؟؟ "
سماع اسمه أجبر عينيّ على العودة فورا إلى عينيها المذهولتين
" وليد ...؟؟ أنت ...!! "
أجبتُ أخيرا :
" نعم ... أنا من قتل عمار القذر... ابن عمّك "
أروى رفعتْ يدها بعيدا ثم وضعتْها على فمها و شهقتْ بقوة.. و تجمّدتْ اللحظة ساعة أو عاما أو حتى قرنا من الزمان...
لم أحس إلا بقطرات العرق تسيل على جسمي... و بالحرارة تنبعثُ منه...
و لم استطع تحرير بصري من قيد عينيها...
بدأتْ الآن تهزّ رأسها في عدم تصديق و دهشة ما مثلها دهشة...
" لا ... لا أصدّق ! وليد !"
و التقطتْ بعض أنفاسها و تابعتْ :
" كل... هذا الوقت... و أنتَ ... تخفي عنّي ؟؟ لا أصدّق ! "
و مرّة أخرى حرّكتْ يدها نحوي و أمسكتْ بكتفي
" غير صحيح ! وليد أنتَ ... تمزح "
قلتُ بحزم :
" قتلتُه و دخلتُ السجن... و لستُ نادما... هذه هي الحقيقة... هل عرفت ِ الآن ؟ "
ابتعدتْ أروى عنّي و هي تهتفُ :
" لا ... لا ... "
ثم توقفتْ فجأة و استدارتْ إليّ و قالتْ :
" لماذا ؟؟ لماذا قتلته ؟ "
قلتُ مباشرة :
" لأنه يستحق الموت... الحيوان... القذر... الحقير... "
عادتْ تسأل مندهشة مبحوحة الصوت :
" لماذا ؟ "
جوابي كان بضربة سددتُها إلى سياج السلم الخشبي كدتُ معها أن أحطّمُه...
أروى كررتْ :
" لماذا ؟ أخبرني "
و لما لم أجبها أقبلتْ نحوي مجددا و أمسكتْ بذراعي ّ الاثنتين و هتفتْ :
" أخبرني لماذا ؟؟ لماذا ؟؟؟ "
صرخت ُ بانفعال :
" لأنه حيوان... ألا تعرفين معنى حيوان ؟؟ "
أروى تهزُّ رأسها و تقول:
" ماذا تخفي عنّي يا وليد ؟؟ قلْ لي ؟؟ لماذا أخفيتَ هذا عنّي ؟؟ لماذا لم تخبرني لماذا ؟ "
و بدأتْ دموعها بالانهمار...
شعرتُ بأني أختنق... الهواء من حولي لم يكن كافيا لملء رئتيّ... أبعدتُ يديها عني و أوليتُها ظهري و سرتُ متجها نحو مدخل المنزل...
نادتني أروى:
" إلى أين تذهب ؟؟ لا تدعني هكذا يا وليد... قل لي ما الذي تخفيه عنّي ؟؟"
لم أجبها فقد كنتُ من الضيق و الغضب ما يكفي لأن أدمّر مدينة بكاملها...
" وليد إلى أين ؟ "
صرختُ :
" دعيني و شأني يا أروى "
و أسرعتُ نحو الباب و غادرتُ المنزل...
الساعة آنذاك كانتْ منتصف الليل... و لم أكن لأغادر المنزل في مثل هذا الوقت لو أن الضيق لم يصل بي إلى حد الاختناق...
كنتُ أريد أن أهدأ بعيدا...
أعيد عرض الشريط و أركز فيما حصل...
استوعب الحدث و أفكر فيه...
توجهتُ نحو البحر...أرفس رماله و أرجم أمواجه إلى أن أفرغتُ ما في صدري من ثورة في قلبه... و لو كان يتكلم لصرخ صرخة تصدعتْ لها كواكب المجرة من فرط الألم...
و كإنسانٍ مجردٍ من أي اعتبارات... على سجيته و فطرته... أطلقتُ العنان لدموعي... و بكيتُ بألم...
تفقدتُ ساعتي فلم أجدها و تحسستُ جيوبي بحثا عن هاتفي فلم أعثر سوى على سلسلة مفاتيحي... السلسلة التي أهدتني إياها رغد ليلة العيد...
لا أدري كم من الوقت مضى و لكني لمحتُ أول خيوط الفجر يتسلل عبر عباءة السماء...
عندما وصلتُ إلى المنزل... وجدتُه يغط في سكون مخيف...
أردتُ أن أتفقد الفتاتين... وجدتُ أروى نائمة في غرفتها و قد تركتْ الباب مفتوحا و المصابيح مضاءة فاستنتجتُ أنها نامتْ بينما كانت تنتظر عودتي...
