عرض مشاركة واحدة
قديم 23-01-2009, 01:57 AM   رقم المشاركة : 19
أنا راحل
( ود جديد )
 





أنا راحل غير متصل










17

وكأنما مرت دهور، التقينا في المقهى الذي بدأ فيه كل شيء.

كنت قد استنفدت ساعة أعيد فيها رسم التفاصيل للمكان الذي صار يعابث الذاكرة والأوراق، أضع خطا ً هنا، منفضة هناك، لوحة بألوان باهتة، وغبار يسلب من الإطارات زهوها، وصحفا ً، ورائحة، رائحة قهوة لا تخطئها الأنوف، حتى المقاعد منحتها ملمسا ً، وحدا ً للرخاوة التي تستقبل فيها الأجساد، ثم جلست بيدي القلم الذي ظل بلا غطاء كل هذه المدة.

- ما الذي حدث؟ - سألني فهد حالما استقبلني -.

- لا شيء ما خلا أني تخلصت منك لفترة وجيزة.

- لماذا؟

- كنت أحتاجها لأفكر.

- تفكر بماذا !!!

- بنا، بي وبك، بتأثيرك الغريب علي.

- تأثيري الغريب !!!

- نعم... ليست مصادفة أن علاقاتي ساءت مؤخرا ً، علاقتي بزملائي في العمل، علاقتي بزوجتي، علاقتي بعائلتي، حتى صديقي الوحيد اختفى.

- يا سلام !!! وما ذنبي أنا؟

- أنت من كان يدفعني للمواجهة في كل مرة.

- لا أصدق أنك تفكر بهذه الطريقة !!! علاقتك بمديرك وزملائك كانت سيئة من قبلي، ولكنك كنت تخفي ذلك ولا تبديه، وكذا علاقتك بزوجتك، صمت لا نهائي، وكلمات بلا معنى، وعائلتك يجب أن تشكرني لأني خلصتك من مشروعهم الوهمي، وصديقك اختفى منذ زمن بعيد، منذ قرر أن يغادر العالم ليعيش في كنف القصائد والملوك المعتوهين.

- كنت أفكر في الفترة الماضية، أبعدتك عني لأفكر جيدا ً من دون تدخلاتك، وتوصلت إلى أنك جانب حاد مني، جانب لا يجب أن يظهر للناس، وأنني أخطأت خطئا ً كبيرا ً، ويحتاج مني إلى سنوات لإصلاحه، عندما جعلتك تتعامل معهم.

- نعم – أكملت -، صحيح ما تقوله، علاقتي بزملائي لم تكن جيدة، كان فيها جانب استغلالي يرهقني، ولكني استبدلت ذلك الآن بعلاقة باردة ورسمية، صرت كلبا ً آخر في نظر سليمان، ونعم، كانت علاقتي بلينا بسيطة، ولكن ما الذي جنيته من محاولة تعقيدها؟ لا شيء، سوى حزن مكتوم من قبلها، وشعور مؤلم بأنها لم تكن كافية بنظري، وما الذي كان يدعوني لإهانة عائلتي، فليؤمنوا بجد أسطوري، لم َ كان علي أن أحطم صورته أمامهم !!! ألا يكفي أنه يجمعهم ويوحد بينهم.

- وحسن – بعد وقفة قصيرة وسبابة مرفوعة -، لم َ اعتبرت تردده ومحاولته البحث عن حل يشفي روحه هروبا ً وانشغالا ً بالقصيدة !!! لم َ لم أرى في التجاءه للقصيدة رغبة حقيقية في أن لا يرى الوجه القبيح للعالم، رغبته في أن يوقف الزمن، ليحتفظ فيه بليلى كما أحبها، وبخولة كما عرفها، ولكني وبدافع منك أوحيت له، بأن وجوده ذاته مؤلم لهما، فدفع نفسه بيأس بعيدا ً، وبدلا ً من أن استرده من القصيدة، أغرقته فيها.

- أنا آسف – قال - كان علي أن أخدعك، لتحتفظ بعلاقتك المهترئة بزملائك، حيث تغرق في كل يوم، في مقابل أن لا يحولك أحمق ما إلى كلب في كتابه !!! كما كان علي أن أشجعك على تضييع وقتك واسمك على كتاب سخيف، وبلا مادة حقيقية، فقط ليجد أقربائك ما يفخرون به !!! كما كان علي أن أعجب بعلاقتك الغريبة بزوجتك، والتي تتوزع بين كلمات قليلة، نصفها تأفف، أما صديقك الشاعر فكان علي أن استمع لقصائده إلى ما لا نهاية، كان علي أن اتركه يحدثنا عن الملوك والقتال !!! والمجد !!! وبعد هذا كله أن أؤمن بأنه يفعل ذلك، لا ليبرر لنفسه إخفاقاته وحماقاته، وإنما لأنه يريد أن يوقف الزمن !!! ومن يدري !!! ربما يفلح في العودة بالزمن إلى الخلف والأمام، وعندها ستكون الأمور ميسرة جدا ً والحمد لله، حيث يمكنه أن يكون أحمق ما خلق الله، ولا يحتاج الأمر منه إلا إلى قصيدة تعيده أعواما ً إلى الوراء ليبدأ من جديد !!!

- سخريتك لا تلهيني، أنا لا أبرر لحسن أخطاءه، ولا أعتبر ما قام به صحيحا ً، ولكني أحاول تفسيره، لم َ انشغل بالقصيدة؟ لم َ كان ينشغل بها دائما ً عن التعامل مع الناس والعالم؟ هذا سلوك غريب؟ ولا يقوم به الإنسان إلا لدوافع داخلية، وأنا أحاول فهم هذه الدوافع، رغبته في رؤية الأشياء جميلة كما عرفها، أو كما افترضها، وكأن لديه تلك اللوحة الكبيرة في روحه والتي كان يرسمها ببطء، وكان المشهد يتغير أمام عينيه بسرعة، أسرع مما يجب، حتى جاء اليوم الذي قرر فيه أن يغمض عينيه، وأن يرسم من خياله الصورة التي زالت، انمحت، ولم يبقى منها شيء، وأنا بدلا ً من أحاول فتح عينيه حتى لا يسقط، مزقت لوحته، ونعتها بالتفاهة، واللامعنى، تخيل اللوحة التي اعتبرها أهم ما لديه، وقضى وقته كله في حراستها، ورسمها، أمزقها أنا، وأصم سمعي عن شكواه، من اليأس الذي يملأ روحه، والشيء الذي كسر في داخله ولم يستطع إصلاحه !!!

- هل تصدق كل ما يقوله الشعراء !!! صاحبك شاعر، وكأي شاعر كان يبني له صنما ً يريد من الجميع أن يعبدوه، وأنت أولهم، وإلا لم َ كان يصر على أن يحشر قصائده في كل اجتماعاتكما، بينما يسخر من مجرد ذكرك لكتاب جدك الذي كان يشغلك حينها؟ كان شاعر لا يرى إلا نفسه، لا يرى إلا التمثال العملاق الذي يبنيه ببطء، وما انكسر في داخله كان ذلكم التمثال.

- إن كان ما تقوله صحيحا ً فكيف تفسر انشغاله بقصيدة عن ملك مخير بين المجد أو العار؟ لا يبدو لي أن شاعرا ً مكسورا ً ينشغل بهذين الخيارين !!! كيف تنكسر صورته في داخله ومع ذلك يفكر بالمجد، وهل يختاره أم لا !!!

- الشعراء يخدعون أنفسهم، ألا تعرف هذا؟ صنع من نفسه ملكا ً !!! وأوقف أمتين على روحه !!! وجعل يكتب قصائد منفصلة يلم فيها حطامه، ليأتي في النهاية ويختار المجد طبعا ً، ما الذي سيختاره سوى هذا؟

- لا... لا... الملك قتل نفسه في نهاية القصيدة، أي مجد هذا !!! الملك رفض أن يختار، هذا مغزى القصيدة، الملك انتحر، وبهذا يكون قد رفض المجد، ورفض العار، واختار لنفسه خيارا ً بينهما.

- ههههههههههههههه، وهذا مجد مبطن، وكأنه يقول أنه متعال ٍ على كل الخيارات، وأنه يمكنه أن يشق له طريقا ً حيث لا طريق.

- نعم... صحيح، والدليل على ذلك أنه بعدما انتهى من القصيدة، قام بالتخلص منها ووضعها بين يدي، ولم يلجأ لنشرها !!!

- هههههههههههه، إنه يكتفي بك، أنت أداته، أنت من ستقوم بنشر قصيدته يوما ً ما، فرصته هو ضئيلة، ولكن أنت من يمكنه منح قصيدته الوهج الذي تحتاجه.

- وماذا لو لم أنشرها؟

- ستفعل... ستفعل.

- أنت تثير الغيظ.

- لأنني أقول ما لا يجب أن يقال.

- هل تعرف لم َ اجتمعت بك اليوم؟

- لتشطبني.

- لا تبدو مستاء ً من ذلك؟

- لا يبدو لي الشطب نهاية سيئة – وعلى فمه ابتسامة غامضة -.

- غريب !!! أذكر أنه كان لديك ذلك الهلع من النهاية، وأن لا تحتويك ذاكرة، إلى آخر ما قلته يومها.

- من هذا الجانب، أنا مطمئن، سأعيش أطول منك.

- ماذا تعني؟

- ستعرف فيما بعد.

- هل لديك كلمات أخيرة؟

- وداعا ً – بابتسامة خبيثة -.

تناولت القلم، وبحركة سريعة شطبته.

أظلم المكان وتواريت أنا وراء شطب عميق.


- تمت... هنا فقط -