عرض مشاركة واحدة
قديم 24-06-2014, 03:03 AM   رقم المشاركة : 9
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏91 ‏:‏ 92‏)‏
‏{‏ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون ‏.‏ ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ‏}‏

هذا مما يأمر اللّه تعالى به وهو الوفاء بالعهود والمواثيق والمحافظة على الأيمان المؤكدة، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها‏}‏، ولا تعارض بين هذا وبين قوله‏:‏ ‏{‏ولا تجعلوا اللّه عرضة لأيمانكم‏}‏ الآية، وبين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم‏}‏ أي لا تتركوها بلا كفارة، وبين قوله عليه السلام فيما ثبت عنه في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ ‏(‏إني واللّه - إن شاء اللّه - لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها، وفي رواية‏:‏ وكفرت عن يميني‏)‏ لا تعارض بين هذا كله ولا بين الآية المذكورة ههنا وهي قوله‏:‏ ‏{‏ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها‏}‏، لأن هذه الأيمان المراد بها الداخلة في العهود والمواثيق، لا الأيمان التي هي واردة على حث أو منع؛ ولهذا قال مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها‏}‏ يعني الحلف، أي حلف الجاهلية‏.‏ ويؤيده ما رواه الإمام أحمد عن جبير بن مطعم قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية فإنه لا يزيد الإسلام إلا شدة‏)‏ ‏"‏رواه أحمد ومسلم عن جبير بن مطعم مرفوعاً‏"‏، ومعناه أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه، فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه‏.‏ وقال ابن جرير، عن بريدة في قوله‏:‏ ‏{‏وأوفوا بعهد اللّه إذا عاهدتم‏}‏ قال‏:‏ نزلت في بيعة النبي صلى اللّه عليه وسلم، كان من أسلم بايع النبي صلى اللّه عليه وسلم على الإسلام، فقال‏:‏ ‏{‏وأوفوا بعهد اللّه إذا عاهدتم‏}‏ هذه البيعة التي بايعتم على الإسلام، ‏{‏ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها‏}‏ لا يحملنكم قلة محمد وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن اللّه يعلم ما تفعلون‏}‏ تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا‏}‏‏.‏ قال السدي‏:‏ هذه امرأة خرقاء كانت بمكة كلما غزلت شيئاً نقضته بعد إبرامه، وقال مجاهد وقتادة هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده، وهذا القول أرحج وأظهر، سواء كان بمكة امرأة تنقض غزلها أم لا، وقوله‏:‏ ‏{‏أنكاثا‏}‏ أي أنقاضاً، ‏{‏تتخذون أيمانكم دخلا بينكم‏}‏ أي خديعة ومكراً ‏{‏أن تكون أمة هي أربى من أمة‏}‏ أي تحلفون للناس إذا كانوا أكثر منكم ليطمئنوا إليكم، فإذا أمكنكم الغدر بهم غدرتم، فنهى اللّه عن ذلك لينبه بالأدنى على الأعلى، قال ابن عباس ‏{‏أن تكون أمة هي أربى من أمة‏}‏‏:‏ أي أكثر، وقال مجاهد‏:‏ كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعز، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز فنهوا عن ذلك، وقوله‏:‏ ‏{‏إنما يبلوكم اللّه به‏}‏ قال ابن جرير‏:‏ أي بأمره إياكم بالوفاء بالعهد ‏{‏وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون‏}‏ فيجازي كل عامل بعمله من خير وشر‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏93 ‏:‏ 96‏)‏
‏{‏ ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون ‏.‏ ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم ‏.‏ ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله خير لكم إن كنتم تعلمون ‏.‏ ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ‏}‏

يقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ولو شاء اللّه لجعلكم‏}‏ أيها الناس ‏{‏أمة واحدة‏}‏ أي لوفق بينكم ولما جعل اختلافاً ولا تباغض ولا شحناء، ‏{‏ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء‏}‏ ثم يسألكم يوم القيامة عن جميع أعمالكم فيجازيكم عليها على الفتيل والنقير والقطمير؛ ثم حذر تعالى عباده عن اتخاذ الأيمان دخلاً‏:‏ أي خديعة ومكراً لئلا تزل قدم ‏{‏بعد ثبوتها‏}‏ مثلٌ لمن كان على الاستقامة فحاد عنها، وزل عن طريق الهدى بسبب الأيمان الحانثة، المشتملة على الصد عن سبيل اللّه، لأن الكافر إذا رأى أن المؤمن قد عاهده ثم غدر به لم يبق له وثوق بالدين، فيصد بسببه عن الدخول في الإسلام، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل اللّه ولكم عذاب عظيم‏}‏، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تشتروا بعهد اللّه ثمنا قليلا‏}‏ أي لا تعتاضوا عن الأيمان باللّه عرض الحياة الدنيا وزينتها، فإنها قليلة ولو حيزت لابن آدم الدنيا بحذافيرها لكان ما عند اللّه هو خير له، أي جزاء اللّه وثوابه خير لمن رجاه وآمن به، وطلبه وحفظ عهده رجاء موعوده، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إن كنتم تعلمون * ما عندكم ينفد‏}‏ أي يفرغ وينقضي فإنه إلى أجل معدود، ‏{‏وما عند اللّه باق‏}‏ أي وثوابه لكم في الجنة باق لا انقطاع ولا نفاذ له، فإنه دائم لا يحول ولا يزول ‏{‏ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون‏}‏ قسم من الرب تعالى مؤكد باللام أنه يجازي الصابرين بأحسن أعمالهم أي ويتجاوز عن سيئها‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏97‏)‏
‏{‏ من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ‏}‏

هذا وعد من اللّه تعالى لمن عمل صالحاً، وهو العمل المتابع لكتاب اللّه وسنة نبيّه صلى اللّه عليه وسلم، من ذكر أو أنثى من بني آدم وقلبه مؤمن باللّه ورسوله، بأن يحييه اللّه حياة طيبة في الدنيا، وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الآخرة، والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت، وقد روي عن ابن عباس وجماعة أنهم فسروها بالرزق الحلال الطيب‏.‏ وعن علي ابن أبي طالب رضي اللّه عنه فسرها بالقناعة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ إنها هي السعادة، وقال الحسن ومجاهد وقتادة‏:‏ لا يطيب لأحد حياة إلا في الجنة، وقال الضحاك‏:‏ هي الرزق الحلال والعبادة في الدنيا‏.‏ والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عبد اللّه بن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً، وقنعه اللّه بما آتاه‏)‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏قد أفلح من هدي للإسلام وكان عيشه كفافاً وقنع به‏)‏ ‏"‏أخرجه أحمد والترمذي والنسائي‏"‏‏.‏ وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد، حدثنا همام عن يحيى عن قتادة عن أنَس بن مالك قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن اللّه لا يظلم المؤمن حسنة يعطى بها في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطى بها خيراً‏)‏ ‏"‏أخرجه أحمد ومسلم في صحيحه‏"‏‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏98 ‏:‏ 100‏)‏
‏{‏ فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ‏.‏ إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ‏.‏ إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ‏}‏

هذا أمر من اللّه تعالى لعباده على لسان نبيّه صلى اللّه عليه وسلم، إذا أرادوا قراءة القرآن أن يستعيذوا باللّه من الشيطان الرجيم، وهذا أمر ندب ليس بواجب، حكى الإجماع على ذلك أبو جعفر بن جرير وغيره من الأئمة‏.‏ وقد قدمنا الأحاديث الواردة في الاستعاذة مبسوطة في أول التفسير وللّه الحمد والمنة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون‏}‏ قال الثوري‏:‏ ليس له عليهم سلطان أن يوقعهم في ذنب لا يتوبون منه، وقال آخرون‏:‏ معناه لا حجة له عليهم، وقال آخرون كقوله‏:‏ ‏{‏إلا عبادك منهم المخلصين‏}‏، ‏{‏إنما سلطانه على الذين يتولونه‏}‏‏.‏ قال مجاهد‏:‏ يطيعونه، وقال آخرون‏:‏ اتخذوه ولياً من دون اللّه ‏{‏والذين هم به مشركون‏}‏، أي أشركوا في عبادة اللّه، ويحتمل أن تكون الباء سببية أي صاروا بسبب طاعتهم للشيطان مشركين باللّه تعالى‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏101 ‏:‏ 102‏)‏
‏{‏ وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون ‏.‏ قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين ‏}‏

يخبر تعالى عن ضعف عقول المشركين وقلة ثباتهم وإيقانهم وأنه لا يتصور منهم الإيمان، وقد كتب عليهم الشقاوة وذلك أنهم إذا رأوا تغير الأحكام ناسخها بمنسوخها قالوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏{‏إنما أنت مفتر‏}‏ أي كذاب، وإنما هو الرب تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏وإذا بدلنا آية مكان آية‏}‏‏:‏ أي ورفعناها وأثبتنا غيرها‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما ننسخ من آية أو ننسها‏}‏ الآية، فقال تعالى مجيباً لهم‏:‏ ‏{‏قل نزله روح القدس‏}‏ أي جبريل ‏{‏من ربك بالحق‏}‏ أي بالصدق والعدل، ‏{‏ليثبت الذين آمنوا‏}‏ فيصدقوا بما أنزل أولاً وثانياً وتخبت له قلوبهم، ‏{‏وهدى وبشرى للمسلمين‏}‏ أي وجعله هادياً وبشارة للمسلمين الذين آمنوا باللّه ورسله‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏103‏)‏
{‏ ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي
وهذا لسان عربي مبين ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن المشركين ما كانوا يقولونه من الكذب والافتراء والبهت أن محمداً إنما يعلمه هذا الذي يتلوه علينا من القرآن بشر، ويشيرون إلى رجل أعجمي كان بين أظهرهم، غلام لبعض بطون قريش، وكان بياعاً يبيع عند الصفا، وربما كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يجلس إليه ويكلمه بعض الشيء، وذاك كان أعجمي اللسان لا يعرف العربية، فلهذا قال اللّه تعالى راداً عليهم في افترائهم ذلك‏:‏ ‏{‏لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين‏}‏ أي القرآن، أي فكيف يتعلم من جاء بهذا القرآن في فصاحته وبلاغته ومعانيه التامة الشاملة التي هي أكمل من معاني كل كتاب نزل على بني إسرائيل، كيف يتعلم من رجل أعجمي‏؟‏ لا يقول هذا من له أدنى مسكة من العقل‏.‏ قال محمد بن إسحاق‏:‏ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - فيما بلغني - كثيراً ما يجلس عند المروة إلى غلام نصراني يقال له جبر عبد لبعض بني الحضرمي، فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين‏}‏‏.‏ وعن عكرمة وقتادة كان اسمه يعيش ، وقال ابن جرير، عن ابن عباس قال‏:‏ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعلم قيناً بمكة، وكان اسمه بلعام، وكان أعجمي اللسان، وكان المشركون يرون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدخل عليه ويخرج من عنده، فقالوا‏:‏ إنما يعلمه بلعام، فأنزل اللّه هذه الآية‏:‏ ‏{‏ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين‏}‏‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏104 ‏:‏ 105‏)‏
‏{‏ إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم ‏.‏ إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون ‏}‏

يخبر تعالى أنه لا يهدي من أعرض عن ذكره، وتغافل عما أنزله على رسوله صلى اللّه
عليه وسلم ولم يكن له قصد إلى الإيمان بما جاء من عند اللّه، فهذا الجنس من الناس لا يهديهم اللّه إلى الإيمان بآياته، وما أرسل به رسله في الدنيا ولهم عذاب أليم موجع في الآخرة، ثم أخبر تعالى أن رسوله صلى اللّه عليه وسلم ليس بمفتر ولا كذاب لأنه إنما يفتري الكذب على اللّه وعلى رسوله صلى اللّه عليه وسلم شرار الخلق
{‏الذين لا يؤمنون بآيات اللّه‏}‏ من الكفرة والملحدين المعروفين بالكذب عند الناس، والرسول محمد صلى اللّه عليه وسلم كان أصدق الناس، وأبرهم وأكملهم علماً وعملاً، وإيماناً وإيقاناً، معروفاً بالصدق في قومه لا يشك في ذلك أحد منهم، بحيث لا يدعى بينهم إلا بالأمين محمد؛ ولهذا قال هرقل ملك الروم، لأبي سفيان‏:‏ فما كان ليدع الكذب على الناس ويذهب فيكذب على اللّه عزَّ وجلَّ ‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏106 ‏:‏ 109‏)‏
‏{‏ من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ‏.‏ ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين ‏.‏ أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون ‏.‏ لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون ‏}‏

أخبر تعالى عمن كفر به بعد الإيمان والتبصر وشرح صدره بالكفر، واطمأن به، أنه قد غضب عليه لعلمهم بالإيمان ثم عدولهم عنه، وأن لهم عذاباً عظيماً في الدار الآخرة، لأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، فأقدموا على ما أقدموا عليه من الردة لأجل الدنيا، ولم يهد اللّه قلوبهم ويثبتهم على الدين الحق، فطبع على قلوبهم، فهم لا يعقلون بها شيئاً ينفعهم، وختم على سمعهم وأبصارهم فلا ينتفعون بها، فهم غافلون عما يراد بهم، ‏{‏لا جرم‏}‏ أي لا بد ولا عجب أن من هذه صفته، ‏{‏أنهم في الآخرة هم الخاسرون‏}‏ أي الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة - وأما قوله‏:‏ ‏{‏إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان‏}‏ فهو استثناء ممن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه مكرهاً لما ناله من ضرب وأذى وقلبه يأبى ما يقول، وهو مطمئن باللإيمان باللّه ورسوله‏.‏ وقد
روي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر حين عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد صلى اللّه عليه وسلم، فوافقهم على ذلك مكرهاً، وجاء معتذراً إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فأنزل اللّه هذه الأية‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه، حتى قاربهم في بعض ما أرادوا، فشكا ذلك إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كيف تجد قلبك‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ مطمئناً بالإيمان، قال النبي صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن عادوا فعد‏)‏، وفيه أنه سب النبي صلى اللّه عليه وسلم، وذكر آلهتهم بخير، فشكا ذلك إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏كيف تجد قلبك‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ مطمئناً بالإيمان، فقال‏:‏ ‏(‏إن عادوا فعد‏)‏، وفي ذلك أنزل اللّه‏:‏ ‏{‏إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان‏}‏، ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي إبقاء لمهجته، ويجوز له أن يأبى كما كان بلال رضي اللّه عنه يأبى عليهم ذلك وهم يفعلون به الأفاعيل، حتى إنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر ويأمرونه بالشرك باللّه فيأبى عليهم وهو يقول‏:‏ أحد، أحد، ويقول‏:‏ واللّه لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها، رضي اللّه عنه وأرضاه‏.‏ وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسيلمة الكذاب‏:‏ أتشهد أن محمداً رسول اللّه‏؟‏ فيقول‏:‏ نعم، فيقول‏:‏ أتشهد أني رسول اللّه‏؟‏ فيقول‏:‏ لا أسمع، فلم يزل يقطعه إرباً إرباً وهو ثابت على ذلك‏.‏

والأفضل والأولى أن يثبت المسلم على دينه ولو أفضى إلى قتله؛ كما ذكر الحافظ في ترجمة عبد اللّه بن حذافة السهمي أحد الصحابة أنه أسرته الروم فجاءوا به إلى ملكهم فقال له‏:‏ تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي، فقال له‏:‏ لو أعطتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب على أن أرجع عن دين محمد صلى اللّه عليه وسلم طرفة عين ما فعلت، فقال‏:‏ إذاً أقتلك، فقال‏:‏ أنت وذاك، قال‏:‏ فأمر به فصلب، وأمر الرماة فرموه قريباً من يديه ورجليه، وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى، ثم أمر به فأنزل، ثم أمر بقدر من نحاس، فأحميت وجاء بأسير من المسلمين، فألقاه وهو ينظر، فإذا هو عظام تلوح، وعرض عليه فأبى، فأمر به أن يلقى فيها فرفع في البكرة ليلقى فيها، فبكى، فطمع فيه ودعاه، فقال‏:‏ إني إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة تلقى في هذه القدر الساعة في اللّه، فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في اللّه‏.‏ وفي بعض الروايات‏:‏ أنه سجنه ومنع منه الطعام والشراب أياماً، ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير، فلم يقربه، ثم استدعاه فقال‏:‏ ما منعك أن تأكل‏؟‏ فقال‏:‏ أما إنه قد حل لي، ولكن لم أكن لأشمتك بي، فقال له الملك‏:‏ فقبّلْ رأسي، وأنا أطلقك، فقال‏:‏ وتطلق معي جميع أسارى المسلمين، قال‏:‏ نعم، فقبّل رأسه، فأطلقه، وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده، فلما رجع قال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه‏:‏ حق على كل مسلم أن يقبّل رأس عبد اللّه بن حذافة وأنا أبدأ، فقام فقبل رأسه رضي اللّه عنهما‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏110 ‏:‏ 111‏)‏
‏{‏ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ‏.‏ يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون ‏}‏

هؤلاء صنف آخر كانوا مستضعفين بمكة مهانين في قومهم فوافقوهم على الفتنة، إنهم أمكنهم الخلاص بالهجرة فتركوا بلادهم وأهليهم وأموالهم ابتغاء رضوان اللّه وغفرانه، وانتظموا في سلك المؤمنين، وجاهدوا معهم الكافرين وصبروا، فأخبر تعالى أنه من بعدها أي تلك الفعلة وهي الإجابة إلى الفتنة لغفور لهم رحيم بهم يوم معادهم ‏{‏يوم تأتي كل نفس تجادل‏}‏ أي تحاج ‏{‏عن نفسها‏}‏ ليس أحد يحاج عنها لا أب ولا ابن ولا أخ ولا زوجة ‏{‏وتوفى كل نفس ما عملت‏}‏ أي من خير وشر ‏{‏وهم لا يظلمون‏}‏ أي لا ينقص من ثواب الخير، ولا يزاد على ثواب الشر ولا يظلمون نقيراً‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏112 ‏:‏ 113‏)‏
‏{‏ وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ‏.‏ ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون ‏}‏

هذا مثل أريد به أهل مكة‏؟‏ فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة يتخطف الناس من حولها، ومن دخلها كان آمناً لا يخاف، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا‏}‏، وهكذا قال ههنا‏:‏ ‏{‏يأتيها رزقها رغدا‏}‏، أي هنيئاً سهلاً، ‏{‏من كل مكان فكفرت بأنعم الله‏}‏ أي جحدت آلاء اللّه عليها وأعظمها بعثة محمد صلى اللّه عليه وسلم إليهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة اللّه كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار‏}‏ ولهذا بدلهم اللّه بحاليهم الأولين خلافهما، فقال‏:‏ ‏{‏فأذاقها اللّه لباس الجوع والخوف‏}‏ أي ألبسها وأذاقها الجوع بعد أن كان يجبى إليها ثمرات كل شيء ويأتيها رزقها رغداً من كل مكان، وذلك أنهم استعصوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وأبوا إلا خلافه، فدعا عليهم بسبع كسبع يوسف، فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء لهم، فأكلوا العلهز، وهو وبر يخلط بدمه إذا نحروه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والخوف‏}‏ وذلك أنهم بدلوا بأمنهم خوفاً من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه، حين هاجروا إلى المدينة من سطوته وسراياه وجيوشه، وجعل كل ما لهم في دمار وسفال، حتى فتحها اللّه على رسوله صلى اللّه عليه وسلم وذلك بسبب صنيعهم وبغيهم وتكذيبهم الرسول صلى اللّه عليه وسلم الذي بعثه اللّه فيهم منهم وامتن عليهم في قوله‏:‏ ‏{‏لقد منّ اللّه على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم‏}‏ الآية‏.‏ وهذا الذي قلناه من أن هذا المثل ضرب لأهل مكة قاله ابن عباس، وإليه ذهب مجاهد وقتادة والزهري رحمهم اللّه‏.‏






التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس