عرض مشاركة واحدة
قديم 23-01-2009, 01:54 AM   رقم المشاركة : 16
أنا راحل
( ود جديد )
 





أنا راحل غير متصل










14

صباح سبت، احتجت إلى كوب قهوة كبير وجولة خفيفة بين عدد من مواقع الانترنت لأتخلص من ثقله.

كان اجتماع إداري ما، قد كفانا اجتماعا ً تربويا ً آخر من اجتماعات ( أبو نايف)، والذي سحب في طريقه عددا ً من رؤساء الأقسام - أحدهم ناصر – مما أفسح الصباح لسليمان، فغادر المكتب وبين يديه أوراق يعزز بها وهم أنه ماض ٍ إلى عمل ما.

لم تكن خياراتي مبهجة، كان علي أن اختار ما بين نظام ( المالية) ومشاكله التي تنتظر حلا ً، مشروع ( التنظيم الإداري) والذي لازال تحليله المبدئي ينتظر زيارات أخرى للإدارة المعنية، وأخيرا ً ( المستودعات) والذي قاربت تعديلاتي على تحليله – بعد زيارتي ّ الأسبوع الماضي – على الانتهاء.

اخترت نظام ( المالية) بعد تردد، وانهمكت في دورة مرهقة من النفاذ إلى شفرة البرنامج، التعديل عليها، واختبار التعديل، وهي دورة تتكرر بتكرار الأخطاء، والتعديلات.

مر الوقت وأنا بين سطور الشفرة الكئيبة، ومنطقها الرتيب والدقيق، عاد سليمان، تحدث قليلا ً، خرج، ثم عاد مرة أخرى.

- أف – بصوت عال ٍ وقد يئست أخيرا ً من اكتشاف خطأ ما، مدفون بين السطور والفواصل -.

- سلامات - وهو مشغول بقراءة شيء ما على شاشته -.

- هذا النظام الكريه، يبدو أن مشاكله لن تنتهي أبدا ً.

- ههههههههههه، وكيف ينتهي وهؤلاء الكلاب يطلبون تعديلات جديدة في كل يوم؟ لو كنت في مكانك لرفضت أي تعديلات جديدة، ولصرفت وقتي في حل المشاكل البرمجية فقط.

- عندها يتصل مديرهم بناصر ليشتكي عدم تعاوننا معهم، وأنت تعرف كيف سيتصرف ناصر حينها.

- المهم – أكملت وأنا أمد له ملفا ً صغيرا ً -، أنا مشغول جدا ً بالمالية و( المستودعات)، فلذا تابع أنت تحليل مشروع ( التنظيم الإداري)، نحتاج إلى اجتماع جديد معهم، لاستكمال بعض البيانات، ستجدها مكتوبة في الورقة الأولى في الملف، لا... لا... التي بعدها، الصفراء... الورقة الصفراء.

انصرفت إلى عملي، فيما جعل يقلب هو أوراق الملف وهو يدندن.

- حسنا ً... متى تريد أن نذهب إليهم؟

- اممممم – وأنا أفرك أذني -، أنا مشغول تماما ً، فلذا أذهب أنت إليهم غدا ً.

- أنا أفضل أن نذهب إليهم معا ً.

- للأسف، لا أستطيع.

- يمكننا تأجيل الموعد إلى يوم الاثنين.

- آ... لا أريد أن نتأخر كثيرا ً، سيمر أسبوعين على استلامنا للمشروع ولم نمر بهم سوى مرة واحدة، وأخشى أن يسألنا ناصر عن ما تم في المشروع في أي لحظة.

- لا عليك... فليحمد ربه أننا استلمنا المشروع، وعندما يسأل أنا من سيجيبه.

* * *

كنت قد صليت المغرب للتو عندما اتصل بي أخي خالد، وأخبرني بعجل أن والدي لديه ضيوف هذه الليلة، وأنه يطلب حضوري.

كان هذا غريبا ً، فهذه الدعوات المفاجئة ليست من طباع أبي.

لم أفكر في الأمر كثيرا ً، صليت العشاء وقصدت منزل والدي القريب، فوجدت سيارات الضيوف تسد الباب – هذا غريب !! هل وصلوا بهذه السرعة؟ أم أنهم كانوا هنا قبل الصلاة ! -، دخلت كان هناك بالإضافة لأبي وأخوتي صالح – الكبير – وخالد ومحمد، عدد من رجال العائلة – بعضهم أعرف كنيته، وبعضهم اسمه الأول، والبقية ملامحهم التي أراها مرة في العام أو مرتين – ميزت من بينهم أبو خالد.

بعد السلام وفنجال القهوة الذي قدمه لي أخي محمد، تحدث أحد الرجال – أظن أنه يدعى أبو تركي -:

أبو تركي: كنا نتحدث مع والدك قبل حضورك يا أبا عبد الله – هكذا كان يناديني البعض بما أني بلا عيال وأن اسم والدي عبد الله -، لقد تفاجئنا بتراجعك عن كتابة الكتاب، وكنا نرجو أن يتوسط لنا عندك، ولكنه أخبرنا بأنه لا يدري عن تراجعك شيئا ً، و... – لم يجد كلمة يقولها فسكت، وتركني للعيون التي تنتظر -.

أنا: آ... – وارتباك غريب يجتاحني -، أنا زرت أبا خالد الأربعاء الماضي، وأخبرته بأني لا أستطيع إكمال الكتاب لأسباب شرحتها له – والتفت لأبي خالد الذي كان جالسا ً وقد مد رجليه ووضع يديه على بطنه، فاعتدل في جلسته -.

أبو خالد: نعم... نعم... الشيخ كان لديه بعض الـ... – وتوقف ليناول فنجاله لمحمد – الاعتراضات على بعض الأحداث التي وردت في الكتاب، يعني أشكلت عليه بعض المسائل ولم تتحقق له بعض التواريخ – والتفت إلي -، أليس كذلك يا شيخ؟

أنا: ليست اعتراضات، أنا درست مخطوطة الشيخ عبد الرحمن، وكتاب التبيين، ورجعت لموسوعة المحتم، وغيرها من الكتب، ووجدت أن بعض الأحداث المذكورة في المخطوطة غير صحيحة...

رجل ذو ملامح هادئة مقاطعا ً: كيف تكون غير صحيحة؟ الأحداث التي في المخطوطة رواها الشيخ عبد الرحمن عن الجد مباشرة.

أبو خالد: ربما يقصد أن الجد صالح رواها في آخر أيامه فاختلطت عليه بعض الأمور.

رجل آخر يلقبونه ( بسك) – لأنه كان يرددها في شبابه، وتعني يكفيك -: الجد لم يخرف في آخر أيامه، مات وذاكرته معه.

أبو تركي: دعوا الرجل يتحدث.

أنا: أنا أخبرت أبا خالد، هناك أحداث مثلا ً ذكر في المخطوطة أن الجد حضرها، وبعد البحث اكتشفت أنها وقعت في صغره، وأنه لا يمكن أن يكون قد شارك فيها.

بسك: الله يهديك !!! ليست كل الكتب موثقة، فلا تأخذ بكل ما يرد فيها، أليس كذلك يا أبا خالد؟ أليست بعض الكتب التي بحثت فيها تورد بعض الأمور التي ثبت عدم صحتها.

أبو خالد: نعم... نعم... بعض الكتب مثلا ً تقول أن الإمارة في الريلية قبل صالح بن علي، كانت لنوفل بن حمدان، مع أنها كانت لابن حمد وهو الذي أخرجه الجد بعدما وقع بينهم في ( الدشانة).

أبو تركي: الدشانة كانت على ابن حومل !

أبو خالد متهللا ً: هو ابن حمد، كان يسمى بابن حومل، أمه هي حومل.

بسك: غير صحيح، أمه اسمها نورة.

فهد بسخرية: وهذا ما يهمنا الآن.

ذو الملامح الهادئة: اسمها نورة وكانت تلقب بحومل، وهي التي قال فيها الشاعر:


وين أهلكم يا راعين العمد /// أمكم حومل وأبونا سعد


أبو خالد وقد عاد الحديث إليه: نعم... فبعض الكتب تورد أخبارا ً يجمعونها بلا تثبت.

أنا: موسوعة المحتم كتاب موثق، والمحتم مؤرخ معروف، و...

بسك: سبحان الله !!! وكتاب المحتم قرآن منزل !!!

أنا بغيظ: لا... ولكنه عندي أوثق من مخطوطة الشيخ عبد الرحمن.

بسك بحدة: الشيخ أخذها من الجد مباشرة.

أبو خالد مهدئا ً: اذكروا الله يا جماعة الخير، يا أبا فيصل – هذه كنية ( بسك) –، أبو عبد الله يقصد أنه قد يكون هناك نقص في مخطوطة الجد.

فهد: وها هم يملون عليك مقاصدك.

بسك بتوتر: أنا لم أقل بأن مخطوطة الجد كاملة، فيها نقص بالتأكيد، الكامل الله سبحانه وتعالى، ولكن هذا لا يعني أن نلقي بالمخطوطة كاملة بحجة أنها غير موثقة، وإلا لا يا أبو صالح؟ - موجها ً سؤاله لأبي -.

شعرت بغيظ حقيقي، من جر الرجل لأبي إلى ساحة الصراع.

أبي الصامت تكلم بنبرته الهادئة: كلامك صحيح يا أبا فيصل، ولا أظن أن أحدا ً يشكك في صحة المخطوطة.

بسك ملتفتا ً لي: الحمد لله... فالمخطوطة هي مرجعنا الأول وكتاب جدنا يجب أن يعتمد عليها.

نظرته إليه ببرود ثم قلت ببطء: هل قرأت المخطوطة؟

بسك: لا.

سألت بسرعة: هل قرأت كتاب المحتم؟

بسك: لا ولكن...

قاطعته: إذن أنت بكل بساطة تجزم بصحة أشياء لم تقرأها.

بسك بحنق: يا أخي بالمنطق، الكتاب مروي عن الجد مباشرة و...

قاطعته بتصميم: وبدلا ً من أن تقرأ وتبحث كما فعلت أنا، تأتي إلى هنا وتملي علي آرائك، سأقولها لك بوضوح هذه المرة لعلك تسمعها جيدا ً، كتاب الجد فيه أكاذيب، أخبار كاذبة، مزيفة، لم تقع، وإن كان الجد هو من قالها فهو قد كذب فيها غفر الله له – حاول الحديث، وكذا أبو خالد ولكني أكملت بصوت عال ٍ -، وإن كان الجد لم يقلها فيكون عندها الشيخ عبد الرحمن هو من كذبها للأسف، وأنا لست على استعداد لترديد الأكاذيب إرضاء لك ولغيرك.

حل صمت ثقيل عندما انتهيت، لم أنظر لأحد، ولا أدري أين كانت أنظارهم هم.

نهض أبي قبل أن يقول أحد شيئا ً وقال بذات الهدوء: تفضلوا، العشاء جاهز.

ارتبك أخوتي وهرولوا إلى الداخل فالعشاء لم يجهز بعد، والسفرة لازال ينقصها الكثير، ولكن أبي نهض ونهض الرجال معه وساروا إلى غرفة الطعام المجاورة.

تعشينا بصمت تقطعه أحاديث طفيفة ومتقطعة بين أبو خالد وأبو تركي، ثم انصرفوا بعدما تناولوا الشاي ودعوا لأبي بالبركة.

ودعهم أبي عند الباب ثم قال لي أنا وصالح الواقفين معه: تصبحون على خير.

ودخل لينام.

زفرت بضيق لما آل إليه الأمر، خرجت من المنزل ومعي صالح ووقفنا عند سيارتي، نظر لي وابتسم ثم قال: هداك الله، هناك أشياء يجب أن لا تقولها.

أنا: ماذا تريدني أن أفعل يا أبا عبد الله؟ هل هذه تصرفات رجال؟ يأتون إلى أبي ليحدثوه عن الكتاب وهو لا شأن له به، يصرون على صحة المخطوطة رغم كل ما قلته عن الأخطاء التي فيها، ماذا أفعل؟

صالح: اسمع... أنا لا يهمني الكتاب ولا المخطوطة، واعتبر الموضوع كله سخيف، ولكن كان يجب عليك أن تراعي وجود أبي ومكانته.

أنا: أراعي مكانته !!! وأنا ماذا فعلت؟ أنا لم أخطئ على أحد منهم، رغم أنهم تعاملوا معي كطفل يحتاج إلى ولي أمره طيلة الوقت.

صالح: ليتك أخطأت عليهم هم، كان الأمر هينا ً وأصلحنا ما بينك وبينهم، ولكنك أخطأت على جدنا ذاته.

أنا: كيف أخطأت عليه !!! الكتاب مليء بالأكاذيب وهم يصرون على أنه صحيح، ماذا تريدني أن أقول؟

صالح: أنا قلت لك الكتاب لا يهمني – خفت صوته وفقدت بعض الكلمات عندما فتحت باب سيارتي وانسللت إليها لأشعل المحرك قبل أن أعود لوقفتي - .... يجب عليك أن لا تتعرض للجد أو تتهمه بالكذب حتى ولو كنت مؤمنا ً بهذا، لأن عقولهم صغيرة، والجد بالنسبة لهم كالمقدس، لا يجوز مسه، يا أخي في كل سنة يصدعون رؤوسنا بقصائد في مدحه، ثم تأتي أنت لتقول أنه كاذب ومدعي !!!

أنا: صالح... أنت لم تقرأ المخطوط كما قرأته أنا، وإلا...

قاطعني: يا أخي قلت لك المخطوط لا يهمني، ليكن الجد كذابا ً، في النهاية هو جدهم وجدنا جميعا ً، وأنت عندما قلت رأيك لهم أهنتهم، أهنتنا جميعا ً، وأهنت أبي قبل كل هذا، فكر بموقف أبي الآن، كبير العائلة وعميدها تهان عائلته وممن؟ من ابنه !!! ماذا سيقول الآن؟ أنت بأسلوبك اليوم أفسدت جهد سنوات طويلة قام به أبي لجمع العائلة، لا يهم ما في المخطوط، ما يهم ما يقوم به أبي من أجل العائلة وأنت بكل بساطة وضعت نفسك بين أبي وعائلته.

أنا: لا حول ولا قوة إلا بالله، كل هذا لأني قلت رأيي النقدي في هذا الكتاب !!! هل صارت كلمة الحق الآن صعبة على الجميع؟

صالح: أنا أفكر بشيء وأنت تفكر بشيء آخر، هل تظن أننا نصدق كل ما يقال عن الجد؟ لا بالطبع، نحن نعلم بأن الجميع يبالغون حوله، كما تفعل كل العائلات الأخرى مع أجدادهم، ولكن العائلات الأخرى احترمت أجدادها وكتبت عنهم كتبا ً توقرهم، وترصد ما قيل ويقال عنهم، أما نحن فقد هاجمت أنت الرابط الذي يربط بيننا ويجمعنا.

أنا بحنق: سبحان الله !!! ما يربطنا الآن صار فقط جد أسطوري، يعيش في مخيلتنا أكثر مما عاش في الواقع، هل نحن سذج إلى هذه الدرجة؟

صالح: لا... ولكن ما الحاجة إلى أن نهاجم جدنا ونقلل من قيمته؟

أنا: أنا لم أقلل من قيمته، ما فعله الجد أمر طبيعي، كلنا نمجد ذواتنا ونحكي عنها الجميل فقط، وما نريد لا ما كان.

صالح بملل: أنت اتهمت الجد بالكذب وهذا في حد ذاته اتهام كبير وخطير جدا ً، ولا يهم إن كان صحيحا ً أو غير صحيح، المهم هو أنه ما كان عليك أن تقوله، عموما ً سنتحدث حول الموضوع في وقت آخر، فأنا ذاهب الآن لإحضار أم عبد الله – زوجته – من عند صديقة لها، مع السلامة.

أنا: مع السلامة.