عرض مشاركة واحدة
قديم 29-04-2014, 02:14 AM   رقم المشاركة : 29
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رقم الآية ‏(‏125‏:‏128‏)
‏{‏ وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم‏}‏
عن ابن عباس ‏{‏وإذ جعلنا البيت مثابة للناس‏}
قال‏:‏ يثوبون إليه ثم يرجعون‏.‏ وحدث عبدة بن أبي لبابة قال‏:‏ لا ينصرف عنه منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطراً قال الشاعر‏:
جعل البيت مثاباً لهم * ليس منه الدهرَ يقضون الوَطَر
وقال سعيد بن جبير في الرواية الأخرى وعكرمة وقتادة ‏{‏مثابة للناس‏}‏‏:‏ أي مجمعاً ‏{‏أمناً‏}‏ أي أمناً للناس، وقد كانوا في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يُسبون‏.‏
ومضمون هذه الآية أن اللّه تعالى يذكر شرف البيت، وما جعله موصوفاً به شرعاً وقدراً من كونه مثابةً للناس، أي جعله محلاً تشتاق إليه الأرواح وتحنّ إليه، ولا تقضي منه وطراً ولو ترددت إليه كل عام، استجابة من اللّه تعالى لدعاء خليله إبراهيم عليه السلام، في قوله‏:‏
فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم‏} إلى أن قال‏: ‏{‏ربنا وتقبل دعائي‏}‏، ويصفه تعالى بأنه جعله أمناً من دخله أمن، ولو كان قد فعل ما فعل ثم دخله كان آمناً‏.‏ فقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فيه فلا يعرض له‏.‏ وما هذا الشرف إلا لشرف بانيه أولاً وهو خليل الرحمن كما قال تعالى‏:‏
{‏وإذا بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا‏}‏
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين * فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا‏}وفي هذه الآية الكريمة نبّه على مقام إبراهيم مع الأمر بالصلاة عنده، فقال‏:‏ {‏واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى‏}‏ وقد اختلف المفسرون في المراد بالمقام ما هو‏؟‏ فقال مجاهد عن ابن عباس‏:‏ مقام إبراهيم الحرم كله، وقيل‏:‏ مقام إبراهيم الحج كله منى ورمي الجمار والطواف بين الصفا والمروة ‏"‏ذكره عطاء عن ابن عباس رضي اللّه عنهما‏"‏وقال سفيان الثوري عن سعيد بن جبير‏:‏ ‏{‏واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى‏}‏ قال‏:‏ الحجر مقام إبراهيم نبي اللّه قد جعله الله رحمة فكان يقوم عليه ويناوله إسماعيل الحجارة، وقال السدي‏:‏ المقام الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم حتى غسلت رأسه‏.‏ عن جعفر بن محمد عن أبيه‏:‏ سمع جابراً يحدّث عن حجة النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ لما طاف النبي صلى اللّه عليه وسلم قال له عمر‏:‏ هذا مقام أبينا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏، قال‏:‏ أفلا نتخذه مصلى‏؟‏ فأنزل اللّه عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى‏}‏ وقال البخاري‏:‏ باب قوله ‏{‏واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى‏}‏ مثابة يثوبون‏:‏ يرجعون‏.‏ قال عمر بن الخطّاب‏:‏ وافقت ربي في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول اللّه لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلّى، فنزلت ‏{‏واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى‏}‏ وقلت‏:‏ يا رسول اللّه يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أُمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل اللّه آية الحجاب‏.‏ قال‏:‏ وبلغني معاتبة النبي صلى اللّه عليه وسلم بعض نسائه فدخلت عليهن فقلت‏:‏ إن انتهيتن أو ليبدلن اللّه رسوله خيراً منكن، حتى أتيت إحدى نسائه قالت‏:‏ يا عمر أما في رسول اللّه ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت، فأنزل اللّه ‏{‏عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات‏}
الآية‏.‏
وقال أنَس‏:‏ قال عمر رضي اللّه عنه‏:‏ وافقت ربي عزّ وجلّ في ثلاث، قلت‏:‏ يا رسول اللّه لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت‏:‏ ‏{‏واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى‏}‏، وقلت‏:‏ يا رسول اللّه إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب‏.‏ واجتمع على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نساؤه في الغيرة فقلت لهن‏:‏ عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزاجاً خيراً منكن فنزلت كذلك ‏"‏رواه أحمد عن أنس رضي اللّه عنه‏"‏ورواه الإمام مسلم بن حجاج في صحيحه بسند آخر ولفظ آخر عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال‏:‏ وافقت ربي في ثلاث‏:‏ في الحجاب، وفي أسارى بدر، وفي مقام إبراهيم‏.‏
وروى ابن جريج عن جابر‏:‏ أن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعاً حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصّلى خلفه ركعتين، ثم قرأ‏:‏ ‏
{‏واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى‏}
وقال ابن جرير عن جابر قال‏:‏ استلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الركن فرمل ثلاثاً ومشى اربعاً ثم نفذ إلى مقام إبراهيم فقرأ‏:‏ ‏{‏واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى‏}‏ فجعل المقام بينه وبين البيت فصلى ركعتين،
وهذا قطعة من الحديث الطويل الذي رواه مسلم في صحيحه‏.‏ فهذا كلهم مما يدل على أن المراد بالمقام إنما هو الحجر، الذي كان إبراهيم عليه السلام يقوم عليه لبناء الكعبة، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه، ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار، وكلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية الأُخرى يطوف حول الكعبة وهو واقف عليه كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها وهكذا حتى تم جدران الكعبة كما سيأتي بيانه في قصة إبراهيم وإسماعيل وكانت آثار قدميه ظاهرة فيه، ولم يزل هذا معروفاً تعرفه العرب في جاهليتها، ولهذا قال أبو طالب في قصيدته المعروفة اللامية‏:‏
وموطىء إبراهيم في الصخر رطبة * على قدميه حافياً غير ناعل
وقد كان هذا المقام ملصقاً بجدار الكعبة ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب، مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب، في البقعة المستقلة هناك، وكان الخليل عليه السلام لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة، أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك، ولهذا - واللّه أعلم - أمر بالصلاة هناك عند الفراغ من الطواف، وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه وإنما أخّره عن جدار الكعبة أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، أحد الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين، الذين أمرنا بأتباعهم، وهو أحد الرجلين اللذين قال فيهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏(‏اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر‏)‏ ‏"‏أخرجه الترمذي عن حذيفة بن اليمان‏"‏، وهو الذي نزل القرآن يوافقه في الصلاة عنده ولهذا لم ينكر ذلك أحد من الصحابة رضي اللّه عنهم أجمعين‏.‏

عن عائشة رضي اللّه عنها أن المقام كان زمان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وزمان أبي بكر رضي اللّه عنه ملتصقاً بالبيت ثم أخره عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ‏"‏رواه البهيقي قال ابن كثير‏:‏ وهذا إسناد صحيح‏"‏وعن مجاهد قال‏:‏ قال عمر بن الخطاب‏:‏ يا رسول اللّه لو صلّينا خلف المقام، فأنزل ‏{‏واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى‏}‏ فكان‏ المقام عند البيت فحوَّله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى موضعه هذا ‏"‏رواه ابن مردويه عن مجاهد‏.‏ قال ابن كثير‏:‏ هذا مرسل عن مجاهد وهو مخالف لرواية عبد الرزاق عنه‏"‏وهو مخالف لما تقدم أن أول من أخَّر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، وهذا أصح من طريق ابن مردويه مع اعتضاد هذا بما تقدم، واللّه أعلم‏.‏
التفسير‏:‏ قال الحسن البصري‏:‏ قوله تعالى ‏{‏وعهدنا إلى ابراهيم وإسماعيل‏}
‏‏:
‏ أمرهما اللّه أن يطهرهاه من الأذى والنجس، ولا يصيبه من ذلك شيء‏.‏ وقال ابن جريج قلت لعطاء ما عهده‏؟‏ قال أمره‏.‏ والظاهر أن هذا الحرف إنما عدّي بإلى لأنه في معنى أوحينا‏.‏
قوله‏:‏
‏{‏أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين‏}‏
أي من الأوثان والرفث وقول الزور والرجس‏.‏ قال مجاهد وعطاء وقتادة‏:‏ ‏{‏أن طهرا بيتي‏}‏ أي بلا إله إلا اللّه، من الشرك، وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏للطائفين‏}‏ فالطواف بالبيت معروف، وعن سعيد بن جبير أنه قال‏:‏ ‏{‏للطائفين‏}‏ يعني من أتاه من غربة ‏{‏والعاكفين‏}‏ المقيمين فيه‏.‏
وهكذا روي عن قتادة والربيع بن أنَس أنَّهما فسَّرا العاكفين بأهله المقيمين فيه وعن ابن عباس قال‏:‏ إذا كان جالساً فهو من العاكفين، وعن ثابت قال‏:‏ قلنا لعبد اللّه بن عبيد بن عمير ما أراني إلا مكلم الأمير أن أمنع الذين ينامون في المسجد الحرام فإنهم يجنبون ويحدثون، قال‏:‏ لا تفعل فإن ابن عمر سئل عنهم فقال‏:‏ هم العاكفون ‏"‏رواه ابن أبي حاتم عن حماد بن سلمة عن ثابت‏"‏
قلت‏:‏ وقد ثبت في الصحيح أن ابن عمر كان ينام في مسجد الرسول صلى اللّه عليه وسلم وهو عزب، وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والركع السجود‏}‏ فقال عطاء عن ابن عباس إذا كان مصلياً فهو من الركع السجود‏.‏
قال ابن جرير رحمه اللّه فمعنى الآية‏:‏ وأمرنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطائفين، والتطهيرُ الذي أمرهما به في البيت هو تطهيره من الأصنام وعبادة الأوثان فيه ومن الشرك، فإن قيل‏:‏ فهل كان قبل بناء إبراهيم عند البيت شيء من ذلك الذي أمر بتطهيره منه‏؟‏ فالجواب من وجهين‏:‏
أحدهما‏:‏ أنه أمرهما بتطهيره مما كان يعبد عنده زمان قوم نوح من الأصنام والأوثان، ليكون ذلك سنة لمن بعدهما إذ كان اللّه تعالى قد جعل إبراهيم إماماً يقتدى به‏.‏ قلت‏:‏ وهذا الجواب مفرّعٌ على أنه كان يعبد عنده أصنام قبل إبراهيم عليه السلام، ويحتاج إثبات هذا إلى دليل عن المعصوم محمد صلى اللّه عليه وسلم الثاني‏:‏ أنه أمرهما أن يخلصا في بنائه للّه وحده لا شريك له فيبنياه مطهراً من الشرك والريب، كما قال جلّ ثناؤه‏:‏
‏{‏أفمن أسس بنانه على تقوى من اللّه ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار‏}‏‏؟‏ قال فكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وعهدنا إلى إبرهيم وإسماعيل أن طهِّرا بيتي‏}‏ أي ابنياه على طهر من الشرك بي والريب، وملخص هذا الجواب أن اللّه تعالى أمر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أن يبنيا الكعبة على اسمه وحده لا شريك له، للطائفين به والعاكفين عنده والمصلين إليه من الركع السجود كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود‏}
الآيات‏.‏
وقد اختلف الفقهاء أيَّهمَا أفضل الصلاة عند البيت أو الطواف به‏؟‏ فقال مالك رحمه اللّه الطواف به لأهل الأمصار أفضل، وقال الجمهور‏:‏ الصلاة أفضل مطلقاً، وتوجيه كل منهما يذكر في كتاب الأحكام، والمراد من ذلك الرد على المشركين، الذين كانوا يشركون باللّه عند بيته، المؤسس على عبادته وحده لا شريك له، ثم مع ذلك يصدون أهله المؤمنين عنه كما قال تعالى‏:‏
‏{‏إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف به والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم‏}‏، ثم ذكر أن البيت إنما أسس لمن يعبد اللّه وحده لا شريك له، إما بطواف أو صلاة، فذكر في سورة الحج أجزاءها الثلاثة قيامها وركوعها وسجودها ولم يذكر العاكفين لأنه تقدم ‏{‏سواء العاكف فيه والباد‏}‏ وفي هذه الآية الكريمة ذكر الطائفين والعاكفين، واكتفى بذكر الركوع والسجود عن القيام، لأنه قد علم أنه لا يكون ركوع ولا سجود إلا بعد قيام وفي ذلك أيضاً رد على من لا يحجه من أهل الكتابين اليهود والنصارى لأنهم يعتقدون فضيلة إبراهيم الخليل وإسماعيل ويعلمون أنه بنى هذا البيت للطواف في الحج والعمرة وهم لا يفعلون شيئاً من ذلك، فكيف يكونون مقتدين بالخليل وهم لا يفعلون ما شرع اللّه له‏؟‏ وقد حج البيت موسى بن عمران وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما أخبر بذلك المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ‏{‏إن هو إلا وحي يوحى‏}
‏‏.‏
وتقدير الكلام إذن‏:‏ ‏{‏وعهدنا إلى إبرهيم‏}‏ أي تقدمنا بوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل ‏{‏أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود‏}‏ أي طهراه من الشرك والريب وابنياه خالصاً للّه معقالاً للطائفين والعاكفين والركع السجود‏.‏ وتطهير المساجد مأخوذ من هذه الآية الكريمة ومن قوله تعالى‏:‏{‏في بيوت أذن اللّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال‏}
‏، ومن السنّة من أحاديث كثيرة من الأمر بتطهيرها وتطييبها وغير ذلك من صيانتها من الأذى والنجاسات وما أشبه ذلك‏.‏ ولهذا قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏إنما بنيت المساجد لما بنيت له‏)
‏، وقد جمعت في ذلك جزءاً على حدة وللّه الحمد والمنة‏.‏ وقد اختلف الناس في أول من بنى الكعبة‏؟‏ فقيل‏:‏ الملائكة قبل آدم ذكره القرطبي وحكى لفظه وفيه غرابة، وقيل آدم عليه السلام رواه عطاء وسعيد بن المسيب وهذا غريب أيضاً‏.‏ وروي عن ابن عباس وكعب الأحبار أن أول من بناه شيث عليه السلام، وغالب من يذكر هذا إنما يأخذه من كتب أهل الكتاب وهي مما لا يصدق ولا يكذب ولا يعتمد عليها بمجردها‏.‏ وأما إذا صح حديث في ذلك فعلى الرأس والعين‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر‏}
قال ابن جرير عن جابر بن عبد اللّه‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إن إبراهيم حرَّم بيت اللّه وأمَّنه، وإني حرمت المدينة وما بين لابتيها، فلا يصاد صيدها ولا يقطع عضاهها ‏"‏رواه النسائي وأخرجه مسلم بطريق آخر‏"‏‏)عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فإذا أخذه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مُدّنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك وإنه دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه‏)‏ ثم يدعو أصغر وليد له فيعطيه ذلك الثمر ‏"‏رواه مسلم، وفي لفظٍ له ‏(‏بركة مع بركة‏)‏ ثم يعطيه أصغر من حضر من الولدان‏"‏‏.‏
وفي الصحيحين عن أنَس بن مالك قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأبي طلحة‏:‏ ‏(‏التمس لي غلاماً من غلمانكم يخدمني‏)‏، فخرج بي أبو طلحة يردفني وراءه، فكنت أخدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كلما نزل‏.‏
وقال في الحديث‏:‏ ثم أقبل حتى بدا له أحد قال‏:‏ ‏(‏هذا جبلٌ يحبنا ونحبه‏)‏، فلما أشرف على المدينة قال‏:‏ ‏(‏اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم به إبراهيم مكة، اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم‏)‏، وفي لفظ لهما‏:‏ ‏(‏اللهم بارك لهم في مكيالهم وبارك لهم في مدهم‏)‏ زاد البخاري يعني‏:‏ أهل المدينة‏.‏ وعن أنَس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلته بمكة من البركة‏)‏
‏"‏رواه البخاري ومسلم‏"‏وعن أبي سعيد رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حراماً، وإني حرمت المدينة حراماً ما بين مأزميها، أن لا يهراق فيها دم، ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف، اللهم بارك لنا في مدينتنا، اللهم بارك لنا في صاعنا، اللهم بارك لنا في مُدّنا، اللهم اجعل مع البركة بركتين
‏"‏رواه مسلم‏"‏‏)‏، والأحاديث في تحريم المدينة كثيرة وإنما أوردنا منها ما هو متعلق بتحريم إبراهيم عليه السلام لمكة لما في ذلك من مطابقة الآية الكريمة، وتمسك بها من ذهب إلى أن تحريم مكة إنما كان على لسان إبراهيم الخليل، وقيل‏:‏ إنها محرمة منذ خلقت مع الأرض، وهذا أظهر وأقوى واللّه أعلم‏.‏
وقد وردت أحاديث أُخر تدل على أن اللّه تعالى حرّم مكة قبل خلق السماوات والأرض كما جاء في الصحيحين
عن عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنهما قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم فتح مكة‏:‏ ‏(‏إن هذا البلد حرمه اللّه يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة اللّه إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة اللّه إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرّفها ولا يختلى خلاها‏)‏، فقال العباس‏:‏ يا رسول اللّه الإذخر فإنه لقّيْنهم ولبيوتهم، فقال‏:‏ ‏(‏إلا الإذخر‏)‏‏.‏ وعن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد - وهو يبعث البعوث إلى مكة - ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولاً قام به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الغد من يوم الفتح، سمعْته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي حين تكلم به، إنه حمد اللّه وأثنى عليه ثم قال‏:‏ ‏(‏إن مكة حرمها اللّه ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرىء يؤمن باللّه واليوم الآخر أن يسفك بها دماً، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخَّص بقتال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقولوا‏:‏ إنَّ اللّه أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ليبلغ الشاهد الغائب
‏"‏رواه البخاري ومسلم عن ابي شريح العدوي‏"‏‏)‏ فقيل لأبي شريح ما قال لك عمرو‏؟‏ قال‏:‏ أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فاراً بدم ولا فاراً بخربة‏.‏
فإذا علم هذا فلا منافاة بين هذه الأحاديث، الدالة على أن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، وبين الأحاديث الدالة عى أن إبراهيم عليه السلام حرمها، لأن إبراهيم بلّغ عن اللّه حكمه فيها، وتحريمه إياها وأنها لم تزل بلداً حراماً عند اللّه قبل بناء إبراهيم عليه السلام لها، كما أنه قد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكتوباً عند اللّه خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، ومع هذا قال إبراهيم عليه السلام‏:‏
{‏ربنا وابعث فيه رسولا منهم‏}‏ وقد أجاب اللّه دعاءه بما سبق في علمه وقدره‏.‏






التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس