عرض مشاركة واحدة
قديم 09-05-2014, 05:34 AM   رقم المشاركة : 9
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور

ويقال‏:‏ أين أفلت عنا‏؟‏ بمعنى أين غبت عنا‏.‏ ‏{‏قال‏:‏ لا أحب الآفلين‏}‏، قال قتادة‏:‏ علم أن ربه دائم لا يزول ‏{‏فلما رأى القمر بازغا‏}‏ أي طالعاً، ‏{‏قال هذا ربي فلما أفل قال‏}‏ لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين، ‏{‏فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي‏}‏ أي هذا المنير الطالع ربي ‏{‏ هذا أكبر‏}‏ أي جرماً من النجم والقمر وأكثر إضاءة، ‏{‏فلما أفلت‏}‏ أي غابت ‏{‏قال يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض‏}‏ أي خلقهما ‏{‏حنيفا وما أنا من المشركين‏}‏ أي أخلصت ديني وأفردت عبادتي ‏{‏للذي فطر السموات والأرض‏}‏ أي خلقهما وابتدعهما على غير مثال سبق ‏{‏حنيفا‏}‏ أي في حال كوني حنيفاً أي مائلاً عن الشرك إلى التوحيد، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وما أنا من المشركين‏}‏‏.‏ وقد اختلف المفسرون في هذا المقام‏:‏ هل هو مقام نظر أو مناظرة‏؟‏ فروى ابن جرير عن ابن عباس ما يقتضي أنه مقام نظر، واختاره ابن جرير مستدلاً بقوله‏:‏ ‏{‏لئن لم يهدني ربي‏}‏ الآية‏.‏ وقال محمد بن إسحاق‏:‏ قال ذلك حين خرج من السرب الذي ولدته فيه أمه حين تخوفت عليه من نمروذ بن كنعان، لما كان قد أخبر بوجود مولود يكون ذهاب ملكه على يديه، فأمر بقتل الغلمان عامئذ، فلما حملت أم إبراهيم به وحان وضعها ذهبت به إلى سرب ظاهر البلد، فولدت فيه إبراهيم وتركته هناك، وذكر أشياء من خوارق العادات، كما ذكرها غيره من المفسرين من السلف والخلف‏.‏

والحق أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان في هذا المقام مناظراً لقومه مبينا لهم بطلان
ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام، فبين في المقام الأول مع أبيه خطأهم في
عبادة الأصنام الأرضية التي هي على صور الملائكة السماوية ليشفعوا لهم عنده في
الرزق والنصر وغير ذلك مما يحتاجون إليه، وبين في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل وهي الكواكب السيارة السبعة المتحيرة، وهي القمر وعطارد والزهرة والشمس والمريخ والمشتري وزحل وأشدهن إضاءة وأشرفهن عندهم الشمس ثم القمر، ثم الزهرة، فبين أولاً صلوات اللّه وسلامه عليه أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية، فإنها مسخرة مقدرة بسير معين لا تزيع عنه يميناً ولا شمالاً، ولا تملك لنفسها تصرفاً، بل هي جرم من الأجرام خلقها اللّه منيرة لما له في ذلك من الحكم العظيمة، وهي تطلع من الشرق ثم تسير فيما بينه وبين الغرب حتى تغيب عن الأبصار فيه، ثم تبدو في الليلة القابلة على هذا المنوال، ومثل هذه لا تصلح للإلهية، ثم انتقل إلى القمر، فبين فيه مثل ما بين في النجم، ثم انتقل إلى الشمس كذلك، فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار وتحقق ذلك بالدليل القاطع ‏{‏قال يا قوم إني بريء مما تشركون‏}‏ أي أنا بريء من عبادتهن وموالاتهن، فإن كانت آلهة فكيدوني بها جميعاً ثم لا تنظرون ‏{‏إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين‏}‏ أي إنما أعبد خالق هذه الأشياء ومسخرها ومقدرها ومدبرها الذي بيده ملكوت كل شيء وخالق كل شيء وربه وملكيه وإلهه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن ربكم اللّه الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، ألا له الخلق والأمر تبارك اللّه رب العاليمن‏}‏، وكيف يجوز أن يكون إبراهيم ناظراً في هذا المقام وهو الذي قال اللّه في حقه‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين * إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون‏}‏ الآيات، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن إبراهيم كان أمة قانتا للّه حنيفا ولم يك من المشركين * شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين‏}‏، وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏كل مولود يولد على الفطرة‏)‏، وفي صحيح مسلم عن عياض بن حماد أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏قال اللّه إني خلقت عبادي حنفاء‏)‏، وقال اللّه في كتابه العزيز‏:‏ ‏{‏فطرة اللّه التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق اللّه‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم‏؟‏ قالوا بلى‏}‏، ومعناه على أحد القولين كقوله‏:‏ ‏{‏فطرة اللّه التي فطر الناس عليها‏}‏، كما سيأتي بيانه، فإذا كان هذا في حق سائر الخليقة، فكيف يكون إبراهيم الخليل الذي جعله اللّه أمة قانتاً للّه حنيفاً ولم يك من المشركين ناظراً في هذا المقام، بل هو أولى بالفطرة السليمة والسجية المستقيمة بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بلا شك ولا ريب، ومما يؤيد أنه كان في هذا المقام مناظراً لقومه فيما كانوا فيه من الشرك لا ناظراً قوله تعالى‏:‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏80 ‏:‏ 83‏)‏
{‏ وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون ‏.‏ وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ‏.‏ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ‏.‏ وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن خليله إبراهيم حين جادله قومه فيما ذهب إليه من التوحيد، وناظروه بشبه من القول أنه قال‏:‏ ‏{‏أتحاجوني في اللّه وقد هداني‏}‏ أي أتجادلونني في أمر اللّه وأنه لا إله إلا هو، وقد بصّرني وهداني إلى الحق وأنا على بينة منه، فكيف ألتفت إلى أقوالكم الفاسدة وشبهكم الباطلة‏؟‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئاً‏}‏ أي ومن الدليل على بطلان قولكم فيما ذهبتم إليه أن هذه الآلهة التي تعبدونها لا تؤثر شيئاً وأنا لا أخافها ولا أباليها، فإن كان لها كيد فكيدوني بها ولا تنظرون بل عاجلوني بذلك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا أن يشاء ربي شيئاً‏}‏، استثناء منقطع أي لا يضر ولا ينفع إلا اللّه عزَّ وجلَّ ‏{‏وسع ربي كل شيء علماً‏}‏ أي أحاط علمه بجميع الأشياء فلا تخفى عليه خافية، ‏{‏أفلا تتذكرون‏}‏ أي فيما بينته لكم، أفلا تعتبرون أن هذه الآلهة باطلة فتنزجروا عن عبادتها‏؟‏ وهذه الحجة نظير ما احتج بها نبي اللّه هود عليه السلام على قومه عاد فيما قص عنهم في كتابه حيث يقول‏:‏ ‏{‏قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين * إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد اللّه واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون * إني توكلت على اللّه ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها‏}‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏وكيف أخاف ما أشركتم‏}‏ أي كيف أخاف من هذه الأصنام التي تعبدونها من دون اللّه ‏{‏ولا تخافون أنكم أشركتم باللّه ما لم ينزل به عليكم سلطاناً‏}‏، قال ابن عباس وغير واحد من السلف‏:‏ أي حجة، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به اللّه‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل اللّه بها من سلطان‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون‏}‏ أي فأيّ طائفتين أصوب، الذي عبد من بيده الضر والنفع، أو الذي عبد من لا يضر ولا ينفع بلا دليل‏؟‏ أيهما أحق بالأمن من عذاب اللّه يوم القيامة المؤمن أم المشرك‏؟‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون‏}‏ أي هؤلاء الذين أخلصوا العبادة للّه وحده لا شريك له ولم يشركوا به شيئاً هم الآمنون يوم القيامة المهتدون في الدنيا والآخرة‏.‏ عن عبد اللّه بن مسعود قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم‏}‏ شق ذلك على الناس، فقالوا‏:‏ يا رسول اللّه أينا لا يظلم نفسه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح‏:‏ ‏{‏يا بني لا تشرك باللّه إن الشرك لظلم عظيم‏}‏ إنما هو الشرك‏)‏ ‏"‏رواه أحمد وابن أبي حاتم، وأخرجه البخاري بلفظ‏:‏ شق ذلك على أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏"‏‏.‏ وفي رواية لما نزلت‏:‏ ‏{‏ولم يلبسوا إيمانهم بظلم‏}‏ شق ذلك على أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قالوا‏:‏ وأينا لم يظلم نفسه‏؟‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ليس كما تظنون إنما هي كما قال العبد الصالح لإبنه‏:‏ ‏{‏يا بني لا تشرك باللّه إن الشرك لظلم عظيم‏}‏‏)‏، وفي لفظ قالوا‏:‏ أينا لم يظلم نفسه‏؟‏ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ليس بالذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح‏:‏ ‏{‏إن الشرك لظلم عظيم‏}‏ إنما هو الشرك‏)‏ ولابن أبي حاتم عن عبد اللّه مرفوعاً قال‏:‏ ‏{‏ولم يلبسوا إيمانهم بظلم‏}‏ قال‏:‏ ‏(‏بشرك‏)‏ ‏"‏وروي عن أبي بكر وعمر وأبي بن كعب وحذيفة وابن عمر وعكرمة والضحّاك وقتادة والسدي‏"‏‏.‏ وعن عبد اللّه قال‏:‏ لما نزلت‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم‏}
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏قيل لي أنت منهم‏)‏

وقال الإمام أحمد، حدثنا إسحاق بن يوسف، حدثنا أبو جناب عن زاذان عن جرير بن عبد اللّه قال‏:‏ خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فلما برزنا من المدينة إذا راكب يوضع نحونا، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏كأن هذا الراكب إياكم يريد ‏)‏ فانتهى إلينا الرجل، فسلم فرددنا عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أين أقبلت‏؟‏ قال‏:‏ من أهلي وولدي وعشيرتي قال‏:‏ فأين تريد‏؟‏ قال‏:‏ أريد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ فقد أصبته قال‏:‏ يا رسول اللّه علمني ما الإيمان‏؟‏ قال‏:‏ أن تشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت قال‏:‏ قد أقررت، قال‏:‏ ثم إن بعيره دخلت يده في جحر جرذان فهوى بعيره، وهوى الرجل فوقع على هامته فمات‏.‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ عليَّ بالرجل ، فوثب إليه عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان فأقعداه، فقالا‏:‏ يا رسول اللّه قبض الرجل، قال‏:‏ فأعرض عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ثم قال لهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ أما رأيتما إعراضي عن الرجل، فإني رأيت ملكين يدسان في فيه من ثمار الجنة، فعلمت أنه مات جائعاً ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ هذا من الذين قال اللّه عزَّ وجلَّ فيهم‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم‏}‏ الآية، ثم قال‏:‏ دونكم أخاكم فاحتملناه إلى الماء فغسلناه وحنطناه وكفناه وحملناه إلى القبر، فجاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى جلس على شفير القبر، فقال‏:‏ ألحدوا ولا تشقوا فإن اللحد لنا والشق لغيرنا‏)
‏، وفي بعض الروايات هذا ممن عمل قليلاً وأجر كثيراً‏.‏

وروى ابن مردويه عن عبد اللّه بن سخبرة قال،
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من أعطي فشكر ومنع فصبر وظَلَم فاستغفر وظُلِم فغفر‏)‏ وسكت قال‏:‏ فقالوا‏:‏ يا رسول اللّه ما له‏؟‏ قال‏:‏ ‏{‏أولئك لهم الأمن وهم مهتدون‏}‏ في اللباب‏:‏ أخرج ابن أبي حاتم‏:‏ حمل رجل من العدو على المسلمين، فقتل رجلاً ثم حمل فقتل آخر، ثم حمل فقتل آخر، ثم قال‏:‏ أينفعني الإسلام بعد هذا‏؟‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ نعم ، فضرب فرسه، فدخل فيهم، ثم حمل على أصحابه فقتل رجلاً ثم آخر ثم آخر، ثم قُتل‏.‏ فيرون أن هذه الآية ‏{‏الذين آمنوا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ نزلت فيه ‏.‏وقوله‏:‏ ‏{‏وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه‏}‏ أي وجهنا حجته عليهم‏.‏ قال مجاهد وغيره يعني بذلك قوله‏:‏ ‏{‏وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم باللّه ما لم ينزل به عليكم سلطاناً فأي الفريقين أحق بالأمن‏}‏ الآية‏.‏ وقد صدقه اللّه وحكم له بالأمن والهداية فقال‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون‏}‏، ثم قال بعد ذلك كله‏:‏ ‏{‏وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء‏}‏ قرىء بالإضافة وبلا إضافة، وكلاهما قريب في المعنى‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن ربك حكيم عليم‏}‏ أي حكيم في أقواله وأفعاله، عليم‏:‏ أي بمن يهديه ومن يضله وإن قامت عليه الحجج والبراهين، كما قال‏:‏ ‏{‏إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم‏}‏، ولهذا قال ههنا‏:‏ ‏{‏إن ربك حكيم عليم‏}‏‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏84 ‏:‏ 90‏)‏
‏{‏ ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين ‏.‏ وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين ‏.‏ وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين ‏.‏ ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ‏.‏ ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ‏.‏ أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين ‏.‏ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين ‏}‏

يذكر تعالى أنه وهب لإبراهيم إسحاق بعد أن طعن في السن، وأيس هو وامرأته سارة من الولد، فجاءته الملائكة وهم ذاهبون إلى قوم لوط، فبشروهما بإسحاق، فتعجبت المرأة من ذلك، وقالت‏:‏ ‏{‏يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إن هذا لشيء عجيب‏}‏، فبشروهما مع وجوده بنبوته وبأن له نسلاً وعقباً، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين‏}‏، وهذا أكمل في البشارة وأعظم في النعمة، وقال‏:‏ ‏{‏فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب‏}‏ أي ويولد لهذا المولود ولد في حياتكما فتقر أعينكما به كما قرت بوالده، فإن الفرح بولد الولد شديد لبقاء النسل والعقب، ولما كان ولد الشيخ والشيخة قد يتوهم أنه لا يعقب لضعفه وقعت البشارة به وبولده باسم يعقوب الذي فيه اشتقاق العقب والذرية، وكان هذا مجازاة لإبراهيم عليه السلام حين اعتزل قومه وتركهم ونزح عنهم، وهاجر من بلادهم ذاهباً إلى عبادة اللّه في الأرض، فعوضه اللّه عزَّ وجلَّ عن قومه وعشيرته بأولاد صالحين من صلبه على دينه لتقر بهم عينه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون اللّه وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلاً جعلنا نبياً‏}‏، وقال ههنا‏:‏ ‏{‏ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدينا‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ونوحاً هدينا من قبل‏}‏ أي من قبله هديناه كما هديناه ووهبنا له ذرية صالحة، وكل منهما له خصوصية عظيمة، أما نوح عليه السلام فإن اللّه تعالى لما أغرق أهل الأرض إلا من آمن به - وهم الذين صحبوه في السفينة - جعل اللّه ذريته هم الباقين فالناس كلهم من