عرض مشاركة واحدة
قديم 23-01-2009, 01:42 AM   رقم المشاركة : 3
أنا راحل
( ود جديد )
 





أنا راحل غير متصل










1

وجدا لهما زاوية في المقهى الذي كان قد فتح أبوابه للتو، وبدأت أنواره تضيء بتتابع جميل وتوزيع أنيق.

جلسا بذات الصمت الذي ولجا به، تشاغل أحدهما بتقليب صحيفة ملقاة على الطاولة الصغيرة أمامه، وجعلت عيناه تتنقلان على السطور بلا وعي وبلا رغبة حقيقية في القراءة، بينما جعل الآخر يحدق في المكان من حوله قبل أن يترك عينيه تتسللان إلى الطريق المزدحم أمام المقهى.

تثاقل الصمت بينهما حتى قطعه النادل الذي سجل طلباتهما التي جاءته بخفوت وهدوء لم يتعوده من رواد المقهى الصاخبين.

عادا إلى ما كانا فيه، حتى بدأ جفن صاحب الصحيفة يرف من توتره الداخلي المتصاعد فتوقف عن التظاهر بالهدوء ونحى الصحيفة جانبا ً وقال وهو يحاول الفرار من عيني صاحبه المخترقتين:

- أين صرنا؟

- مازلنا حيث كنا... لا تتوقع مني أن أخطو خطواتك بدلا ً عنك.

زفر صاحب الصحيفة بقوة ولوح بيده بيأس وهو يتراجع في مقعده قائلا ً:

- أتمنى أن أفهمك.

- لا تتمنى ما لا تستطيع، ألم أقل لك ذات يوم أنك إنسان محدود؟

- أعرف... أعرف... - قال بسخرية مريرة - لا تبدأ هذا يا فهد أرجوك، هناك أناس محدودون مثلي ولا فخر، وهناك أناس بلا حدود مثلك، ونحن المحدودون نحاول التعامل مع غير المحدودين بذات القيود والحدود التي تقيدنا... لا تخف أحفظ دروسك جيدا ً.

لاح شبح ابتسامة على شفتي فهد سرعان ما تصاعد فأطلت من عينيه وهو يقول:

- ربما تحفظها ولكنك لا تفهمها.

- ربما... ولكن أرجوك أنا في غنى اليوم عن فلسفتك وعن آرائك في الحياة وفي شخصي المسكين، أرجوك أعفني منها اليوم وتكلم معي بوضوح، لا تغرقني وتجهدني في فك كلماتك.

- تريد الوضوح؟ تريد الصراحة؟ هل تتحملهما؟ هل أنت مستعد لأن تتركني أتحدث بدون أن تهرول من هذا الباب؟

انفرجت شفتا صاحب الصحيفة ولكنه عاد وأطبقهما وعيناه تتابعان بضيق ثلاثة صاخبين جلسوا بالقرب منهما، وأحدهم يلف أصابعه على سيجارة تتحدى كل لوحات منع التدخين، فأكمل فهد وهو يحرك يده في الهواء كأنه ينفض عنه كل شيء:

- الآن... لا شيء يفيد، كان على هذا أن ينتهي منذ زمن... وقد انتهى اليوم.

- انتهى !!! لا... لا... لا... لا يمكن أن ينتهي كل شيء هكذا، صدقني يمكننا إصلاح كل شيء، أحتاج فقط إلى فرصة... أعطني فرصة.

لاحت من عيني فهد نظرة غريبة لا تنتمي للمكان، كاد أن يتكلم ولكنه توقف متعثرا ً، تلفت قليلا ً وكأنه يتعرف على المقهى لأول مرة، ثم استبدل بالنظرة الحائرة نظرة أخرى تجمع بين الحزن والألم والقهر والغضب، وتراجع في مقعده وهو يقول:

- أتدري؟ لا أرغب في إكمال هذا... لقد مللت.

- مللت؟

- ألم تفهم بعد الحقيقة المرة هنا؟ أنا وأنت لسنا حقيقيين، لسنا أشخاص، وهذا المكان ليس مقهى، وكل ما يحيط بنا الآن ليس إلا خيال كاتبنا، نحن لا نتحدث هنا ولا نتبادل حوارا ً، كاتب هذه السطور هو من يفعل، أنا وأنت لسنا إلا حروف، سطور، كلمات مرصوصة، تسري فيها روح الكاتب، أنا وأنت ضحايا يريد كاتبنا أن يصنع لنفسه ولأفكاره مجدا ً على حسابنا، ولذا فأنا مللت، مللت... ولا أريد أن أكون بطلا ً لأحد.

توقف كل شيء، تحول المقهى إلى ما يشبه صورة فوتوغرافية التقطت في لحظة، فاختزنت في بطنها ظلال المكان، وابتسامات رواده والتماعات عيونهم، حتى خيط الدخان تجمد في الهواء بالتواءاته، فقط فهد هو الذي سلم من هذا كله وبقي في مكانه يزفر بقوة، ويحتفظ على وجهه بذات الملامح المقهورة.

غاب كل من في المقهى، تواروا وراء شطب عريض، شطبت صاحب الصحيفة والنادل والرواد، أبقيت فقط المقهى وفهد و... أنا.

تقنعت بابتسامة خفيفة لأخفي ذهولي ثم دخلت المقهى وأنا أحمل قلما ً مسلولا ً في يدي، كانت قدماي تدقان السكون وأنا اتجه إلى حيث كان صاحب الصحيفة قبل أن لا يكون، جلست ووضعت القلم برفق على سطح الطاولة وسنه باتجاه بطلي المتمرد، ومن ثم وضعت ساقا ً على ساق، وجعلت أحدق في عيني فهد.

وجدت في عينيه اللتين صمدتا أمام عيني أطول مما فعلت عيون... وعيون، أشياء كثيرة أغرتني بالاكتشاف، أغرتني بالسؤال.

قال بتعجب خفيض الصوت:

- لم تشطبني !!!

- ربما أفعل... قلمي ما زال بلا غطاء... أردت أن أحادثك قليلا ً قبل أن أفعل.

- تعني... تحادث نفسك - قالها بمرارة أحزنتني بحق -، فأنا لست إلا جزء منك تريد أن تتخلص منه أو تريد في أحسن الأحوال تخليده بين السطور.

- لا... أريد أن أحادثك أنت، ليس معنى أنك جزء مني، أو أني صنعتك، أنك أنا، نحن لا نفهم أنفسنا جيدا ً يا عزيزي وإن ظننا عكس ذلك، ومهما وصلنا من وعي بالذات ومتابعة لخطراتها يبقى منا أجزاء مظلمة وسحيقة بعيدة عن أعيننا أو ربما نغض أبصارنا عنها ولا نريد رؤيتها.

- ربما - قالها بشرود -.

- قل لي... ما الذي حدث؟ ما الذي أغضبك؟

- لا أدري بالضبط... كنت أجلس مع صاحبي ذاك، الطريف أني لا أعرف اسمه الآن، لم تدع لي الفرصة لأعرف، ولا لأعرف لم َ كنت غاضبا ً من...

- أنت لم تدع لنفسك الفرصة - قاطعته بابتسامة خبيثة -.

- ربما... ربما - وهو يلوح بيده - لا أريد أن أخوض معك الآن في تفصيل من الذي يريد هنا أو يتحدث، أنا أم أنت، سأتشبث الآن بالفكرة التالية... كنت أتحدث معه ثم شعرت في اللحظة التالية بأن كل هذا الحديث خواء، وأن الكلمات التي تجري على لساني ليست لي، لا أدري كيف أشرح لك هذا؟

- لا تفعل... أفهمك جيدا ً، هذا يشابه عندما أعيش أنا حلما ً في المنام، وتمر بي أحداثه بكل قوتها وعمقها، ثم في لحظة أشعر بأن كل هذا حلم ويصبح كل شيء بلا معنى.

- جيد... هذا يشبه ما حدث لي، لولا أني لم أكن أحلم، وأني لم أستيقظ، كانت لحظة مررت بها ثم انجلت في اللحظة التي تليها الحقيقة كاملة، أنا لست إلا كلمة، سطر، سطور، لا أكثر، اجتاحتني مشاعر رهيبة، حزن من بعده ألم ومن بعد الألم قهر، ومن ثم انفجر الغضب في داخلي.

- ما الذي أغضبك بالضبط؟

- كل شيء، غضبت أولا ً من استغلالك لي.

- استغلالي لك؟

- نعم... أنت تستغلني، من الذي منحك الحق في إلباسي أفكارك؟ وصوغ حياتي كما تحب وكما تشاء؟ من منحك حق دفعي لأتصرف وأتحدث كما تريد أنت، فقط... لتجعل مني عبرة ولتصوغ مني معنى؟

- آ... - كنت سأقول شيئا ً ما، ثم تراجعت مؤثرا ً تأجيله قليلا ً ومحاولة صوغ كلماتي بطريقة أقل قسوة -، صحيح... أنا أستغلك، لا أنكر هذا، ولكن هذا الاستغلال لا يحمل معنى سيئا ً، لم لا تعتبر نفسك كممثل يقوم بدور مؤلم ومحزن في مسرحية ما وعندما ينتهي يرتدي ثيابه ويذهب لمنزله وهو لا يفكر بأن المخرج والكاتب من قبله يستغلونه؟

- لأني أعيش هنا... وليس لي حياة أخرى أرتدي ثيابا ً لأعيشها، أنا هنا فقط معلق بين سطورك، قد أعجبك فتمنحني مساحة أوسع، وتنقلني إلى حكاياتك الأخرى، وقد لا أعجبك فتقتلني أو تتركني معلقا ً إلى الأبد في فضائك.

- غريب... - وقد تخليت عن حذري الآن -، أنا لم أفكر بهذا من قبل، أعني... أن يكون لدى أبطالي مثل هذه المشاعر أو الأفكار، صحيح أني كنت أضفي عليهم الكثير مني، وكان بعضهم يحمل مشاعري، والبعض الآخر يحمل أفكاري، ولكني لم أحلم يوما ً أن يفكر أحدهم بهذه الطريقة أو الأسلوب أو أن يخرج عن الخط الذي رسمته له، بالعكس... كنت أشعر بأنه لو قدر لأحدهم أن يتكلم يوما ً لربما شكرني على أن جعلت منه بطلا ً، وأن منحته هذه الحياة حتى ولو كانت على الورق، كم هم الذين يتمنون أن لو كانوا فصلا ً في كتاب؟

صمت وتراجع في مقعده بحزن ظاهر - كنت محقا ً في حذري إذن، لقد آذيته -، جعل يتأمل يديه بذات الصمت الذي آثرت احترامه، ضم قبضته ثم قال وهو يفردها بشرود:

- البطولة لا تستحق كل هذا الألم... هل سألت بطلا ً إن كان أراد يوما ً البطولة؟ البطولة لحظة ألم عميقة، البطولة التعويض البارد الذي يقدمه الناس لمن ذاق حرارة الألم، جميل أن نتذكر بطولة الأبطال وتضحياتهم التي جاءت من عند أنفسهم، ولكن البطولة لا تفرض على أحد ولا تطلب منه، لا يمكنك أن تطلب من أحد أن يكون بطلا ً، فليس الكل كذلك... فلم تطلب مني ذلك؟ لم ترغمني على هذا؟

- أنا لا أرغمك على شيء - قلتها بعد صمت قصير، احتجت له كثيرا ً لأفكر في كلماته الجديدة في أذنيّ -، أنا فقط لم أفكر بهذا من قبل، البطولة بالنسبة لي كانت أمرا ً جميلا ً ورائعا ً، أن يكون الإنسان بطلا ً... الكل يحلم بهذا، ولكني لم أحدق ولا مرة في الجانب الآخر للبطولة، لم أفكر بالألم الذي تحتاج له، ولا فكرت هل أراد من كانوا أبطالا ً ذلك؟ أم أنهم لم يجدوا خيارا ً آخر.

