إن أكبر فتنة تحجب المريد عن فضل الله هي العلم لأن العلم يجمع الخلق عليه، فإذا اجتمعوا عليه ربما اغترَّ بهم فترك الجهاد؛ فهوى في وادي الإبعاد، أو ربما ظنَّ أنه على شيء وهو ما زال في البدايات والنهايات تحتاج إلى أهل النظر الدائم لسيد السادات صلَّى الله عليه وسلَّم.
فإنه رأى ما رأى ومع ذلك قال فيه حضرة الله مثنياً على أدبه الذي يحبُّه ممن سار على نهجه وهداه:
( مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ) (17سورة النجم)
وذلك على الرغم من أنه: ( لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ) (18سورة نجم)
ومع ذلك لم يلتفت طرفة عين، مع أن ما رآه لا يتحمَّله أحد من خلق الله، حتى أنبياء الله ورسل الله صلوات ربي وتسليماته عليهم.
فإذا حافظ على صدقه، ولم يلتفت إلى الخلق، أكرمه ربُّه فرقَّاه وأدناه، وكلَّمه كفاحاً، حتى يؤهله بالكلام لشهود ذات تعالت عن النعم، والأنوار، والإنعـام، فيكون كليماً في مقام الكليم، يسمع كلام الله ليس بالآذان، وإنما بكل أعضائه الظاهرة والباطنة، وقد قيل لموسى عليه السلام كما ورد فى الأثر:
( كَيْفَ سَمِعَت كَلاَمَ اللهِ؟، قَالَ : كُنْتُ كُلَّي مَسَامِعَ، وَكُنْتُ أَسْمَعُ كَلاَمَ اللهِ وَكَأنِّي أَسْمَعُ سَبْعِيَن أَلْفَ لِسَانٍ، وَكُلُّ لِسَانٍ يَتَحَدَّثُ بِعَشْرَةِ آلاَفِ لُغَةٍ فِي صَوْتٍ وَاحِدٍ، وَفِي وَقْتٍ وَاحِدٍ)
( إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي
فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ ) (144سورة الاعراف)
وقد قال بعض العلماء عن: (وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ)،
أي: يكفي عليك ذلك، ولكن لا، " لأن الشكر يستوجب المزيد"(1)
( لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ) (7سورة ابراهيم)
والشكر في هذا المقام ؛ ألا يشتغل بالإنعام عن المنعم عزَّ وجلَّ طرفة عين ولا أقل. فإذا ظلَّ على هذا الحال ،واشتغل ظاهراً وباطناً بالمنعم المتعال!،وتخللت محبَّة الله جميع حقائقه، وصارت كل جارحة تقول: " الله "، وكل شعرة تقول: " الله "، وكل طرفة فيه تقول: " الله "، وصار كله ظاهراً وباطناً على قدم خليل الله؛ أكرمه الله تعالى ورقَّاه وجعله خليلاً فى مقام الخليل.
فإذا شاءت عناية الله وسابقة حسناه أن يتفضَّل على عبده بالمزيد من الرقىِّ والإنعام، رقّاه إلى المقام المحمدى:( قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ) (91سورة الأنعام)
فيكرمه الله عزَّ وجلَّ ويرفعه إلى مقام اليقين الأعظم، ويصل إلى سدرة المنتهى.
وإذا وصل سدرة المنتهى فبروحه، وليس بجسده ، لأن هذه خصوصية للحضرة المحمديَّة ، أما صاحب مقام اليقين الأعظم، فقد خصَّه الله بهذا المقام مناماً، أو عياناً بروحه، من باب وراثة قول الله:( أَسْرَى بِعَبْدِهِ ) (1سورة الإسراء)
فلم يقل بنبيه ولا برسوله، وَوُوجِهَ بالسدرة، فأدبته السدرة بآداب العبودية الكاملة، فيصير عبداً صرفاً لله.ولا يكون المرء عبداً لله، إلا إذا كان حراً مما سواه، فيكمل بكمال العبودية من سدرة علوم الخلائق، ومنتهى الرقائق، سدرة الأوصاف، وسدرة الكمالات، وسدرة التجليات، وحقيقتها ومعناها: سيدنا محمد صّلى الله عليه وسلم.
والتجليات الإلهية على هذه الحضرة ؛ في كل نفس لا تنتهي، من الجمال والكمال، ونعوت العظمة والوصال:
جمــــــال لا يشـــــــابهه جمالٌ وحسنٌ ليس يحصيــــــــــه جناني
وقد كُلِّفتُ كتم السرِّ حتى شهدت فباح عن سرِّي لساني
فإذا تجمَّل بجمال العبودية، وصار عبداً تاماً على قدم حبيب الله ومصطفاة، كشف عن قلبه الحجاب، وسمع لذيذ الخطاب، وشاهد على قدره بالله وجه الله وكمال الله، ونال رضاء الله!، فزُجَّ به في الأنوار، فطاف بكل عوالم الواحـد القهَّار، ولا يستقر له قرار، حتى يوقفه الله مع كمال التنزيه بين يديه، ويخاطبه عزَّ وجلَّ بأعزِّ ما لديه، ويفوز بقدر من قوله عزَّ شأنه:
(هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا . تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا )(سورةالأحزاب)
فيرى من جمال الله، ومن بهاء الله، ومن كمال الله، ما قال فيه الرجل الصالح عندما سألوه عن رؤية هذا الجمال، وعن أسرار هذا الكمال، وكيف رآه؟ وكيف تملَّى بجمال الله:
{ وكيف ترى عين تمــــــوت الحي الذي لا يمـــــــوت}.
إذا تجلَّى حبيبي بأي عين أراه
بعينه لا بعيني فما يراه سواه
فإذا تجمَّل بجمال العبودية، كساه الله بحلل الربوبية:
( كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ )
وفى رواية أخرى زيادة: (: وَلِسِانُهُ الَّذِى يَنْطِقُ بِهِ)(2)
فيرى بنور الله حضرة الله، ويسمع بسمع الله كلام مولاه، ويتمتع بما فيه من الله بعوالم حضرة الله الذاتية في غيبة هذه العوالم الطينية
فيرجع إلى الأكوان متأدباً بآداب سيد ولد عدنان، يخبر بما رأى على قدر ما يرى من تحمل القلوب
فقد أخبر أهل مكة أولاً بالإسراء، ولم يخبرهم بالمعراج، وأخبرهم مع أنه يعلم أنهم سيكذبوه، لأنه لابد وأن ينفذ أمر الله، ولا يرجع عن أمر الله طرفة عين.ولأنه ينفذ أمر الله، فإن الله أيده وكذلك أولياء الله، وأحباب الله
(1)يعنى ليس من باب " أن الشكر يستوجب المزيد " ، ولكن من باب " يكفيك هذا فاشكره .. الرضا " .
(2)رواه البخاري ومسلم وأحمد عن أبـي هريرةَ رَضِيَ الله عنه وفيه ( وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا ، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِي لأعْطِيَنَّهُ ، وَإِنِ اسْتَعَاذَنِي لأعِيذَنَّهُ ،) من رواية جامع الأحاديث و المراسيل .
منقول من كتاب {إشراقات الإسراء الجزء الثاني}