ذريته، وأما الخليل إبراهيم عليه السلام فلم يبعث اللّه عزَّ وجلَّ بعده نبياً إلا من ذريته كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب‏}‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب‏}‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا‏}‏، وقوله في هذه الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏ومن ذريته‏}‏ أي وهدينا من ذريته ‏{‏داود وسليمان‏}‏ الآية، وعود الضمير إلى نوح لأنه أقرب المذكورين ظاهر لا إشكال فيه، وهو اختيار ابن جرير، وعوده إلى إبراهيم لأنه الذي سيق الكلام من أجله حسن، لكن يشكل عليه لوط، فإنه ليس من ذرية إبراهيم، بل هو ابن أخيه هاران بن آزر، اللهم إلا أن يقال‏:‏ إنه دخل في الذرية تغليباً، كما في قوله‏:‏ ‏{‏أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي‏؟‏ قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون‏}‏، فإسماعيل عمه دخل في آبائه تغليباً، وكما قال في قوله‏:‏ ‏{‏فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس‏}‏‏.‏ فدخل إبليس في أمر الملائكة بالسجود وذم على المخالفة، لأنه كان في تشبه بهم فعومل معاملتهم ودخل معهم تغليباً، وإلا فهو كان من الجن وطبيعته من النار والملائكة من النور، وفي ذكر عيسى عليه السلام في ذرية إبراهيم أو نوح على القول الآخر دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجل، لأن عيسى عليه السلام إنما ينسب إلى إبراهيم عليه السلام بأمه مريم عليها السلام فإنه لا أب له‏.‏

روي أن الحجاج أرسل إلى يحيى بن يعمر فقال‏:‏ بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي صلى اللّه عليه وسلم تجده في كتاب اللّه، وقد قرأته من أوله إلى آخره، فلم أجده‏؟‏ قال‏:‏ أليس تقرأ سورة الأنعام‏:‏ ‏{‏ومن ذريته داود وسليمان‏}‏ حتى بلغ ‏{‏ويحيى وعيسى‏}‏‏؟‏ قال‏:‏ بلى، قال‏:‏ أليس عيسى من ذرية إبراهيم وليس له أب‏؟‏ قال‏:‏ صدقت ‏"‏رواه ابن أبي حاتم‏"‏‏.‏ فلهذا إذا أوصى الرجل لذريته أو وقف على ذريته، أو وهبهم دخل أولاد البنات فيهم، فأما إذا أعطى الرجل بنيه أو وقف عليهم فإنه يختص بذلك بنوه لصلبه وبنو بنيه، واحتجوا بقول الشاعر العربي‏:‏
بنونا بنو أبنائنا، وبناتنا * بنوهن أبناء الرجال الأجانب‏.‏
وقال آخرون‏:‏ ويدخل بنو البنات فيهم أيضاً، لما ثبت في صحيح البخاري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال للحسن بن علي‏:‏ ‏(‏إن ابني هذا سيد، ولعل اللّه أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين‏)‏ فسماه ابناً، فدل على دخوله في الأبناء، وقال آخرون‏:‏ هذا تجوز‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ومن أبائهم وذرياتهم وإخوانهم‏}‏ ذكر أصولهم وفروعهم، وذوي طبقتهم وأن الهداية أو الاجتباء شملهم كلهم، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم‏}‏، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك هدى اللّه يهدي به من يشاء من عباده‏}‏ أي إنما حصل لهم ذلك بتوفيق اللّه وهدايته إياهم ‏{‏ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون‏}‏ تشديد لأمر الشرك وتغليظ لشأنه وتعظيم لملابسته كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت لحبطنَّ عملك‏}‏ الآية، وهذا شرط، والشرط لا يقتضي جواز الوقوع كقوله‏:‏ ‏{‏قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين‏}‏، وكقوله‏:‏ ‏{‏لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين‏}‏، وكقوله‏:‏ ‏{‏لو أراد اللّه أن يتخذ ولداً لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو اللّه الواحد القهار‏}‏‏.‏






التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس