عرض مشاركة واحدة
قديم 08-01-2013, 02:12 AM   رقم المشاركة : 118
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور
تاااااابع


فمن يكرر القول دائماً وأبداً بأنه (لا يجوز أن يترتب على المنكر منكر أعظم منه) كلام صحيح لكن تكراره وإعادته بمناسبة وغير مناسبة لا يعدو أن يكون تثبيطاً وتخذيلاً ، فهذا شرط استثنائي لا يصحّ أن يكون هو الأصل في تقرير هذه الشعيرة، فالأصل أن تأمر وتنهي وتنصح وتذكّر وفي حالة وجود مثل هذا الأمر يتوقّف الإنسان، لا أن يكون هذا هو الأصل والقاعدة المستمرة.
على أنّ هذا الأصل يجب أن يبقى استثنائياً ويجب أن يكون صادقاً ودقيقاً فلا بدّ أن يكون ثم منكر فعلا يترتب على هذا الإنكار وقد تأكّد الإنسان من وجوده، ولا يصح أن يكون مثل هذا الكلام إيراداً ثابتاً يتحرّك في كلّ قضية.
والمؤلم حقاً أن هذا الكلام يشاع في وقت ضعف القيام بهذه الشعيرة، وانتشار التفريط الكبير فيها بين أوساط الناس، فبدلاً من أن يشدّ عزم الناس للقيام بها وإحياء معالمها، يزيد المشكلة ويعمّق الخطأ بمثل هذه التبريرات الباهتة.
قولوا لي بربّكم: لو جاء شخص فتحدّث عن الصدقة بهذه الطريقة:
(الشخص قبل أن يتصدّق عليه أن يتأكد أن يضع صدقته، فقد يترتب على صدقتك منكرات مفاسد وجرائم، فحرام عليك أن تتصدّق في هذه الحالة وأنت آثم ومفرّط حينها) وإذا سمع أحداً يتحدث عن الصدقة جاءه تحفّظ على دعوته للصدقة بأنّ الصدقة ليست مقبولة دوماً، بل قد تكون وبالاً على صاحبها، ولا يكفي أن يتصدّق الإنسان حتى ينال رضا الله والجزاء الحسن .. إلخ.
لا شكّ أنّ تصرّف مقيت ومستهجن، لكنه هو ذات الأسلوب الذي يمارس مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ويطالب بعضهم فيقول: (الحكمة والعقل أن نقبل ببعض المخالفات الشرعيّة لأنّ مجيئها حتمي الوجود، فلنقبل بها أول الأمر مع وضع الضوابط خير من رفضها مطلقاً فتأتيك بصورة أعظم من دون ضوابط).
يبدو شكلها جميلاً حقاً، أن تأتي بالمنكر بنسبة 40% مثلاً هذا اليوم، خير من أن يأتيك بعد أسبوع أو شهر أو سنة بنسبة 90%، فهذه الحسبة الرياضية رائعة جداً، لكن هذا التفكير الرياضي غير قادر على إيجاد مثال واحد فقط على هذه النظرية، سيتحدث طويلاً لكنه لن يتمكن من أن يذكر واقعة ارتكب فيها المنكر استعجالاً فحفظ بسبب ذلك من قدوم المنكر الأشنع ببركة الاستعجال في تقديمه، فالذي يحصل أن مثل هذا التفكير يضعف جانب مواجهة المنكر ونصح أصحابه ويخفف من حرارة المجتمع من وجوده حتى يمرّ مرور الكرام، وأما نسبة التخفيف فهي خيالية تجريدية تعيش في ذهن صاحبه ولا قيمة لها في الواقع، بل الواقع يقول إن المعارضة والممانعة والرفض هو الذي يخفف المنكر القادم، وهو الذي يجعل ثم ضوابط واحتياطات له، لأنّ أكبر عامل يحسب أمره هو عامل الرفض الشعبي وموقف الناس ونفرتهم، فحين لا يكون ثم أي رفض فلا معنى لأن يخفّ حضور هذا المنكر.
البنوك الإسلامية لم تنشأ إلا من جراء الرفض العلمي الكبير للبنوك الربوية، فعاشت البنوك الربوية فترة ثم نهضت البنوك الإسلامية، ولو أن المشايخ في ذلك الوقت قالوا: (نأخذ بجواز الربا ونبحث عن تأويل أو قول مرجوح هنا أو هناك ونضع بعض القيود خير من ارتكاب الناس للحرام) لما قامت البنوك الإسلامية أبداً، وقل مثل هذا في الإعلام الإسلامي وغيره.
ويبالغ بعضهم فيضع الشروط والقيود التي يجب أن يلتزم بها المسلم قبل أن يأمر أو ينهي أو ينصح فيضعون من الشرائط ما تؤدّي إلى (إجهاض) هذه الشعيرة وإماتتها في النفوس.
فيشترط بعضهم أن (لا تكون المسألة خلافية) لأنّه لا (إنكار في مسائل الخلاف) مع أنّ مسائل الخلاف إن كان ثمّ نصّ شرعي فيها فإنها تعامل كغيرها من المسائل، وقد اتفق الفقهاء على أنّ القاضي إذا حكم بحكم فخالف الكتاب أو السنة أو الإجماع أنه يجب نقض قوله إجماعاً كما حكاه جمع من العلماء، فإذا كان في حكم القاضي فكيف بغيره؟
وهذا القول يؤدّي في نهايته إلى تصفية هذه الشعيرة من الوجود، لأن معنى هذا الكلام أن لا ينصح ولا ينهى إلا من كان عالماً بجميع مذاهب الفقهاء وأقوالهم حتى لا ينهي عن شيء فيه خلاف، وكم عدد هؤلاء الناس في المجتمع؟
ثمّ معنى هذا أن الإنسان لا يراعي وجود آية في كتاب الله أو حديث في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما يراعي وجود خلاف أو عدم خلاف، فالمتبع حينها لكلام العلماء لا لنصوص الشريعة.
ومعنى هذا أيضاً أن (المنكر) ليس هو ما أنكرته الشريعة و(المعروف) ليس هو ما أمرت به الشريعة، بل المنكر هو ما أجمع العلماء على إنكاره، والمعروف هو ما أجمع العلماء على اعتباره، فأصبح وصف الشريعة غير حاسم في الموضوع.
ولشناعة هذا اللازم قال الفقيه الظاهري ابن حزم: (ولو أن امرأً لا يأخذ إلا بما أجمعـت عليـه الأمة فقـط، ويترك كلَّ ما اختلفوا فيه مما قد جاءت فيه النصوص، لكان فاسقاً بإجماع الأمة) [الإحكام في أصول الأحكام:1/291]
وإذا علمنا إضافة إلى ذلك: أن المسائل الخلافية واسعة جداً، خاصة إذا أدخلنا فيها خلافات المعاصرين فلا يوجد إذن ما يجوز إنكاره إلا المحرمات الضرورية التي من أنكرها فقد كفر، كالزنا والخمر ونحوها، وأما عامّة نصوص السنة فلا اعتبار لها ولا قيمة؟
لأجل ذلك كان الاحتجاج بالخلاف شبهة ميتة وقول ساقط كما قال ابن عبد البرّ: (الاختلاف ليس بحجَّة عند أحد عَلِمْتُـه من فقهاء الأمة؛ إلا من لا بصر له ولا معرفة عنده ولا حجَّة في قوله) [جامع بيان العلم وفضله:1/115]
فالصحيح أنّ هذه القاعدة (لا إنكار في مسائل الخلاف) بعيدة جداً عن هذا التداول لها في الساحة الفكريّة، فهي قاعدة في القضايا التي لا نصوص فيها، ومن جهة أخرى إنما تكون مع الشخص الذي يتبع قولاً فقهياً باجتهاد منه أو باتباع لعالم يراه، وليس المقصود أنّ هذه المسائل لا ينكر فيها مطلقاً، وإنما إذا كان شخص ما قد اتبع عالماً واستفتاه فلا ينكر عليه لأنّه معذور.
فتطبيق هذه المسألة بهذه الطريقة يؤدّي إلى إبادة الحسّ الاحتسابي في النفوس فلا يأمر أحد ولا ينهى، وتفعل المحرمات وتشاع ويبحث عن أي قول فقهي فيها، وكلّ هذا منافٍ لمقصد الشريعة من (الإبراء) و(الإعذار).
لا مشكلة كبيرة لديّ مع الشخص الذي يتخذ لنفسه منهجاً في عدم الإنكار في مسائل الخلاف بناءً على فهمه لهذه القاعدة أو توسيعه لمفهوم الخلاف المعتبر، فهذا في النهاية اختياره واجتهاده وإن كنت أراه مخطئاً، لكن الخلل الأكبر أن يعتقدها قاعدة كلّية يحاكم الناس إليها، ويلاحق إخوانه بها ويضعف من نشاطهم وحماسهم، وقد كان كافيه أن يعرف أن هذه القاعدة هي محلّ خلاف أيضاً، وبالتالي فلا يجوز له أن ينكر بها على الآخرين لأنّه يعتقد بالصوابية المطلقة لقاعدة (لا إنكار في مسائل الخلاف).
خامس هذه المقاصد القرآنية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: النجاة من العقاب الدنيوي، فوجود الناصحين الغيورين ضمان في الدنيا من عقاب الله، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}*هود:117* فكون الإنسان صالحاً في نفسه لا يكفي للنجاة من الهلاك؛ فالعقوبة إذا نزلت لم تقتصر على الظالمين فقط {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} *الأنفال:25*
وفي الصحيحين لما قام النبي صلى الله عليه وسلم فزعاً يقول: (ويل للعرب من شر قد اقترب) فقالت له أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها: (أنهلك وفينا الصالحون؟ ) قال: (نعم إذا كثر الخبث).
إذا عرفت هذا، أدركت سر هذا التلازم بين (الإيمان بوجود العقوبات الإلهية) وبين ( احترام شعيرة الاحتساب) فكلّ من لا يبالي بهذه الشعيرة تجد لديه إشكال عميق مع العقوبات، فالتفسير المادي للحوادث يؤدّي به إلى إنكار وجود عقوبات إلهية على المعاصي والذنوب، سواءً أنكرها بلسانه أو بحاله، وأما من يؤمن بوجود عقوبات إلهية على المعاصي والذنوب فهو يسلّم بخطر هذه المعاصي وضرورة الاحتساب عليها.






التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس