خطيئة مرتبة
شوقي رجلا مؤمنا متدين ذو خلقٍ عالية حافظاً للقرآن مطبقاً لتعاليمهِ لم يفعل محرمً في حياته فلا عينٌ نظرت إلى خطيئة ولا لسانٍ قال أثمً قلبٌ ثابتُ على الإيمان يحترم الجميع ويقدرهم كبيرا كان أو صغير , كل أهل حيه يحبونه بشدة لما وجدوهُ من صفاتٍ لعبدٍ صالح يسير على خطاها , متواضعٌ زاهدُ ورع لايخطئ في حق أحدٌ حتى المرفوع عنهم القلم , وخصوصا أبن جاره (الفتى المجنون) الذي يسكن مع أبيه في جوار منزله فكان يعتبره أبنا له يتحمل تصرفاته وطيشه يعطيه المال ويشتري له كل مايريد .
ذهب ذات يومٍ إلى عمله كالعادة يكرس وقته لخدمة الآخرين , راح يتكلم مع أحد زملائه في العمل والذي عرف عنه سوء خلقه ووقاحته وكأن الأقدار المشؤومة تتربص بشوقي لتختبره , وبينما هم وسط حوارهم باغته زميله بسؤال :
- الزميل : هل رأيت الفتاة الراقصة التي أحتلت المرتبة الأولى في برنامج المواهب بالأمس ؟
- شوقي : تعلم جيدا بأنني لااشاهد هذه السخافات .
- الزميل : يارجل أعلم ذلك , ولكنها مجرد فتاة تمتلك موهبة ليس لها مثيل , هل تريد أن اريك طريقة رقصها ؟
- شوقي : دعك مني , ليس لي ماتشاهدونه .
- الزميل : صدقني هو مجرد مقطعً قصير , حتى انها لاترقص! فقط تقوم بأداء بعض الحركات الرائعة ؟
- شوقي : لاتكن كالشيطان ياهذا , سلك درب الخطيئة ويريد الآخرين أن يلحقونه .
لم يدعه زميله وشأنه وكأنه الشيطان بحق ظل يلح عليه ويلح وشوقي يقاومه ويرجمه ويحاول الثبات على عقيدته , هنا وهناك وزميله يصر ويصر ليرميه من صراطه , تمتم شوقي في ذاته : أن إيماني قوي لايتزعزع ولكي أتقي شر هذا اللعين , لما لا أشاهد هذه الراقصة فلن اتأثر بها فمن قال بأن هذا المقطع القصير سيهز وجداني .
وبالفعل راح شوقي يلقي نظرة قصيرة وسريعة في هاتف زميله على الراقصة , أنبهر لجمالها ورقصها وعهرها قام يعيد المشهد مرتين وثلاث شيئا لم يره من قبل شعورا لم يحسه يوما , مما لفت انتباه زميله الذي انتهز تلك الفرصة وقال له : يبدو أنها اعجبتك , لدي مقطعٌ أباحي لهذه الراقصة هل تريد مشاهدته ؟
لم يصدق شوقي ذلك فهو لم يعتد حياةً كهذه تملؤها الفحشاء والمنكر فقال لزميله : هل حقا! إذا أرسلها على هاتفي ودعني أشاهد . وبالفعل راح زميله يرسل له مقطعً تلو مقطع حتى اصبحت مقاطع وكأنه يرميه بحجارةٍ من سجيل وشوقي يشاهد ويشاهد كحيوانٍ أخرج لتوه من أدغال افريقيا , فقال لزميله : أتعرف , سأذهب إلى المنزل لأشاهدهم بكل هدوء وحين يسألك عني المدير أخبره بأنني شعرت بوعكة صحية وذهبتُ لزيارة الطبيب .
خرج بسرعة ركب سيارته وفي طريق عودته إلى المنزل أوقفته أشارة مرورٍ لعينة وكأنها تريد أن تفسد 32 سنة من عمره ظنه عاشها في ظلماتٍ بدل النور , أستغل فرصة توقفه وأخرج هاتفه الذي أصابه بالهوس والنشوة وراح يشاهد مقطعا أباحيا تلو الآخر , وبينما هو كذلك جاء طفلا فقيرا وطرق نافذة سيارته يطلب مالا , مما اغضب شوقي كثيرا راح يصرخ عليه ويصفه بالمحتال والسارق ويوبخه حتى طرده , أبتعد عنه الطفل خطوتين إلى الوراء ثم رجع إليه مرة أخرى , وسأله
- الطفل : هل تقرأ القرآن ياهذا ؟
- شوقي : ويحك! أمثلك يعلمني بالقرآن ؟
- سأله الطفل مرة اخرى : هل تقرأ القرآن ياهذا ؟
- شوقي : هيا هيا! أذهب من هنا! أذهب إلى والدك الذي لم يحسن تربيتك! لو أن والدك رجلا لما جعلك تطلب المال من الناس ؟
- سأله الطفل مرة ثالثة : هل تقرأ القرآن ياهذا , أجبني أرجوك ؟
- شوقي : نعم نعم! اقرأه وأحفظه , ماذا تريد ؟
- بكى الطفل ودموع الضياع على خديه واضحه , وقال متحشرجا : هل قرأت قوله تعالى (أما اليتيم فلا تقهر)!
ثم تركه الطفل وذهب , بعدها بثوان أكمل شوقي طريقه حتى وصل بيته وهو لايدري بمن حوله .
عاد إلى منزله الذي انتهك حرمته بنفسه وظل ممسكا بهاتفه يشاهد ويشاهد منغمسا بكل شهواته وكأنه يريد أن يدخل إليهم ويعيش معهم في عالمهم يتعرى وعارياتٍ تجلس معه , راح يلعن حظه وماضيه ومن حرمه من كل ذلك وكيف لم يجرب حياة كهذه , حتى غطى في سباته يحلم بكل أجساد الفتيات الذين يعرضون مفاتنهم لتلتقطهم العدسات وهم يبتسمون ويفعلون مايفعلون ويتباهون بفعلتهم كالبهائم .
وفي غمرة نومته الثقيلة تلك رن هاتفه مقاطعً راحته ولم يتوقف عن رنينه حتى استيقظ مرتبكا ظنا منه فتاة ما , نظر إلى هاتفه أرتبك اكثر واكثر إذ تبين بأن المتصل مديره في العمل ,
- شوقي : أهلا بك ايها المدير ؟
- المدير : مرحباً كيف حالك , أردت ان أبلغك بأن الشركة بدأت تعييد أستراتجيتها في التوظيف وسلم الرواتب .
- شوقي : حسنا أنه شيئا جيد وسيفيد العمل كثيرا .
- المدير : ولكن يؤسفني أن اخبرك بأننا سنقوم بطرد عددً من الموظفين , وأنت أولهم .
- شوقي : سحقا ولما ذلك , انني اقدم الموظفين واكثرهم كفاءة وقدرة في العمل ؟
- المدير : اعرف , ولكن خروجك اليوم من الشركة دون اذنً من احد تسبب لك في ذلك .
- شوقي : لقد خرجت بسبب مشاكل صحية احسست بها ؟
- المدير : اتمنى لك التوفيق في المستقبل , إلى اللقاء .
قام غاضبً يلعن حظه وكل شيئا في عالمه يسب هذا ويشتم ذاك يرمي مصيبته على الحاقدين في العمل ونسي خطيئته التي ارتكبها , خرج إلى الشارع ليزيح وساوس الغضب التي أعتلت صدره وجثمت عليه وما ان تخطت قدمه باب المنزل إذ به يشاهد ابن جاره (الفتى المجنون) يعيث خرابا في سيارته بعد أن هشم زجاجه , لم يتمالك شوقي نفسه خرج عن عقال حلمه غضبا وذهب بسرعة وأمسك الفتى وراح يضربه ويضربه حتى سقط مغشيا عليه .
الا ان ذاك لم ينفس عمابداخله فغضبه حول ماتبقى من إيمانه إلى كفر , دخل منزله وأخرج سلاحً كان يمتلكه وذهب إلى بيت جارهِ (والد الفتى المجنون) وراح يطلق عليه الرصاص ويقول : أيها السافل لقد أخبرتك من قبل أن تبعد ابنك الغبي عن سيارتي , انظر ماوصلت الامور اليه! حتى خرى الرجل صريعا بين طلقات الرصاص يسبح في غزارة دمه .
في كل تلك الفوضى والجنون التي وصل اليها شوقي ظل متوقفا في غرفة قتيله محتنقً غاضبً يريد أن يكمل عدد ذنوبه وخطاياه ولكن لايعرف اين يجد ضحية اخرى تشهد ضده في يوم حسابٍ آتٍ لامحالة , أخذ ينظر إلى نفسه في المرآة ينظر وينظر وظل يمعن النظر ولكن ليس في نفسه بل كان ينظر إلى (شوقي الآخر) فراح يخاطبه ويعاتبه والدموع تذرف من عينيه ,
- شوقي : اللعنة , لقد كانت خطيئة صغيرة لاتحتسب ؟
- (شوقي الآخر) : لكنها جعلتك تهمل عملك .
- شوقي : لقد كانت خطيئة صغيرة ؟
- (شوقي الآخر) : لكنها جعلتك تقهر يتيمً .
- شوقي : لقد كانت خطيئة صغيرة ؟
- (شوقي الآخر) : لكنها جعلتك تحرج مجنونً .
- شوقي : لقد كانت خطيئة صغيرة ؟
- (شوقي الآخر) : لكنها جعلتك تقتل ماحرم الله .
- شوقي : ماذا بك ياشوقي الآخر , اقول لك لقد كانت مجرد خطيئة صغيرة ؟
- (شوقي الآخر) : لاتناديني بهذا , شوقي مات ودفن .
أستمر شوقي في ونحيبه وغضبه وصراخه وتبجحه بخطيئته الصغيرة ألا أن شوقي الآخر لم يرد عليه مما زاد من حنقه وأفقده عقله , يبحث عن أحدا ليسفك دمه ويلجم نيران غضبه في جسده , راح ينظر من حوله هنا وهناك فلم يرى ألا دماءً أهدرها قبل وقت وغيمة سوداء تحيطه من كل جانب أحس بها ظلمةً من ظلمات يوم القيامة , فلم يجد عدا نفسه وحيداً في تلك الظلمة فرفع سلاحه إلى رأسه وردد بهدوءٍ شديد : لقد كانت خطيئة صغيرة! اللعنة , لقد كانت خطيئة صغيرة! ثم أطلق الرصاص على نفسه .
م / ن