عرض مشاركة واحدة
قديم 11-12-2014, 02:56 AM   رقم المشاركة : 2
قلم مضطرب
( ود نشِـط )
 
الصورة الرمزية قلم مضطرب
 





قلم مضطرب غير متصل

وبــعد أن دخل الشــاب راح عمــار ينظُـــــر إليـه إذ بمفاجــأة أخــرى تحــل به وتخلخل عظامــه تزلزلـه في محله أكـــــثر .. كالمــوج الذي يلاطمه البحر ويتلاعب بمـــده وجــزره شيئا لم يخطـــر في باله قط هز بتفكيره عميقا وكأنه يرى شبحا وشيطان وعفريت تلبسوا في جسدا واحد وظهـــروا له بغتـــة شيئـــا جعله يتفاجأ أكــثر من ســماعه صــوت رنــين الجـــرس وكأن المصائب لا تــأتي فرادى بل واحدة تلو أخرى مجتمعـــة , راح يــمعن النظر في ملامحــه بدقة لا متناهية مــرة ومرتــين يميـــنا وشمالا من الأمــام ومن الخــلف أصابته قشعريــرة غير تلك التي تغلغلت في جسده قبل وقت .. "فالرجل غريب الشكل والمنظر مصاب بتقرحات كثيرة في الوجهة .. قصير القامة ينظر بعينيه المخيفتين دون أن ترمش وكأنه مسخا يعيش وسط الصحراء" , ظل عمار فزعا مقشعرا البدن يخاطب نفسه تارة وتارة أخرى يمســح بيده في شعره إلى الأسفـــل وتـــارة ثالثة يحــك رأسه من الــوسط , عند ذاك باغته الرجل بـــالتحية
- الســــلام وعلـــيك يـا هذا ..!

وبعد صمت مدقع يدخن سيجارة خلالها عمار الذي بدا جليا على ملامحه الأرتباك الشديد يبتعد عنه بخطوات للخلف .. أجابه :
- عليكم السلام يا رجل !

باغته الرجل بسؤالا زاد من الأمر غموضا :
- ماذا تفعل ؟ أمجنـــــــون أنت ؟ هـل تريد أن تتسبب في موتنــــا وأنت تدخن هنا ؟ هل تعلم بخطــورة هذه المواد ؟ قد تسبب أنفجــــارا في المعمـل أو يحدث تفاعلٌ مــــا ونختنق ونتسمم من الأشعاعات المنبثقة ..!
- رد عمار محتارا : ماذا ؟ ماذا تقول ؟
- الرجل : سأخبرك أمـــرً قد يبدو غريبا ومخيفا بعض الشيء ؟
- عمار : ومـا هــــــو ذاك ؟
- الرجل : هل تعرف لما لم لا يريد أحدا العمل في هذا المعمـــل ؟
- عمار قال بهدوء : أعرف .. لأنه سري أليس كذلك ؟
- الرجل : لا .. لا , هناك سببا آخـــــــر ..!
- عمار : وما ذاك السبب ؟
- الرجل : لأن أحدا لم يصــــل إلى المعمل قط !
- عمـــار : ومــاذا تعني بأن أحدا لم يصل ؟
- الرجل : لقد عمل 3 شبان قبلك في هذه الوظيفة , ولكنهم لم يصلــــوا أبدا لم يجتازوا الطريق الترابي الذي يوصل إلى هنا ..!
- عمار: وماذا تقصد أنهم لم يجتازوه ؟
- الرجل : لقد عملت هنا من قبل .. وحينما يوظفون أحدا آخر ونأتي للأطمئنان عليهم لا نجد أحدا في المعمــــل , وبعد أن نبحث عنهم نكتشف بعضا من أشياءهم مرمية في الصحــراء فقط ..!
- عمار : فقط ؟ ألـــم تعرفوا شيئا آخر ؟ أو ما الذي جرى لهم ؟
- الرجل : لم يعرف أحدا ذلك , فقد أختفـــــوا دون أثــــر كمن يرحــل في صمـــت دون وداع .

أرتسمت على شفاه عمار أبتسامة سخرية بعدما سمع لا يعرف سببا لها , ربما لأنه أحس بأن ما يسمعه منه نكتة وطــــرفة القصد منها أخافته والسخرية منه وخداعه وتمثيل مشهدا من مشاهد حلقات الكاميرا الخفية التي تعتمد على المزاح الثقيل الذي لا يتقبله أحد ولا يضحك مُتفرجين , فقال لــــه
- هل تقصد أخافتي ؟
- الرجل : لا لا
- عمار : بلى أنك تمازحــني أليس كذلك ؟
- الرجل : وهل تظنني أمـــزح ؟
- عمار : لم أقل ذلك , ولكن كلامك يوحي بالهزل !
- الرجل : لا لا , ولكن أردت أن أطلعك على كل الأمور التي تجــري من حولك لكي تعرف المكان الذي تجلس فيه وحدك , فقد تصادفك اشياء غريبة مجهولة أو تسمع أصوات مخيفة , فكما تعرف أننا وسط صحراء ذات أراضً شاسعة وأي شيئا لهو وارد الحدوث هنا .
- عمار : أتقصد بقولك هذا الشياطين والعفاريت ومن يعيشون في العـــالم الآخر خلف الستار المحجوب ؟
- الرجل : لا أعرف , أي شيء أي شيء قد يحصل ! لا أعني حاجة بعينها ولكـــن يجب أن تأخذ الحيطة والحذر .. فلا تدري من يجلس معك ؟ ومن يكلمك ؟
أستأذن الرجل من عمار بعدها لعشر دقائق .. وذهب ليضع حقائبه في الغرفة المخصصة له ويرجــــع .

ظل عمار خائفا متسمرا في مكانه من كل الموقف ومن حديث الرجل , أنتظره لدقائق عشر وأنتظر لكنه لم يأتي مرت نصف ساعة وأنقضت ساعة بعدها والرجل لم يعود ولم يسمع له صوت ولم يعرف عنه خبرا , ذهب
إلى غرفته ليكتشف ما الخبر ؟ أنطلق مهرولً بسرعة وما أن وصل حصل ما لم يكن في الحسبان قد حصل , فـــالغرفة خالية ولا يوجد فيها أحد ! تـــزلزل عمار في مكانه تيبس في صدمته يتلافت في الجهات الأربع وكأن أحد الشياطين ويــــوسوس بخلده , كأنها صدمة كهربائية أمتزجــــت مع سوائل الأحياء في المعمــل وأصابته في عقله مباشــرة وكأنه تلقى ضربتين والضربتين في الرأس تؤلــــــــم , مستغربا متعجبا ظنها مــزحة خدعة لا يعرف , بحث هنا وهناك دون أي أثــــــــر , يتمتم ويتمتم :
- اللعنة ؟
- أين أختفى ؟
- لا يوحد أحدا هنــا ؟
- أقسم بمن أحل القسم ! هناك شيئا غريبا يحدث ..!
- تبـــا لي , من ذلك الشاب الذي كان معي في المعمــــــــــــــل ؟
- أنه لأمرا غريب حقــا ؟
- ويح هذا , لــــربما كان شبحا تمثل بهيئة أنسان !
- سحقـا , كل شيئا أصبح مخيفا فجــــــأة !
- بسم الله الرحمن الرحيم
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

راح يقرء أدعية يحفظها وأيات تبعد الشياطين عنه وتحرسه من الجن .. وكأنه يسمع أصوات مخيفة ويتوهم كأنه يرى أشياء تمر أمامه .. لم يفكر .. وبسرعة وظب حقائبه وركب السيارة وغادر المعمل المُتلبــد في الصحــراء الذي حصلت بداخله قــــصة مخيفة لم تحــــل وأسرار لم تكتشف وتفاعـــلات لا تعرف جزيئاتها ومواد تبخرت وأختلطت ببعضهـــا وأنتجت مخلوقات غريبة متوحشة تريد أن تلتهم من يعيش معها ..بدى المكان كمــسرح الجريمة الذي لم يكتشفُ المُحقق من المتهــــم ؟ فأختلط عليه الأمـــر لا يــدري أهو القاتل أم المقتول ؟