توجهتُ نحو غرفتي و توقفتُ عند الجدار الفاصل بين بابها و باب غرفة رغد
و استعدتُ ذكرى الليلة الماضية و اشتعل الألم في معدتي...
أديت صلاتي ثم ارتميتُ على سريري و عبثا حاولتُ النوم... لم أنم و لا لحظة واحدة
و عاصرتُ بزوغ الشمس و مراحل سباحتها في كبد السماء ساعة ً ساعة و حمدتُ الله أنه كان يوم إجازة و إلا لتغيبتُ عن العمل من شدة التعب...
لم أفعلْ شيئا سوى التفكير و التفكير...
و عند نحو العاشرة و النصف سمعتُ طرقا على الباب...
" تفضّل "
لقد كانتْ أروى...
و على غير العادة لم نبدأ حديثنا بالتحية...
" هل استيقظتَ ؟ "
سألتني و وجهها يسبح في الحزن...
" بل قولي : هل نمتَ ؟ "
لم تعلق أروى، ثم قالتْ :
" أيمكننا التحدث الآن ؟ "
" تفضلي "
و بالطبع تعرفون عم سنتحدث...
" أريد أن أعرف... تفاصيل مقتل عمار... و لم أخفيتَ الحقيقة عني... و ما علاقة كل هذا برغد ؟ "
تنهدتُ ثم قلتُ :
" هل... سيغير ذلك شيئا ؟ "
أروى قالتْ بسرعة :
" بالطبع... سيغيّر الكثير... "
و لا أدري ما قصدتْ بذلك... و لم يعد يهمني ما قد يحدث.... في نظري الآن... لا شيء يستحق الاهتمام...
" حسنا يا أروى... لقد سبق و أن أخبرتُك بأنني انتظر الوقت المناسب لأطلعكِ على أمر مهم... و لم يعد هناك معنى للصمت بعد الآن "
" إذن ... اخبرني بكل شيء ... "
تنهّدتُ تنهيدة مريرة... خرجتْ من صدري عجوزا واهنة لم تجد ما تتكئ عليه... و سرعان ما هوتْ في أعماق الذكريات...
" قبل أكثر من تسع سنوات... قتلتُ عمار... و دخلتُ السجن... و هناك تعرّفتُ إلى والدك... بمحض الصدفة... و قبل وفاته أوصاني بكِ و بأمكِ خيرا... و ماتَ و هو لا يعرف أنني... من قتل ابن أخيه أو ربما لا يعرف حتّى... أن ابن أخيه قد قُتِل "
كانتْ أروى تصغي إلي باهتمام...
و عندما توقفتُ نظرتْ إلي بتعجب و قالتْ:
" هذا كل شيء ؟ "
قلتُ بضيق باد ٍ :
" نعم "
هزّتْ رأسها استنكارا و قالتْ:
" لا تخفي عنّي شيئا يا وليد... اخبرني بالحقيقة كاملة "
" ماذا تريدين أن تعرفي ؟ "
" لماذا قتلتَ عمّار "
التزمتُ الصمت
" لماذا يا وليد ؟ "
أجبتُ :
" فيم يهمّك ذلك ؟ "
" بالتأكيد يهمني أن أعرف "
قلتُ :
" لم يكن ذلك يهمّك ... سابقا "
صمِت ّ قليلا ثم قلتُ :
" أتذكرين ؟؟ ارتبطت ِ بي و لم تسأليني لِمَ دخلتُ السجن... و من قتلتُ... و لماذا .."
أروى قالتْ :
" لكن... ذلك كان قبل أن أكتشف أن الضحية كان ابن عمّي "
هيجتني الجملة فهتفتُ منفعلا :
" الضحية ؟؟ تقولين عن ذلك الحقير الضحية ؟؟ "
حملقتْ أروى بي ثم انطلق لسانها مندفعاً :
" هذا ما يثير جنوني... لماذا تنعته بالحقير و القذر؟ ماذا فعل؟ ماذا حصل؟ ما الذي كان بينكما؟ و لماذا قتلته؟ "
لم أجب...
" وليد أجبني ؟ "
أشحتُ بوجهي بعيدا... لكنها حاصرتني من كل الجوانب
" لماذا لا تريد أن تجيب يا وليد ؟؟ بدايةً... أنا لا أصدق أنك يمكن أن تقتل رجلاً مهما حصل... فلماذا قتلتَ ابن عمّي ؟ "
قلتُ منفعلا :
" لا تشيري إليه بـ ( ابن عمّي ) فهذا يثير التقزز يا أروى "
" وليد ! "
قلت ُ بصبر نافذ :
" اسمعي يا أروى... لا استطيع أن أفصح عن السبب... لقد قتلتُه و انتهى الأمر... و لستُ نادما... و لن أندم يوما على ذلك... "
ثم استطردت ُ :
" أرجوك ِ يا أروى... أنا متعب للغاية... هذا يكفي الآن "
الحيرة تملكتْ أروى ممزوجةً بالفضول الشديد... و أصرتْ على معرفة المزيد لكنني امتنعتُ عن البوح بالحقيقة...
فجأة سألتْ :
" هل... تعرف رغدُ ذلك ؟ "
و ربما للانفعال الذي ظهر على وجهي استنبطتْ هي الجواب دون أن أنطق...
ثم بدا عليها بعض التردد و قالتْ أخيرا :
" و ... هل ... لثروتي علاقة بذلك ؟ "
نظرتُ إليها مستغربا و سألتُ:
" ثروتك؟؟ ماذا تعنين؟ "
قالت :
" أعني... هل كنتَ تعرف... عن ثروة عمّي قبل زواجنا ؟ "
صُعقتُ من سؤالها... وقفتُ فجأة مذهولا كمن لدغته أفعى...
قلتُ :
" ما الذي تقولينه؟؟ "
أروى وقفتْ بدورها و أفلتتْ أعصابها منطلقة:
" أنا لا أعرف ما الذي أقوله... لا أعرف كيف أفكّر... قبل ساعات اكتشفتُ أن خطيبي هو قاتل ابن عمّي... و أنتَ تخفي عني الحقيقة... و ترفض البوح بشيء... كيف تريدني أن أفكّر يا وليد أنا أكاد أجن ... "
حقيقة لم أرَ أروى بهذه الحالة من قبل...
قلتُ بعصبية :
" لا علاقة لهذا بزواجنا يا أروى... لا تذهبي بأفكارك إلى الجحيم "
صرختْ :
" إذن قل لي الحقيقة "
" أي حقيقة يا أروى بعد ؟؟ "
" لماذا قتلتَ عمار و لماذا أخفيتَ الأمر عنّي ؟؟ و لماذا لا تريدني أن أعرف السبب ؟ "
وضعتُ يدي على جبيني و ضغطت على صدغي ّ حائلا دون انفجارهما...
" لماذا يا وليد ؟ "
صرختُ :
" أرجوك يا أروى... لا تضغطي علي... لا استطيع إخبارك عن الأسباب... "
احمرّ وجه أروى الأبيض غضبا و قالتْ و هي تهمّ بالمغادرة :
" سأعرفُ الأسباب... من رغد إذن "
و انطلقتْ نحو الباب
أبعدتُ يدي عن رأسي فجأة و تركتُه ينفجر صداعا قاتلا... و هتفتُ بسرعة :
" أروى انتظري "
لكن أروى كانت قد غادرتْ الغرفة و لالتصاق غرفتي بغرفة رغد سرعان ما مدّتْ ذراعها و طرقتْ باب رغد و نادتها
أسرعتُ خلفها محاولا منعها
" توقفي يا أروى إيّاكِ "
قلتُ ذلك و أنا أبعدُ يدها عن الباب...
" دعني يا وليد... أريد أن أعرف ما تخفيانه عني... "
جذبتُ أروى بقوة حتى آلمتُها و صرختُ بوجهها :
" قلتُ توقفي يا أروى ألا يكفي ما فعلتِه بالأمس ؟؟ يكفي "
" أنا ؟ ما الذي فعلتُه ؟ "
" ما قلتِه لرغد عن ثروتكِ و عما ننفقه من ثروتكِ... و أنتِ تعلمين يا أروى أنني احتفظ بسجل لكل المصروفات... و أنّ ما أعطيها إياه هو من راتبي أنا و مجهودي أنا... "
هنا فُتِح الباب و أطلتْ منه رغد...
أول ما اصطدمتْ نظراتنا تولّد شرر أعشى عينيّ...
هل رأيتموه ؟؟
حملقنا ببعضنا قليلا... و الطيور على رؤوسنا نحن الثلاثة...
أول ما تكلمتْ رغد قالت بحدة:
" نعم ؟ ماذا تريدان ؟ "
و نقلتْ بصرها بيننا... و لم ننطق لا أنا و لا أروى...
قالتْ رغد:
" من طرق بابي ؟ "
هنا أجابتْ أروى:
" أنا "
سألتْ رغد بغضب:
" ماذا تريدين ؟ "
أروى ترددتْ ثوانٍ لكنها قالت:
" سأسألك سؤالا واحدا "
هنا هتفتُ رادعا بغضب :
" أروى... قلتُ كلا "
التفتتْ إليّ أروى محتجةً :
" و لكن يا وليد "
فصرختُ مباشرة و بصرامة :
" قلتُ كلا ... ألا تسمعين