عرض مشاركة واحدة
قديم 23-01-2009, 01:45 AM   رقم المشاركة : 5
أنا راحل
( ود جديد )
 





أنا راحل غير متصل









3

بحثت عن مكان أضع فيه الكوب وسط الأوراق والكتب التي تزحم الطاولة الصغيرة، طويت بعض الأوراق بيد، وأزحت كتابا ً لألقيه في جوف آخر فاغر على صفحة تشغلها قصيدة ( ذياب الجرادي)، حتى لاحت لي فرجة صغيرة وضعت فيها الكوب بحرص، ثم تراجعت بالكرسي قليلا ً وأنا أسند قدمي إلى حامل صغير للأقدام، وأغطي وجهي بيدي.

احتجت لدقائق حتى أشتت ذلك الارتخاء والكسل الذي يملؤني، قبل أن أعود لكوبي وأوراقي.

سحبت ملفا ً صغيرا ً بلون فاقع - اخترته هكذا لا عن سوء ذوق، بل حتى أميزه بسرعة وسط الفوضى التي تشغل المكتب-، وفككت الرباط الذي كان يتدلى من أحد طرفيه ليلتف حول الطرف الآخر، لتواجهني أوراقي التي غطى بياضها خططي وملاحظاتي المزدحمة، والتي لا تلتزم سطرا ً ولا نظاما ً، وإنما تأتي كيفما اتفق الخاطر، ويفصل بينها للتمييز خطوط سريعة مترادفة.

قلبت الورقة الأولى التي أحرص أن تكون كذلك عندما أعيد ترتيب الملف، وهي الورقة التي تملؤها خطة العمل، وتتفرع من كل سطر فيها هوامش جانبية صغيرة بالكاد تقرأ - لدي إصرار غريب على أن أختصر الكثير من الأشياء في ورقة واحدة -.

مضيت أتتبع السطور وبعض الهوامش بين رشفات الشاي، وعبثي بالقلم الذي يحمل الحرفين الأولين من اسمي - هدية بالطبع وإلا فأنا ليس لدي ذلك الهوس بنقش اسمي على أشيائي -.

قلبت الورقة الأولى بعدما حددت في ذهني إطار عملي لهذا اليوم، والأشياء التي يمكنني القيام بها خلال الساعات القليلة القادمة، قبل أن أطوي كل هذه الأوراق، وأزيح كل هذه الكتب، لأفرد المساحة للفهد الثائر.

انتقيت ورقة نصفها بياض لم يمس، وكتاب غرست في بطنه ورقة سميكة لتدلني حيث كنت، ألقيت بغطاء قلمي، وبدأت في القفز بين السطور، والقلم يخطط البياض.

* * *

بدأ كل هذا في اجتماع العائلة السنوي الأخير، وهو الاجتماع الذي يضم كل الأحفاد المتحدرين من الجد الرابع للعائلة ( صالح بن علي).

كان الاجتماع طقسا ً سنويا ً للعائلة الضخمة والممتدة يعقد في المزرعة الفسيحة التي يمتلكها والدي - كبير العائلة الفعلي، في مقابل كبيرها اسميا ً العم سعود، وهو عجوز تسعيني خرف -، وهذا ما يجعل الاجتماع بهيجا ً، وخصوصا ً عندما تكون حالة الجو جيدة، والأرض تتنفس ربيعا ً.

كان علي فقط أن أتجاوز الساعات الأولى من الاجتماع والتي يشغلها الحفل الترحيبي، الذي يبدأ بكلمة الوالد القصيرة دائما ً والمتشابهة الكلمات، ومن ثم القصيدة - أو القصائد عندما تكون سنة طيبة لشعراء العائلة - النبطية ذات الموضوع الدائم - الافتخار بالعائلة، والمديح للجد رحمة الله عليه والذي توفي منذ لا أدري متى !!! -، ومن ثم تكر سبحة المسابقات للكبار والأطفال، ومن ثم اجتماع العائلة المفتوح - لا يحضره إلا المهتمون فقط وكبار السن، ويفر منه الشباب والأطفال - حيث تطرح الاقتراحات والأفكار ويتم الموافقة عليها أو رفضها، وتضم للمشاريع العائلية التي ينفق عليها من صندوق العائلة - يبدو هذا الاجتماع شبيها ً بمجلس شورى للعائلة -، وعندما ينفض الاجتماع، ينفض على الوليمة الكبيرة حيث السفرة الممتدة بأكداس الأرز واللحم.

وعندما ينتهي الآكلون ويخلفون ورائهم سفرة خاوية منهوشة، يكون القسم الأول والأساس من يوم العائلة قد انتهى، ويبدأ البعض في الرحيل، ولا يبقى إلا المهتمون حقا ً، الذين يعودون بعد صلاة العصر لسلسلة جديدة من المسابقات للكبار، والألعاب الرياضية للصغار، ومن ثم أمسية شعرية نبطية لأبرز شعراء العائلة والذين يتنافسون في ضخ قصائدهم التي حضروها لهذه المناسبة ليضفروا بلقب شاعر العام، ومن ثم يأتي دور راوية العائلة العجوز ( أبو عبدالوهاب) والذي يبدأ حالما يوضع مكبر الصوت بين يديه في الحديث بصوته الهامس والضعيف، وهو يلوح بإحدى يديه، بينما يده الأخرى تتحسس لحيته المصبوغة بالحناء من حين إلى حين، وكانت مراوي ( أبو عبدالوهاب) أجمل ما في اليوم، رغم أنه يعيد بعض حكاياته بعينها كل سنة – مع تفاصيل جديدة أو بتغيير لبعض التفاصيل - إما نسيانا ً حينا ً، أو بالطلب من الجمهور المسترخي على البسط المفروشة على الأرض، والمستمتع بالليل والحكايات والشاي.

وينتهي اليوم بوليمة العشاء والألعاب النارية التي تنير سماء المزرعة وتبهر ألوانها وأصوات انفجاراتها الجميع.

وبين كل هذا أكون أنا، إما مساعدا ً لأخوتي في ترتيب بعض الأمور، أو متابعا ً لبعض الأنشطة هنا وهناك، أو مثرثرا ً مع هذا وذاك من الأقارب الذين لم أرى بعضهم منذ اجتماع السنة الماضية، أو هاربا ً من هذا كله مع أحد الأقارب إلى أطراف المزرعة لنستمتع بالجو الرائق والثرثرة بعيدا ً عن كل هذا الضجيج.

في السنة الماضية، كان هناك نقاش سيطر على الاجتماع العائلي المفتوح، حول مشروع متعثر للعائلة، كان يجب أن ينجز منذ سنتين على الأقل، وهو عبارة عن فكرة لإصدار كتاب حول الجد ( صالح بن علي)، يتناول سيرته وأخباره وقصائده وبالطبع قصيدة الشاعر ( ذياب الجرادي) الشهيرة - عائليا ً فقط - والتي مدحه فيها إذ حل ضيفا ً عليه ذات يوم فأكرمه.

وكان كبار العائلة مستثارين لهذا التأخير في هذا المشروع المهم - جزء من استثارتهم يعود لصدور كتاب أنيق الطباعة، صقيل الصفحات لإحدى العائلات المنافسة -، فلذا كانوا يرغبون في التأكد من أن الكتاب سيكون جاهزا ً للتوزيع في اجتماع السنة القادمة.

كان النقاش الذي تابعته باهتمام بسيط، يدور حول عدم تفرغ الرجل الذي أوكل إليه تأليف الكتاب - لاهتماماته التراثية - لمثل هذه المهمة المتعبة والمعقدة، ولذا كان هناك اتجاه واضح - محرج في البداية، ومن ثم متحمس بعدما اتضح أن الرجل لا يمانع - للبحث عن شخص آخر توكل له هذه المهمة، ويستطيع إنجازها خلال العام القادم.

لم أتوقع أن يكون اسمي مطروحا ً لمثل هذا، ولكن يبدو أنه كانت هناك نية مبيتة لذلك، مدفوعين بمركز والدي في العائلة، وببعض الكتابات التاريخية التي تظهر لي بين وقت وآخر في بعض الصحف المحلية، اقترح بعض أعمامي اسمي، وسرعان ما تجاوب التأييد من كل مكان، وشيعت ذلك نظرة موافقة وارتياح من والدي، جعلتني أعزلا ً أمام الجمع المحدق بي.

وهكذا وجدت نفسي بعد الاجتماع مجذوبا ً من يد ( أبو خالد) - الرجل الذي تخلص من هذا الحمل بإلقائه على كاهلي - إلى سفرة قصية ليشاركني معلوماته حول الموضوع.

كان ( أبو خالد) يلقي لي بمعلومة بين كل لقمة وأختها، هذا إذا لم يشاكس أحد الذين يشاركوننا السفرة، أو يضحك وهو يرد على آخر في سفرة أبعد قليلا ً.

- الموضوع بسيط بارك الله فيك – قالها وهو يقطع بسكين تل الشحم الذي يواجهنا، ليصل للحم الساخن الكامن تحته -، سأعطيك صورة من مخطوطة ثمينة لعمنا الشيخ عبدالرحمن بن عثمان بخطه، والذي كان جده ( صالح بن علي)، هذه المخطوطة هي أهم الموجود، لأنها كتبت في السنوات الأخيرة من حياة جدنا، وأخذها الشيخ منه مباشرة.

- وهناك عدة كتب أخرى للأسف ليست عندي – أكمل بعدما انشغل بلقمة، وباستراق السمع لسالفة كان ( أبو عبدالوهاب) يرويها على من يشاركونه السفرة القريبة – سأعطيك عناوينها لتبحث عنها، وديوان أو ديوانين شعر عندي سأعطيك إياها أيضا ً، وإذا بقي شيء، يمكنك أن تسأل شيوخ العائلة وكبار السن فيها ليخبروك من ذاكرتهم.

- جزاك الله خير - اكتفيت بها ولم أشأ أن أسأله حتى لا أفضح جهلي التام حول الجد الذي لا أعرف عنه سوى اسمه، وبضعة أبيات من قصيدة ( ذياب الجرادي) أذكر أن أبي كان يرددها عندما كنا نصحبه إلى المزرعة في صغرنا -.

- وإياك... سجل رقم جوالي عندك، وإذا عدنا إلى الرياض بإذن الله، تزورني في المنزل بارك الله فيك، منها نتعشى نحن وإياك، ومنها نعطيك الكتب الله يحفظك.

* * *

انتظرت أسبوعا ً عندما عدت للرياض، وعندما لم يتصل ( أبو خالد)، اتصلت به أنا، فجاءني صوته مغمورا ً في ضجيج - لا أدري ما مصدره !!! -، وبعد عدة محاولات منه لجعلي أمر به في منزله لأتعشى معه وليعطيني المخطوطة والدواوين، قنع بأن يمر هو بي، وهذا ما كان حيث مر مرورا ً سريعا ً، لم يلج فيه المنزل حتى، متحججا ً بموعد ما تأخر عنه، ومودعا ً بين يدي كيسا ً مثقلا ً.

نفضت الكيس على مكتبي، وجلست لأتأمل صورة المخطوطة المغلفة بورق مقوى أخضر اللون توسطه اسم الجد ( صالح بن علي)، وتحته كتب – بخط أصغر - اسم الحفيد ( عبدالرحمن بن عثمان).

قلبت صفحات المخطوطة فهالني الخط الصغير والرديء الذي كتبت به، وأجهدتني محاولة قراءة صفحة واحدة بهذا الخط المتشابك والمتعرج.

وضعت المخطوطة جانبا ً، وتصفحت كتابا ً بغلاف ورقي تحتله صورة مرسومة لإبل وكثبان رملية، وتبين لي أنه ديوان يغص بالشعر النبطي، وكانت إحدى صفحاته مطوية الزاوية العليا للدلالة على مكان قصيدة ( ذياب الجرادي) والتي تمتد على عدة صفحات أخرى.

وكان هناك كتاب آخر بتجليد فاخر وبعنوان ( التبيين في أخبار النجديين)، وإحدى صفحاته مطوية بدورها للدلالة على ما يخص الجد من هذا الكتاب.

وأخيرا ً الورقة المطوية التي دون فيها ( أبو خالد) الكتب التي تنقصني.

حاولت في الأيام الأولى القراءة من المخطوطة، وتنقلت بينها وبين الكتب والقصائد المروية، ولكن أدركت أن كل هذا سيكون عبثا ً وبلا طائل، إن لم أضع لي منهجا ً من البداية لما أريد الوصول إليه.

لم أكن أرغب بأن يأتي كتابي عن جدي مجرد جمع لأخباره وقصائده، ويكون جهدي فيه فقط الترتيب والتنسيق؟ كنت أفكر بشيء آخر، شيء يعبر عني أنا، ويضيف مني للكتاب، ولي من سيرة الجد وأخباره واقترابي منه.

ولذا كانت الخطوة الأولى التي اخترت أن أقوم بها، هي أن أتعرف على العصر الذي عاش فيه الجد، وحيث أن خبرتي في تاريخ نجد ضئيلة – لا تتعدى ما درسته في المدرسة عن الدول السعودية الثلاث -، فلذا قررت أن أبدأ أولا ً بكتاب ( تاريخ المملكة العربية السعودية) للدكتور عبدالله العثيمين لأحصل على فكرة عامة عن تاريخ الدولة السعودية، ومن ثم أتبعه بكتاب أكثر تفصيلا ً وهو ( عنوان المجد في تاريخ نجد) للمؤرخ عثمان بن بشر.

وهكذا صار يفصلني عن الجد ألف وخمسمائة صفحة، هي مجموع صفحات الكتابين، وهي ما أحتاج حتى أفهم الأحداث التي عاصرها الجد وعاش في ظلها.

* * *

توقفت أخيرا ً عندما غاب بياض تلك الصفحة، وتناقصت صفحات ذلك الكتاب، ومرت بي ثلاثة أكواب مترعة بشاي كما أحب الشاي أن يكون، ووجبة خفيفة أعدتها لينا وتركتها على مكتبي مع قبلة صغيرة قبل أن تأوي لفراشها لتلاحق يوما ً آخر في جامعتها الكئيبة.

كنت أشعر بتعب ورغبة مديدة في النوم، ولكني لم أشأ أن أخلف موعدي مع فهد، ولذا وجدت نفسي ألج المقهى إياه من جديد.

- تأخرت.

- ههههههههههه، وهل للوقت معنى هنا؟ كيف شعرت بأني تأخرت؟ كان يمكنني أن أكتب سطرا ً قبل ولوجي على غرار ( نفس الوقت / نفس المكان) وأنجو من لومك ومن عتابك.

- ولكنك تأخرت، أنت تشعر بهذا، فأنا أشعر به.

- حسنا ً... أنا آسف يا عزيزي، كان يوما ً طويلا ً، ومن الجيد أني لا أرقد الآن في فراشي مخلفا ً موعدي معك.

- لا بأس... بمناسبة ( نفس الوقت / نفس المكان) هذه، هل تعاني شحا ً في الأمكنة؟ لم َ يجب علينا أن نلتقي في هذا المقهى في كل مرة؟ ألا يوجد مكان أكثر بهجة في ذهنك؟

- هههههههه، لا الوقت ولا المكان أعجبك، يوجد لدي أطنان من الأمكنة – إن صح التعبير، وهو لا يصح – ولكني اليوم متعب جدا ً لأبتكر مكانا ً يناسبنا، دع ذلك للمرة القادمة.

- إذا كنت متعبا ً إلى هذا الحد فيمكننا أن نرجئ لقاءنا هذا إلى يوم آخر، وأنا لا أقول هذا لأني طيب أو قلق عليك وإنما لأنك لا تفيدني هكذا، أشعر بأنك متداع ٍ تماما ً.

- لا... لا... أنا بخير، بل أشعر بأني بحال أفضل الآن.

- جميل.

- أين كنا؟ - بعد لحظات من الصمت -.

- لم نكن، نحن ننتظر، أو بالأصح أنا أنتظر.

- تنتظر ماذا؟

- أنتظر اليوم الذي ستمل مني فيه، فتجعل قلمك ينزلق قليلا ً لتتخلص مني، أو ربما تتركني هكذا، بدعوى الأيام الطوال المتعبة، في هذا المقهى إلى الأبد.

- وما مناسبة هذا الكلام الآن؟ - باستغراب - ألا أمنحك الآن جزء من يومي رغم أنه متعب وطويل؟

- لكل شيء نهاية.

- بالتأكيد، أنا لي نهاية أيضا ً، هل معنى هذا أن نتوقف عن الاستمتاع بأشيائنا الجميلة بدعوى النهايات؟ بالعكس أنا أرى أن جمال الأشياء لا يدرك بلا نهاية، كل شيء جميل في هذه الدنيا لا بد أن ينتهي وإلا تحول إلى قبيح.

- لا... نهايتي أنا تختلف، أنا لا أعيش في عالم سيبقى مني فيه شيء عندما أنتهي، يمكن أن أعيش هنا لسنوات طوال، ولكني عندما أنتهي، سأكون نسيا ً منسيا ً، بلا ذكرى أخلفها ورائي.

- اطمئن... تسعة أعشار البشر كذلك، لا يخلفون ورائهم سوى الرميم، وحسن الحظ منهم من يخلف ورائه اسما ً مدسوسا ً في كتاب.

- وما شأني أنا بهم؟ أنا أفكر بي أنا، أنا لا يمكن أن أعيش في ذاكرة سوى ذاكرتك، وعندما تلفظني ففي أي أرض أحط؟ سأكون بلا قبر حتى، سأكون كأني لم أكن.

- عجيب... ما هذا الهوس بالخلود؟ ظننت أن هذا مركب نقص لا يصيب سوى البشر !!! لا بأس لدى بعضهم أن يعيش حياة تفر منها الوحوش، إن كان هذا سيورثه ذكرا ً بين الناس، حتى البسطاء منهم يبحثون عن الخلود في ذرية ينشرونها في الأرض، تبقي اسمهم مترددا ً لأجيال قبل أن يطوى، ولا ينشر مرة أخرى إلا في كتب الأنساب، أو يوم الحساب.

- أنت لا تفهمني، ستفهم عندما تتوقف عن الإعجاب بأفكارك وكلماتك، وتصمت قليلا ً لتفكر بما يقال لك.

- ههههههههههههه، حسنا ً... المساحة لك، فهّمني.

- أنا أعيش الآن علاقة ملتبسة بك، غير واضحة، أنا موجود هنا الآن، ولكن عندما تغيب وتغرق في أيامك الطويلة، أين أكون؟ ماذا أفعل؟ أنا مقيد بك، عالمي كله كذلك، تخيل أن تكتشف أنت الآن مثلا ً أن الدولة التي تعيش فيها اختفت، وأن كل شيء يربطك بها اختفى معها، أمنك، وظيفتك، منزلك، هويتك، كل شيء، وأنك تريد أن تعيش ولكنك لا تدري كيف؟ ولا أين؟ العيش ذاته ليس مشكلة، المشكلة في طريقة العيش التي تعودنا عليها.

- امممممم - بعد لحظات صمت مدعاة مني، حتى لا يلومني على عدم التفكير فيما قال - أظن أني فهمت ما تعنيه، هل تعني أن المشكلة هي أن علاقتك بي هي كل شيء بالنسبة لك، بحيث أن لي تغلغل كامل في كل شيء يحيط بك، المكان، والزمان، والأحداث، وحتى اسمك أنا من اختاره.

- قريبا ً من هذا، هذا ما اكتشفته أنا حتى الآن في علاقتي بك، هي علاقة معقدة، وربما أكتشف جوانب أخرى منها مع الوقت.

- وما الحل برأيك؟ هل يمكنك التخلص مني أو الابتعاد عني؟

- لا أدري، ولكني الآن لا أرى أي حل.

- حسنا ً... إذن لم َ لا ندع كل هذا جانبا ً حتى تجد حلا ً، ونحاول الاستمتاع بوجودنا هنا؟

- امممممممم.

- اسمع، حتى أنا لا أفهم وضعنا الآن، أنا لا أدري ما الذي يمكن أن ينتهي إليه كل هذا، ولا أحاول التفكير في الموضوع لأني لن أنتهي إلا إلى أني جننت أخيرا ً، فلذا لم َ لا نترك التفكير حول هذا إلى يوم نكون فيه أقل تعبا ً.

- حسنا ً - وابتسامة خبيثة تتلاعب بفمه - ولكن هل تسمح لي بقول شيء أخير حول الموضوع؟

- تفضل.

- لاحظ أنك قلت ( نكون أقل تعبا ً)، أنت متعب، ولذا صرت أنا كذلك، هذا يوضح لك جزء ً بسيطا ً مما أعانيه، نحن كتوأم سيامي عقلي أو روحي – لا أدري !!! – فاقدين للخصوصية، ويمكن لكل منا أن يسمم يوم الآخر.

- اها... ولاحظ أنت أيضا ً، أنك قلت ( أنه يمكن لكل منا أن يسمم يوم الآخر)، يعني أنك لا تتأثر بي فقط، وإنما تؤثر بي أيضا ً، وأني فاقد للخصوصية معك.

- لا... لا... لا تجعل منا متعادلين لو سمحت، أنا لا أعرف عنك شيئا ً حتى تفكر به أنت، أو تخبرني عنه، أنت تتحكم بالمكان - وهو يدور بأصبعه فوق رأسه - هنا، وبالزمان، وبما يجب أن يقال، وما لا يجب، فلذا لا تفعل !!! لا تجعل الورقة المقصوفة معادلة للتيار الكاسح الذي يتلاعب بها.

- أتدري، أنا متعب لأواصل كل هذا اللغو... تصبح على خير.