عرض مشاركة واحدة
قديم 20-08-2014, 07:19 AM   رقم المشاركة : 2
حايـ الدمعه ـر
( ود متميز )
 
الصورة الرمزية حايـ الدمعه ـر
 






حايـ الدمعه ـر غير متصل

الحمد لله ذي العزة والجلال .. نحمده في النعماء كما نحمده في البلاء .. إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه .. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله .. إمام المتقين وسيد الأولين والآخرين عليه من الله أفضل صلاةٍ وأزكى تسليم .. وآله وصحبه الغر الميامين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين قال تعالى : ... وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282 سورة البقرة ) أما بعد:
في الليلة الظَّلماء يُفتقدُ البدرُ، وفي يوم الحرِّ الشديدِ يُستجلَبُ الظلُّ، ويُستعذبُ المورِدُ، وفي خِضَمِّ الفتن والخلافاتِ التي تموجُ كموجِ البحرِ، وإعجابِ كل ذي رأيٍ برأيِه، وهيَجانِ الإسقاط الفِكريِّ، والعلميِّ، والثقافيِّ، والإعلاميِّ؛ يبحثُ العاقلُ فيها عن قَبَسِ نورٍ يُضِيءُ له ويمشي به في الناسِ، أو عن طوقِ نجاةٍ يتَّقِي به أمواجَ البحر اللُّجِّيِّ الذي يغشاهُ موجٌ من فوقه موجٌ من المُدلهِمَّاتِ والزوابِعِ التي تجعلُ الحليمَ حيرانًا.
وإننا في هذه الآوِنة نعيشُ زمنًا تكاثَرَت فيه الوسائلُ المعلوماتية، وبلَغت حدًّا من السرعة جعلَت المرءَ يُصبِحُ على أحدث مما أمسَى به، ثم هو يُمسِي كذلك. إنها ثورةُ معلوماتٍ وبُركانٌ من الثقافات والمقالات والمُطارَحات التي اختلَط فيها الزَّيْنُ بالشَّيْن، والحقُّ بالباطلِ، والقناعةُ بالإسقاطِ القَسريِّ، حتى أصبحَ الباحثُ عن الحقِّ في بعض الأحيانِ كم يبحثُ عن إبرةٍ في كومةِ قشٍّ، وهنا تكمُنُ صعوبةُ المهمةِ، وتخطُرُ التَّبِعَة.

وربما لم يعُد أسلوبُ الأمس يُلاقِي رواجًا كما كان من قبلُ؛ وذلك لطُغيان المُشاحَّة وضعفِ الوازِعِ، ما يجعلُ أُسلوبَ
المُحاوَرة والمُجادَلة بالتي هي أحسنُ سبيلًا أقومَ في هذا الزمن، وبخاصَّةٍ في مجال التربيةِ والإعدادِ والنُّصحِ والتوجيهِ، والنقدِ والخُصومة.

فكلِّ زنٍ وسيلتُه التي تُوصِلُه إلى غايةِ الأمسِ واليوم، ولا يعني هذا أن ما مضى كان خللًا، كما أنه لا يُلزِمُ أن الحاضِرَ هو الأمثلُ، وإنما لكل مقامٍ مقالٌ، ولكل حادثٍ حديثٌ، ولقد أحسن شيخُ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - حين قال: "إذا عُرِف الحق سُلِك أقرب الطرقِ في الوصولِ إليه".

ربما كان الإسقاطُ والإلزامُ دون مُحاورةٍ أو تعليلٍ أسلوبًا سائدًا في زمن مضى قد فرضَ تواجُده في الأسرة والمدرسة، ومنابر العلم والفِكر والإعلام، وربما كان مقبولًا إلى حدٍّ ما لمُلاءَمة تلك الطبيعة والمرحلة للمُستوى الخُلُقي والمعيشي والتربوي والعلمي. وما ذاك إلا لسريان مبدأ الثقة والاطمئنان بين المجموع، وهي في حِينها أدَّت دورًا مشكورًا، وسعيًا مذكورًا، كان مفهومُ التلقينِ فيها أمرًا إذا كان المُلقِّنُ هو الأعلى، وربما صار نُدبةً وطلبًا إذا كان المُلقِّنُ هو الأدنى، وقد يكونُ في حُكم الالتِماسِ إذا كان الطرَفَان مُتساوِيَيْن.
بَيْد أن المشارِبَ في زمننا قد تعدَّدت، والطرقَ المُوصِلة قد تفرَّعَت، ما بين مُوصِلٍ للغاية، أو هاوٍ بسالِكها إلى مكانٍ سحيقٍ، أو سالِكٍ وعرًا على شفَا جُرُفٍ هارٍ، قد بيَّن ذلكم بأوضح عبارة وأجمعِ كلِمٍ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه عنه ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - قال: خطَّ لنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا خطًّا فقال: «هذا سبيلُ الله»، ثم خطَّ خطوطًا عن يمينِ الخطِّ ويساره وقال: «هذه سُبُلٌ على كلِّ سبيلٍ منه شيطانٌ يدعو إليه»، ثم تلا: « وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: 153]» - يعني: الخطوط الذي عن يمينه ويساره -؛ رواه أحمد، والنسائي.

ومن هذا المُنطلَق كلِّه - عباد الله - يأتي الحديثُ بشَغَفٍ عن الحاجةِ إلى سيادةِ مبدأ
المُحاوَرة والمُجادَلة بالتي هي أحسنُ في جميع شُؤون الحياة كما علَّمَنا ذلك دينُنا الحنيفُ، وكان رائدَنا فيها كتابُ ربِّنا وسنَّةُ نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم -؛ فالمُحاورةُ أسلوبٌ راقٍ، ووسيلةٌ مُثلَى تُوصِلُ إلى الغايةِ بكل أمنٍ وطُمأنينةٍ وأدبٍ وتأثيرٍ.

لأن اختلافَ الناس وتفاوُت عقولِهم، وأفهامهم، وأحوالهم النفسيَّة تفرِضُ طرقَ هذا المبدأ في زمنٍ كثُر فيه الجشَعُ، وشاعَت فيه الفوضَى، وأصبحَ التافِهُ من الناسِ يتكلَّمُ في أمر العامَّة.
المُحاورةُ - عباد الله - تبادُلُ حديثٍ بين اثنين أو أكثر، يُقصَدُ به: إظهارُ حُجَّةٍ، أو إثباتُ حقٍّ، أو دفعُ شُبهةٍ، أو رفعُ باطلٍ في قولٍ، أو فعلٍ، أو اعتقادٍ. وهي أسلوبٌ مُعتبرٌ في الكتابِ والسُّنَّة؛ فكتابُ الله به عشراتُ الآيات التي جاءت مُتضمِّنةً معنى المُحاورة، والسنَّةُ المُطهَّرة مليئةٌ بهذا الأُسلوبِ المُنبعِثِ من الخُلُق النبوي الهادفِ إلى هدايةِ الناسِ، والحِرصِ عليهم، والرحمةِ بهم، (( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ )) [التوبة: 128].

وإن أي مُجتمعٍ يُربِّي نفسَه ونفوسَ بنِيه على إجادَة إيصال الفِكرة إلى الغير بإقناعٍ ناتجٍ عن مُحاورةٍ وشفافيَّة - كما يقولون -، ومُجادلةٍ
بالتي هي أحسنُ لا بالتي هي أخشنُ، فستصِلُ الفِكرةُ بكلِّ يُسرٍ ووضوحٍ لا يشُوبُه استِكبارٌ، وإذا لم تكن نتيجةً إيجابيَّةً فلا أقلَّ من أن الحُجَّة قامَت، والذِّمَّة برِئَت، ولسانُ الحالِ حينئذٍ هو قولُ المؤمنِ( فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ )) [غافر: 44].
والحُكمُ هو الحُكمُ، والحقُّ هو الحقُّ، لن يتغيَّر؛ سواءٌ أكان بمُحاورةٍ أم لا، ولكن التغيُّر إنما يكونُ في القناعةِ بالحُكم وفهمِه والرِّضا به، ومعرفةِ حِكَم الشارعِ ومقاصِدِه.

ثم إن المُحاورة لا تعنِي باللُّزومِ اقتسامَ النتيجة بين المُتحاوِرَيْن، كما أن الوسطيَّة لا تعني التوسُّطَ بين أمرَيْن؛ لأن الوسطيَّة هي العدلُ والخِيار الذي لا مَيْلَ فيه لطرفٍ دون طرفٍ؛ بل أنَّى وُجِد الحقُّ فهو الوسطُ، وإن كان أدعياؤُه طرَفين لا ثالثَ لهما.

وهذه هي الغايةُ المرجُوَّة من المُحاورة، ومن جادلَ بالباطلِ ليُدحِضَ به الحقَّ؛ فقد قال الله عنه: ((الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ )) [غافر: 35].

لقد امتازَت المُحاورةُ في شريعتنا الغرَّاء بأنها عامَّةٌ في
جميعشُؤون الحياة، ابتِداءً من أمور الاعتقاد، وانتِهاءً بتربية الأطفال؛ فمن أمثلة ما جاء في أبواب الاعتقاد: مُحاورة كل نبيٍّ لقومه، ومُجادلتهم بالحُسنى طمعًا في هدايتهم إلى صراط الله المُستقيم، وقد جاء في الحديث: أن قُريشًا اختلَفَت إلى الحُصين بن عِمران،

فقالوا: إن هذا الرجلَ - يعنونَ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يذكُرُ آلهَتنا، فنحن نحبُّ أن تُكلِّمَه وتعِظَه، فهب حُصينٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أوسِعوا للشيخِ». فأوسَعوا له، فقال حُصينٌ: ما هذا الذي يبلُغُنا عنك أنك تشتِمُ آلهَتنا وتذكُرُهم. فكان مما قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا حُصين! كم إلهًا تعبُد؟». قال: سبعةً في الأرض وإلهًا في السماء. قال: «فإذا أصابَك الضيقُ فمن تدعُو؟». قال: الذي في السماء. قال: «فإذا هلَكَ المالُ فمن تدعُو؟». قال: الذي في السماء. قال: «فيستجيبُ لك وحدَه وتُشرِكُهم معه؟! ..» إلى أن قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا حُصين! أسلِم تسلَم». قال: إن لي قومًا وعشيرةً؛ فماذا أقولُ لهم؟. قال: «قُل: اللهم إني أستهدِيك إلى أرشدِ أمري، وأستجيرُك من شرِّ نفسي، علِّمني ما ينفعُني، وانفعني بما علَّمتَني، وزِدني علمًا ينفعُني». فلم يقُم حتى أسلَمَ؛ رواه أحمد، والترمذي، والنسائي، وغيرُهم.

وقد دخل عديُّ بنُ حاتمٍ على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو نصرانيٌّ، فسمِعَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأ قولَ الله: (( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ))[التوبة: 31]. فقال عديٌّ: إنا لسنا نعبُدهم. قال: «أليس يُحرِّمُون ما أحلَّ الله فتُحرِّمُونَه، ويُحلُّون ما حرَّم الله فتُحِلُّونه؟!». قال: فقلتُ: بلى. قال: «فتلك عبادتُهم»؛ رواه أحمد، والترمذي، وغيرُهما.

فهذه هي مُحاورةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمور العقائد؛ لتكون نبراسًا لكلِّ مُسلمٍ حريصٍ على هدايةِ غيره أن يقتدِيَ بهدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، واللهُ - جل وعلا - يقول: (( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا )) [الأحزاب: 21].
باركَ الله ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.






آخر تعديل شمس القوايل يوم 22-08-2014 في 02:31 PM.

رد مع اقتباس