عرض مشاركة واحدة
قديم 11-05-2014, 02:43 AM   رقم المشاركة : 2
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور

قولُ الله - عز وجل -:
{ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ
وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }
[ التوبة: 105 ].
هذه هي حياةُ الإنسان في الإسلام، وهذه هي نظرةُ المُسلمين للحياة.
معاشر المسلمين:
يُقال ذلك كلُّه والإنسانُ في هذا العصر تربِطُه بالأعمال نُظُمٌ وتنظيمات،
تجعلُ كثيرًا من الأعمال والوظائِف محدودةً بسنٍّ مُعيَّن، وبمُؤهِّلاتٍ وخبراتٍ،
وبدايةٍ ونهايةٍ. وكل ذلك جاءَت به الحياةُ المُعاصِرة، وهو تنظيمٌ له مُسوِّغاتُه المقبولة،
فهو يُسهِمُ في استِمرار حركة المُجتمع، ومُراعاة تزايُد العاملين،
وإتاحة الفُرص للمُتنافِسين، وهو تنظيمٌ له مُلائَمته، وواقعيَّته في مسارِ حياة الإنسان،
ومراحِل عُمره، ولو دامَت لغيرك ما وصلَت إليك.
فأخوك ينتظِرُ الفُرصةَ بعدك، كما كنتَ تنتظِرُ الفرُصةَ ممن قبلَك؛
فمُوظَّفُ اليوم مُتقاعِدُ الغد، ومُتقاعِدُ اليوم مُوظَّفُ الأمس،
وهذه هي مراحِلُ الحياة في تنقُّلاتها وتقلُّباتها وغِيَرها وعِبَرها
{ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ }
[ فاطر: 37 ].
وإذا كان ذلك كذلك فينبغي لهذا الموظَّف الكريم،
والعامِل النبيل الذي انتهَت فترةُ عمله ألا يكون أسيرَ حياةٍ ماضِية،
ووظيفةٍ انتهَت مُدَّتُها، وليس بالحكمة أن يُلقِيَ باللائِمة على غيرِه من الأهل
وأرباب العمل والمُجتمع والأنظمة وغيرها.
ومن الطريف المعلوم: أن موعِد انتهاء الخدمة معروفٌ ومحسوبٌ بالشهور
والأيام. فلماذا المُفاجأة، ولماذا الاضطراب؟!
نعم، إن من الحكمة ألا يتشبَّث المرءُ بمرحلةٍ مُعيَّنةٍ من حياته؛
بل ينبغي أن يُحسِن الظنَّ، فإن القادمَ - بإذن الله - أفضل،
وليعلمَ العاقلُ أن مصدرَ السعادة ليست في المُرتَّب، ولا في الدخل المادِّي وحدَه،
ولا في وظيفةٍ بعينِها؛ بل السعادةُ - بعد توفيق الله وحُسن عبادتِه - في العمل،
والعملُ لا ينتهي.
فالعمل هو عامرُ الحياة المُمتدة، وهو بانِي العلاقات الاجتماعية،
وهو الذي يُبرِزُ للإنسان قيمتَه ومكانتَه، وهذا مُستمرٌّ لا ينتهِي.
فهو مع المرء ما دام حيًّا قادرًا؛ فالموظَّف ترك الوظيفة ولم يترُك العمل،
والوظيفة مُدَّةٌ نظاميَّةٌ تنتهي،
أما العملُ والحاجةُ والكفاءةُ فتلك باقياتٌ ما بقِيَت القدرةُ والحياة.
حكيمٌ من ينظر إلى التقاعُد على أنه بوابةٌ يُطلُّ منها على ميادين الحياة الفَسيحة،
تلك الميادين الواسِعة التي صرَفَتها أو شغلَتها عنه وظيفتُه.
التقاعُد بوابةٌ تتفتَّحُ على بيئةِ عملٍ جديدٍ، ومجالاتٍ واسِعة.
فالمرءُ يملِك الوقت حتى آخر لحظةٍ من عُمره.
وقد علِم النابِهون أن الإبداعَ والجديَّة والهمَّة لا تسألُ الإنسانَ عن عُمره،
ولا يمنع المرءَ عن الجدِّ والعمل إلا العجزُ والكسلُ.
التقاعُد نقلةٌ وتجربةٌ وتغييرٌ .. وليس تعطيلَ قُدرات، ولا نبذَ خبرات؛
بل هو فُرصةٌ لإطلاقِ طاقاتٍ كامِنةٍ، ورغَباتٍ دفينةٍ كانت الوظيفةُ قد قيَّدَتها أو طمَرَتها.
وجميلٌ ما فهِمَه بعضُ أصحاب الهِمَم من العبارة المُتداوَلَة:
" فُلانٌ طُوِيَ قيدُه "
فقال هذا العارِفُ: لقد طُوِيَ القيدُ من الارتباط،
فأصبحَ المرءُ حرًّا في ميادين أرحَب، ومجالاتٍ أو سع. في مجالاتٍ لا تُقيِّدُها الأنظمة.
طيُّ القيد وطيُّ الملف كطيِّ الفِراش، من أجل مزيدٍ من العطاء والتشمير والعمل،
والخدمة لم تنتهِ؛ فالجدُّ مُتواصِل، والهمَّةُ دافعةٌ دافقةٌ.
ومن تجارِبُ المُتقاعِدين من لم تكن له بدايةٌ مُورِقة لا تكون له نهايةٌ مُشرِقة،
حياةُ المرء وحيويَّته ليس مربوطةً أو متوقفةً على عملٍ نظاميٍّ،
أو وظيفةٍ مُؤقَّتةٍ. الحياةُ ملأى بأنواع الفُرص وميادين الإمكانات للراغِب الصادِق،
والباحِث الجادِّ.
كيف وقد أصبحَ المرءُ بعد هذا العمل الطويل مصدرًا لا ينضَب من الخبرة ؟
وكنزًا لا يُعوَّضُ من التجربة ؟
يُؤكِّدُ ذلك - معشر الأحبَّة - أن مفهومَ العباد في الإسلام واسِعٌ، وقد قال ربُّ العزَّة:
{ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ }
[ الحجر: 99 ].
والعملُ في دينِنا من أهمِّ أنواع العبادات لمن صلُحَت نيَّتُه، وحسُنَ عملُه.
إنه كسبٌ واستِغناءٌ وعفَّةٌ ومثوبةٌ، إنه العملُ الصالحُ بأوسع معانِيه:
{ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
[ النحل: 97 ].
وفي الحديث عند الحاكم عن جابر - رضي الله عنه - قال:
قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:
( ألا أُخبِرُكم بخِيارِكم؟
قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: خيارُكم أطولُكم أعمارًا وأحسنُكم أعمالاً )
وعند أحمد والترمذي من حديث عبد الله بن بُسر قال:
قال رسولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -:
( خيرُ الناس من طالَ عُمره وحسُن عملُه )
الحياة في الإسلام عملٌ وجدٌّ وكِفاحٌ، وجهادٌ ومُجاهدةٌ، وبذلٌ وعطاءٌ،
تُجسِّدُ ذلك: سيرةُ نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وسِيَرُ أصحابه –
رضوان الله عليهم - وأتباعهم بإحسان.
وهل وقفتُم - وفقكم الله - عند هذه الأدعية التي يُردِّدها المسلمُ في أورادِه ؟
فهو يقول ويدعُو ويسألُ ربَّه: اللهم اجعل خيرَ عُمري آخرَه، وخيرَ أعمالي خواتِيمَها.
ويقول: وأحسِن اللهم عاقبَتي في الأمور كلِّها.
ويقول: وأصلِح لي دُنياي التي فيها معاشِي، واجعل الحياةَ زيادةً لكل خير.
كلُّها أدعيةٌ تُطالِبُ بالأفضل والأحسن والأجود والأنفع والأصلَح.
فالمُسلمُ يُؤكِّدُ بهذه الأدعية وأمثالِها أنه ذو همَّة،
وأنه مُتطلِّعٌ من ربِّه إلى الأعلى والأجوَد والأنفَع والأصلَح.
ألم يقُل نبيُّنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -:
( وإن قامَت الساعةُ وفي يدِ أحدِكم فسِيلةٌ،
فإن استطاعَ ألا تقومَ حتى يغرِسَها فليفعَل )
وابن مسعودٍ - رضي الله عنه - يقول:
[ إني لأمقُتُ الرجلَ أن أراه فارِغًا ليس في شيءٍ من عمل الدنيا ولا عمل الآخرة ]
فيا عبد الله:
لا تكُن أسيرَ حياةٍ ماضِية؛ فإن من الدين والعقل والحكمة والحَزم
ألا ينظُر الإنسانُ إلى الخلف، بل يسعَى في بناء حياةٍ جديدةٍ، أو فُرصٍ جديدةٍ.
فكُن فعَّالاً ذا عزيمة، واعلَم أنك إذا حزِنتَ حزِنتَ وحدَك،
وإذا ابتسَمتَ ابتسَمَت لك الحياة، وابتسَمَ معك الجميع.
أيها الإخوة:
وقد يكون من نِعَم الله في هذا العصر أنه عصرُ التقنيات،
قد تكفِيه الحاجةُ للأعمال اليدوية والعضلية، وتوسَّعَت وسائلُ العمل التقنِيِّ
والآليِّ عن بُعدٍ وعن قُربٍ في معينٍ من الفُرص لا ينضَب.
وبعد عباد الله:
فليس في حياة المُسلم فراغٌ .. فهو يُحسُّ بإحساس أمَّته، يعيشُ همومَها،
ويفرحُ فرحَها، ويحزَنُ لمآسِيها، ويأملُ في آمالها، ويتألَّم لآلامِها،
وهو من جانِبٍ آخر في علمٍ وعملٍ وعبادةٍ،
في زياراتٍ وصِلةِ رحِمٍ وتواصُلٍ وأعمالٍ خيرية وخدماتٍ اجتماعيَّة،
وسدِّ ثَغَراتٍ، وأمرٍ بمعروفٍ، ونهيٍ عن مُنكر، وإرشادٍ وتوجيهٍ واحتِسابٍ.
إن لربِّك عليك حقًّا، وإن لنفسِك عليك حقًّا، وإن لأهلِك عليك حقًّا، فأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقًّا.
وهل في مثلِ هذا تقاعُد .. وهل يصحُّ أن يكون في المُسلمين قاعِد ؟!






التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس