عرض مشاركة واحدة
قديم 18-12-2008, 08:49 PM   رقم المشاركة : 1
دي دمونه
( ود متميز )
 
الصورة الرمزية دي دمونه
انشودة المطر للشاعر العراقي لبدر شاكر السياب

أنشودة المطر

قصيدة لـ(بدر شاكر السياب)
من شعر التفعيلة
(مستفعلن)


عَيْنَاكِ غَابَتَا نَخِيلٍ سَاعَةَ السَّحَرْ ،



أو شُرْفَتَانِ رَاحَ يَنْأَى عَنْهُمَا القَمَرْ .



عَيْنَاكِ حِينَ تَبْسُمَانِ تُورِقُ الكُرُومْ



وَتَرْقُصُ الأَضْوَاءُ ...كَالأَقْمَارِ في نَهَرْ



يَرُجُّهُ المِجْدَافُ وَهْنَاً سَاعَةَ السَّحَرْ



كَأَنَّمَا تَنْبُضُ في غَوْرَيْهِمَا ، النُّجُومْ ...







وَتَغْرَقَانِ في ضَبَابٍ مِنْ أَسَىً شَفِيفْ



كَالبَحْرِ سَرَّحَ اليَدَيْنِ فَوْقَـهُ المَسَاء ،



دِفءُ الشِّتَاءِ فِيـهِ وَارْتِعَاشَةُ الخَرِيف ،



وَالمَوْتُ ، وَالميلادُ ، والظلامُ ، وَالضِّيَاء ؛



فَتَسْتَفِيق مِلء رُوحِي ، رَعْشَةُ البُكَاء



كنشوةِ الطفلِ إذا خَافَ مِنَ القَمَر !



كَأَنَّ أَقْوَاسَ السَّحَابِ تَشْرَبُ الغُيُومْ



وَقَطْرَةً فَقَطْرَةً تَذُوبُ في المَطَر ...



وَكَرْكَرَ الأَطْفَالُ في عَرَائِشِ الكُرُوم ،



وَدَغْدَغَتْ صَمْتَ العَصَافِيرِ عَلَى الشَّجَر



أُنْشُودَةُ المَطَر ...



مَطَر ...



مَطَر...



مَطَر...



تَثَاءَبَ الْمَسَاءُ ، وَالغُيُومُ مَا تَزَال



تَسِحُّ مَا تَسِحّ من دُمُوعِهَا الثِّقَالْ .



كَأَنَّ طِفَلاً بَاتَ يَهْذِي قَبْلَ أنْ يَنَام :



بِأنَّ أمَّـهُ - التي أَفَاقَ مُنْذُ عَامْ



فَلَمْ يَجِدْهَا ، ثُمَّ حِينَ لَجَّ في السُّؤَال



قَالوا لَهُ : " بَعْدَ غَدٍ تَعُودْ .. " -



لا بدَّ أنْ تَعُودْ



وَإنْ تَهَامَسَ الرِّفَاقُ أنَّـها هُنَاكْ



في جَانِبِ التَّلِّ تَنَامُ نَوْمَةَ اللُّحُودْ



تَسفُّ مِنْ تُرَابِـهَا وَتَشْرَبُ المَطَر ؛



كَأنَّ صَيَّادَاً حَزِينَاً يَجْمَعُ الشِّبَاك



وَيَنْثُرُ الغِنَاءَ حَيْثُ يَأْفلُ القَمَرْ .



مَطَر ...



مَطَر ...



أتعلمينَ أيَّ حُزْنٍ يبعثُ المَطَر ؟



وَكَيْفَ تَنْشج المزاريبُ إذا انْهَمَر ؟



وكيفَ يَشْعُرُ الوَحِيدُ فِيهِ بِالضّيَاعِ ؟



بِلا انْتِهَاءٍ - كَالدَّمِ الْمُرَاقِ ، كَالْجِياع ،



كَالْحُبِّ ، كَالأطْفَالِ ، كَالْمَوْتَى - هُوَ الْمَطَر !



وَمُقْلَتَاكِ بِي تُطِيفَانِ مَعِ الْمَطَر



وَعَبْرَ أَمْوَاجِ الخَلِيج تَمْسَحُ البُرُوقْ



سَوَاحِلَ العِرَاقِ بِالنُّجُومِ وَالْمَحَار ،



كَأَنَّهَا تَهمُّ بِالشُّرُوق



فَيَسْحَب الليلُ عليها مِنْ دَمٍ دِثَارْ .



أصيح بالخليج : " يا خليجْ



يا واهبَ اللؤلؤ ، والمحار ، والردى ! "



فيرجعُ الصَّدَى



كأنَّـه النشيجْ :



" يَا خَلِيجْ



يَا وَاهِبَ المَحَارِ وَالرَّدَى ... "







أَكَادُ أَسْمَعُ العِرَاقَ يذْخرُ الرعودْ



ويخزن البروق في السهولِ والجبالْ ،



حتى إذا ما فَضَّ عنها ختمَها الرِّجالْ



لم تترك الرياحُ من ثمودْ



في الوادِ من أثرْ .



أكاد أسمع النخيل يشربُ المطر



وأسمع القرى تَئِنُّ ، والمهاجرين



يُصَارِعُون بِالمجاذيف وبالقُلُوع ،



عَوَاصِفَ الخليج ، والرُّعُودَ ، منشدين :



" مَطَر ...



مَطَر ...



مَطَر ...



وفي العِرَاقِ جُوعْ



وينثر الغلالَ فيه مَوْسِمُ الحصادْ



لتشبعَ الغِرْبَان والجراد



وتطحن الشّوان والحَجَر



رِحَىً تَدُورُ في الحقول … حولها بَشَرْ



مَطَر ...



مَطَر ...



مَطَر ...



وَكَمْ ذَرَفْنَا لَيْلَةَ الرَّحِيلِ ، مِنْ دُمُوعْ



ثُمَّ اعْتَلَلْنَا - خَوْفَ أَنْ نُلامَ – بِالمَطَر ...



مَطَر ...



مَطَر ...



وَمُنْذُ أَنْ كُنَّا صِغَارَاً ، كَانَتِ السَّمَاء



تَغِيمُ في الشِّتَاء



وَيَهْطُل المَطَر ،



وَكُلَّ عَامٍ - حِينَ يُعْشُب الثَّرَى- نَجُوعْ



مَا مَرَّ عَامٌ وَالعِرَاقُ لَيْسَ فِيهِ جُوعْ .



مَطَر ...



مَطَر ...



مَطَر ...



في كُلِّ قَطْرَةٍ مِنَ المَطَر



حَمْرَاءُ أَوْ صَفْرَاءُ مِنْ أَجِنَّـةِ الزَّهَـرْ .



وَكُلّ دَمْعَةٍ مِنَ الجيَاعِ وَالعُرَاة



وَكُلّ قَطْرَةٍ تُرَاقُ مِنْ دَمِ العَبِيدْ



فَهيَ ابْتِسَامٌ في انْتِظَارِ مَبْسَمٍ جَدِيد



أوْ حُلْمَةٌ تَوَرَّدَتْ عَلَى فَمِ الوَلِيــدْ



في عَالَمِ الغَدِ الفَتِيِّ ، وَاهِب الحَيَاة !



مَطَر ...



مَطَر ...



مَطَر ...



سيُعْشِبُ العِرَاقُ بِالمَطَر ... "







أصِيحُ بالخليج : " يا خَلِيجْ ...



يا واهبَ اللؤلؤ ، والمحار ، والردى ! "



فيرجعُ الصَّدَى



كأنَّـهُ النشيجْ :



" يا خليجْ



يا واهبَ المحارِ والردى . "



وينثر الخليجُ من هِبَاتِـهِ الكِثَارْ ،



عَلَى الرِّمَالِ ، : رغوه الأُجَاجَ ، والمحار



وما تبقَّى من عظام بائسٍ غريق



من المهاجرين ظلّ يشرب الردى



من لُجَّـة الخليج والقرار ،



وفي العراق ألف أفعى تشرب الرحيقْ



من زهرة يربُّها الرفاتُ بالندى .



وأسمعُ الصَّدَى



يرنُّ في الخليج



" مطر .



مطر ..



مطر ...



في كلِّ قطرةٍ من المطرْ



حمراءُ أو صفراءُ من أَجِنَّـةِ الزَّهَـرْ .



وكلّ دمعة من الجياع والعراة



وكلّ قطرة تراق من دم العبيدْ



فهي ابتسامٌ في انتظارِ مبسمٍ جديد



أو حُلْمَةٌ تورَّدتْ على فمِ الوليدْ



في عالَمِ الغَدِ الفَتِيِّ ، واهب الحياة . "






وَيَهْطُلُ المَطَرْ ..