وصل إلى منزله قاطعا تلك الصحراء المشؤومة بسرعة تفوقت على محركات الفورملا ون .. ألا أن غموضه لم ينتهي فمنزله بدى فيه حشدا وجمعا من الناس يدخلون إليه يلبسون الاسود حدادا .. دخل والحيرة فعلت به ما فعلت .. وأصوات الصياح والنياح تضج في كل الأرجــاء , يسأل بهمس :
- ماذا حدث ؟
- ماذا يجري ؟
- هل هناك من مـــــــات ؟
يمر أمام الموجودين كلهم لكن أحــدا لم ينظر إليه , يسأل هذا ويسأل ذاك عن سبب أحـــزانهم لكن أحدا لم يجبه أو حتى يلتفت إليه وكأن لعنة المعمــل المشؤوم لاحقته إلى منزله , فـــالأشياء كلها باتت غريبة في نظـــره ونظــــر غيره ليتــه لم يغادر المنزل قط ويذهب إلى المعمــل وينقلب عالمـــه بكــل ما فيــه وتنقلب حياته رأسا على عقب وكأنهـــا بفعل فاعــل .. ترك أسئلـــة وجعله يبحث عن الأجوبــة .

تخطت دقائــق وهو يعيش في وسط زوبعة تلتف دوران بسرعة وتلفه معها .. ظل يبحث عن خبر الضيوف التعساء الذين ملئوا المنــــزل بدموعهم , إذ تبـين لـــه بعد برهـــة بأن الحضــور كلهم "كانوا معزيـــن يعظمون الأجر لوالدتـــــه" , ما جعله يجهش بالبكاء حرقـة وحسرة على وفـــاة شقيقته .. بكـــى وبكــى حتى تقطعت نياط قلبه وكأن الحياة تصفعه بيمينها ويسارها وتتلاقفه من كل جانب وتتلاعب بعواطفه ومشاعره دون رحمـــة فلم تسلم شقيقـتـه هي الأخــرى من غدرهـــا . وفي خضم تلك اللحظــات التي أدمت قلبه فجـــأة دخلت شقيقته ! ما أصابه بصدمة تفوق في سرعتها وقوتها طلقة رصاصة من فوهة مسدس , يســـأل ويتسأل في نفســه
- شقيقتي ها هي لم تمُت ..!
- تبــا ؟
- إذ لم تكن هي , فمــــن إذا ؟
- لـــربمــا جارتنا صديقة والدتي ؟

راح وســط الحشود يشق صفوفهم كمن يشق صفوف الجيوش بسيفه ويقــــد الأعداء نصفين , يستفسر منهم ويتحدث معهم الا أنهم لم ينظرون إليه أو يديروا لــه بالً , تلك الغرابة التي يبدو أنهـــا لن تنتهـــي جعلته يقترب من بعضهم ويتلصص عليهم وعلى أحاديثهم وأصوات بكائهم التي تعالت لعله يكتشف ما الخبر ومن المتـــوفي ؟ أقترب من الأول وأستمع إلى الثاني وزادت دهشته وحيرته وأرتعدت كل جوارحــه عند الثالث وخارت قــواه كلها عندما أستمع إلى الرابع .. جلس على الأرض منهارا يتعتع ويتلعثـــم ويهمس ويرتجف ويحاكي نفسه التي لم تصدق ما سمعته لتــو , ردد ثلاث مرات :
- يا إلهـــي يا إلهـــي يا إلهـــي
- يا إلهـــي
- أنهـــم يعــزون والدتي على موتـــي !
- يا إلهـــي أنني ميــت
- كيف ذلك ؟
- هــا أنـا ذا حيـا أُرزق
- صـــاح فيهم : أنظـــروا إلي ويحكم !
- أنني أقف أمامكم
- صــاح ثانية , لست ميتا أنني حيا أنظـــــروني !

ذهب إلى والدته الثكـــلى والتي كانت في حالـــــة يرثى لها , راح يكلمها ويضع يده في يدهــــا وكأنه يريد شيئا من حنانها الذي فقده .. لكنها لم تشعر بــه , ينادي عليها وينادي
- أمـــاه أمــاه ..!
- أنني أبنك عمار ..!
- أنني حـي أنظـــري إلي ..!
- لا تحزني أرجوك فلست ميتــا ..!
- أمسحي الدمــوع الغالية من عينيك فلم أمت بعد ..!

محاولات يائسة منه لكي تنظر إليه ولكن بــــدون جدوى فهو ميتا بالنسبة لهــــا .. قبل رأسها مودعــا , ثم ذهب إلى شقيقته وصـــــاح فيها
- حتى أنتي يا أختاه ..!
- حتى أنتي صدقتي بموتي , ووقعتي على شهادتي ..!
- ظننتها من الجميع عــداكِ ..!
- أرجـــوك أنظـــر إلي , فأنــا حيا بعد ..!

لم تلتفت إليه هي الاخرى لأنه ميت بالنسبة لها وللعالــم كله . ولكــن كيف ذلك ؟ ومتـــى حصل هذا الأمر ؟
راح يسترجع كل الأحداث والأوقـــات والذكريات منذ اللحظة التي غــادر فيها المنزل متجها إلى المعمـــل يسترجع ويفكر في كل الساعات والدقائق والثواني وأجزاء الثانيـــة إلى أن أستوقف عند ذكرى , ذكرى تلك اللحظة .. لحظة وصوله إلى المعمـــل أول مرة "حيث كان يدخن حشيشا ويتلاعب ببعض المواد الكيمياوية ما أحدث تفاعلا بينهما وتسبب بإنفجــارا ضخم .. جعل من المعمـــل أنقاضً على الأرض ما أدى إلى وفاتــه" .

بيده ضرب جبهته
- تبــا !
- لقد كنت ميتا طوال هذه المدة ..!

قليـــلا بعد أن أيقـــن موتــه وأستوعب الصدمة وأستوعب معها روحه التي أُزهقت دون علمـــه وفي لحظات غفلـــــة منه , تذكــــر شيئا آخر عن الرجل الذي زاره في المعمل :
- اللعنة ..!
- ذلك الرجل الذي زارني في المعمل ..!
- كان ميتا ..!
- كان أحد الأموات ..!
- سحقاً ؟
- حينما قال لي : لا تدري من يجلس معك ؟ ومن يكلمك ؟
- كان يعني بأنه ميت ؟
- لقد كان ينعى نفسي وأنــــا لا أدري ..!
- أراد أخباري بأنني ميت ..؟
- بئسا لذلك !

بكـــــى على موته بعدهـــا وبكـــى , بكى لأنه أكتشف لتــوه موتــه وكيف كان آخر من يعلم بوفاته .. بعدها وقف في وســـط المعزيـــن الذين حضروا يعظمون الأجر على جثته , صـــاح فيهم باكيا
- أرجوكــم ..!
- لا .. لا .. لا
- أتوسل إليكم .. لا تعزوا والدتـــي
- أرجوكم أريد العودة إلى الحياة
- أريد العودة لأترك ذكـــرى , أريد أن اخلد ذكرى
- ذكـــرى أكتبها بأســمي
- أرجوكم !
- فلم أفعل شيئا يستحق في حياتي كلهـــا
- لقد فقدت .. فقدت حياتــي قبل سن الثلاثين ؟
- أنهـــا لعنة الظــروف التي أصابتنـي
- أريد أن أرجع مرة أخــرى .. فهناك الكثير والكثير الذي لم أفعله
- أريد الزواج .. أريد العمل !
- أرجوكــم !
- أريــد أن أنجــب أطفالً وألاعبهم !
- أريد أن أتوب من ذنوبي !
- أريد ترك الخمر والمخدرات !
- أريد العودة ولو ليـــوم واحد فقط

ظــل يبكــي حسرة وقهــرا يبكــــي على نفســه الميتة في لحظات غفلة , ثم قــــام يعض على يديــــه وأصابعــه ندما .. يصفع وجهه تارة ويُطالع الأرض تارة أخرى , رفع رأسه عاليا يُناظر السماء التي حجبها سقفُ المنزل ... رفع يديه بعدهــا وصـــــاح : (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) .



قلم \ مضطرب






رد مع اقتباس