عرض مشاركة واحدة
قديم 29-04-2014, 02:25 AM   رقم المشاركة : 30
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور

وأما مسألة تفضيل مكة على المدينة كما هو قول الجمهور، أو المدينة على مكة كما هو مذهب مالك وأتباعه، فتذكر في موضع آخر بأدلتها إن شاء اللّه وبه الثقة‏.‏ وقوله تعالى إخباراً عن الخليل‏:‏‏{‏رب اجعل هذا بلداً آمنا‏}‏ أي من الخوف أي لا يرعب أهله، وقد فعل اللّه ذلك شرعاً وقدراً، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن دخله كان آمنا‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويُتخطف الناس من حولهم‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات وقد تقدمت الأحاديث في تحريم القتال فيه، وفي صحيح مسلم عن جابر سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح‏)‏، وقال في هذه السورة‏:‏{‏رب اجعل هذا بلدا آمنا‏}‏ أي اجعل هذه البقعة بلداً آمناً وناسب هناك لأنه - واللّه أعلم - كأنه وقع دعاء مرة ثانية بعد بناء البيت واستقرار أهله به، وبعد مولد إسحاق الذي هو أصغر سناً من إسماعيل بثلاث عشرة سنة، ولهذا في آخر الدعاء‏:{‏الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وأسحق إن ربي لسميع الدعاء‏}‏‏.‏
وقوله تعالى‏:‏‏{‏وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم باللّه واليوم الآخر، قال‏:‏ ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير‏} قال أبو جعفر الرازي عن أُبيّ بن كعب ‏{‏قال ومن كفر‏}‏ الآية هو قول اللّه تعالى‏.‏ وهذا قول مجاهد وعكرمة وهو الذي صوبه ابن جرير رحمه اللّه قال‏:‏ وقرأ آخرون‏:‏{‏قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير‏}فجعلوا ذلك من تمام دعاء إبراهيم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏كان إبراهيم يحجرها على المؤمنين دون الناس، فأنزل اللّه ومن كفر أيضاً أرزقهم كما أرزق المؤمنين، أأخلق خلقاً لا أرزقهم‏؟‏ أمتعهم قليلاً ثم أضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير‏)‏ ثم قرأ ابن عباس‏:‏ {‏كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً‏}‏ ‏"‏أخرجه ابن مردويه وروي نحوه عن مجاهد وعكرمة‏"‏، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون‏}‏، وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ‏}‏، وقوله‏:‏{‏ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير‏}‏ أي ثم ألجئه بعد متاعه في الدنيا، وبسطنا عليه من ظلها {‏إلى عذاب النار وبئس المصير‏}‏ ومعناه أن اللّه تعالى يُنْظرهم ويمهلهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر كقوله تعالى‏:{‏وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير‏}‏‏
.‏ وفي الصحيح‏:‏ ‏(‏إن اللّه ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته‏)‏، ثم قرأ تعالى‏:‏ ‏
{‏كذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد‏}‏‏.‏
وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏
وأما قوله تعالى‏:
‏{‏وإذا يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم‏} فالقواعد جمع قاعدة، وهي السارية والأساس، يقول تعالى‏:‏ واذكر يا محمد لقومك بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام البيت، ورفعهما القواعد منه وهما يقولان‏:‏ {‏ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم‏}‏ فهما في عمل صالح وهما يسألان اللّه تعالى أن يتقبل منهما، وقال بعض المفسِّرين‏:‏ الذي كان يرفع القواعدَ هو إبراهيم، والداعي إسماعيل، والصحيحُ أنهما كانا يرفعان ويقولان كما سيأتي بيانه‏.‏ وقد روى البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال‏:‏ أول ما اتخذ النساء المِنطَق من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقاً لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبإبنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك ووضع عندها جِراباً فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفّى إبراهيم منطلقاً فتبعته إم إسماعيل فقالت‏:‏ يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء‏؟‏ فقالت له ذلك مراراً وجعل لا يلتفت إليها، فقالت‏:‏ آللّه أمرك بهذاً‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قالت‏:‏ إذاً لا يضيعنا، ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهذه الدعوات ورفع يديه فقال‏:‏{‏ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم‏}
حتى بلغ ‏{‏يشكرون‏}‏‏.‏
وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوّى - أو قال يتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم تر أحداً، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحداً، فلم تر أحداً ففعلت ذلك سبع مرات،
قال ابن عباس‏:‏ قال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏فلذلك سعى الناس بينهما‏)‏، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقال‏:‏ ‏(‏صه‏)‏ - تريد نفسها - ثم تسمَّعت فسمعت أيضاً، فقالت‏:‏ قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالمَلَك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه - أو قال بجناحه - حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف، قال ابن عباس‏:‏ قال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏يرحم اللّه أم إسماعيل لو تركت زمزم - أو قال لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عيناً معيناً‏)‏‏.‏
قال‏:‏ فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك‏:‏ لا تخافي الضيعة فإن ههنا بيتاً للّه يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن اللّه لا يضيّع أهله، وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم، أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في اسفل مكة فرأوا طائراً عائفاً، فقالوا‏:‏ إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبروهم بالماء، فأقبلوا، قال‏:‏ وأُم إسماعيل عند الماء، فقالوا‏:‏ أتأذنين لنا أن ننزل عندك‏؟‏ قالت‏:‏ نعم ولكن لا حقَّ لكم في الماء عندنا، قالوا‏:‏ نعم، قال ابن عباس قال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏(‏فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس‏)‏، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام وتعلم العربية منهم وأنفسَهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوَّجوه امرأة منهم‏.‏
وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت‏:‏ خرج يبتغي لنا، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت‏:‏ نحن بشرِّ، نحن في ضيق وشدة فشكت إليه، قال‏:‏ إذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغيِّر عتبةَ بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه أنس شيئاً فقال‏:‏ هل جاءكم من أحد‏؟‏ قالت‏:‏ نعم جاءنا شيخ كذا وكذا فسألنا عنك فأخبرته وسألني كيف عيشنا‏؟‏ فأخبرته أننا في جهد وشدة، قال‏:‏ فهل أوصاك بشيء‏؟‏ قالت‏:‏ نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول غَيَّر عتبة بابك، قال‏:‏ ذاك أبي وقد أمرني أن أٌن أُفارقك فالحقي بأهلك، وطلَّقها وتزوج منهم بأخرى‏.‏ فلبث عنهم إبراهيم ما شاء اللّه ثم أتاهم بعد فلم يجده فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت‏:‏ خرج يبتغي لنا، قال‏:‏ كيف أنتم‏؟‏ وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت‏:‏ نحن بخير وسعة، وأثنت على اللّه عزّ وجلّ، قال‏:‏ ما طعامكم‏؟‏ قالت‏:‏ اللحم، قال‏:‏ فما شرابكم‏؟‏ قالت‏:‏ الماء، قال‏:‏ اللهم بارك لهم في اللحم والماء، قال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ولم يكن لهم يومئذ حبّ ولو كان لهم لدعا لهم فيه‏)‏، قال‏:‏ فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه، قال‏:‏ فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومريه يثبت عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل قال‏:‏ هل أتاكم من أحد‏؟‏ قالت‏:‏ نعم أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا‏؟‏ فأخبرته أنَّا بخير، قال أنَّا بخير، قال‏:‏ فأوصاك بشيء‏؟‏ قالت‏:‏ نعم هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن ثبِّت عتبة بابك، قال‏:‏ ذاك أبي وأنت العتبة أمرني أن أمسكك‏.‏ ثم لبث عنهم ما شاء اللّه ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحة، قريباً من زمزم، فلما رآه قام إليه وصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، ثم قال‏:‏ يا إسماعيل إن اللّه أمرني بأمر قال‏:‏ فاصنع ما أمرك ربك، قال‏:‏ وتعينني‏؟‏ قال‏:‏ وأعينك، قال‏:‏ فإن اللّه أمرني أن أبني ههنا بيتاً، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها قال‏:‏ فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه، وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان‏:‏ ‏{‏ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم‏}‏ قال‏:‏ فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان‏:‏
‏{‏ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم‏}‏‏.‏
ثم قال البخاري‏:‏ حدثنا عبد اللّه بن محمد أخبرنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو، أخبرنا إبراهيم بن نافع عن كثير بن كثير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال‏:‏ ‏(‏لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان خرج بإسماعيل وأُم إسماعيل ومعهم شنة فيها ماء فجعلت أُم إسماعيل تشرب من الشنة فيدر لبنها على صبيها حتى قدم مكة فوضعهما تحت دوحة ثم رجع إبراهيم إلى أهله، فاتبعته أم إسماعيل حتى بلغوا كداء نادته من ورائه‏:‏ يا إبراهيم إلى من تتركنا‏؟‏ قال‏:‏ إلى اللّه، قالت‏:‏ رضيت باللّه‏.‏ قال‏:‏ فرجعت تشرب من الشنة ويدر لبناها على صبيها حتى لما فنى الماء‏.‏ قالت‏:‏ لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحداً، فذهبت فصعدت الصفا‏.‏ فنظرت هل تحس أحداً‏؟‏ فلم تحس أحداً، فلما بلغت الوادي سعت حتى أتت المروة وفعلت ذلك أشواطاً حتى أتمت سبعاً، ثم قالت‏:‏ لو ذهبت فنظرت ما فعل الصبي، فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله كأنه ينشغ للموت فلم تقرها نفسها، فقالت‏:‏ لو ذهبت فنظرتُ لعلي أحس أحداً، فذهبت فصعدت الصفا، فنظرت ونظرت فلم تحس أحداً حتى أتمت سبعاً، ثم قالت‏:‏ لو ذهبت فنظرت ما فعل، فإذا هي بصوت فقالت‏:‏ أغث إن كان عندك خير، فإذا جبريل عليه السلام قال‏:‏ فقال بعقبه هكذا وغمز عقبه على الأرض، قال‏:‏ فانبثق الماء فدهشت أم إسماعيل فجعلت تحفر قال‏:‏ فقال أبو القاسم صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لو تركته لكان الماء ظاهراً‏)‏ قال‏:‏ فجعلت تشرب من الماء ويدرُّ لبنها على صبيها‏.‏ قال‏:‏ فمرّ ناس من جرهم ببطن الوادي فإذا هم بطير كأنهم أنكروا ذلك، وقالوا‏:‏ ما يكون الطير إلا على ماء، فبعثوا رسولهم فنظر فإذا هو بالماء فأتاهم فأخبرهم، فأتوا إليها فقالوا‏:‏ يا أم إسماعيل أتاذنين لنا أن نكون معك ونسكن معك‏؟‏
فبلغ ابنها ونكح منهم امرأة‏.‏ قال‏:‏ ثم إنه بدا لإبراهيم صلى اللّه عليه وسلم فقال لأهله‏:‏ إني مطلع تركتي، قال‏:‏ فجاءهم فسلّم فقال‏:‏ أين إسماعيل‏؟‏ قالت امرأته‏:‏ ذهب يصيد، قال‏:‏ قولي له إذا جاء غيَّرْ عتبةَ بابك، فلما أخبرته قال‏:‏ أنتِ ذاك فاذهبي إلى أهلك، قال‏:‏ ثم إنه بدا لإبراهيم فقال‏:‏ إني مطلع تركتي قال، فجاء فقال‏:‏ أين إسماعيل‏؟‏ فقالت امرأته‏:‏ ذهب يصيد، فقالت‏:‏ ألا تنزل فتطعم وتشرب‏؟‏ فقال‏:‏ ما طعامكم وما شرابكم‏؟‏ قالت‏:‏ طعامنا اللحم وشرابنا الماء‏.‏ قال‏:‏ اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم‏.‏ قال‏:‏ فقال أبو القاسم صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏بركة بدعوة إبراهيم‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ثم إنه بدا لإبراهيم صلى اللّه عليه وسلم، فقال لأهله‏:‏ إني مطلع تركتي فجأة فوفق إسماعيل من وراء زمزم يصلح نبلاً له، فقال‏:‏ يا إسماعيل إن ربك عزّ وجلّ أمرني أن أبني له بيتاً، فقال‏:‏ أطع ربك عزّ وجلّ، قال‏:‏ إنه أمرني أن تعينني عليه، فقال‏:‏ إذن افعل - أو كما قال - فقام فجعل إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، ويقولان‏:‏ ‏{‏ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم‏}‏ قال‏:‏ حتى ارتفع البناء، وضعف الشيخ عن نقل الحجارة، فقام على حجر المقام، فجعل يناوله الحجارة ويقولان‏:‏
‏{‏ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم‏}‏‏.‏
قال محمد بن إسحاق عن مجاهد وغيره من أهل العلم‏:‏ إن اللّه بوأ إبراهيم مكان البيت، خرج إليه من الشام وخرج معه إسماعيل وأُمه هاجر، وإسماعيل طفل صغير يرضع، ومعه جبريل يدله على موضع البيت ومعالم الحرم، فكان لا يمر بقرية إلا قال‏:‏ أبهذه أُمرتُ يا جبريل‏؟‏ فيقول جبريل‏:‏ امضه، حتى قدم به مكة وهي إذ ذاك عضاه سلم وسمر وبها أناس يقال لهم العماليق خارج مكة وما حولها، والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة فقال إبراهيم لجبريل‏:‏ أههنا أمرت أن أضعهما‏؟‏ قال‏:‏ نعم، فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه، وأمر هاجرأُم إسماعيل أن تتخذ فيه عرشاً فقال‏:‏ ‏{‏ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لعلهم يشكرون‏}‏ وقال عبد الرزاق عن مجاهد‏:‏ خلق اللّه موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئاً بألفي سنة وأركانه في الأرض السابعة‏.‏
وقال البخاري رحمه اللّه قوله تعالى ‏{‏وإذ يرفع إبراهيم القوعد من البيت وإسماعيل‏}‏ الآية‏:‏ القواعد أساسه، واحدها قاعدة، والقواعد من النساء واحدتها قاعدة، عن عائشة زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ألم تريْ أن قومك حين بنوا البيت اقتصروا عن قواعد إبراهيم‏؟‏‏)‏ فقلت‏:‏ يا رسول اللّه ألا تردها على قواعد إبراهيم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لولا حدثان قومك بالكفر‏)‏، فقال عبد اللّه بن عمر‏:‏ لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما أرى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر، إلا أن البيت لم يتم على قواع إبراهيم عليه السلام‏.‏ ورواه مسلم أيضاً من حديث نافع عن عائشة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية - أو قال بكفر - لأنفقت كنز الكعبة في سبيل اللّه ولجعلت بابها بالأرض، ولأدخلت فيها الحِجْر‏)‏‏.‏
ذكر بناء قريش الكعبة بعد إبراهيم الخليل عليه السلام وقبل مبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بخمس سنين
وقد نقل معهم الحجارة وله من العمر خمس وثلاثون سنة صلوات اللّه وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين‏.‏
قال محمد بن إسحاق في السيرة‏:‏ ولما بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خمساً وثلاثين سنة، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة وكانوا يهابون هدمها، وإنما كانت رضماً فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفراً سرقوا كنز الكعبة‏.‏ وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم فتحطمت، فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها، وكان بمكة رجل قبطي نجار فهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها، وكانت حية تخرج من بئر الكعبة فتشرف على جدار الكعبة وكانت مما يهابون، وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزألت إحْزأَلَّتْ‏:‏ ارتفعت واستعدث للوثوب وكشت وفتحت فاها فكانوا يهابونها، فبينا هي يوماً تشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع، بعث اللّه إليها طائراً فاختطفها فذهب بها، فقالت قريش‏:‏ إنّا لنرجو أن يكون اللّه قد رضي ما أردنا، عندنا عامل رفيق وعندنا خشب وقد كفانا اللّه الحية، فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنيانها قام ابن وهب خال والد النبي، وكان شريفاً ممدوحاً بن عمرو بن عائذ فتناول من الكعبة حجراً فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال‏:‏ يا معشر قريش لا تدخلوا في بنانها من كسبكم إلا طيباً، لا يدخل فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس‏.‏
ثم إن قريشاً تجزأت الكعبة فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبني جمح وسهم، وكان شق الحجر لبني عبد الدار ابن قصي ولبني أسد بن عبد العزى بن قصي ولبني عدي بن كعب بن لؤي وهو الحطيم، ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه، فقال الوليد بن المغيرة‏:‏ أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول ثم قام عليها وهو يقول‏:‏ اللهم لم ترع، اللهم إنا لا نريد إلا الخير، ثم هدم من ناحية الركنين، فتربص الناس تلك الليلة وقالوا‏:‏ ننظر فإن أصيب لم نهدم منها شيئاً ورددناها كما كانت وإن لم يصبه شيء فقد رضي اللّه ما صنعنا، فأصبح الوليد من ليلته غادياً على عمله‏.‏ فهدم، وهدم الناس معه حتى انتهى الهدم بهم إلا الأساس - أساس إبراهيم عليه السلام - أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة آخذ بعضها بعضاً قال‏:‏ فحدثني بعض من يروي الحديث‏:‏ أن رجلاً من قريش ممن كان يهدمها أدخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أيضاً أحدهما فلما تحرك الحجر انتفضت مكة بأسرها فانتهوا عن ذلك الأساس‏.‏






التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس