عرض مشاركة واحدة
قديم 30-04-2014, 05:29 AM   رقم المشاركة : 40
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور


مسألة
ذهب أبو حنيفة إلى أن الحر يقتل بالعبد لعموم آية المائدة وهو مروي عن ‏"‏عليّ‏"‏و ‏"‏ابن مسعود‏"‏قال البخاري‏:‏ يقتل السيد بعبده لعموم حديث‏:
‏ ‏(‏من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه ومن خصاه خصيناه‏)‏
وخالفهم الجمهور فقالوا‏:‏ لا يقتل الحر بالعبد، لأن العبد سلعة لو قتل خطأ لم يجب فيه دية وإنما تجب فيه قيمته، ولأنه لا يقاد بطرفه ففي النفس بطريق الأولى، وذهب الجمهور إلى ان المسلم لا يقتل بالكافر لما ثبت في البخاري عن علي قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا يقتل مسلم بكافر‏)
‏، ولا يصح حديث ولا تأويل يخالف هذا، وأما أبو حنيفة فذهب إلى أنه يقتل به لعموم آية المائدة ‏"‏أقول ما ذهب إليه أبو حنيفة ضعيف وفي النفس منه شيء، وما ذهب إليه الجمهور هو الأرجح واللّه أعلم وانظر تفصيل المسألة في كتابنا ‏"‏تفسير آيات الأحكام الجزء الأول، ص 177‏"‏

مسألة
قال الحسن وعطاء‏:‏ لا يقتل الرجل بالمرأة لهذه الآية، وخالفهم الجمهور لآية المائدة ولقوله عليه السلام‏: ‏(‏المسلمون تتكافأ دماؤهم‏)
، وقال الليث‏:‏ إذا قتل الرجل امرأته لا يقتل بها خاصة‏.‏

مسألة
ومذهب الأئمة الأربعة والجمهور أن الجماعة يقتلون بالواحد، قال عمر في غلام قتله سبعة فقتلهم وقال‏:‏ لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم ولا يعرف له في زمانه مخالف من الصحابة وذلك كالإجماع، وحكي عن الإمام أحمد رواية أن الجماعة لا يقتلون بالواحد، ولا يقتل بالنفس إلا نفس واحدة‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسانْ قال مجاهد‏:‏ العفو‏:‏ أن يقبل الدية في العمد‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ ‏{‏فمن عفي له من أخيه شيء‏}‏ يعني فمن ترك له من أخيه شيء يعني أخذ الدية بعد استحقاق الدم وذلك العفو ‏{‏فاتباع بالمعروف‏}‏، يقول‏:‏ فعلى الطالب اتباع بالمعروف إذا قبل الدية ‏{‏وأداء إليه بإحسان‏}‏ يعني من القاتل من غير ضرر يؤدي المطلوب إليه بإحسان، ‏{‏ذلك تخفيف من ربكم ورحمة‏}‏ يقول تعالى إنما شرع لكم أخذ الدية في العمد، تخفيفاً من اللّه عليكم ورحمة بكم، مما كان محتوماً على أمم قبلكم من القتل أو العفو، كما قال مجاهد عن ابن عباس‏:‏ كتب على بني إسرائيل القصاص في القتلى ولم يكن فيهم العفو، فقال اللّه لهذه الأُمة‏:‏ ‏{‏كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شي‏}‏ فالعفو أن يقبل الدية في العمد، ذلك تخفيف مما كتب على بني إسرائيل ومن كان قبلكم ‏{‏فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان‏}‏ وقال قتادة‏:‏ ‏{‏ذلك تخفيف من ربكم‏}‏ رحم اللّه هذه الأمة وأطعمهم الدية، ولم تحل لأحد قبلهم، فكان أهل التوراة إنما هو القصاص‏.‏ وعفو ليس بينهم أرش، وكان أهل الإنجيل إنما هو عفو أمروا به، وجعل لهذه الأمة القصاص والعفو والأرش‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم‏}‏ يقول تعالى فمن قَتَل بعد أخذ الدية أو قبولها فله عذاب من اللّه، أليم‏:‏ موجع شديد، لحديث‏:‏
‏(‏من أصيب بقتل أو خبل فإنه يختار إحدى ثلاث‏:‏ إما أن يقتص، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية، فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه، ومن اعتدى بعد ذلك فله النار جهنم خالداً فيها‏)‏
‏"‏رواه أحمد عن أبي شريح الخزاعي مرفوعاً‏"‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكم في القصاص حياة‏}‏ يقول تعالى‏:‏ وفي شرع القصاص لكم وهو قتل القاتل، حكمة عظيمة وهي بقاء المهج وصونها، لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل، انكف على صنيعه فكان في ذلك حياة للنفوس، واشتهر قولهم‏:‏ ‏(‏القتل أنفى للقتل‏)‏ فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح وأبلغ وأوجز ‏{‏ولكم في القصاص حياة‏}‏ قال أبو العالية‏:‏ جعل اللّه القصاص حياة، فكم من رجل يريد أن يقتل فتمنعه مخافة أن يقتل، ‏{‏يا أولي الألباب لعلكم تتقون‏}‏ يقول يا أولي العقول والأفهام والنهى، لعلكم تنزجرون وتتركون محارم اللّه ومآثمه‏.‏ والتقوى‏:‏ اسم جامع لفعل الطاعات وترك المنكرات‏.‏

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏180 ‏:‏ 182‏)‏
‏{‏ كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين ‏.‏ فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ‏}‏
اشتملت هذه الآية الكريمة على الأمر بالوصية للوالدين والأقربين، وقد كان ذلك واجباً قبل نزول آية المواريث، فلما نزلت آية الفرائض نسخت هذه، وصارت المواريث المقدرة فريضة من اللّه، يأخذها أهلوها حتماً من غير وصية ولا تحمل مِنَّة الموصي، ولهذا جاء في الحديث‏:
‏(‏إن اللّه قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث‏)‏"‏رواه أصحاب السنن عن عمرو بن خارجة‏"‏وعن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏الوصية للوالدين والأقربين‏}‏ نسختها هذه الآية‏:‏ {‏للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قلَّ منه أو كثر نصيباً مفروضاً‏}‏"‏رواه ابن أبي حاتم‏"‏والعجب من الرازي كيف حكى عن أبي مسلم الأصفهاني أن هذه الآية غير منسوخة، وإنما هي مفسرة بآية المواريث، ومعناه‏:‏ كتب عليكم ما أوصى اللّه به من توريث الوالدين والأقربين من قوله‏:‏ ‏{‏يوصيكم الله في أولادكم‏}
‏، قال‏:‏ وهو قول أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء، قال‏:‏ ومنهم من قال إنها منسوخة فيمن يرث، ثابتة فيمن لا يرث، ولكن على قول هؤلاء لا يسمى نسخاً في اصطلاحنا المتأخر، لأن آية المواريث إنما رفعت حكم بعض أفراد ما دل عليه عموم آية الوصاية، لأن الأقربين أعم ممن يرث ومن لا يرث، فرفع حكم من يرث بما عين له وبقي الآخر على ما دلت عليه الآية الأولى، وهذا إنما يتأتى على قول بعضهم‏:‏ إن الوصاية في ابتداء الإسلام إنما كانت ندباً حتى نسخت، فأما من يقول‏:‏ إنها كانت واجبة، وهو الظاهر من سياق الآية، فيتعين أن تكون منسوخة بآية الميراث، كما قاله أكثر المفسرين‏.‏
فإن وجوب الوصية للوالدين والأقربين الوارثين منسوخ بالإجماع، بل منهي عنه للحديث المتقدم‏:‏ ‏
(‏إن اللّه قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث‏) بقي الأقارب الذين لا ميراث لهم، يستحب له أن يوصي لهم من الثلث، استئناساً بآية الوصية وشمولها، ولما ثبت أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما حق امرىْ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده‏)‏ ‏"‏رواه الشيخان عن ابن عمر رضي اللّه عنهما‏"‏قال ابن عمر‏:‏ ما مرت عليّ ليلة منذ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ذلك إلا وعندي وصيتي
‏{‏إن ترك خيرا‏}‏ أي مالاً، قاله ابن عباس ومجاهد‏.‏ ثم منهم من قال‏:‏ الوصية مشروعة سواء قل المال أو كثر، ومنهم من قال‏:‏ إنما يوصي إذا ترك مالاً كثيرا‏.‏ قيل لعلي رضي اللّه عنه‏:‏ إن رجلاً من قريش قد مات وترك ثلثمائة دينار أو أربعمائة ولم يوص، قال‏:‏ ليس بشيء، إنما قال اللّه ‏{‏إن ترك خيرا‏}‏ إذا تركت شيئاً يسيراً فاتركه لولدك‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ من لم يترك ستين ديناراً لم يترك خيراً‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كان يقال ألفاً فما فوقها، وقوله‏:‏ ‏{‏بالمعروف‏}‏ أي بالرفق والإحسان، والمراد بالمعروف أن يوصي لأقاربه وصيةً لا تجحف بورثته كما
ثبت في الصحيحين أن سعداً قال‏:‏ يا رسول اللّه‏:‏ إن لي مالاً ولا يرثني إلا ابنة لي أفأوصي بثلثي مالي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا‏)‏، قال‏:‏ فبالشطر‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا‏)‏، قال‏:‏ فبالثلث‏؟‏ قال‏:‏ ‏)‏الثلث، والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس‏)‏‏.‏ وفي صحيح البخاري أن ابن عباس قال‏:‏ لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع فإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏)‏الثلث، والثلث كثير‏)‏‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم‏}‏، يقول تعالى‏:‏ فمن بدل الوصية وحرَّفها فغيَّر حكمها وزاد فيها أو نقص، ويدخل في ذلك الكتمان لها بطريق الأولى ‏{‏فإنما إثمه على الذين يبدلونه‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ وقع أجر الميت على اللّه، وتعلَّق الإثم بالذين بدلوا ذلك‏.‏ ‏{‏إن الله سميع عليم‏}‏ أي قد اطلع على ما أوصى به الميت وهو عليم بذلك وبما بدله الموصَى إليهم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن خاف من موص جنفا أو إثما‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ الجنف‏:‏ الخطأ، وهذا يشمل أنواع الخطأ كلها، بأن زادوا وارثاً بواسطة أو وسيلة، كما إذا أوصى لابن ابنته ليزيدها أو نحو ذلك من الوسائل، إما مخطئا غير عامد بل بطبعه وقوة شفقته من غير تبصر،أو متعمداً آثماً في ذلك، فللوصي والحالة هذه أن يصلح القضية ويعدل في الوصية على الوجه الشرعي، ويعدل عن الذي أوصى به الميت، إلى ما هو أقرب الأشياء إليه واشبه الأمور به، جمعاً بين مقصود الموصي والطريق الشرعي، وهذا الإصلاح والتوفيق ليس من التبديل في شيء، ولهذا عطف هذا فنبَّه على النهي عن ذلك، ليعلم أن هذا ليس من ذلك بسبيل، واللّه أعلم‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏)‏الجنف في الوصية من الكبائر‏)‏‏"‏رواه ابن مردويه مرفوعاً، قال ابن كثير‏:‏ وفي رفعه نظر‏"‏وعن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏)‏إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة‏)‏ قال أبو هريرة‏:‏ اقرأوا إن شئتم ‏{‏تلك حدود اللّه فلا تعتدوها‏}
الآية‏.‏‏"‏أخرجه عبد الرزاق عن أبي هريرة مرفوعا‏"‏‏.‏

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم‏(‏183 ‏:‏ 184‏)‏
‏{‏ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ‏.‏ أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون ‏}‏
يخاطب تعالى المؤمنين من هذه الأُمة، آمراً إياهم بالصيام، وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع، بنية خالصة للّه عزّ وجلّ، لما فيه من زكاة النفوس وطهارتها، وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة، وذكر أنه كما أوجبه عليهم فقد أوجبه على من كان قبلهم، فلهم فيه أسوة، وليجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك كما قال تعالى‏:‏
‏{‏فاستبقوا الخيرات‏}‏، ولهذا قال ههنا‏:‏ ‏{‏كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون‏}‏ لأن الصوم فيه تزكية للبدن، وتضييق لمسالك الشيطان، ولهذا ثبت في الصحيحين‏:‏ ‏)‏يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج‏.‏‏.‏ ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء‏)‏، ثم بيَّن مقدار الصوم وأنه ليس في كل يوم، لئلا يشق على النفوس، فتضعف عن حمله وأدائه، بل في أيام معدودات، وقد كان هذا في ابتداء الإسلام، يصومون من كل شهر ثلاثة أيام، ثم نسخ ذلك بصوم شهر رمضان كما سيأتي بيانه‏.‏ وقد روي أن الصيام كان أولاً كما كان عليه الأمم قبلنا، من كل شهر ثلاثة أيام ولم يزل هذا مشروعاً من زمان نوح، إلى أن نسخ اللّه ذلك بصيام شهر رمضان، وقال الحسن البصري‏:‏ لقد كتب الصيام على كل آُمّة قد خلت كما كتب علينا، شهراً كاملاً وأياماً معدودات عدداً معلوماً‏.‏ وعن عبد اللّه بن عمر قال‏:‏ قال رسول الّله صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏ (صيام رمضان كتبه اللّه على الأمم قبلكم
‏)‏ ‏"‏رواه ابن ابي حاتم عن عبد اللّه بن عمر مرفوعاً‏"‏‏.‏
وقال عطاء عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏كما كتب على الذين من قبلكم‏}‏ يعني بذلك أهل الكتاب، ثم بيَّن حكم الصيام على ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام فقال‏:‏ ‏{‏فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر‏}‏ أي المريض والمسافر لا يصومان في حال المرض والسفر، لما في ذلك من المشقة عليهما، بل يفطران ويقضيان بعدة ذلك من أيام أُخر، وأما الصحيح المقيم الذي يطيق الصيام، فقد كان مخيراً بين الصيام وبين الإطعام، إن شاء صام وإن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكيناً، فإن أطعم أكثر من مسكين عن كل يوم فهو خير، وإن صام فهو أفضل من الإطعام، قاله ابن مسعود وابن عباس، ولهذا قال تعالى‏:‏
‏{‏وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون‏}‏‏.‏
روي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قدم المدينة فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام وصام عاشوراء، ثم إن اللّه فرض عليه الصيام وأنزل اللّه تعالى ‏{‏يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين‏}‏ فكان من شاء صام ومن شاء أطعم مسكيناً فأجزأ ذلك عنه، ثم إن اللّه عزّ وجلّ أنزل الآية الأُخرى‏:‏ ‏{‏شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فمن شهد منكم الشهر فليصمه‏}‏ فأثبت اللّه صيامه على المقيم الصحيح، ورخَّص فيه للمريض والمسافر، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام، وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا فإذا ناموا امتنعوا، ثم
إن رجلاً من الانصار يقال له صرمةكان يعمل صائما، حتى أمسى فجاء إلى أهل فصلَّى العِشاء ثم نام، فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح، فأصبح صائما فرآه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقد جهد جهداً شديداً، فقال‏:‏ ‏)‏مالي أراك قد جهدت جهداً شديداً‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ يا رسول اللّه إني عملت أمس، فجئت حين جئت فألقيت نفسي فنمت، فأصبحت حين اصبحت صائماً،قال‏:‏ وكان عم قد أصاب من النساء بعد ما نام، فأتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فذكر له ذلك فأنزل اللّه عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم - إلى قوله - ثم أتموا الصيام إلى الليل‏}‏ ‏"‏أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم‏"‏
وروي البخاري عن سلمة بن الأكوع أنه قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين‏}‏ كان من أراد أن يفطر يفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها، وروي عن ابن عمر قال‏:‏ هي منسوخة، وقال السُّدي‏:‏ لما نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين‏}‏ كان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكيناً فكانوا كذلك حتى نسختها‏:‏ ‏{‏فمن شهد منكم الشهر فليصمه‏}‏ وقال ابن عباس‏:‏ ليست منسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً ‏"‏أخرجه البخاري عن عطاء عن ابن عباس‏"‏وعن ابن عباس قال‏:‏ نزلت هذه الآية ‏{‏وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين‏}‏ في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم ثم ضعف، فرخص له أن يطعم مكان كل يوم مسكينا، وعن ابن أبي ليلى قال‏:‏ دخلت على ‏"‏عطاء‏"‏في رمضان وهو يأكل فقال‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ نزلت هذه الآية فنسخت الأولى، إلا الكبير الفاني إن شاء أطعم عن كل يوم مسكينا وأفطر ‏"‏أخرجه ابن مردويه عن ابن أبي ليلى‏"‏
فحاصل الأمر أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم، بإيجاب الصيام عليه بقوله‏:‏ ‏{‏فمن شهد منكم الشهر فليصمه‏}‏ وأما الشيخ الفاني الهرم الذي لا يستطيع الصيام، فله أن يفطر ولا قضاء عليه، لأنه ليس له حال يصير إليه يتمكن فيها من القضاء، ولكن هل يجب عليه إذا أفطر أن يطعم عن كل يوم مسكيناً إذا كان ذا جدة‏؟‏ فيه قولان، أحدهما‏:‏ لا يجب عليه إطعام لأنه ضعيف عنه لسنه، فلم يجب عليه فدية كالصبي، لأن اللّه لا يكلف نفساً إلا وسعها وهو أحد قولي الشافعي‏.‏ والثاني‏:‏ وهو الصحيح وعليه أكثر العلماء أنه يجب عليه فدية عن كل يوم، وهو اختيار البخاري، فإنه قال‏:‏ وأما الشيخ الكبير إذا لم يطق الصيام، فقد أطعم أنَسٌ بعد ما كبر عاماً أو عامين، عن كل يوم مسكيناً خبزاً ولحماً وأفطر، ومما يلتحق بهذا المعنى الحامل و المرضع إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما، ففيهما خلاف كثير بين العلماء فمنهم من قال‏:‏ يفطران ويفديان ويقضيان، وقيل‏:‏ يفديان فقط ولا قضاء، وقيل‏:‏ يجب القضاء بلا فدية، وقيل‏:‏ يفطران ولا فدية ولا قضاء‏.‏






التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس