عرض مشاركة واحدة
قديم 23-01-2009, 01:46 AM   رقم المشاركة : 6
أنا راحل
( ود جديد )
 





أنا راحل غير متصل










4

بدأ اجتماع العاشرة في العاشرة وثلاث وعشرين دقيقة.

كانت النقاط التي أرغب في إثارتها في الاجتماع تستقر بين يدي على شاكلة محضر ابتدائي، أعددته مع قهوة الصباح، بعد أن فرغت من تحديد الأعمال التي يفترض أن أتعامل معها هذا اليوم في ورقة صغيرة، وهذا هو أول شيء أفعله عند وصولي المكتب، بمن سأتصل اليوم؟ ولم َ؟ ومن سأقابل؟ ولم َ؟ هذه الورقة تحفظني من التشتت، رغم أنها تستطيل في بعض الأيام لتضم أعمال يوم سابق لم ينجز فيه شيء.

بدأ الاجتماع – وهو اجتماع أسبوعي تقليدي، يعتبر ذيلا ً لاجتماع يسبقه بساعة، يجمع رؤساء الأقسام بمدير الإدارة، فيما يجمع هذا مدراء المشاريع المرتبطة ببعضها بمدير الإدارة – وبدأت معه محاولاتي في حفظ النقاط التي تهمني من التشتت، ففي مثل هذه الاجتماعات يمكن أن تستهلك نقطة واحدة الوقت كله، ويتوقف الاجتماع والمجتمعون عندها ولا يجاوزونها، ولذا كنت أحرص على الخروج من الاجتماع وقد أثرت كل ما أريد إثارته.

انتهى الاجتماع فعدت إلى مكتبي سريعا ً لأكمل المهام التي تكتظ بها ورقتي الصغيرة، وكان أن أطل سليمان برأسه من الباب:

- جاء الكلب؟

- من؟

- ومن غيره !

- لا أدري... للتو عدت.

كان المقصود هذه المرة زيد، زميلنا السابق في القسم، والذي انتقل قبل شهور إلى إدارة أخرى، بعد عدة معارك مع سليمان جعلت منه ( الكلب الأكبر) في قائمة سليمان الطويلة.

كان النفور بين زيد وسليمان واضحا ً من أيامهما الأولى معا ً، اهتمام زيد الزائد عن الحد بلبسه وشكله، طريقته في الكلام، في مقابل فوضوية سليمان وكلماته التي لا يفكر فيها لمرتين، كانت توسع من هذا النفور وتجذره، ولكن النفور تحول إلى معركة ومن ثم معارك عندما انتقل أقدم زملائنا في القسم ( أبو جاسر) – والذي كان أقدم من رئيس القسم نفسه -، حيث سارع زيد إلى احتلال موقف السيارة الخاص به – وكانت الإدارة قد قامت تحت وطأة قلة المواقف وشمس الصيف اللاهبة، في تحديد وتعيين مواقف خاصة ومظللة للمدراء ورؤساء الأقسام، وتبقت بضعة مواقف وزعت على قدامى الموظفين، وكان نصيب قسمنا موقفين فقط، أحدهما ناله ناصر بحكم أنه رئيس القسم، وذهب الآخر إلى الأقدم حينها ( أبو جاسر) -، ولكن زيد الذي لم يستمتع بالموقف طويلا ً فوجئ من الغد بسيارة سليمان القديمة تحتل المكان.

جاءنا يومها مكفهر الوجه، ولكن لهجته عندما تكلم جاءت هادئة:

- سليمان... أنا أتيت اليوم الصباح، ووجدت سيارتك في الموقف.

- طيب؟ - بذلك البرود المغيظ الذي يجيد ارتداءه -.

- الموقف لي لأني استأذنت ( أبو جاسر) في الحصول عليه.

- الموقف لمن يأتي مبكرا ً.

- لا... أنا استأذنت من ( أبو جاسر) وحصلت عليه.

- ومن قال لك أن استئذانك من ( أبو جاسر) يقدم أو يؤخر في الموضوع؟ ( أبو جاسر) انتقل من القسم، فلذا كل ما يخصه يعود إلى القسم، ومنها الموقف والذي يأتي مبكرا ً من أعضاء القسم يحصل عليه.

- طيب - بتلك النبرة المتحدية -.

في الغد وجد سليمان - وقد تمتع بالموقف لليوم الثاني -، إطار سيارته الأمامي فارغا ً، لم تكن هناك حاجة للأسئلة، وخاصة مع الابتسامة المعلقة على شفتي زيد وقد مر به - بسيارته التي صفعتها الشمس يومها كله - وهو يبدل الإطار.

كان على سليمان أن ينتقم، وإفراغ إطار زيد لا يعد انتقاما ً كافيا ً، كان على الانتقام أن يتوجه إلى شيء يغيظ زيد حقا ً، وكان أن تفتق ذهن سليمان عن فكرة مجنونة وطريفة.

كان اهتمام زيد بشكله باد ٍ للعيان، ومحاولته الدائمة لإعطاء انطباع جاد ووقور عن شخصه لدى موظفي الإدارة واضح، ومن هنا كان خبث سليمان وانتقامه بارعا ً، عندما قام – عن طريق أحد أصدقائه في شئون الموظفين - بالحصول على صورة من بطاقة هوية زيد، والتي تظهر فيها صورة قديمة له، التقطت قبل سنوات، بوجهه البدين حينها، وحب الشباب الذي كان يغطيه، مع طريقته اللامبالية في لبس الشماغ، وبعد عدة تعديلات بسيطة عن طريق أحد برامج ( معالجة الصور)، تسلل سليمان إلى جهاز زيد – كانت كلمة السر بسيطة جدا ً ومعروفة للجميع تقريبا ً - ومن ثم إلى بريده وقام بإرسال الصورة إلى كل موظفي الإدارة من عرف منهم ومن لم يعرف، وتحتها تعليق على لسان زيد ( وش رايكم بشكلي بالله... أجنن !!!).

كانت الضربة موجعة لزيد، ولكنه لم يظهر غضبه حتى لا يمنح سليمان فرصة التشفي به، وتعامل مع الموضوع بهدوء، من تغيير لكلمة السر لجهازه، ومن تجاهل للتعليقات المضحكة التي جاءته ردا ً على الرسالة ممن ظنوا أن الرسالة كشفت لهم أخيرا ً الجانب الخفيف الظل من زيد.

مضت أسابيع من الهدوء، لترد موظفي الإدارة بعدها رسالة جديدة، ولكنها هذه المرة من بريد مجهول، كانت الرسالة توعوية في ظاهرها، تتحدث عن أضرار التدخين، ومن ثم تتفرع منه لتتحدث عن منع التدخين داخل الدوائر الحكومية، ووجوب تنفيذ هذا القرار، كان ما جعلني أضحك حينها ولأيام أن الرسالة كانت تحوي صورة ملتقطة من بعيد لسليمان وهو يدخن في بئر السلم ويحادث شخصا ً ما غير ظاهر في الصورة، وتحت الصورة تعليق يقول ( أحد ضعفاء النفوس وهو يمارس عادة التدخين السيئة في مبنى دائرة حكومية).

كان ذلك اليوم ثائرا ً ومكسوا ً بالشتائم من سليمان، ولكنها ثورة وشتائم لم تجاوز جدران المكتب، واحتفظ خارجه كما تقتضي قواعد الصراع مع زيد بابتسامته ولامبالاته.

صرت أترقب الضربة القادمة من سليمان لزيد، ومر وقت طويل حتى أنني لولا معرفتي الجيدة بسليمان وعناده، لظننت أنه استسلم واكتفى بما حدث، ولكن يوم عرض المشاريع جاء، وهو يوم مخصص لعرض المشاريع القائمة في الإدارة على مدراء الإدارات المستفيدة، وهذا يعني أن يستضيف مدير إدارتنا حول طاولة اجتماعاته مجموعة من مدراء الإدارات المفترسين والذين جاءوا خصيصا ً لانتقاد كل ما يمكن انتقاده من المشاريع التي نديرها في إداراتهم - ربما كانوا مدفوعين بذلك الشعور الغريب لمن يفقد جزء من سلطته لأطراف أخرى، أو ربما هي طريقتهم في أن يقولوا لنا أنكم لستم بتلك الأهمية التي تتصورونها -.

على أية حال، جاء ذلك اليوم باستعداداته وارتباكاته، واتصالات رئيس القسم ناصر بكل موظفيه للتأكد من استعداد كلا منهم لعرض ما لديه، واتصالات المدير لمتابعة رؤساء الأقسام، كنت أنا وسليمان بلا ضغوط ذلك اليوم، فالمشاريع التي بين يدينا قائمة، ولن نقوم إلا بعرض حالة كل مشروع فقط، من دون الحاجة لشرح المشروع وفائدته والتوقعات المستقبلية للحالة التشغيلية، إلى آخر تلك التفاصيل البغيضة والمرهقة.

ولكن زيد لم يكن كذلك، كان محملا ً بمشروع جديد، يحتاج إلى استعداد خاص، ولذا فقد جاء مرهقا ً ذلك اليوم دلالة على ليلة طويلة قضى جزء ً منها ولا ريب بين التقارير.

بدأنا في نقل تقاريرنا المعدة ببرنامج البوربوينت إلى جهاز العرض، عندما بدأت الفوضى في المكان، كنت جالسا ً على إحدى الأرائك الجانبية في المكتب الواسع أتحدث مع أحد الزملاء، عندما لاحظت حركة بحث بين المقاعد وتحت الطاولات، ليتبين وجه زيد المحتقن، ولنفهم أنه يبحث عن ( الذاكرة المحمولة) – Flash Memory - خاصته.

- كانت معي قبل قليل، ولا أدري أين سقطت مني !!!

- هل أنت متأكد أنك أتيت بها؟ ربما نسيتها في المنزل.

- لا... لا... كانت هنا، وضعتها على المكتب قبل قليل، سبحان الله، كانت هنا قبل دقائق ثم اختفت.

شعرت بتوجس - هل فعلها سليمان المجنون؟ -، ولكن هذا ليس وقت مشاجرات طفولية، كما أن الخلافات لا يجب أن تنحرف لتمس العمل.

- المشكلة هي أن تقريري كان عليها، عمل ليلة كاملة.

- أليس لديك نسخة أخرى؟ - كانت هذه من ناصر -.

- لا... لدي نسخة قديمة أجريت عليها الكثير من التعديلات البارحة، كانت هنا قبل قليل.

- لا وقت لهذا الآن – قالها ناصر بضيق ظاهر - أبدأ بالتعديل على تقريرك القديم، وسأجعلك الأخير في العرض.

وهكذا خرج زيد من المكتب وفي عينيه غضب يومه العصيب، مررت به وهو منشغل بالتعديل وأصابعه تتقافز على لوحة المفاتيح، وبعد لحظات دخل سليمان المكتب وهو يحمل بين يديه كوبا ً من القهوة يرتشفه باستمتاع، واقترب من زيد وهو يقول بهدوئه الخبيث:

- هل تحتاج إلى مساعدة؟

- لا... لا... مشكور، الأمر هين وبسيط، يبدو أني نسيت الذاكرة في البيت، عموما ً التعديلات بسيطة ولا تحتاج سوى نصف ساعة بإذن الله - قال هذا بهدوء مصطنع، وهو يركز عينيه في الشاشة ومن دون أن ينظر لسليمان -.

ولكن ارتباكه ونقص تقريره كان واضحا ً في العرض، ولولا أن تقريره كان الأخير، وأن المدراء قد ملوا من الافتراس، وإلا لكان وجبة شهية للجميع.

في الغد استدعى رئيس القسم كلا ً من زيد وسليمان لمكتبه، لم يخبرنا أحد منهما بما دار في المكتب، ولكن يمكننا استنتاج أنه كان مزيجا ً من التوبيخ والتهديد للاثنين إن واصلا معاركهما السخيفة، والتي وصلت حدا ً لا يمكن تجاوزه، وأظن أن ناصر قد لمس في ذلك الاجتماع الهوة الهائلة التي صارت تفصل بين الاثنين، ورأى بوضوح لون الأيام القادمة بينهما، ولذا كان قراره التالي – والذي رحب به الاثنان – هو السماح لزيد بالانتقال إلى إدارة أخرى.

واليوم يضاف للحكاية فصول جديدة، فعندما تولت إدارتنا قبل مدة، مهمة تصميم برنامج جديد لصالح الإدارة التي انتقل إليها زيد، كان زيد هو الخيار الأول والأفضل للعمل معنا بالنسبة لمدير تلك الإدارة بحكم خبرته السابقة في إدارتنا، وخبرته الحالية في الإدارة الجديدة، وهكذا وجد زيد وسليمان نفسيهما معا ً من جديد، ووجدت نفسي – بضغط خفي من سليمان – عضوا ً في الفريق بمهمة غير معلنة، وهي التأكد من أن لا يقتل أحدهما الآخر.

وها نحن الآن – بعدما جاء زيد متأخرا ً، وهو يحمل كوبا ً بيده يظهره بمظهر اللامبالي، وبعدما قلب سليمان أوراقه لفترة لا بأس بها كأنه لم ينتبه لقدوم زيد – نبدأ اجتماعنا، كان هدف الاجتماع توزيع الأعمال التي تم إقرارها في خطة العمل على أعضاء الفريق، وبما أن سليمان وزيد كانا لا يرغبان في العمل سوية ً في أي مرحلة من مراحل المشروع، فلذا وجدت اسمي يصير مرادفا ً لاسم أحدهما في كل مرحلة من المراحل، من سيقوم بالتحليل والاجتماع بالمستخدمين ودراسة احتياجاتهم؟ زيد وأنا، من سيقوم بتصميم النظام وبرمجته؟ سليمان وأنا، من سيقوم باختبار النظام بعد ذلك وتطبيقه على المستخدمين؟ زيد وأنا، من سيقوم بتدريب المستخدمين عليه؟ سليمان وأنا، ومن سيقوم بصناعة دليل الاستخدام للنظام؟ سليمان وأنا، كانا قد تدبرا أمرهما بحيث لا يتواجدان معا ً إلا في هذه الاجتماعات الباردة والقصيرة.

* * *

ربما لأني كنت متعبا ً جدا ً، تعب يفوق رغبتي في ملاحقة قوافي ( ذياب الجرادي)، وحكايات الجد الضائعة بين السطور، ربما لأن ذلك المساء كان كئيبا ً بسمائه التي اصفرت بالغبار، وبروحي التي دهمها خواء غريب، وربما لهذا وذاك وجدتني أصطحب كوبي الممتلئ شايا ً إلى غرفة الجلوس حيث كانت لينا تتابع مسلسلا ً تلفزيونيا ً في الظلام الذي يخففه نور الشمس المتسلل عبر الستائر النصف مسدلة.

كانت جالسة بطريقتها إياها، طريقة أصغر مساحة ممكنة، حيث تضم قدميها تحتها، وبين يديها وسادة صغيرة تضمها إلى صدرها، وفمها نصف فاغر، وعيناها تلاحقان الترجمة والأبطال.

جلست إلى جانبها بطريقتي – أكبر مساحة ممكنة، حيث كل قدم في اتجاه – وجعلت أرتشف الشاي وأنا أتأمل المسلسل بلا اهتمام تحول إلى سأم بعد دقائق – يدور حول محقق في قضية امرأة انتشلت جثتها من نهر، يجد تحت أظافرها مادة ما، ويتنقل طيلة الحلقة من مكان إلى مكان، المكتب، المشرحة، سيارته، النهر، بيت امرأة ما تبدو مخبولة، مشاهد سريعة، كل مشهد يستغرق دقائق قليلة، ولكنه يمنحنا ضوء ً يقود إلى نهاية الحكاية -.

اتكأت بعدما انتهيت من الكوب جانبا ً بحيث صارت لينا في مجال نظري، وجعلت أتأملها عوضا ً عن متابعة المسلسل الممل، كانت الأضواء المنبعثة من الشاشة تنعكس على ملامحها، فتمنح عينيها ظلا ً طويلا ً، وتخفي تفاصيل الوجه ما عدا الشفتين اللتين تبدوان أجمل في الظلمة، أما الجسد فقد كان بارزا ً ومجسما ً تحت ثياب النوم التي ترتديها، هل هي جميلة؟ سؤال لم أجب عليه حتى الآن منذ تزوجتها، ربما لأنه لم يلح علي كما ألحت أسئلة أخرى، وربما لأني أجد في ملامحها لونا ً من الجمال، ولونا ً من القبح، وعندما يختلط اللونان لا أجد في نفسي تلك الحاجة الملحة لتمييز اللون الناتج.

التفتت إلي وابتسمت لنظراتي الشاردة:

- ماذا هناك؟

- ماذا؟ - وأنا أخلص ذهني من حكاية الألوان -.

- لا أدري... لم تنشغل بقراءاتك وكتاباتك كالعادة، وها أنت تحدق بي بدلا ً من التلفاز، هل أنت بخير؟

- أنا بخير - قلتها وأنا أستعيد كوبي وأنهض لأصنع آخر -.

ثم أردفت وأنا أغادر الغرفة:

- ربما كنت أحدق بك ِ لأنك ِ أكثر جاذبية من المسلسل.

وكدت أرى ابتسامتها في خيالي.

* * *

من هنا تبدو الغابة سخية في اخضرارها، وظل الجبل الطويل يسقط عليها ليمنحها عتمة جميلة، الدرب النازل إلى النهر يمتد أمامي تكلله ورود ملونة، والأرض مغسولة بمطر توقف قبل لحظات قلائل، وإن لم يخلف ورائه بركا ً صغيرة أو وحلا ً ثقيلا ً.

بدا لي المكان مناسبا ً لاستقبال البطل الثائر، ربما أضيف فيما بعد مطرا ً رذاذيا ً لأرضي شهوة المطر في جلدي الشرقي، إلا أنني راض ٍ عن الحال الآن.

كان واقفا ً يتأمل الموجودات من حولنا ويتنفس الهواء المنعش بعمق، تحرك نازلا ً الدرب فلحقت به، وأنا أقول بابتسامة معتذرة:

- ماذا الآن؟ هل أنت غاضب لرحيلي المستعجل البارحة.

- ولم َ أغضب !!! أنت حر في قدومك ورحيلك، كما أنا حر في الكلام معك أو تجاهلك، هناك - وهو يشير للنهر أمامنا - أشياء يمكنني الاستمتاع بها أكثر.

- أنا آسف... ولكني كنت متعبا ً جدا ً البارحة، وحوارنا لم يكن وديا ً أو خفيفا ً.

تجاهلني وقد وصلنا إلى النهر، وتبدى لنا جسر صغير يصل بين ضفتيه، فاندفع ليقف في منتصف الجسر ويتأمل مياهه الرائقة والأحجار الراقدة في أعماقه، والمخلوقات التي تتجول بينها.

- هل هذه رشوة؟ - قال بابتسامة لئيمة - الغابة والنهر والجسر وهذه الأسماك والصخور، هل تحاول أن ترشوني بهذا كله؟

- لا... أنت سخرت من لقائنا في المقهى في المرة الماضية، فاستبدلته بهذا المكان الذي سرقت معظم تفاصيله من صورة قديمة اعتدت أن أضعها خلفية لجهازي.

- عموما ً... لو كانت رشوة فهي رشوة غير متقنة.

- كيف؟

- ربما أنت كاتب جيد ولكنك فاشل ولا ريب في الطبيعة والفيزياء، نهر بهذا العرض - وفتح ذراعيه - لا يمكن لمياهه أن تكون بهذا الصفاء والرقة، لابد أن تكون كثيرة ومتدفقة حتى تحفر لها هذا المجرى كله، وهذا الجسر !!! ما الذي يجعله لا يسقط في النهر؟ هل ظننت أن تثبيته بين الضفتين كاف ٍ على هذا الارتفاع الضئيل؟ جسر بهذا العرض، وبلا أعمدة تسنده، ليس إلا جسرا ً طافيا ً في خيالك - وضحك باستمتاع -.

- أرى أنك بدأت تستمتع بالمكان، ربما يروق لك أن نلتقي في المرة القادمة في المقعد الخلفي لسيارة أجرة يقودها باكستاني متهور.

- لا بأس، سيكون حينها أقرب للتصديق.

عاد لصمته، وجعل يتجول على طول الجسر متأملا ً، وراكلا ً للحصى الصغير الذي يجده في طريقه، وعندما عاد إلى حيث أقف، كان قد عاوده تجهمه، قال:

- هذا لن يصلح.

- ماذا؟

- هذه الحال، أن أكون جزء ً بسيطا ً من يومك تأوي إليه عندما يعن لك ذلك، وتفر منه عندما يدركك التعب.

- وماذا تريد؟

- أخرجني من هنا... حررني من سجني هذا... أرجوك.