كان دائم السفر بحكم عمله ، و كان كثيرا ما يتغيب عن البيت عدة أيام ، إلا أن هذه المرة تختلف فما أن نزل من القطار حتى توجه الي الرصيف المقابل واستقل قطار العودة .
كان قراره هذه المرة مختلفا و لكنه لم يكن فجأة ، أو أنه نسي شئ ما بل كان قرارا نابع من ثورة شعورية مضرمة في داخله .
زاحم الناس للصعود للقطار الذي شارف على الانطلاق بعد أن سقطت حقيبته من شدة الارتباك ، و ما أن استقر في مقعده حتى شرد ذهنه ولم يشعر بمن حوله و عادت به الذكريات الي يوم لقائه الأول بها فتمددت قسماته و اعترت شفاتيه ابتسامة ساكنة عندما جالت به الذاكرة في ربوع عطفها و حنانها ووضحها ، رنت كلماتها في أذنه : أنت الإنسان الوحيد في حياتي ؟ و فجأة اشتدت قسمات وجه و كشر عن أنيابه وصرخ كاذبة !! فإذا بالجالسين حوله يتسألون ما به ؟ وهو ينظر إليهم في ذهول ! و فجأة أبصر مكانا خاليا فانطلق إليه و استقر فيه ليعيش مع نفسه ما يعانيه ، فزوجته التي لم تكن تخفي عنه كبيرة و لا صغيرة ، التي ما جعلته يوما يشعر أنه تغيب عن البيت اعتراها ما اعتراها مذ ذالك اليوم الذي وصل فيه الخطاب و قالت بنبرة يعلوها الارتباك أنه من أخيها في الخارج هذا الارتباك الذي لزام علاقاتهما في الفترة الأخيرة ؛ إضافة إلى الغموض في تصرفاتها ، فما أن يدخل عليها و هي تتحدث في الهاتف حتى ترتعش يداها و يعلوها الارتباك و يتلعثم صوتها ،كل شئ أصبح غامضا مغايرا لطبيعته مكياجها عطرها صوتها كلماتها فهي متمردة حزينة ، إن هذا لا يدل إلا على شئ واحد ، ردد في نفسه بشيء من الإصرار و الصلابة أنها متمردة على أنا.. أنا.. أنا.. لم تعد تريدني كالسابق ،من المؤكد أن هذا هو ما تفكر فيه فهي حزينة لأنها تأبى أن تجرحني بعد ما قدمت لأجلها !!لا.. كلا .. إنها ليست حزينة لأن من تخون ليس لها مشاعر البتة ، فكيف تشعر بالحزن
أو بالأسى لأجلي إنها لن تشعر حتى بتأنيب الضمير ، لابد وأنها خائفة من افتضاح أمرها ،و لكن لماذا تفعل كل هذا بي ،وأخذ يهز رأسه متمتما بصوت خفيض لماذا… لماذا.. .لماذا؟وقد أعطيتها حياتي
وضحيت من أجلها و مستعد لأن أفعل أي شئ لها حتى وان طلبت الفراق .. و لكن الخيانة .. الخيانة لا.. لا.. لم أتحمل ، لماذا لا تصارحني ؟ لماذا لا تقولها صريحة لها لا أريدك … آه أكاد أجن ، لا بل أكاد أموت .
و ظل شارد الذهن و الانفعال على كل قسمة من قسمات وجهه فهو لا يدري كيف يتصرف معها إذا ثبت خيانتها أيقتلها ليضيع ما تبقى من عمره أم يطلقها و لا يكون هناك ثمن للخيانة ،و فجأة و مع اهتزازات القطار المستمرة سقط ذلك الرجل الذي ظل يتنقل بين المقاعد ليصل إلى الباب استعداد للخروج عليه فأفاق من شروده و أيقن بشيء من الحسم أن عليه الاستعداد لتلقي المفاجأة وأن يحسن التصرف معها ، و ما أن وصل القطار إلى المحطة حتى انطلق مسرعا صوب أول سيارة أجرة و قد قارب الليل على الانتصاف .
وصل إلى العمارة و القلق أخذ يستبد به و بدأ يقدم خطوة ويؤخر أخرى ثم تقدم في حسم و الرعشة تعتريه من قمة رأسه حتى أخمص قدميه لهول ما تخيل أنه سوف يراه ، و ما أن وصل إلى الشقة حتى فتح الباب بهدوء دون أن يحدث صوت ووقف قليلا مرتبكا ثم سمع صوت ضحكات أخذت تتعالى تأتي من غرفة النوم فغلى الدم في عروقه ، واندفع صوب الغرفة في سرعة و فتح الباب بقوة بعد أن استبد به الانفعال ، و ما أن وجد الغرفة خالية حتى تنفس الصعداء إذ أن صوت الضحكات كانت من الجيران فالنافذة كانت مفتوحة على مصراعيها .
إلا أن هذا الهدوء الذي اعتراه مؤقتا لم يستمر طويلا عندما فتش البيت و لم يجدها ، آه تلك الخائنة لا بد و أنها ذهبت إليه حتى لا يشك في أمرها أحد فتبقى الطاهرة الشريفة آه..آه.. يا للنساء !! من هو هذا الذي تركتني لأجله هل ضحى مثلي ؟ هل اتعس نفسه ليسعدها ؟ لا.. لا.. إن الخونة لا يفكرون إلا في أنفسهم فقط .
ثم أخذ يلح عليه سؤال كيف يتأكد من خيانتها ؟ و لكنني متأكد من ذلك ان كل ما علي هو أن أتبث خيانتها ، و لكن كيف .. كيف؟
ثم لمعت عيناه ببريق النصر و الحزن واتجاه نحو الدولاب الذي به أشياءها الخاصة وبأصابع مرتعشة تفتش سريعا أخذ يقلب تلك الأوراق بحثا عن ذلك الخطاب الذي ادعت أنه من أخيها في الخارج ، انه دليل الجريمة ، والدليل الدامغ ، و أخيرا عثر على بغيته مجموعة من الأوراق في ظرف كبير ، و لكن ما أن بدأ بقراءة هذه الخبيئة حتى كاد يغشي عليه من هول ما قرأ فجحظت عيناه ووجمت شفتاه أخذت بعض حبات العرق الباردة تلمع على جبهته ، و أخذ يقول في نفسه : زوجتي مصابة بمرض خطير و أنا أشك فيها ثم ضحك باستهزاء قائلا مرة أخرى يالى سخف تفكيري .. إن هذا هو سرها هو مفتاح الغموض و التناقض في تصرفاتها .. انه ذلك الحزن في عينها .. آه..آه .. واحسرا تاه .. أنا أشك فيها .. وهي تخفي عني سرها حتى لا أتألم من أجلها .. أنا أتهمها بالخيانة .. وهي تحافظ على مشاعري .. و فجأة عقد ما بين حاجبيه و قال : ولكن أين هي ؟
وأنطلق مسرعا صوب الباب قائلا لنفسه نعم .. نعم .. أنها في بيت أبيها ، و ذهب من فوره إلى بيت أهلها وما أن وصل إلى المكان حتى وجد المكان يعج بالأنوار و بالناس الذين تجمعوا عند مدخل البيت بعد منتصف الليل وقد و جموا من الحزن فإذا به يقف مذهلا بعد كل ما مر به و قد أدرك ان وداعها له في محطة القطار كان الوداع الأخير ...