لم يرد... وسكتّ أنا، جعلت أتأمل هذا الوضع الغريب الذي لم أتخيل حدوثه أبدا ً، كنت أحب أبطالي الثائرين دوما ً، ولكني لم أتوقع أن يثور أحدهم علي، ولا توقعت أن يخرج عن المسار الذي حددته، فضلا ً عن أن يكرهه، لذا كنت أشعر بحيرة في التعامل مع الوضع، ماذا أفعل؟ هل أتركه يعيش في مساحاتي وأحاول اكتشافه مع الوقت؟ أم أشطبه الآن وأتخلص من بذرة العصيان هذه، فمن يضمن لي ألا تتسرب روحه الثورية هذه إلى كل بطل قادم من أبطالي، حتى أجد نفسي في النهاية... بلا أبطال، وبلا حكايات أرويها !!!

- ستشطبني؟

- لا أدري... أنا أفكر الآن... ماذا أفعل؟

- لا تشطبني... لا تفعل.

- ظننتك لا تريد البقاء هنا !!!

- أريد البقاء... أوه... أريده بشدة، ولكني لا أريد أن تستغلني.

- وما هي الصفة التي تريد أن تبقى بها هنا؟ أنت لست بطلا ً... وترفض أن تكون كذلك، فما هي المساحة التي يمكن أن تحتويك؟

- هذه المساحة تكفيني... أن أبقى هنا في هذا المقهى وأتحدث معك من حين إلى حين، هذا يكفيني،أن تزورني كلما شعرت برغبة في الحديث والثرثرة، يمكنني أن أكون هذا النوع من الأبطال... البطل الثرثار.

- غريب - قلتها وأنا أداري ابتسامتي -... لم أتوقع هذا، ظننتك تكرهني.

- أوه... لا... لم َ ظننت هذا؟

- غضبك... وثورتك، ظننت أني في نظرك متسلط يتلذذ باستغلالك.

- لا... لا... أنا... أنا أحبك واقعا ً - قالها وهو يصرف عينيه، هل كان ذلك حياء ً أم ماذا؟ -.

- ههههههههه، تحبني؟ - بترت ضحكتي عندما لمحت نظرته الحزينة - عذرا ً... لا أقصد السخرية منك، ولكني لم أتوقع ذلك.

- لا بأس.

- وما الذي تحبه في ّ؟ - كان سؤالي الفضولي هذا بعد تجاوزي للحظات من الحرج -.

- لا أدري !!! ربما أحبك لأني جزء منك، آ... هو أشبه ما يكون بحب الابن لأبيه القاسي، يظن أنه يكرهه، يظن أنه لا يريده ولا يحتاجه في حياته، ولكن في اللحظة التي يفقده فيها أو يفقد وجوده... يجتاحه ذلك الشعور الكريه بأنه وحيد في هذا العالم، من الذي قال... ( يظل الرجل طفلا ً حتى يفقد أمه، عندها يشيخ فجأة) ؟ حسنا ً... سأقول أنا ( يظل الرجل في الظلال حتى يفقد أباه، عندها يغرق في الشمس).

- يحزنني أن تراني أبا ً قاسيا ً لك.

كان رده ابتسامة باهتة، فقلت بسرعة وبلا تفكير:

- حسنا ً... سأبقيك هنا حتى مساء الغد على الأقل، أريد فسحة أطول للتفكير، ولكن كل هذا بشرط.

- ما هو؟

- أن لا أكون أبا ً هنا... سأكون صديقا ً.

أظن أنه يمكنني قبول هذا - وكانت ابتسامته هذه المرة واسعة وجميلة -.