منذ زمن طويل كانت هناك مدينة يحكمها ملك , وكان أهل هذه المدينة يختارون الملك بحيث يحكم فيهم سنة واحدة فقط , وبعد ذلك يرسل الملك إلى جزيرة بعيدة حيث يقضي فيها بقية عمره , ثم يختار الناس ملكاً آخر بعده.
وهكذا أنهى أحد الملوك فترة الحكم الخاصة به , وألبسه الناس الملابس الغالية , وأركبوه فيلا كبيراً , وأخذوا يطوفون به في أنحاء المدينة لتوديعه , وكانت هذه اللحظة من أصعب اللحظات على كل ملك تنتهي ولايته , ثم بعد ذلك أركبوه السفينة التي تقوم بنقله إلى الجزيرة البعيدة حيث يقضي فيها بقية عمره .
وفي طريق عودة السفينة لاحظوا شاباً يصارع الموج متشبثاً بلوح خشبي , فطلب منهم المساعدة لإنقاذه , فأجابوه شريطه أن يوافق على أن يكون ملكاً عليهم ! ولما أطلعوه على شروط هذا المنصب , وأنه بعد عام سيُحمل إلى تلك الجزيرة املهجورة , كاد أن يتراجع , ولكنه قبِل مرغماً.
وبعد ثلاث أيام من تولي الملك الشاب العرش سأل وزراءه : هل يمكن لي أن أرى هذه الجزيرة التي أُرسل إليها جميع الملوك السابقين ؟ فوافق الوزراء وأخذوه إلى الجزيرة , فرآها موحشة تكسوها الغابات الكثيفة وترتع فيها الحيوانات المفترسة , فلما توغل فيها هاله ما رأى , فقد وجد جثث الملوك السابقين وعظامهم تغطي الأرض , فأدرك أن الحياة مستحيلة في هذه الجزيرة وأن مصيره بعد مرور السنة هو الموت .
حينها .. قرّر الملك الشاب في نفسه أموراً أخذ يُعِدّ لها دون أن ينتبه أحد لما يفعل .
وفور أن تولى زمام الحكم , أخذ يعدل بين الرعية ويعين المظلوم , ويأخذ على يد الظالم حتى أحبه أهل المدينة كلهم , وكلما اقتربت نهاية مدة حكمه , ازدادت الرعية قلقاً عليه وخوفاً , بينما هو يزداد استبشاراً وفرحاً , وقد دعاهم هذا لأن يتعجبوا من فرحته وهو يعلم بمصيره المفزع مع نهاية العام , مع أن الملوك السابققين كانوا يزدادون هلعاً كلما اقتربت مدة نهاية حكمهم , ولكنه وياللعجب شديد الفرح باقتراب يومه هذا !
ولما كان هذا اليوم المحتوم أخبره الوزراء أن فترة حكمة ستنتهي في الغد , وأنهم سيسيرون به ليلقى مصيره في الجزيرة المهجورة حسب قانون مدينتهم .
وعلى غير عادة الملوك السابقين تلقى الملك الشاب الخبر بفرح شديد , وتلقت الرعية الخبر بحزن بالغ على رحيل ملكهم العادل وازداد بكاؤها في وداعه , بينما ظل الملك ضاحكاً مستبشراً حتى تعجب الناس والوزراء .
ولمّا سألوه عن سر سعادته أجابهم : ستعرفون حينما تذهبون بي إلى الجزيرة المهجورة ! وحينما وصل الركب إلى الجزيرة لم يجدوا تلك الجزيرة الموحشة , بل وجدوا حدائق غنّاء , وطرقاً ممهدة , وأنهاراً تجري في أنحائها , ومساكنٌ مشيّدة , ومزارع مثمرة.
فسألوه متعجبين : وأين تلك الجزيرة المهجورة ؟! فأجابهم الملك الشاب : إنني حينما علمتُ أنّني لا محالة قادم إلى هذا المكان , شرعت في تهيئته لمثل هذا اليوم , ولم يُلهِني الحكم وملذته عن التفكير في مصيري المحتوم في هذه الجزيرة , فجمعت العمال الأقوياء وأرسلتهم إلى الجزيرة , وأمرتهم بتنظيفها وتمهيد طرقاتها , وضربت على الحيوانات المفترسة حاجزاً يقي السالكين خطرها , ثم زوّدت المزارع بحيوانات أليفة منتجة , وبنيت البيوت وهيأت مرسىً للسفن , وعمّرت الجزيرة حتى غدت بهذا الجمال .
ولمّا كان الملوك السابقون منشغلين بمتعة أنفسهم أثناء فترة الحكم , كنت أنا مشغولاً بالتفكير في المستقبل وخططت لذلك وقمت بإصلاح الجزيرة وتعميرها حتى أصبحت جنّة صغيرة يمكن أن أعيش فيها بقية حياتي بسلام .
والدرس المأخوذ من هذه القصة يشير إلى أن الحياة الدنيا ما هي إلا مزرعة للآخرة , فينبغي ألا نغمس أنفسنا في شهواتها ونعزف عن الآخرة حتى ولو كنا ملوكاً . ولاننسى قول رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام : ( لاتزال قدما عبد حتى يُسأل أربع : عن عمره فيما أفناه , وعن علمه مافعل فيه , وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه , وعن جسمه فيما أبلاه ) .
اللهم إنا نسألك حسن الخاتمة وسكن جنات الفردوس .