خطبة من دروس الحج
الخطبة الأولى
معاشر المؤمنين، شرع الله - جل وعلا - العباداتِ لحكمٍ عظيمة ومقاصد سامية، وأسرار كثيرة، منها ما يعرفه الخلق، ومنها ما لم يدركوه؛ ولم يعلموه.
ومن هذه العبادات فريضةَ الحجّ، والتي تضمّنت من المنافعِ والمصالح ما لا يقدِر على عدّه العادّون، فقد انتظمت فيها من المقاصد أسماها، ومن الحكم أعلاها، ومن المنافع أعظمُها وأزكاها، مقاصد تدور محاورُها على تصحيح الاعتقاد والتعبّد، وعلى الدعوة لانتظام شملِ المسلمين ووحدةِ كلمتِهم، وعلى التربية الإصلاحية للفرد والمجتمع، والتزكية السلوكيَّة للنفوس والقلوب والأبدان. وبالجملة ففي الحج من المنافع التي لا تتناهى، والمصالحِ التي لا تُجارَى ما شملَه عمومُ قول المولى -جل وعلا-: ﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ﴾ [الحج: 28].
وثمة منافعُ يجب على الأمة الإسلامية أفرادًا ومجتمعات أن يَعُوها وأن يحقِّقوها في حياتهم سلوكًا عمليًا ومثالاً واقعيًا، فيومَ تكون الأمة مستلهمَةً رشدَها على نحو تلك الأهداف والمقاصد، فستنالُ عزًّا وشرفًا وخيرًا ومجدًا، قال أحد المبشرين: (سيظلّ الإسلام صخرةً عاتية تتحطّم عليها سفن التبشير (أي: التنصير) ما دام للإسلام هذه الدعائم: القرآنُ؛ واجتماعُ الجمعة؛ ومؤتمر الحج).
فما أحوجَ الأمةَ اليوم وهي تعاني فتنًا متلاطمةً، وشرورًا متنوّعة، وبلايا متعددة، وما أحوج المسلمين أن يستلهموا من فرائض الإسلام العبَرَ والعظاتِ والدروس، ما أجدرَ المسلمين أن يوجِّهوا حياتَهم من منطلقاتِ دينهم، وأن يديروا شؤونَهم من حقائقِ قرآنهم، وأن يعالجوا مشكلاتِهم وأدواءَهم على ضوء ما يوجّههم إليه خالقُهم، ويرشدهم إليه نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم.
عباد الله، في دروس الحج تذكيرُ الأمة بأن أعظمَ ما يجب أن تهتمّ به؛ وتحافظ عليه؛ وأن تغرسه في النفوس، وتَبُثَّه في المناشطِ كلّها والأعمالِ جميعها: تحقيقُ التوحيد لله تعالى، وتحقيق الخضوع والتذلل له سبحانه توجّهًا وإرادة، قصدًا وعملاً.
وانظروا إلى هذه التلبية رمزُ الحج ومفتاحه والتي أهلّ بها سيّد الخلق وإمام الأنبياء حين افتتح حَجّتَه بالتوحيد كما يقول جابررضي الله عنه: فأهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد: (لبيك اللهمّ لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك). إنه إهلالٌ بتلبيةٍ تتضمن روحَ الدين وأساسَه وأصلَه، وهو توحيد الله -جل وعلا- ونبذ الإشراك به بكلّ صوره وشتى أشكاله. يقول ابن القيم -رحمه الله-: في تعداد فوائدها: (التلبية تتضمّن التزامَ دوامِ العبودية، ولهذا قيل: هي من الإقامة، أي: أنا مقيم على طاعتك، ومنها أنها تتضمّن الخضوعَ والذل، ومنها أنها تتضمَّن الإخلاصَ لله- جل وعلا).
فالواجبُ على أفراد الأمة جمعاء أن يستحضِروا ما دلّت عليه هذه التلبية من معنى، محافظين على هذا المعنى في كلّ حين، فلا يسألْ إلا اللهَ، ولا يستغيثْ إلا بالله، ولا يتوكَّلْ إلا على الله، لا يطلبُ المدد والعون والنصر إلا من الله، مستيقنًا أنَّ الخير كلّه بيد الله، وأن أَزِمَّة الأمور بيده، ومرجعها إليه، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع.
بهذا تصبح الأمةُ في حياتِها كلِّها وأنشطتِها جميعِها منطلقة من قاعدة العقيدة الصحيحة والتوحيد الخالص، فلا تخطو خطوةً إلا وهي تنظر من منظار القرآن الكريم، ومن مرآة السنة المطهرة، حرصا على رضا الله جل وعلا؛ واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82].
نفعني الله وإياكم...
الخطبة الثانية
عباد الله: من دروس الحجّ أن تعلم الأمة - أفراداً ومجتمعات - وأن تتذكَّر وتستشعرَ وتستيقن أنه لا سعادة ولا نجاح ولا توفيقَ ولا سدادَ في الدنيا والآخرة إلا باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، والسير على نهجه والمسيرة الجادة على هديه في الاعتقاد والأعمال، في الحكم والتَّحاكم، في الأخلاق والسلوك، وفي هذا المنهج كان يقول سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم عند كل منسك من مناسك الحج: (خذوا عني مناسككم). وانظر - أيها المسلم - كيفَ حقّق الصحابة هذا المقصدَ حينما يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: (حجّوا كما حجَّ النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تقولوا: هذا سنَّة وهذا فرض).
فأعظمُ أهداف الحج بعد التوحيد والإخلاص لله تَذكُّر هديِ النبي صلى الله عليه وسلم ولزومُ طريقِه في هذه الحياة دونَ إفراط ولا تفريط ولا غلوٍّ أو جفاء، قال صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
ومن الدروس العظيمة في الحجّ: أهميةُ الاعتدالِ والتوسّطِ في الأمور كلِّها، ومجانبةِ الغلوِّ أو الجفاء، روى أحمد وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة (بيعة العقبة مع الأنصار): (الْقُط لي حصًى )، قال: فلقطتُ له حصىً من حصى الخذف، فجعل ينفضهنّ في كفّه ويقول: (بأمثال هؤلاء فارموا)، ثم قال: (يا أيها الناس، إياكم والغلوّ في الدين؛ فإنّما أهلك من كان قبلكم الغلوُّ في الدين). فالاعتدال في الأمور كلّها والتوسطُ فيها هو المنهج القويم والصراطُ المستقيم، وذلك - يا عباد الله - ليس بالأهواء، وإنما يكون بالأخذ بحدود القرآن والسنة وما فيهما من الهدي والبيان.
إخوة الإسلام: الحجُّ مؤتمر جامعٌ للمسلمين قاطبة، وهو مؤتمرُهم وملتقاهم الأكبر، مؤتمر يجدون فيه أصلَهم العريق الضارب في أعماقِ الزمن منذ إمام الحنفاء أبينا إبراهيم -عليه السلام-، يجدون محورَهم الذي يشدّهم إليه جميعًا، هذه القبلة التي يتوجَّهون إليها جميعًا، ويجدُون أيضًا رايتَهم التي يفيؤون إليها، رايةَ العقيدة الواحدة التي تتوارى في ظلّها فوارقُ الأجناس والألوان والأوطان، ويجدُون قوتَهم والتي قد ينسونَها حينًا، قوةَ التجمع والتوحّد التي تضمّ الملايين التي لا يقف لها حدّ؛ لو فاءت إلى رايتِها الواحدة التي لا تتعدَّد.
فلا بدَّ أن تدرك الأمة -على مختلف مسؤولياتها- أنهم على مختلف مشاربهم وتنوع أشكالهم لا رابطةَ تربطهم إلا رابطةُ التوحيد، ولا نسبَ ثابت إلا نسبُ الدين، فيجب أن تكونَ صبغتُه هي الصبغةَ السائدة التي يجبُ معها النبذ الصارخ لحميَّاتِ الجاهليةِ وفخارِها.
إخوة الإيمان: الحجُّ مؤتمر ذو مقاصد للبشرية كلها، مؤتمر يربّي البشرية على أُسسِ السلام والأمن والحياة الطيبة، ويدعوهم لتحريم الحرمات والممتلكات والنفوس والمقدَّرات، فربّنا -جل وعلا- يقول: ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ﴾ [الحج: 30].
مؤتمرُ الحج مؤتمر يغرس في النفوس حياةً تراعى فيها حرماتُ الله، لتقوم في الأرض حياةٌ يأمن فيها البشر من البغي والاعتداء، حياة يجدون فيها مثابةَ أمنٍ ودوحةَ سلام ومنطقةَ اطمئنان، فهذا سيّد البشرية وإمام الحنفاء سيدُنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم يعلنها جليةً ويطلقها صريحة في خُطبة الوداع فيقول: (إن دماءكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا).
اللهم وفقنا لاستشعار هذه الدروس والعمل بها.
اللهم يسر لحجاج بيتك حجهم....