عرض مشاركة واحدة
قديم 23-01-2009, 01:48 AM   رقم المشاركة : 9
أنا راحل
( ود جديد )
 





أنا راحل غير متصل










7

اجتماع جديد، ولكنه حاشد هذه المرة، بحيث وجدنا أنفسنا محشورين حول طاولة الاجتماعات التي التف حولها رؤساء الأقسام، وموظفي الإدارة – بالطبع من لم يحتل منهم بحيلة يشتري بها صباحه -.

كان هذا اجتماعا ً تربويا ً – التسمية من سليمان طبعا ً، رغم أنها لا تحتوي، ويا للغرابة على شتائم – من الاجتماعات التي يعقدها ( أبو نايف) كلما شعر بأن الأوضاع تأزمت في الإدارة، وأن الصراع بين رؤساء الأقسام ومن ورائهم الموظفين صار علنيا ً.

وهذه الاجتماعات مملة بما لا يقاس، بحيث أن البعض يفر من الإدارة بأي حجة في اليوم الذي تعقد فيه، فغير أسلوب ( أبو نايف) الرتيب، وطريقته المتلكئة في الحديث، المليئة بـ ( صالح العمل)، و( روح الفريق)، و( التعاون المثمر)، كانت حقيقة أن ( أبو نايف) لم يصل إلى مركزه هذا إلا عن طريق ترشيح رؤساء الأقسام له كبديل هزلي للمدير السابق – الصارم وسيء الذكر – حاتم، تجعل رؤساء الأقسام يتقبلون كلماته بصمت لا مكترث، ويخرجون من عنده ليواصلوا مخططاتهم وأساليبهم في العمل – غير المثمر لسوء حظ ( أبو نايف) -.

كنت أميد نعاسا ً والاجتماع التربوي لا يزال في بدايته، وسليمان إلى جواري ينخسني في جنبي كلما قال ( أبو نايف) كلمة تدعو للسخرية، وكانت أفكاري تروح وتجيء، بحيث ألتقط جملة وسط عشرات أخرى تبدو لي كهمهمة بلا معنى.

( .......... وهذا ليس صعبا ً يا إخوان، صدقوني أنه ليس صعب .......... هم هم هم هم هم هم .......... بالتعاون المثمر والجهد البناء – نخسة من سليمان - .......... هم هم هم هم هم .......... أظن أننا كلنا مخلصون لعملنا، وهي أمانة يا إخوان، أليس كذلك؟ .......... هم هم هم هم – نخسة أخرى من سليمان، ماذا قال؟ - .......... وأنا أولكم، كلنا مقصرون، والتقصير من شيم الإنسان – نخسة قوية مع ابتسامة جانبية هذه المرة - .......... أتمنى يا إخوان أن تفكروا بهذا جيدا ً، وأن تتذكروا دائما ً أنكم مؤتمنون في أعمالكم، وعلى كل منكم أن لا يفكر بما هو صالحه، وإنما بما هو صالح العمل، ومعا ً يمكننا أن نبني مستقبلا ً أجمل لهذه الإدارة... خخخخخ – ضحكة أنفية من سليمان بالكاد حولها إلى عطسة وهمية -)

* * *

انتهى الاجتماع التربوي فعدت إلى مكتبي لأصنع كوبا ً من الشاي وأتفرغ للأوراق المتراكمة.

كنت بين ورقتين ورشفة عندما دخل صلاح – المسئول عن متابعة المشاريع - المكتب، واقترب بطريقته الهادئة:

- السلام عليكم.

- وعليكم السلام.

- أتسمح أن آخذ القليل من وقتك؟

- تفضل – بملل وأنا أشير له بأن يجلس -.

- المشاريع التي تخصك يا أستاذي الكريم – وهو يقلب أوراقه المليئة بالجداول والرسوم البيانية -، مشروع المالية، لم تحدث خطته حتى الآن وآخر خطة أرسلتها لي مر عليها أسبوعين.

- لأنه لا يوجد جديد، المشروع الآن في مرحلة التطبيق، وأعمالنا في هذه الفترة تتلخص في استقبال ملاحظات المستخدمين، وحل مشاكلهم.

- يعني الخطة كما هي ولم يتغير فيها شيء.

- نعم.

- و... – سقطت ورقة فنهض من الكرسي ليحضرها، ولكنها نفذت إلى أسفل مكتبي، فالتقطتها وأعدتها إليه – مشروع ( التنظيم الإداري)؟

- هذا مشروع جديد ولم نضع له خطة بعد.

- متى ستضعونها؟

- بعدين – كانت هذه من سليمان الذي دخل المكتب قبل قليل -.

- ولكن أي مشروع جديد لابد أن تسلم خطة مبدئية له خلال أسبوع.

- نحن مشغولون الآن يا صلاح – استمر سليمان بأسلوبه الجاف فيما تراجعت أنا في مقعدي، وتركت لهما الساحة -، فلذا ليس لدينا الوقت لخطة مبدئية أو نهائية.

- ولكن يا أستاذ سليمان، نحن نرفع في نهاية كل أسبوع لمدير الإدارة، قائمة بالمشاريع وخططها، حتى يمكنه متابعتها، والأسبوع الماضي كان المدير يسأل عن خطة مشروعكم.

- مشروعنا لم يبدأ حتى الآن، لم نستلمه إلا الأسبوع الماضي، وإذا سأل المدير عن الخطة قل له هذا.

- هناك خطة عامة يا أستاذ سليمان للمشاريع، وضعتها أنا في الملف الرئيسي على الشبكة باسم (Master Project)، تتضمن كل الخطوات التي تتبعها المشاريع عادة، من التحليل وجمع البيانات، إلى التنفيذ، إلى الاختبار والتدريب، يمكنكم استخدامها مع إضافة التاريخ فقط لكل مرحلة.

- طيب... سنطلع عليها إن شاء الله.

- هناك أيضا ً – وعاد إلى أوراقه، فأشار لي سليمان إشارة متململة وخرج من المكتب -، مشروع المستودعات.

- مشروع المستودعات خطته جاهزة – عدت للحديث -، وأرسلتها لزيد ليعدل عليها، وحالما يعيدها لي سأرسلها لك بإذن الله.

- يعطيك العافية – قلب بين أوراقه، ولما لم يجد شيئا ً يضيفه، ودعني وانصرف -.

عدت إلى كوبي – الذي صار فاترا ً الآن –، وبعد لحظات دخل سليمان وهو يبتسم:

- أعانك الله يا عبد الله – زميل لنا في الغرفة المجاورة، يبدو أن قد صلاح وصل إليه – على ثقيل الدم هذا.

- وما يضرك أنت !!! أنا من يعاني من أسئلته في كل مرة.

- ههههههههههههههههه، ذق قليلا ً مما ذقته أنا لسنوات، بل بالعكس أسئلته الآن لا شيء مقارنة بتلك الأسئلة وذلك الإلحاح في أيام حاتم، عندما كانت متابعة المشاريع في عزها، وكان تأخير الخطة يعني أن يتصل بك حاتم بنفسه، هل اتصل بك ( أبو نايف) ولو لمرة واحدة يسألك عن شيء ما؟

سكت وعدت لأوراقي حتى لا يعيد سليمان ككل مرة روايته حول عهد المدير السابق حاتم، والمحملة كالعادة بكم من الكلاب والثياب.

لم يكن ذكر حاتم هذا سيئا ً – لا أعرفه، ولم ألتق به أبدا ً، وإن كنت قد رأيت صورة غائمة لملامحه، التقطها أحد الزملاء بكاميرا جواله في أحد الاجتماعات الأخيرة قبل انتقاله – عند سليمان فقط، بل وجدت الجميع هنا، من ماجد – الذي لا يشتم إلا عند الضرورة -، إلى عبد الله – الطيب، المتدين والذي كان يشفع انتقاداته لصرامة حاتم وتشدده بعبارة ( الله يذكره بالخير) -، وإلى زيد – والذي تجاوز كل كلماته الأنيقة والحذرة، ووافق الجميع على أن حاتم كان ( علة باطنية) -.

كان حاتم حسب ما نقل لي، صارما ً ومدققا ً في المشاريع التي تتولاها إدارته، وحسب ما فهمته كانت لديه تلك الرغبة المجنونة في تتبع التفاصيل، والقدرة الغريبة على تذكرها لاحقا ً والمحاسبة عليها، وكان الموظفون ورؤسائهم معرضين في أي لحظة إلى الاتصال الرهيب من سكرتير حاتم الشهير – والذي رحل معه إلى الإدارة الرئيسية -، ليحدد لهم موعدا ً لاجتماع مفاجئ – غير الاجتماعات الاعتيادية الأسبوعية -، وكان هذا الاجتماع يعني أسئلة متتالية، يجيب عليها الموظف متوجسا ً، ليكتشف في النهاية أنها تقوده إلى ثغرة أو خطأ في تنفيذ المشروع، اكتشفه حاتم في إحدى تأملاته، وكان هذا يقود إلى تعديل في الخطط، وربما إعادة تنفيذ بعض الأعمال، ويعني عملا ً إضافيا ً بالكاد يرضي تطلب وتصلب حاتم.

الحسنة الوحيدة – كما يقول سليمان، ففي النهاية للكلاب حسنات – هي أن قوة حاتم كمدير للإدارة، حجمت رؤساء الأقسام في عهده، ولم يصبحوا فراعنة كما هم الآن – والوصف لازال لسليمان -، في ظل الضعف الواضح، والطيبة الشديدة لأبي نايف.

وكان الجميع يشيرون للتدليل على قوة حاتم وتعقيده الشديد إلى أن أغلب الأنظمة – كالاجتماعات الدورية، ومتابعة المشاريع، وعرض مشاريع الإدارة السنوي، وإنشاء ملف رئيسي للأنظمة والإجراءات على الشبكة الداخلية كمرجع للجميع ( الذي ذكره صلاح، ووضع عليه ملفه (Master Project)) – كلها صيغت في عهده، وظلت بعد رحيله ولكن كطقوس متبعة فقط، من دون ذلك الاهتمام الكبير.

وتحت تأثير كل هذه الأحاديث عنه صغت مزحة – توقفت عنها فيما بعد عندما سخر منها سليمان -، أقول فيها بأني من مواليد ما بعد الكارثة الحاتمية.

* * *

(( ثم إن صالح بن علي سار إلى المدحمية، وأميرها عبد الله الذي يقال له المدحمي، فلما أقبلوا عليها خرج عليهم الكمين، فتقاتلوا وانهزم المدحمي بمن معه إلى القصر وتحصنوا فيه، فسار صالح بن علي إلى النخل والزرع فدمره وانقلبوا راجعين))


من أخبار الجد ( صالح بن علي) التي وردت في مخطوط ( عبد الرحمن بن عثمان)

* * *

أوراق الجد المتوالدة صارت الآن تغطي كل المساحة الصغيرة لسطح مكتبي، تندس بين الكتب، تعتلي الملفات المضمومة، وصارت كل ورقة منها تحمل رقما ً صغيرا ً يميزها عن الأخريات.

كنت أدور بين الأوراق، أضيف لإحداها سطرا ً، وأشطب من أخرى سطورا ً لازالت تحتفظ برائحة الحبر، وأملأ ثالثة بعلامات استفهام وأسئلة صغيرة تلوذ بزاوية الورقة، ثم أغادر الأوراق لأغوص في المخطوطة وأعلق بين حروفها المتشابكة، والتي أنقلها حالما تفقد تشابكها إلى صفحة من الصفحات البيضاء، ثم أترك هذا كله وأقفز من كرسيي لأقلب في موسوعة ( المعارك والغارات النجدية) والتي تعيدني مرة أخرى إلى ورقة لأشطبها أو أضيف إليها أو أحشر بين سطورها الوادعة استفهاما ً مقلقا ً.

كانت الأحداث تنثال بين يدي ككومة من الرمال الناعمة، كلما انفردت بالمخطوطة، ولكنها ما تلبث أن تتشتت لتصير غبارا ً حالما أقلب كتابا ً آخر، حتى صارت بعض أحداث حياة الجد مختلطة، لا يمكن الجزم حولها بشيء.

* * *

كان في الليل بقية لم تتداعى، عندما ضممت أوراقي، وغادرت مكتبي.

بعد طقوس ما قبل النوم المختصرة، استلقيت في الفراش، كانت لينا توليني ظهرها، ولكني كنت أعرف أنها لم تنم بعد، كانت هناك إشارات ظلت تبثها طيلة اليوم، إشارات تقول أن ليلها لن يكتمل ولن ينتهي من دوني، آخرها هذه الرائحة العطرية الغامضة – فضلت الإبقاء على غموضها، بأن لا اسأل من أين تأتي - التي طوقت الغرفة، والتي ترتبط في ذهني بأمثال هذه الليالي.

مغمضة العينين، تنتظر.

وأعرف – كميثاق غير مكتوب - أني من يجب أن يخطو الخطوة الأولى.

لا يهم من كان يرسل إشاراته طيلة اليوم، لا يهم من كان يرغب بهذا ومن كان يعد له، عندما يأتي دور الخطوة الأولى كانت لينا تنتظر، وبصبر عجيب.

ستفتح عينيها عندما أقترب كأنها فوجئت، وكأني استللتها من حلم جميل، ولكنها ستستجيب بلا لحظة تردد.

كنت لا أتساءل في أيامنا الأولى، عن كنه استسلامها، لا أتساءل أين تبدأ الرغبة عندها، ولا أين تنتهي؟ كنت أقدر أن خجلها وحياءها يحول الأمر كله إلى واجب ثقيل.

حتى جاء اليوم الذي تساءلت فيه، هل لازال الأمر في حسابها واجبا ً؟

وكان علي أن أكون خبيثا ً حتى أحصل على إجاباتي، كان علي أن أمنحها جزءا ً، وأتركها تفتش عن الأجزاء الأخرى بنفسها، ومترددة فعلت، وأرضاني هذا قليلا ً.

هذا كله يتم في صمت عميق، لا يبدده إلا صرير السرير الخافت، أو أنفاسنا المتسارعة، لم نكن نتحدث عن هذه النشاطات الليلية أبدا ً في النهار، بل لم نكن نتحدث عنها حتى في لحظاتها المديدة.

ولذا كان علي أن أتحسس ما تريده وما لا تريده في ظلام وصمت، وكان علي أن أنمي خبراتي ببطء، وبلا إجابات أكيدة.

انفصلنا الآن.

تتداعى أشياء كثيرة في داخلي في هذه اللحظة، يدهمني دوار وحزن رهيب لا أفهمه، وأنا أزحف إلى الطرف الآخر من الفراش، فيما ترتجف هي، أو تبكي أحيانا ً.

أغمض عيني وأترك نفسي لأمواجها المروعة.

أسئلة بلا إجابات.

هل هذا ما أريده؟ هل هذا ما أردته؟ ومن أين يأتي هذا الحزن؟

في كل مرة أصطاد فيها الرغبة في غروبها، أتساءل عن كنه هذا الشيء الذي يمنح الجسد مذاقا ً لا يدوم، مذاقا ً لحظيا ً، سرعان ما أفقده، سرعان ما يفلت مني، ويتركني مشتت الروح، مفكك البدن.

وصرت أتساءل كيف يمكنني تمديد اللذة وتأجيل الحزن؟ كيف يمكنني إطالة اللحظات التي أفقد فيها ذاتي، وأغوص في الفراغ المخيف؟

ولكن الصمت لا يمنحني الأجوبة.

لا يمكنني فهم جسد صامت، لا تنطق لي أعضاءه بما تريد إلا لماما ً، لا تمنحني إلا شذرات مما تريد، إشارات ربما أخطئ في فهمها أحيانا ً، وربما لا أنتبه لها أحيانا ً أخرى.

نهضت الآن – مما تعلمته أن لينا لن تنهض قبلي مهما حدث، ستبقى هكذا مدثرة بخجلها وصمتها، حتى أغادر الغرفة، وعندما أعود بعد دقائق، سيصير ما حدث قبل قليل فجوة زمنية سقطت منا، لها ما قبلها ولها ما بعدها، ولكن لا وجود لها، سنستلقي قليلا ً، ربما نتحدث في مواضيع مختلفة من هنا وهناك، وربما نواصل الصمت، حتى يأتي المنام، ويمنحنا الخلاص من السير في الظلال -.

فارقني الدوار تحت دفق الماء الدافئ.

استعدت بعض أعضائي.

وعندما عدت إلى الغرفة، كان الظلام مخيما ً، والفراش خاليا ً، وبرأس لازال يحتفظ برطوبته، وجدت سبيلي إلى النوم مهيئا ً.