يعتبر التمزق النفسي والشعور بعدم الرضا بالواقع الذي يعيشه الشاعر من الظواهر
الرومانسية البارزة ، لا في الشعر الغربي فحسب ، بل وفي الشعر العربي أيضا . فكثير من
الشعراء الرومانسيين العرب تعتريهم حالات من الحزن والكآبة نتيجة لهذا القلق الذي تغطى
سحبة الداكنة سماء ذواتهم . وقد غلب هذا القلق والتبرم والشعور بالحزن والكآبة على نتاج
الشعراء في المملكة العربية السعودية بحيث أصبح ظاهرة نفسية تنعكس على خطابهم
الشعري ، ونرى ملامحها في جل إبداعهم الفني . ويعلل أحد الباحثين أسباب هذا القلق والتمزق
النفسي " بالظروف القاسية ، والحب المعذب اليتم ، والفقر ، والحرمان " (1) .
يقول القصيبي من قصيدة بعنوان " حرمان " (2) ( من الخفيف ) :
ضحكت ها هنا الحياة ..فأكواب ***** وأسرب فاتنات حسان
أين كأسي ؟ لا تسألوا ..أنا لا ***** أشرب إلا مرارة الحرمان
ويعلل باحث آخر بأن ما يسيطر على أصحاب النزعة الرومانسية من قلق نفسي ، وما يصاحبه من عوارض أخرى مرده إلى " عدم توازن القوى النفسية عند هؤلاء الشعراء الذين طغى الشعور عليهم بذات أنفسهم طغيانا دفعهم إلى النقمة على كل ما هو موجود ، والتطلع إلى ما لا يستطيعون تحديده ، خاصة في عالم السياسة والخلق والأدب " (3) .
كما أن القلق النفسي وما يصاحبه من تشاؤم طبيعية في سن الشباب ، سن التبرم والضيق والانطوائية ، وعدم المواءمة بين الواقع وأحلام الأرواح الفتنة ، وآمالها الواسعة ) وقد انعكست تلك الأعراض على أحاسيس ومشاعر القصيبي فقال ( من الكامل ) :
ورجعت للدنيا . . أجر كآبتي **** خلفي .. أقوم مع الجموع وأقعد
أخفيت عن كل العيون مواجعي **** فأنا الشقي على السعادة أحسد
وأنا العليل أحس أدواء الورى ******* وأنا المرقط بالجراح أضمد
وأنا المقيد والعناة تحف بي **** وأنا البخيل يزوره المسترفد (4)
ولا يقف الأمر بالشاعر القلق عند حد الكآبة ولتمزق النفسي والتبرم من كل ما يحيط به ، بل نجد احزن أيضا من الظواهر المصاحبة لهذا القلق ، ذلك الحزن الذي يسيطر على الشاعر إلى حد اليأس ، رغم إخفاء مظاهره عن الآخرين وإدعائه الفرحة ، ورسم ابتسامة باهتة على شفتيه . وإلى جانب الحزن لا يستطيع التخلص من الحيرة والتمزق الداخلي اللذين يصاحبانه في رحلة الحياة لمؤلمة . يقول ( من مجزوء الرجز ) :
كقطرة من مطر ـــــ تسلقي ، تسوري
وطالعى تمزقي ــــــ وشاهدي تحيري
تأملي العذاب كالضبا ـــــ ب في تفكري
وفرقى القناع عن ـــ زيفي .. وعن تنكري
أضحك للناس وفي ـــ روحي دموع الأعصرِ
وأدعي الفرحة والحز ــــ ن سمير سمري
تصوري هذا الخداع ـــــ كله تصوري (5)
وغالبا ما يترجم القلق والحزن عند القصيبي إلى خوف وأوهام وهموم تلاحقه إن اتجه أو استقر ، ويهده الألم ، ويقيد خطوه اليأس ، ويحتويه طريق الضياع . يقول من قصيدة بعنوان " قافلة الضائعين " (6) ( من المتقارب ) :
حواني طريق الضياع الطويل
وجاء المساء
وأبصرت أسباحه الواجمة
تحملق في
وظلت تردد في مسمعي :
إلى أين تمضي وهذا الطريق
بدون رجوع ؟
وضج بأذني عويل الرياح
وروعني من وراء الكهوف عواء الذئاب
وخلف انحناء الدروب رأيت عيون الوحوش
وكدت أعود
ولكن سدا رهيبا أطل
يسد على طريق الرجوع .
والحيرة والملل وتمزق الفكر من الرواسب النفسية التي يخلفها القلق في أعماق الشاعر ، حيث غدا يجر خلفه أذيال اليأس ، وخيبة الأمل ، ينفث زفراته الحري من آن لآن . فاسمعه يقول ( من البسيط ) :
هل تستطيعين إنقاذي من الملل ـــ هل ستطيعين إرجاعي إلى مثلي
أنا أمامك .. أفكار ممزقة ــــــ وحيرة .. ( تماس ) ضائع السبل
لم ترشف من ينابيع الرضا لقافلتي ــــ ولم تنور براكين السنى مقلي
ما زلت أبحث عن درب لقافلتي ـ ما زلت أبحث عن مغنى لمرتحلي (7)
واليأس والأوهام ، والآلام النفسية عناصر يفضي بعضها إلى بعض في قناة القلق النفسي الذي لا ينفك ملازما للشاعر يتعقبه من وقت لآخر ، ومن درب إلى درب ، حتى أصبح ديدنه الذي لا مفر منه , وغدا ملمحا من ملامح ذاته الحزينة , نلحظه في كثير من قصائده , بل شكلت ألفاظ اليأس والأوهام والأحزان , والأم والكآبة والضيق والتبرم , وما إلى ذك من ألفاظ معجمه الشعري المميز ( يقول من البسيط ) :
لجأت من قسوة لأيام .. فابتسمي ـــ وكفكي وحشة الضيف الذي لجأ
تأمليني ! أنا الجرح الذي هربت ــ منه الأساة ... أنا الجرح الذي نكئا
تأمليني أنا الإصرار منهزما ـــ واليأس محتدما .. والجمر منطفئا (8)
ويقول في قصيدة أخرى ( من الرمل ) :
أنت يا ذات العيون الساحرة
تتسلِّين بنقش الصفحات العاطرة
وأنا أسكن في يأس الجراح الغائرة
أنت لا تدرين ما الحزن..
ولا عرس المعاناة
ولا حلم النفوس الصابرة . (9)
والتشاؤم والتبرم والضيق ذرعا بالحياة مسرب من مسارب القلق النفسي يصب فيه ويتغذى منه , وقد يصاحبه حيرة وتساؤلات فلسفية حول رحلة الإنسان ووجوده ,ودوره في هذا الكون المليء بالتعمية والألغاز ووقوفه عاجزا أمام لغة هذه الحياة وسرها الدفين ,
يقول من ( الرمل )
إنني أجهل حتى مقصدي ــــــــ أتمنى أنني لم أولد
أنا في قفر حياتي ضائع ــ سار في الركب بخطو مجهد وئد
لفنى الليل ... فما أدري وقد ــــ وئد النور , بماذا أهتدي
أين أمضي ؟ يا سؤالا لم يزل ــــ ظامئا يقرع سمع الأبد
هذه الرحلة ما أغربها ـــــ أترى ندري مداها في غد (10)
وفي أحايين كثيرة يكاد القلق النفسي وما يصاحبه من أعراض نفسية أخرى أن يودي بالشاعر فيدفعه إلى تمنى الموت ، لأنه ـ ومن وجهة نظره ـ يعد الخلاص مما علق بنفسه ومما يسيطر عليها من أوهام وهموم وشك وتشاؤم وحيرة وتساؤلات لم يجد لها جوابا . يقول ( من المتقارب ) :
لماذا أعيش
لماذا أودع يوما وأرقب يوما
ويدفن عام ويولد عام
وما في الحياة جديد
تمر على الليالي
مكفنة بوجوم عميق
تراقص فيه ظلال الملل
سجون مغلفة بالأسى
تسمى حياة
وماذا أريد
مصابي .. أني أجهل ماذا أريد
.......
إلهي ! .. سألتك : " خذني إليك "
فإن حياتي ضاقت على " (11) .
لقد أحس الإنسان العربي بالغربة . هذه الغربة ، التي كانت نتيجة طبيعية لهذا التغير المفاجئ ، والتبدل الطارئ الذي اعترى الحياة الاجتماعية على أرض الخليج عامة ، لذلك نجد الشاعر يحلق بأشواقه على أجنحة الخيال بعيدا عن عوالم الواقع الموبوء بالآثام والشرور ، والنفور من أدواء المجتمع ، وعدم الاستقرار الروحي والمادي معا ، كل ذلك ولد في نفسه حب العزلة والانطوائية الذاتي يقول ( من الرمل ) :
مر بالكون غريبا
ومضى يدفن في المجهول أياما
قصيرهْ
مغرقا في لجة الموت أمانيه
الكسيره
فإذا ما جمع الليل الندامى
وأطل الفجر مدوها كمن
ينعى حبيبا
فاخبريهم أنه مات غريبا
ويحدثنا د / عبد القادر القط عن الغربة والضياع في جوف المدينة فيقول : " يتحول الإحساس بالغربة والضياع في المدينة عند الشاعر إلى شعور بضياع وجودي أعم وأعمق من ذلك الذي ينبع من العجز عن مواجهة الحياة والناس في المدينة ، . فهو قلق النفس الرومانتيكية المشدودة بين أحلام غائمة ، لا تدري كنهها ، ولا تدرك مداها ، وهو تمرد على الحياة النمطية الرتيبة التي تقتل في النفس الانطلاق والتجدد " (13) . وقد مثل القصيبي الغربة والضياع في المدينة أفضل تمثيل عندما صور إحساسه الرافض لهذه الغربة الروحية والمادية معا ، المتجسدة في صخب المدينة وضجيجها فقال من ( الرمل ) :
أيها الناس ! قفوا فالميت شاعر
كفنوه بالأزهار وبالورد الندي
واقبسوا آخر لمح
شع في الوجه الرضي
ادفنوه في رحاب المعبد المهجور ..
إنه قد مل ضوضاء المدينة (14) .
ويشكل الحنين مظهرا من مظاهر الغربة ، والمرأة الحبيبة واحدة من هذه المحسوسات التي ناجها الشاعر وحن إليها فهو يقول :
أنا وحدي اجر عبء حنيني ـــ أنا وحدي .. فشاطريني شجوني
ابعثي في من سناك شعاعا ــــــ إنني تهت في ظلام السنين
انظري لي .. أن الحنين بقلبي ــــ تتراءى ظلاله في جفوني (15)
ويؤكد الشاعر حنينه للمرأة الحبيبة هذا الحنين الذي دفعته إليه الغربة غربة الذات وغربة الجسد وكلتاهما حركتا في أعماقه مشاعر الأمل باللقاء ونشبتا في قلبه عن بقايا لذكريات دفينة كل ذلك دفع به ليصرخ بأعلى صوته معلنا هذا الحنين إلى الحبيبة كلما تذكر الأهل والوطن .
حبيبة لا تتركيني لليل ــــ كئيب .. وفجر شحيح السنا
ولا تسلميني لدرب الضياع ـــ ولا تكليني لجرح الضنا
أنا وفلول من الذكريات ـــ وصمت المساء وبقيا المنى
أحن إليك حنين الغريب ـــ إذا ذكر الأهل والموطنا (16)
وطبعي أن يكون الانتماء إلى تراب الوطن أهم بواعث الحنين عند الشعراء عامة وعند القصيبي خاصة فقد عشقه بكل أبعاده وسماته بعد أن سلم العيش مغتربا والجري اللاهث وراء المدنية الزائفة والتقدم المادي الكاذب .، يقول من قصيدة حب للبحرين ( 17)
بحرين ! هذا أوان الوصل فانسكبي ــــ عليّ بحرين من دور ومن رطب
تنفسي في شجوني .. وادخلي حرقي ــ واسترسلي في دمائي .. واسكني تعبي
وسافري في عيوني يا معذبتي ـــ بالهجر .. يا ظمأى المعطاء .. يا سغبي
يا فرحتي .. ورياح اليأس غاضبة ـــ يا نشوتي .. حين يذوى موسم العنب
يا ضحكتي والدموع الحمر تعصرني ــ يا واحتي وهجير القفر يعبث بي (18)
والقصيبي من الشعراء السعوديين بل الخليجين القلائل الذي استطاع أن يصور حنينه وغربته وقلقه النفسي أصدق تصوير ، " بل هو من أقدر الشعراء الشباب على تصوير تلك النزعة الرومانسية من حنين وغربة وقلق في أسلوب يجمع بين رصانة القديم وأصالته وإيقاعه الشجي وشفافية العبارة وحداثة بنائها وقدرتها على الإيحاء وبمستوى فوق المستوى الأول للمعنى والصورة " (19) ، ومن النماذج الشعرية الوجدانية التي واءم فيها القصيبي بين الأصالة والمعاصرة إلى جانب ما تحويه من شوق وحنين قوله من قصيدة بعنوان : أغنية للخليج (20) من البسيط :
أتيت أرقب ميعادي مع القمر ـــــ يا ساحر الموج والشطان والجزر
هديتي رعشتا شوق .. وقافية ـــــ حملتها كل ما عانيت في سفري
أتيت أمرح فوق الرمل .. أنبشه ـ عن ذكرياتي القدامى عن هوى صغري
خليج ما وشوش المحار في أذني ـــ إلا سمعتك صوتا دافئ الخدر
ولا ترنم ملامح بأغنية ـــــ إلا وضحت أغاني الغوص في السهر
حتى أتيتك فامسح بالنسيم على ـ آهات جرحي ورش الموج في شرري
/
\
روووبــــــي