عرض مشاركة واحدة
قديم 23-01-2009, 01:46 AM   رقم المشاركة : 7
أنا راحل
( ود جديد )
 





أنا راحل غير متصل










5

الخميس، المنزل خال ٍ الآن، وبين يدي تستقر جريدة الأمس التي لم أنهي قراءتها بعد، وتحتها - مطوية بفظاظة عوجت صفحتها الأخيرة - ترقد جريدة اليوم، تنتظر دورها، ومزاجي تعكره عمليات هضم متعسرة للإفطار الثقيل الذي أعدته لينا قبل أن أقلها إلى منزل أهلها، حيث تمضي خميسها دوما ً.

كان هذا الترتيب يمنحني الخميس بطوله، حتى ينتصف ليله، وتنتقل عهدته ليوم آخر جديد، عندها أستعيد لينا إلى أيامي الممزوجة بأيامها.

هذا التغيير البسيط – زيارة لينا لأهلها وخلو البيت واليوم منها -، كنت أتبعه بتغييرات أخرى، تجعل من يوم الخميس يوما ً مغايرا ً ومرتقبا ً في كرة الأيام، فمن خلاصي من العمل وتراكمه، إلى تخلصي من الأنشطة التي تعتاد أيامي الأخرى وتثقلها، يصير الخميس يوما ً هادئا ً، خفيفا ً، لا يحدث فيه شيء تقريبا ً، يوم بلا أي التزام أو خطط مسبقة، ما خلا موعدي المسائي مع صديقي الشاعر.

دفعت الصحيفة جانبا ً وقد أدركني الملل من أخبارها أخيرا ً، ومددت قدمي فيما تراجعت لأتكئ بظهري على الجلسة الأرضية المرتفعة قليلا ً، بحثت أصابعي عن جهاز التحكم لأجول قليلا ً بين القنوات الصباحية بمذيعيها المتثائبين – في خيالي طبعا ً، حيث يلبسهم ذهني لبوس الحالة التي أمر فيها -.

من قنوات إخبارية متراصة الواحدة تلو الأخرى، إلى قنوات منوعات يطل منها طباخون يعرضون وصفات لم تستهوني يوما ً، إلى مذيعات جميلات – الغريب أنهن لا يتثاءبن أبدا ً في ذهني – بضيوف كئيبين – هؤلاء يكادون يغطون نوما ً -، إلى قنوات رياضية بلاعبين لا يتوقفون عن الركض مهما كانت الظروف – نهارا ً كان الوقت أو ليلا ً، صحوا ً كان الجو أو غيما ً، أو مطرا ً يغرق الأرض واللاعبين والمشاهدين -، ودائما ً وأبدا ً شعورهم طويلة محلولة يعبث بها الهواء والماء، إلى قنوات قرآنية يزين بثها صوت أحد المقرئين، وترتسم الآيات على الشاشة، وسط حديقة مزهرة أو بحيرة زرقاء، عذبة السكون.

بعد أن أكملت دورة ونصف، وتثاءب أمامي كلا ً من ( بان كي مون)، ( بيار الجميل)، ( ماثيو بيري)، ( عزت العلايلي) و( جميس وودز) أطفأت التلفاز وألقيت بجهاز التحكم.

أغلقت عيني وغرقت في صمت الخميس وسكونه المبهج.

* * *

اخترت طاولة قصية، يبلل سطحها رذاذ الماء الذي يرطب حرارة الصيف، في هذا المقهى الذي تحولنا إليه بعدما صار الوصول إلى مقهانا المعتاد صعبا ً بكل تلك الحفر والرمل والحصى الصغير الذي يتسلل إلى نعالنا، ويجعل الشتائم من فم حسن لا تطاق.

هذا ما أسميه ( الفارق الفاتن)، قلتها لحسن الخميس الفائت وأنا أشير إلى الطاولات الأقرب مما يجب لرشاشات الماء، قريبة حد البلل، هذا مشهد لم نكن نراه في مقهانا السابق، وأيضا ً – وأنا أهز الطاولة بأصبعي – لعنة الطاولات المعدنية في الأماكن المفتوحة، أرض غير مستوية أو ساق أقصر مما يجب، وهذا يعني جلوسا ً قلقا ً في مكان يفترض به أن يقدم لك جلوسا ً مريحا ً، هذا غير قائمة الطلبات العتيقة الطراز والخيال، والأكواب التي تنم عن ذوق رديء وهوس بشعار المحل – حيث نجده في كل مكان، كأنما يخشون أن ننسى، ونحن لا ننسى، كيف ننسى ما يحوم حولنا على ظهور الندل وصدورهم، وعلى المناديل، والطاولات، وفي قعر منفضة السجائر التي لم يزرها الرماد بعد -، ثم المذاق يا صاحبي، مذاق القهوة، لا... ليس ذاك الذي تجده في طرف لسانك، فالسكر يخدعك، والبن يخدعك، والحليب من بعد ذلك يخدعك، وإنما ذلك المذاق الذي تجده في حلقك بعد كل رشفة، وفي مريئك وأمعائك عندما تأوي إلى فراشك ليلا ً يهدهدك النعاس والتعب.

هذا هو ( الفارق الفاتن) الذي يخفي ورائه صانعي راحة حقيقيين، قبل أن يكونوا صانعي قهوة فذين، والذي لم تنتبه له أنت في كل مرة ثرثرنا فيها هناك، واحتاج الأمر إلى مشروع ( توسيع أرصفة المشاة) هذا، لتجد البلل في طاولتك، ولذعة البن في حلقك، ووحشته في أحشاءك عندما يتخلى الليل عن وجهه الجميل.

ضحك حسن حينها وقال أن هوسي بالتفاصيل سيجني علي بأسرع مما ستجني عليه سجائره، وأنه لا يوجد فارق فاتن إلا في ذهني المكدود، وأنه كان ولازال يجد لذعة البن وحرارته في كل ليلة.

قلت وأنا أبتسم أن الشعر يحجبه عن العالم، ومن يدري ربما يجد هو ( الفارق الفاتن) بين القصائد التي تبدو لي متشابهة، قال بخبث أنه وجد فارقه الفاتن بين أبيات ( ذياب الجرادي)، فلعنت أنا الليلة التي أخبرته فيها عنه.

وها أنا بساق على ساق أقلب ببطء وبقراءة متقطعة رواية هادئة لا يحدث فيها شيء تقريبا ً، وارتشف قهوة ( المخا) التي جابت العالم ثم عادت إلينا باسم أجمل وأخف وقعا ً – موكا -، وانتظر.

يمكن لحسن أن لا يأتي هذه الليلة، يمكن له باتصال قصير وكلمات مختلطة تنم عن عجلة – أعرف أنه يدعيها أحيانا ً – أن يعتذر عن اللقاء، يمكن أن لا أخرج من ليلتي هذه إلا بكوب قهوة وتأملات في الناس والأشياء من حولي في هذا الشارع المائج، ولكني مع ذلك أخرج بليلة راضية، جميلة، وصديق أعرف أنه حريص على لقائي حتى وإن لم يأتي.

أغلقت كتابي، وجذبت طرف ثوبي من تحتي لأفرد تجعده وأنا أرى حسن يوقف سيارته في الجهة الأخرى من الشارع، أشرت إلى النادل القريب وقلت ( موكا) وهو في نصف طريقه إلي فعاد أدراجه – لأوفر عشر دقائق يقلب فيها حسن القائمة، ومن ثم يقول بلا مبالاة ( اختر لي أنت) -.

- مساء الربيع - قالها بعد السلام وأسئلة اللقاء الأولى -.

- مساء الهمس – بابتسامة -.

- وهمسها يشجيني فينسيني ما قبله من حروفي وألواني، فأنسى العهود وأنسى كل لائحة سطرتها أنغامي وألحاني - رد بابتسامة -.

كانت هذه عادته التي سخرت منها ذات يوم – في حرب السخرية المتبادلة بيننا -، يلتقط أي كلمة لينشأ حولها بيتا ً أو يستعيده من ذاكرته الشعرية الممتدة.

- ألم ينتهي العمل في مقهاك الفاتن؟ - وأشار بيده تجاه المقهى الذي يمكننا تمييز أنواره على الطرف الآخر والأبعد من الشارع -.

- سينتهي قريبا ً بإذن الله، ونعود حينها للمتع الصغيرة.

ابتسم ولم يعلق وقد صارت قهوته بين يديه.

- كيف حال كتابك؟ - سأل وهو يحرك الكوب بملعقته -.

- آه... لازلت أخوض بين الأوراق، وأفتش عن الأخبار التائهة لهذا الجد... وأنت كيف حال قصيدتك؟

تشاغل بتلمس عروة كوبه بسبابته، قبل أن يزفر ويقول وهو يحول وجهه إلى الشارع، حيث مرت سيارة طافحة بركابها، يزعق من مسجلها مغن ٍ أسود ٍ عنيف الصوت:

- تنمو ببطء يا صاحبي، ببطء.

- أين صار الملك الآن؟

- لازال في حيرته.

- ظننت أنه سيختار المجد !!!

- لا أدري ما الذي سيختاره، ولكني أدري أن حيرته هذه هي التي تصنع الشعر.

- أن يجد الإنسان نفسه – أكمل – بين خيار الموت / الخلود أو الحياة / العار، هنا يمكن للشاعر أن يتمدد، أخبرتك من قبل عن رأيي في القصيدة، وهذا الموضع من المواضع التي يمكن لها أن تستثيرني، وتمنحني مسارب كثيرة، أخرج بواسطتها لأصنع ما يشبه قصائد مستقلة في بنيتها، وإن كانت مضمنة في القصيدة الكبيرة التي أعمل عليها، ومن ثم أعود إلى ذات النقطة، الملك الحائر، أو عفوا ً – وأشار بيده مصححا ً – الشاعر الحائر الذي وجد نفسه ملكا ً.

- هل أحضرت جديدك؟

- بالتأكيد يا أبا فريد – لست أبا فريد بالطبع، ولكنها طريقة حسن الغريبة في منحي أي كنية تخطر على باله لحظتها -، سأقرأ عليك بعض ما كتبته.

* * *

فرسان من فخار

1

تترقبون أعرف ذلك
تترقبون
وبلا حماس تتقاتلون
ويملأ الفضاء انتظار مميت
وجئتم بدمع اليتامى
وألسنة النساء
وجوع العجائز الخائفات
تسألون...
أيها الملك العظيم، متى ننتهي؟
متى يعود الرجال إلى الحقول؟
متى تتعاقب علينا الفصول؟
فإنا في شتاء طويل

2

منذ البداية
عرفنا جميعا ً أن النهاية
بدم الملك
وكان أبي الملك العجوز
الذي مات على فراشه
عندما غاب القمر
وأورثني الملك والموت المنتظر
فجاءوني بثيابه، وخيوله، وكتابه
وهتفوا باسمي
وسكوا على المال رسمي
ونقشوا ملامح وجهي على بوابة المعبد الكبير
ولكنهم في ثياب المٌلك لفوا لي الحكاية
بأنها اقتربت النهاية
وأن بيني وبين المجد خطوتين
أو طعنتين
وأن الجيوش إذا تلاقت فليس للدماء مسيل
إذا ما شرعت سيفي ومضيت لأذيق الموت
ولأذوقه بعد حين
ووعدوا إذا مت أن يحملوا رأسي بفخار
وأن يغسلوه بماء ويكللوه بغار
وأن يدفنوا جسدي حيث دفنوا ملوك البلاد
في باطن الجبل
في سرداب الخالدين

3

يتقاتلون برفق
كأنهم فرسان من فخار
وينتظرون...

* * *

انتهى الليل، انصرف حسن بكتابه الأزرق وملكه الحائر، فعدت أخترق شوارع الرياض، تملؤني هذه القصيدة التي بدأت منذ مدة لا أذكرها.

أذكر فقط أن حسن تخلص من الأبيات الطارئة، والقصائد القصيرة التي كان يخربشها على أوراق منسية، وقرر أن يكتب قصيدة كبيرة.

لم أفهم حينها معنى " قصيدة كبيرة"، حتى بدأ يصطحب معه كتابه الأزرق، وبدأت أرى المخططات التي يضعها لهذه القصيدة، رأيت ما أسماه البناء الداخلي، والبناء الخارجي، الرموز الغامضة التي كان يشفر بها بعض معاني قصيدته، المقاطع التي كان يكتبها فتبدو لي كقصائد منفصلة، ولكنه يعود ليلحمها فتصير جزء من القصيدة الكبيرة والنامية ببطء.

كان أبرز ملامح قصيدته، حكاية الأمير الشاب، الذي ورث الملك من أبيه العجوز الغارق في حرب طويلة، وورث معه نبوءة قديمة، بأن الحرب لن تنتهي إلا بأن يقتل الملك في مبارزة، مما جعله أمام أحد خيارين إما الاستمرار في الحرب وعدم المخاطرة بنفسه، أو التقدم للمبارزة والتضحية بروحه من أجل شعبه.

كنت أعرف أن حسن مختبئ وراء كلمات القصيدة، وأن حيرة الملك هي حيرته هو، علاقتي القديمة به، منذ أيام الدراسة الثانوية، كانت تخبرني بأن هناك أسرار مدفونة في القصيدة، وأن علي أن انتظر اللحظة التي تكشف فيها القصيدة نفسها.