عرض مشاركة واحدة
قديم 23-01-2009, 01:43 AM   رقم المشاركة : 4
أنا راحل
( ود جديد )
 





أنا راحل غير متصل










2

بدا لي واضحا ً أن الحالة النفسية لسليمان صارت في الحضيض الآن، بذلك الملل الذي لا يخفيه، وبلثامه الذي أحكم لفه حول أنفه كأنما يمنع ذرات الغبار التي تغطي كل شيء من التسلل إلى صدره.

كنا في مكتب كئيب في تلك العمارة المتداعية والضائعة في أحد أحياء وسط الرياض القديمة، لم يكن مكتبا ً في أصله، وإنما غرفة مرتجلة تضيق بطاولة قديمة يغطيها لوح زجاج مشروخ تراصت تحته بعض ( التعاميم الحكومية)، وتقويم زاهي الألوان للسنة الماضية توزعه مؤسسة مفروشات شهيرة وتزين محيطه بعض منتجاتها، وبعض الأوراق الدينية المطبوعة بلون ناحل - فتاوى تارك الصلاة، وفتوى عن السحر، وأخرى عن الربا -، وقصيدة نبطية سيئة الطباعة تداخلت أبياتها، وفقدت بعض قوافيها، ووراء المكتب كانت خزانة هائلة رمادية اللون تلتهم جزء ً من ضيق المكان، وتزدحم وراء زجاجها الشفاف الكعوب المميزة للملفات المكتظة بكل الأوراق التي مرت بهذا المكتب واستبقت ورائها نسخة ناحلة الألوان بدورها كما الكثير من الأوراق هنا، وبجانب الخزانة – كأنما لا يكفي كل هذا الضيق !!! – كانت هناك طاولة صغيرة بسيقان عارية ولامعة - ربما هي الشيء الوحيد الذي يلمع في هذا المكتب، إذا استثنينا النظارات الكبيرة لصاحب المكتب - يغطي سطحها أوراق ملوثة ببقع الشاي وفتات السكر، ويتراص فوقه وبلا أي نظام ( مسخن ماء) وصندوق صغير من الشاي، وصندوق من مكعبات السكر، وعدد من الأكواب الورقية التي تحتضن بعضها، ومن هذه الطاولة قدم لنا صاحب المكتب كوبا ً من الشاي – كان حلوا ً بشكل لا يحتمل، وقد قذف صاحبنا في بطن الكوب أربعة مكعبات من السكر، بدون أن يستشيرنا، مدفوعا ً ربما بالمثل الشعبي " من شاور ما عطى" -.

ما الذي جاء بنا إلى هنا؟

كان رئيس القسم ( ناصر) قد استدعانا في الصباح الباكر، واقفا ً أصنع كوبا ً من القهوة المخففة بالحليب لأطرد من عيني ّ بقايا النوم التي تهاجمني، سليمان يتصفح الانترنت بملله وتذمره الدائمين، ويقرأ بصوت غائم بعض العناوين من هنا وهناك، عندما جاء الرنين الذي لا أحب، كنت أكره صوت الهاتف كثيرا ً ليقيني أنه لا أحد – بحكم أننا قسم داخلي لا يتعامل كثيرا ً مع الجمهور – يمكن أن يتصل في مثل هذا الوقت سوى ناصر.

رفعت السماعة ليأتيني صوته بعيدا ً وهو يتحدث مع أحد ما في مكتبه " حسنا ً... خذ هذه أيضا ً، أرسلها الآن، لا تتأخر، لا أريدهم أن يعاودوا الاتصال بي، صار هذا مزعجا ً" ثم ارتفع صوته - يبدو أنه قرب السماعة من أذنه الآن -:

- آلو.

- هلا.

- السلام عليكم.

- وعليكم السلام.

- جاء سليمان؟

- أي نعم... موجود، تريده؟

- تعال أنت وإياه إلى مكتبي إذا تكرمت.

وهذا ما كان، رشفت رشفتين متعجلتين من كوب القهوة قبل أن أودعه بأسف، وخرجت من المكتب مع سليمان الذي كان يهمهم بضيق لهذا الاستدعاء الصباحي.

كان مكتب رئيس القسم غارقا ً بالأوراق، واستقر ما فضل منها على مقعد يجاوره، وكانت الأوراق ذات طابع كئيب من النوع الذي يؤشر عليه بالقلم ويحيله إلى أحد موظفيه ليقوم باللازم، كانت هذه العبارة من العبارات التي أبغضها كثيرا ً " للقيام باللازم"، أي ورقة كانت تصلني ممهورة بهذه العبارة لم تكن تعني أقل من أيام بائسة أخرى، فاللازم لم يكن مكالمة هاتفية أجريها وينتهي كل شيء، أو ورقة أكتبها، وإنما كان يعني في أفضل الحالات زيارة ميدانية لأحد الأقسام، واجتماع ممل وطويل مع موظفين لا يكفون عن الشكوى، وطلب تعديلات في البرامج التي صممناها بناء على طلباتهم واحتياجاتهم، مهما كانت هذه التعديلات سخيفة أو مستحيلة.

أشار لنا ناصر بالجلوس، فيما هو يقلب مجموعة من الأوراق المضمومة معا ً بدبوس، نزع الدبوس وفرق الأوراق ومن ثم أعاد ضمها بعدما أشر عليها، وقال وهو يعيد شكها بذات الدبوس - كيف لم يضع وسط هذه الفوضى !!! -:

- كيف حالكم يا شباب؟

- الحمد لله بخير - كانت هذه من سليمان، ففي مثل هذه المواقف أتدرع أنا بصمتي وأترك الكلام له بحكم أقدميته في العمل، وخبرته في التعامل مع طلبات ناصر التي لا تنتهي -.

- لدي طلب هنا لبرنامج مهم، وللحقيقة فهذا الطلب يقبع في مكتبي منذ فترة طويلة، ولم أعطه لأحد حتى الآن لأهمية البرنامج، ولأنه – حتى أكون صريحا ً معكم – صعب في تنفيذه، ولم أجد أحدا ً أجدر منكما لتولي هذه المهمة

- ولكن - وقد جاء دور سليمان التقليدي في الاعتراض - نحن غارقون في مشاريع كثيرة، ومطلوب منا تنفيذها بسرعة، هذا غير أعمالنا اليومية المتعبة والتي بالكاد نقوم بها، ومن الصعب علينا الآن أن نضيف إلينا عبئا ً جديدا ً.

- أدري بكل هذا وأقدر جهودكما، ولكن هذا البرنامج مهم جدا ً، وهناك اهتمام شخصي من المدير به، يمكنني تحويل بعض الأعمال التي ترهقكما إلى موظفين آخرين، ولكن من المهم أن تقوما بهذا العمل وتنجزاه بشكل جيد وبسرعة، فالإدارة مهتمة به لحساسيته، وتطالبني من الآن بتقرير أسبوعي عن حالة المشروع.

- كلامك جميل، ولكن كما قلت لك لدينا من الأعمال ما هو فوق طاقتنا، والمشاريع التي لدينا لا يمكن تحويلها إلى أحد بسهولة، فهي في مراحل حرجة وتحتاج إلى متابعة، لم لا تحول هذا البرنامج إلى أحد الزملاء الأقل انشغالا ً.

- لا... لا... أنا أثق بكما، ولا أريد المخاطرة بوضعه بين يدي من لا ينجزه بكفاءة، ثم إن المشاريع التي بين يديكما ليست حرجة كلها، فقط مشروع ( المالية) بحكم أنه في مرحلة التطبيق، أما البقية فلا بأس إذا قللتما الجهد فيها.

وهكذا... مضى الرجلان في الجدال والمناورات الكلامية، هذا يصعب الموضوع وهذا يهونه، حتى يئس سليمان في النهاية وتناول خطاب المشروع، بعدما أشر ناصر على تكليفنا به.

وهكذا وجدنا الخطاب يقودنا إلى هذا المكتب الكئيب، وإلى هذا الموظف اللامبالي، كان الهدف من زيارتنا دراسة بيئة العمل في هذه الإدارة ومن ثم تصميم نظام يخفف من العمل الورقي الذي كانت غارقة فيه، ويسرع إجراءات العمل البطيئة والراكدة، وهو هدف يبدو مجيدا ً على الأوراق، أو بلغة الخطابات الثقيلة، ولكن في الواقع كان الأمر عسيرا ً، وملتفا ً حد الصداع.

كان أول ما قمنا به عند استلامنا للخطاب - بعد انتهاء سليمان من شتائمه بالطبع -، هو التنسيق لزيارة هذه الإدارة، كان هناك رقم جوال مرفق مع الخطاب للموظف المختص والذي سيقودنا لفهم مهام هذه الإدارة والتعامل معها، اتصلنا به، وبعد عدة محاولات اتصال بلا رد، جاءنا صوته المتوجس، عرفه سليمان بنفسه، فاعتذر الموظف على عدم رده في البداية، لأنه لا يرد عادة على أرقام لا يعرفها، سأله سليمان عن الوقت المناسب لزيارة القسم والإطلاع على الأعمال فيه، ففاجئنا بأنه لا يعلم شيئا ً عن الخطاب ولا عن النظام المفترض به مساعدتنا لبنائه، ولكنه عقب أن لا بأس بزيارتنا في أي وقت يناسبنا.

وهذا ما كان، اتجهنا أنا و سليمان للمبنى القديم والذي كان يعرفه جيدا ً من زيارات سابقة، كان استقبال الموظف لنا باردا ً، وبلا اهتمام حقيقي، وهذا ما أغاظ سليمان وجعله يتمتم عن ( الكلاب اللي عليها ثياب) - لسليمان نظرية غريبة، تتلخص في أنه لا يوجد ناس حقيقيين إلا القليل، أما البقية فهم ( كلاب عليها ثياب)، وهذه النظرية مريحة جدا ً بالنسبة له، وتغنيه عن الكثير من التفسيرات، وتختصر الكثير من الدراسات الاجتماعية والفكرية، لم َ احتل الأمريكان العراق؟ لأنهم كلاب، لم َ يخون الصديق صديقه؟ لأنه كلب، لم َ يعق الابن أباه؟ لأنه كلب... وهكذا -، بعدها غادرنا غرفة الموظف بعدما قام بتحويلنا إلى زميله ( علي) والذي سيفيدنا أكثر كما قال.

وها نحن مع علي والذي لا يقل لا مبالاة عن زميله، بدأت - بعدما شرحت له المطلوب منا حسب الخطاب - بسؤاله بعض الأسئلة عن طبيعة عمله، وبين يدي ورقة بيضاء أنوي تخطيط الأعمال التي يقوم بها عليها بشكل مخطط رسومي مع تدوين ملاحظاتي، وكنت بين حين وحين أستوقفه لأحصل على النماذج الورقية التي يستخدمها في عمله، أو أقوم بتسجيل البيانات الداخلة للإدارة، والتقارير الخارجة منها، وسليمان بين هذا وذاك يتسلل إلى خارج الغرفة ليدخن سيجارة في بيت الدرج القريب والذي كان مقصد مدخني الإدارة كلهم فيما يبدو.

وأنا أتأمل الآن الورقة المخططة بين يدي، والتي لم تقدم لي سوى نور ضئيل وتصور غائم لما يمكن للأعمال أن تكون عليه في هذه الإدارة العتيقة، عرفت أن هذه الزيارة لا تكفي وأنه محكوم علي بزيارات أخرى قادمة لهذا المكان الكئيب، ولذا بدا لي خيار الرحيل الآن حكيما ً، لتوفير التعب علي، والملل على سليمان، وملامح الضيق التي بدأت تتسلل إلى صاحب المكتب.

خرجنا بعدما شكرت علي ووعدته بزيارة قادمة حالما أدرس ما تجمع بين يدي من معلوماته الثرية – ليست كذلك بالتأكيد، ولكني اضطررت لإيداع هذه الكذبة مع ابتسامتي -.

* * *

عدنا للمكتب ظهرا ً، طوح سليمان بأوراقه وخرج ليشتت ملله مع أحد الزملاء في المكاتب المجاورة، بينما بقيت أنا مع كوب شاي وأوراقي المتراكمة، وانهمكت في ترتيب أفكاري وتخطيط الأعمال التي يجب إنجازها أولا ً.

الوقت بطئ هنا، لا يقطعه سوى الانهماك في العمل، أو الثرثرة مع زميل عابر، والزملاء العابرون قلة في مكتبي، بعكس سليمان الذي يبدو أنه لا شيء عابر في مكتبه باستثناء العمل.

وكان ماجد من هؤلاء العابرين القلة، بكوبه الأزرق الغريب والذي يصطحبه إلى كل مكان، ويمكن له أن يكون مملوءا ً بأي شيء - شاي، ماء، عصير، قهوة، لبن، حليب، أي سائل يمكن أن يفي بالغرض -، وبملامحه النافرة، كيف تكون الملامح نافرة؟ لنقل أنها تكون كذلك إذا كانت العينان تطوقهما هالات سوداء، والأنف عظيم البروز، بينما الجبين شديد الضيق بحيث تقترب منابت الشعر من الحاجبين، وتبقى الشفتان ككدمة مشقوقة في الوجه.

دخل ماجد وأنا حائر بين نموذجين حصلت عليهما من علي، وبدا لي أن هناك خطأ ما، أو أن أحدهما قديم والآخر النسخة الحديثة منه.

- هلا ماجد.

- كيف الحال؟

- الحمد لله.

- أين سليمان؟ - قالها وهو يحتل المقعد بجانب مكتبي ويزيح بعض الأوراق ليجد مكانا ً لكوبه -.

- كان هنا، ربما يدخن أو في مكتب أحد الزملاء.

- يوم ممل... أليس كذلك؟

- فعلا ً - قلتها وأنا أسحب ورقة تنزلق ببطء، وتكاد تسقط أرضا ً من الأوراق التي دفعها ماجد عندما جلس -.

- أوه... لم أنم جيدا ً البارحة - قالها وهو يتمطى كأنما يطرد تعبا ً يسكن جسده -.

- سلامات !!!

- لا... لا شيء، كنت فقط مع بعض الشباب ومضى الوقت بدون أن نشعر، لم أعد للمنزل إلا الساعة الثانية.

- اها - قلتها وأنا أفتح ملفا ً في جهازي، وأغلق آخر -.

- كنا مجتمعين في الاستراحة وقد تأخر البعض في الحضور، أوه... أكرههم عندما يفعلون ذلك، و... - كانت عيناي تنهبان بريدا ً إلكترونيا ً وردني من إحدى الشركات التي تدير مشروعا ً مشتركا ً مع قسمنا - ... ولو نبهتهم لهذا لغضبوا... - ما هذه الإنجليزية الرديئة !!! يبدو لي أن صاحب الرسالة حديث العهد باللغة - ... على خير، وانشغلت بمتابعة مباراة في الدوري الأسباني... - لحظة !!! هذه الرسالة لا تخصني، من المفترض أنها لسليمان سأعيد إرسالها إليه -... أوه... من أجمل الأهداف التي شاهدتها في حياتي... - لا... لا حاجة لذلك، يبدو أنه وصلته نسخة منها، ولكن لم َ يرسلون لي الأصل ولسليمان نسخة؟ يفترض العكس -... وطلبت منهم التركيز في الإعادة الثالثة ليقتنعوا... - اممممممممم، وهذه مجموعة الرسائل المعتادة من الشباب، لا وقت لفتحها الآن، سأفتحها فيما بعد، وعسى أن لا تتكدس الرسائل لدي، كما حدث من قبل -... يعني أن الموضوع تحول إلى عناد فقط.

- اها... مشكلة.

- وكيف حالكم؟ - قالها بعد تنهيدة -.

- الحمد لله بخير.

- كم بقي على نهاية الدوام؟

- اممممممممم، ثلث ساعة.

- يا لثقلها - بشرود وهو ينقر بأظفاره على حافة كوبه -.

* * *

كانت غرفة الجلوس - أظن أن اسمها في الروايات الكلاسيكية ( غرفة المعيشة)، وهي تسمية لا تبدو لي معبرة - تلمع بذلك الضوء المتقطع الذي يميز تلفازا ً يعمل في الظلام، أطفأت التلفاز وأنا أتأمل لينا المتسربلة بالنوم بملامحها المتعبة - لازلت حتى الآن أستغرب كيف تتهدل ملامحها هكذا وهي نائمة، وكيف تعلوها مسحة غريبة وشاحبة -، والغطاء الثقيل يغطي جسدها ويحميه من لذعة البرودة التي ينفثها المكيف الهادر.

اتجهت إلى غرفة النوم لأظفر بدوري بساعة نوم قبل الغداء، تخلصت من الملابس التي تثقلني، قبل أن أسقط على الفراش - حرفيا ً... لازلت حتى الآن أجد لذة طفولية في ترك جسدي يسقط على السرير -، أغمضت عينيّ في الظلام الذي يخففه النور المتسلل من نسيج الستائر، وبدأ دوار الإرهاق يخف ويتخلى عن القبضة التي يعصر بها جبيني، عبرت ذهني لمحة من حواري البارحة مع بطلي الثائر، ولكنها تشتت مع اختلاط عالمي وتسللي إلى وادي النوم.

* * *

نهضت على اليد التي تهزني برفق، والصوت الهامس الذي يردد اسمي، خرجت لينا بعدما فتحت عيني وجعلت أحدق في السقف، وأحاول التخلص من بقايا النوم التي تتشبث بعيني وبروحي.

غرفة الجلوس سابحة في الضوء الآن، وقد عدت لها والرطوبة تتشبث بوجهي رغم المناديل التي مرت عليه، ولينا تنتظرني وأصابعها النحيلة تنسق المائدة بذلك الترتيب والتنظيم الذي يميزها.

- السلام عليكم - وأنا أجلس إلى الطرف الذي يخصني -.

- وعليكم السلام - ويداها مشغولتان بسكب خضار مطبوخة في صحني -.

- كيف الحال؟

- تمام.

- كيف الجامعة اليوم؟

- أف... قرف وتعب كالعادة.

- هههههههههههه، أتمنى أن يأتي اليوم الفريد الذي تقولين فيه أن يومك ِ كان جميلا ً.

- مع الوضع الحالي لا أظن أنه سيأتي.

* * *

وقفت الآن لأصنع كوب الشاي الأساس في يومي، كوب آخر العصر والذي أصر على إعداده بنفسي، بكل تلك الدقة والتفاصيل التي أحبها، الكوب الزجاجي الذي يحط على قاعدة معدنية لامعة تحتضنه وتمتد منها أعمدة لتحيط به ومن ثم تكون له عروة مغلفة بخشب فاتح اللون، ملعقتا السكر الصغيرتان اللتان أذوبهما في القليل من الماء الفائر الذي أسكبه قبل أن أدلي كيس الشاي وأربط طرفه بالعروة ومن ثم أسكب باقي الماء لأملأ الكوب، وأتأمل الماء وهو يتلون بسرعة بتلك الألوان الفاتحة والتي تبدأ بالإعتام، انتظر قليلا ً قبل أن أفك رباط الكيس وأتركه ينزلق ليحط على القاع الذي ترقد فيه حبيبات سكر تقاوم الذوبان ببسالة، أفكر أحيانا ً وأنا أتأمل هذا المشهد الفاتن، بأيها المحظوظة الحبيبات التي ذابت وصارت في حمى الماء؟ أم الحبيبات التي قاومت الذوبان وانفردت لتواجه عتمة الشاي وظلامه المنتشر من حولها؟ أي أفكار مجنونة يحملها إلي كوب شاي وصفحة مشرعة البياض.

كان أمامي الآن بضعة كتب لأقلبها، وعدة ساعات لأنفقها في البحث وتدوين الملاحظات، حتى يحل الليل بسكونه، وحينها يمكنني التسلل للقاء البطل الذي لا يريد أن يكون كذلك.