العودة   منتديات الـــود > +:::::[ الأقسام الثقافية والأدبية ]:::::+ > منتدى القصص والروايات
موضوع مغلق
   
 
أدوات الموضوع تقييم الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 23-01-2009, 01:50 AM   رقم المشاركة : 11
أنا راحل
( ود جديد )
 





أنا راحل غير متصل










9

- آآآآآه... جميل هذا الصباح، بعد كل تلك الأيام في الغابة.

- أنا أدفع أي شيء الآن لأكون في غابة.

- لا... لا تقل هذا، لا تنزع من الصباح طراوته.

- أي طراوة !!! هذا صباح حار، وأنا لازلت مهدهدا ً بالنوم والخدر، ولم يفلح استحمامي السريع، ولا كوب الشاي في تبديدهما، وأمامي الآن عشرة طرق غاصة، وألف سيارة يقودها ألف رجل مهدهد، لأصل إلى مكتب طافح بالعمل، ورؤساء لا يدركهم السأم، وزملاء لا ينزعون من أي شيء ملالته، لا يوجد طراوة هنا، ليس في هذا اليوم على الأقل.

- ههههههههههههه، اسمع... لديك مكيف بارد ينسيك حرارة النهار، ويمكنني أن أبدد خدرك، وأن ألهيك عن بؤس الطريق بثرثرتي وأحاديثي، أما العمل فلا داعي لأن تفسد يومك مبكرا ً بالتفكير فيه، دع كل شيء لوقته، استمتع بهذه اللحظة الآن بين يديك، وعندما نصل إلى هناك سنتوقف دقائق نرتب فيها ما سنقوم به بقية اليوم.

- حسنا ً... – ويدي تخفض درجة الحرارة داخل السيارة -، تفضل، حدثني.

- كنت أفكر بكيف ستكون العلاقة بيننا بما أني سأكون رفيقك طيلة اليوم، فيما مضى كنت بالنسبة لك محطة شبه يومية، تأتي إلي عندما يحلو لك، وتحدثني عما تريد فقط، وتتجاهل أي شيء آخر في يومك، قد يكون يومك ثريا ً، قد يكون فقيرا ً، ولكني في كلتا الحالتين، لا أعرف إلا ما تريد إخباري به، الآن... تغيرت الحال، وما عاد بإمكانك إخفاء أي شيء عني، كل التفاصيل الصغيرة التي تكون يومك، العمل، البيت، قراءاتك، كتاباتك، من تلتقي بهم، من تتصل بهم، من يتصلون بك، من تضحك معهم، من تغضبهم، من يغضبونك، الأشياء الرائعة التي تفعلها، والسخيفة، كل شيء صار متاحا ً لي الآن، ويمكنني النفاذ إليه، هل كنت تدري أني لم أكن أعلم عنك إلا الأشياء التي كنت تقولها لي، أو تفكر بها؟

- كيف؟

- لا أدري كيف أشرح لك هذا ! فنحن نمر بوضع غريب، ولكن دعني أحاول، يبدو الأمر كما لو أنني كنت لا أستطيع الوصول إلا إلى الأمور التي تمر بوعيك، آ... ركز معي، عندما كنت تكتب وتلتقي معي بين الأوراق، كنت تمارس ذلك بوعيك، فلذا كان لاوعيك بعيد عني، ولا يمكنني ملامسته أو الاقتراب منه، الآن وقد اتحدت بك، يبدو أني اتحدت بالوعي واللاوعي منك، واااااااااااااااااو... كأنني قذفت من السماء إلى بحر لجي، آلاف الأفكار والهواجس التي تجوبه، وتضطرب فيه، القليل منها فقط ما يقذف إلى الشاطئ ويصير وعيا ً، وسرعان ما ينسحب ليعود في موجة جديدة، أو لا يعود، هههههههههههههههههه، انبهرت بهذا كله، حتى أني كدت أن أخلف وعدي لك بمحادثتك والتفكير معك، وأبقى سابحا ً ومكتشفا ً لكل هذا العالم الغريب.

- غريب... ألا يفترض بأن يتحول أي أمر تكتشفه أنت أو تراه في لاوعيي إلى الوعي مباشرة، بمعنى أني سأدركه ما دمت أنت جزء مني، وما دمت قد أدركته؟

- اممممممممممممم، ربما للسنوات التي كنت فيها تحشرني في زاوية من إدراكك ووعيك دور في هذا الانقسام لديك، فكأنه صار لديك وعي تتعامل معه، ووعي لا تريد التعامل معه، ولاوعي لا تدرك منه إلا القليل ومن حين إلى حين، الأمر أشبه بمن يدرك أن تجاوز سرعة 200 كيلومتر خطر على حياته، ولكنه يزيح هذا الإدراك جانبا ً ويصل إلى هذه السرعة وهو يرتجف من الإثارة.

- يبدو لي هذا غريبا ً، ولكن الوضع كله غريب وغير مفهوم، وبما أننا نقترب الآن من مكتبي، فلا وقت لبحث هذا أو التعمق فيه.

- هههههههههههه، لدي ذلك الشوق لرؤية هذا الذي تسميه عملك، فكل ما وجدته هنا في لاوعيك جذاذات من الصور وأنصاف أحداث ووجوه غائمة، أحيانا ً أجد أسماء بلا وجوه !!! ربما هم من تتعامل معهم من وراء سماعة الهاتف ولم تر منهم إلا أسمائهم التي تبرق على شاشة الجوال، أليس هذا غريبا ً؟ أن تتحدث مع شخص أكثر مما تتحدث مع زوجتك، مع أنك لم تر ملامحه يوما ً، ولا تحتفظ في ذهنك عنه بشيء سوى اسمه البراق ونبرة صوته.

- هههههههههههههههههه، يا الله صباح خير، ألم تعدني بأننا سنتوقف عندما أصل إلى مكتبي لنرتب أعمالنا لهذا اليوم؟

- ظننت أنك ستصنع لك كوب قهوة كفاتحة لصباحك، ولكن لا بأس، لنبدأ.

- دعني أرى الآن، لدي بعض الأعمال المؤجلة بسبب زيارتي المفاجئة للمستودعات، بعض التعديلات المطلوبة في مشروع المالية، امممممممممممم، مشروع التنظيم الإداري لم نضع خطة له بعد، سأضعها وأعرضها على سليمان لأي تعديلات محتملة.

- هه... وكأنه سيهتم – بابتسامة خبيثة -.

- ومشروع المستودعات، هناك الخطة، سأسأل زيد عنها، وهناك استكمال اجتماع الأمس مع المدير.

- السلام عليكم، صباح الخير – هذه من سليمان الذي دخل الآن مشبعا ً بالدخان -.

- وعليكم السلام، صباح النور.

أنا: سلامات.

سليمان: الله يسلمك، لا... شيء بسيط.

أنا: ما ترى بأس.

سليمان: ها... كيف الأحوال؟ ما الجديد؟

أنا: اتصل ناصر بالأمس.

سليمان: ماذا يريد؟

أنا: كان يسأل عن مشروع المستودعات، قال إن تحليلنا غير مقبول لأننا لم نجتمع مع مدير المستودعات، واضطرني للذهاب إلى هناك والاجتماع معه، ولدينا اليوم موعد آخر معه.

سليمان: أوهوه... يا الله صباح خير، ما فائدة زيدان إذن – لا يوجد خطأ هنا، المقصود هو زيد، ولكن هذه هي التسمية التي يبادل سليمان بينها وبين ( الكلب) عندما يتحدث عن زيد -.

أنا: قلت له هذا، ولكنه قال أن زيد ليس من إدارتنا، وأننا يجب أن نأخذ المعلومات منه ومن المدير، لأن التحليل في النهاية سيوقع عليه المدير، وليس زيد.

سليمان: آعععععععه... ما هذه الفوضى؟ هل سنقوم بعملنا وعمل زيدان أيضا ً؟ هذا ما كان ينقصنا !!!

فهد: هههههههههههههههه، قم أنت بما هو مطلوب منك أولا ً، وبعدها فكر بمن سيقوم بأعمال الآخرين – أخفيت ابتسامتي التي كادت عبارة فهد أن تبديها، وتأملت سليمان الذي جلس على مكتبه، وهو يقلب لسانه بين الشتائم الاعتيادية -.

أنا: الاجتماع سيكون في العاشرة والنصف.

سليمان: أي اجتماع؟

أنا: مع مدير المستودعات.

سليمان: أنت الخير والبركة، والله ليس عندي استعداد للقاء ذلك البغيض، أخشى أن يعاودني المرض بسببه.

فهد: جميل... والآن انتقلت أعمال سليمان وزيد إليك، مبروك عليك هذا الفريق الفعال.

أنا لفهد بغيظ: حسنا ً... دعني الآن أنجز بعض الأعمال قبل موعد الاجتماع.

فهد: لماذا تتركهم يفعلون ذلك؟ – ونحن متجهان إلى مكتب مدير المستودعات – .

أنا: يفعلون ماذا؟

فهد: هذا التهرب من الأعمال وإحالتها إليك.

أنا: العمل يحتاج إلى من ينجزه، يمكنني أن أتمنى طيلة اليوم أن ينجز زملائي كل ما هو مطلوب منهم، ولكني لو انتظرت هذا الحلم أن يتحقق لتوقف العمل، ولوجدت بين يدي نصف عمل لا قيمة حقيقية له.

فهد: أليس هذا استغلال لك؟

أنا: ربما... أنا لا أعتبره استغلالا ً ما دمت أعرف هذا، وأنتبه له.

فهد: ولكنك لا تفعل شيئا ً لإيقافه.

أنا: لأنه لا يمكنني إيقافه، أحتاج لأفعل هذا إلى تغيير الأشخاص، تثقيفهم وتوعيتهم، وهذا أصعب، فلذا ألجأ للخيار الأسهل أن أقوم بالأعمال التي يتكاسلون عن إنجازها.

فهد: ولكن هذا الخيار لا يصير سهلا ً، مع الوقت تتراكم عليك الأعمال، تقل إنتاجيتك، تكثر أخطائك، وتصير القيمة الكاملة التي كنت تبحث عنها عن طريق إنجاز ما هو لك وما هو لغيرك أبعد مما تخيل.

أنا: ربما... ولكن الوقت الآن غير مناسب لمناقشة هذا – وأنا ألج مكتب مدير المستودعات -.

فهد: آه... – بعد صمت دقائق، ومتابعة متململة لحواري مع المدير – فهمت الآن لم َ فر سليمان من لقائه، هذا الرجل لا يطاق.

المدير: والله الأوراق لم أجدها حتى الآن – وصلت الجملة السابقة على ثلاث دفعات، الدفعة الأولى قاطعتها حركة سريعة للبحث عن دباسة، الدفعة الثانية قطعتها الورقة التي غاب رأسها في الدباسة في ذات اللحظة التي تدلى فيها لسان المدير خارج فمه، ليحاكي لا شعوريا ً ما تقوم به يداه، أما الدفعة الثالثة فجاءت بعدما طوح بالأوراق المدبسة لموظف أسمر بوجه شوهته البثور كان يقف عند المكتب منذ دقائق -، بحثت عنها بالأمس، لا أدري، أين ذهبت؟ محمد... محمد... – وهو ينادي الموظف الذي يستقر مكتبه خارج الباب ويكاد يسد طرفه، وكان يتسلى بتصفح موقع ( الزعيم) عندما دخلت – أين أوراق متابعة المخزون لشهر صفر؟ ابحث عنها عندكم، في الخزانة، هلا... – والآن يتحدث في الهاتف – هلا... أبو عبد الله، ههههههههههههههه، لا... الله يكفينا الشر، ههههههههههههه، لا... لا... لا عليك سأرسلها لك الآن، محمد... محمد – وقد أعاد السماعة إلى مكانها -.

أنا متطوعا ً: يبحث في الخزانة.

فهد: هههههههههههههههههه.

المدير: اها... حسنا ً، متى تتوقع أن ينتهي البرنامج؟

أنا: من الصعب تحديد هذا الآن، أحتاج إلى دراسة دورة العمل عندكم أولا ً، واستكمال الأوراق والنماذج الناقصة، وبعدها يمكنني تحديد الوقت.

المدير: اها... هذه أوراق ربيع الأول – وهو يتفحص أوراق مدها له محمد -، أنا أريد أوراق صفر.

محمد: لا يوجد في الخزانة أوراق لصفر، ربما هي في الخزانة الأخرى التي نقلت إلى المكتب الشرقي.

المدير: لا حول ولا قوة إلا بالله، اتصل ببدر ودعه يبحث عنها الآن، لا نريد تأخير الرجل – وهو يشير إلي -.

فهد بابتسامة خبيثة: ألا تلاحظ أنه نسي صاحب المكالمة.

فهد: يمكنني الآن – وقد خرجت أخيرا ً من مكتب مدير المستودعات، واخترت بعد تردد أن أذهب إلى المنزل عوضا ً عن العودة إلى المكتب للنصف ساعة المتبقية من الدوام - أن أفهم لم َ كنت تأتيني بكل ذاك التعب، لو كان هذا فقط ما تمر به في يومك لكفى.

أنا بسخرية: لم َ؟ يمكنك اعتبار هذا اليوم من أيامي الجميلة.

فهد: كل هذه الفوضى، كل هذه الأعمال المتداخلة، والتي ينقض بعضها بعضا ً، لا أدري أي مخبول يدير هذا المكان.

أنا: لا تستعجل، ستلتقي بكل المخابيل في الأيام القادمة.

فهد: ههههههههههههههههههههه.

أنا: والآن سأكون مقدرا ً لك كل التقدير لو خرست وتركتني أحصل على قيلولتي العزيزة.

فهد: حسنا ً... سأنتظر.

فهد: كل هذا الوقت لتستعيدني !!! – كنت قد نهضت من النوم، منذ ساعة مضت، وتناولت غدائي مع لينا، وها أنا أقف لأصنع كوب الشاي وأستعيد فهد مع مذاقه -.

أنا بسخرية ورشفة عميقة: إليك أحد اكتشافات وضعنا الخاص، عندما أتوقف عن التفكير فأنت غير موجود.

فهد: لم َ ترتدي هذا النوع من اللباس؟ - بعد لحظات، وقد اصطحبت كوبي ووقفت على عتبة باب غرفة الجلوس، أتأمل التلفاز ولينا التي كانت في ثياب نومها القصيرة، والتي ترتديها بشكل شبه دائم -.

أنا: ربما يعجبها.

فهد: هههههههههههههههه، هل جربت أن ترتدي يوما ً ملابس ضامرة؟ هل بدا لك الشعور فيها جيدا ً؟

أنا: تجاربي ليست مقياسا ً للآخرين – وأنا أتجه إلى مكتبي -.

أنا: آه... أوراق، وأوراق، وأوراق – وأنا أقلب أوراق الجد -، ذاكرتنا المثقلة بكل شيء – ثم بسخرية - هل تشعر بالحنين إلى الوطن بمناسبة الحديث عن الأوراق؟

فهد: هههههههههههههههههه – ثم بجدية -، ربما أنا في النهاية لست كائنا ً ورقيا ً، وإن نشأت هناك.

أنا: ربما... ولكن هذا ليس وقت تحديد هويتك، لدي هنا جد يريد أن يتحدث.

فهد بسخرية: يبدو لي كجد تريد استنطاقه.

أنا: ماذا تعني؟

فهد: بالله عليك... انظر إلى ما بين يديك الآن من عمل، انظر إلى أوراقك، منهج تاريخي متكامل، منهج نقدي أدبي خاص، وخطة عمل محكمة ومتميزة، لديك أدوات منهجية ولكنك لم تخط حتى الآن حرفا ً حقيقيا ً حول جدك.

أنا: لازلت في البداية.

فهد: ألم تتساءل لم َ تأخرت البداية كثيرا ً؟ لم َ انهمكت في كل شيء ممكن إلا الخوض في التاريخ، قلب أوراقك الآن، قلبها، ما الذي كتبته؟ جمعت وقائع حياته؟ ثم ماذا؟ أين هي الكتابة المتعمقة التي وعدت نفسك بها منذ اليوم الأول؟

أنا: كان لابد لي أن أصوغ منهجا ً قبل أن أبدأ، لا يمكن لي أن أفتح صفحة وأشرع في الكتابة المطلقة هكذا.

فهد: بالتأكيد... ولكن ألم تتساءل لم َ صرت تتثاقل هذا الأمر؟ لم َ صرت تجلس على مكتبك هذا مرغما ً، وتضيع وقت الكتابة الذي حان بالعودة لمنهجك تصوغه وتعدله؟

أنا: هذا شيء طبيعي، في كل مشاريعه يبدأ الإنسان بحماسة ومن ثم يفتر عزمه سريعا ً.

فهد: لم يفتر عزمك سريعا ً، نظرة واحدة إلى البناء الفلسفي الذي بنيته وأرسيته وها أنت تعود في كل يوم لتدعمه تقول هذا، لقد أنجزت أطول وأعقد مراحل مشروعك، فلم لا تجد في نفسك الآن تلك الحماسة للنهاية التي صارت أقرب من أي وقت مضى؟

فهد: يبدو أن هناك أسئلة كثيرة بلا أجوبة هنا، ويبدو أنه حان الوقت لتتوقف وتجيب بعضها.










قديم 23-01-2009, 01:51 AM   رقم المشاركة : 12
أنا راحل
( ود جديد )
 





أنا راحل غير متصل










10

بدأ الصباح بزيارة من ماجد.

جاء من دون كوبه الشهير، يحمل لي أخبارا ً عن صراع جديد يدور في الإدارة.

لم يكن الصراع جديدا ً تماما ً، هذا ما انتبهت إليه وماجد يمضي في تفاصيل الأحداث، وإنما كان فصلا ً في صراع طويل بين رئيس الصيانة وغريمه رئيس مراقبة الجودة، وهو صراع لا يذكر أحد متى بدأ، وإن كان الجميع متأكدين أنه يعود إلى أيام حاتم، إن لم يكن أقدم.

سبب الصراع غير معروف تماما ً، وإن كان ماجد يجزم بأنه بدأ بشكوى قدمها رئيس الجودة لحاتم على قسم الصيانة، فيما يصر سليمان أن تلك الشكوى لم تكن البداية، وإنما كانت هناك أمور أقدم دارت بين الغريمين.

كانت الشكوى التي تحدث عنها ماجد تتعلق بتأخر كبير – شهور ثلاثة - في توفير أجهزة مهمة طلبها قسم مراقبة الجودة، وقام رئيس الصيانة بخبث بتحويل الطلب إلى أحد موظفيه المهملين، وما بين تأخر الموظف في إنجاز المعاملة لإهماله وتغيبه بين حين وآخر، والأخطاء النظامية التي كان يقع فيها مما يجعل رئيس القسم يعيد إليه المعاملة في كل مرة، مرت شهور أغاظت رئيس الجودة وجعلته يلجأ إلى حاتم.

وكعادته طلب حاتم الاثنين في اجتماع عاجل، جاءه رئيس الصيانة مدججا ً بالأوراق الرسمية التي تثبت أن التأخير سببه إهمال الموظف والأخطاء النظامية في المعاملة، فلم يكن أمام حاتم سوى أن يوقع عقوبة على الموظف المهمل، ويطلب تحويل المعاملة إلى موظف آخر، وينتهي الاجتماع بابتسامة رئيس الصيانة الخبيثة، وغيظ رئيس الجودة.

وكان على رئيس الجودة أن ينتظر نهاية السنة، ليقدم عندها التقييم المعتاد لجودة العمل في أقسام الإدارة المختلفة، ولكن تقييمه هذه المرة لقسم الصيانة جاء مدققا ً، ومفصلا ً لدورة العمل في القسم، مشاكله، مدعما ً بأوراق حصل عليها من داخل القسم بطريقة غير معروفة، مما جعل حاتم يتدخل في القسم ويبقيه تحت إدارته المباشرة لعدة شهور، مع الكثير من التعديلات التي لم تعجب رئيس الصيانة وإن تقبلها بصبر عجيب.

وكان على هذين أن ينتظرا انتقال حاتم، وأن يتوافقا مع رؤساء الأقسام الأخرى من بعده – وهي المرة الأولى والأخيرة التي يتفق فيها كل هذا الخليط المتنافر – على أن يتولى الأستاذ ( محمد) أو ( أبو نايف) الإدارة، ليستأنفا معاركهما في ظل طيبة وتعامل ( أبو نايف) المتسامح.

كان ماجد متحمسا ً ويروي بطريقته الغريبة والتي تملؤها التفاصيل غير اللازمة، والإحالات التي يضطر إلى الخروج عن الموضوع لشرحها عندما يكتشف عدم إلمام السامع بها، هذا غير أسلوبه في العودة في كل مرة لنقطة ماضية للإضافة لها أو تعديلها، مما يجعل أي حكاية يرويها مفتوحة دائما ً لأي تعديلات ممكنة، تشمل أحيانا ً تعديل الشخصية المحورية.

- .... طبعا ً رفضا هذا الحل، وقال عبد العزيز – هذا رئيس الجودة – بأنه لا يمكنه إخلاء المكان، وأن موظفيه يحتاجون كل المساحة، رغم أني رأيت الغرفة ولم يكن فيها على اتساعها سوى مكتبين فارغين، عاد صالح – وهذا رئيس الصيانة - إلى ( أبي نايف) من جديد، لا استغفر الله، كان فيها ثلاثة مكاتب، خلطت بينها وبين غرفة أخرى، المهم أن عبد العزيز قام بنقل عاجل لبعض الموظفين إلى الغرفة، وكذلك آلة التصوير الكبيرة، ليثبت حاجته للغرفة واستخدامه لها، المهم ذهب عبد العزيز إلى ( أبي نايف) وهدده بأن الأجهزة ستلقى في الممرات عند وصولها ولن يكون هناك مكان لتخزن فيه – المقصود هنا طبعا ً صالح وليس عبد العزيز، ولكن ماجد لم ينتبه لخطئه بعد -، عاد ( أبو نايف) ليقترح وضعها في الغرفة الشمالية، فرفض عبد العزيز، أقصد صالح – وها قد صححه -، لأن الغرفة بعيدة وغير مهيأة، وإن أردت الحق فالغرفة مناسبة وكبيرة، والأجهزة ستوضع هناك للتخزين وليس للاستخدام اليومي، فلذا لا مشكلة لو كانت الغرفة بعيدة قليلا ً، ولكن كما قلت لك الأمر كله عناد بين صالح وعبد العزيز...

* * *

انتهت حكاية ماجد فغادر – لعله يدرك شخصا ً آخر في الإدارة لم يسمع بالحكاية فيرويها له – ولكنه استل في طريقه أحد مغلفات الشاي من العلبة الكبيرة – يبدو أن كوبه استحق امتلاء ً جديدا ً بعد كل هذا الهذر -.

عدت لأوراقي التي اقتنصني ماجد من بينها.

فهد: وااو... ما كل هذه الصراعات؟

أنا: هذا هو الوضع الطبيعي، لا أذكر أنه كانت هناك فترة بلا صراعات، أو حروب معلنة أو غير معلنة.

فهد: كيف يمكنك التعايش مع هذا الوضع؟

أنا: وما شأني أنا؟ أنا لست طرفا ً في أي صراع والحمد لله.

فهد: لا تحتاج إلى أن تكون طرفا ً في أي صراع لتتأثر به، هذه الصراعات تدور في الإدارة التي تعمل فيها، فلذا عندما ينشب صراع بين رئيس الصيانة ورئيسك ستجد نفسك بكل بساطة بلا صيانة، ومعرض للعطل في أي لحظة، حتى في الصراعات التي تدور في الأقسام الأخرى، إن مجرد العمل في جو مشحون بالصراعات والدسائس والمؤامرات لأمر مقلق للروح والعقل، وقد تجد نفسك في أي لحظة مشتركا ً من غير إرادتك في إحدى المواجهات.

أنا: هذا صحيح، فلذا أنا أقوم بعملي فقط، وأقوم به على أفضل وجه ممكن، وأبقي نفسي على مسافة مناسبة من الجميع، بحيث لا يمكن لأحد أن يشركني في صراعاته.

فهد بسخرية: وتردد اللهم سلم سلم.

أنا: وماذا تريد مني أن أفعل؟ أعقد اجتماعا ً تربويا ً أحض فيه رؤساء الأقسام والموظفين على التعاون بدلا ً من الصراع؟

فهد: ربما... وربما تحتاج هذه الإدارة إلى مدير آخر من طراز حاتم.

أنا: أعوذ بالله، هذا وأنا أحمد الله أني لم أعاصره.

فهد: وماذا تعرف عنه؟ هاه؟ لا شيء... فقط ما ينقله لك هؤلاء الموظفين المستمتعين بالكسل والفوضى، وهم كما أرى لن يمتدحوا من سيفرض عليهم النظام والدقة والإنجاز، إذا أردت أن تعرف الرجل حقا ً فألق بكل ما قالوه لك عنه، ألق بكل آرائهم، بكل حكاياتهم التي صاغوها عنه في غيابه، ألقها كلها، لأنك لن تراه عندها إلا من خلال عيونهم، من خلال أهوائهم، من خلال ما يريدونه هم منه، لا ما كان، وعندما تتخلى عن كل هذا التراث المتراكم، المشوه، المتناقل، يمكنك عندها أن تقترب من الرجل من خلال آثاره، ستجد لمساته في كل شيء في هذه الإدارة، أبحث في الأنظمة التي صيغت في عهده، أبحث في المشاريع التي أدارها، وقارن بين حالها عندما كان موجودا ً، وحالها بعدما غادر وتركها لهؤلاء، وبعدما تستوفي بحثك هذا، يمكنك عندها أن تقول بأنك عرفت عنه شيئا ً، ويمكنك حينها أن تقر بأنه كان مديرا ً جيدا ً، وإن كان صارما ً، أو تقر معهم بأنه كان ( علة باطنية).

* * *

شغلني ما قاله فهد، فتوقفت عن تقليب ورقتي الصغيرة والعبث بحوافها، ونهضت إلى خزانة حشرت في إحدى زوايا الغرفة، وفتحت بابها الخشبي - الذي كسرت إحدى مفاصله في واحدة من مزحات سليمان الثقيلة مع زميلنا البدين عيسى، والتي تنتهي غالبا ً بخروج عيسى حانقا ً تصحبه شتائم لاذعة من سليمان – ، وانتقيت منها ثلاثة ملفات قديمة تغص بأوراق إدارية مختلفة تعود إلى عهد حاتم.

بدأت بتقليب الملف الأول والذي كان يضم القرارات الإدارية التي صدرت في تلك الفترة، التكليفات الرسمية، التوجيهات التي تطال كثيرا ً من تفاصيل العمل في القسم، الإنذارات، كنت أقفز عدة أوراق ثم انهمك بقراءة ورقة صيغت صياغة حسنة وكأنها كتبت بيد خبير قانوني، يحدد من المسئول عن من، ومن المسئول عن ماذا.

تناولت الملف الثاني لأجد نفسي غارقا ً في محاضر اجتماعات توثق تاريخ الاجتماع والحضور والنقاط التي تناولها، والنتائج التي خلص إليها، ثم مرفق بها كل ورقة لها علاقة بالاجتماع أو كانت من نتائجه ولو بعد حين.

مبهورا ً تناولت الملف الثالث لأجد فيه أكداسا ً من إجراءات العمل في الإدارة، ودورة العمل، ووصفا ً لمهام فرق العمل في عدد من المشاريع القائمة في حينها.

كانت الإدارة بين يدي الآن، كان يمكنني فهم أي مشروع، الهدف منه، ومراحله، والمشاكل التي مر بها، ونتائجه، بمجرد تقليب هذه الأوراق، كان بين يدي كنز من المعلومات المهمة والمفيدة لأي موظف في الإدارة، ولكنه كنز تُرك ليعلوه الغبار في هذه الملفات الكئيبة.

للمقارنة انتقيت أحد الملفات الحديثة وبدأت بتقليب أوراقه، كان خليطا ً متنافرا ً من الأوراق، كان يضم خطابات مختلفة، مع بعض القرارات الإدارية، مع محاضر اجتماعات لمشاريع متعددة، كان عبارة عن مجموعة أوراق إدارية بلا هوية واضحة، وبلا هدف، وضعت في هذا الملف لمجرد الحفظ، وتحسبا ً للحاجة لها في يوم من الأيام.

* * *

كان رأسي مثقلا ً عندما نهضت من قيلولتي المشحونة بأحلام ميتة – كتبت ذات يوم فيما بدا لي كشفا ً عظيما ً حينها ما معناه، كل الأحلام التي تذوب وتختفي في لحظات اليقظة الأولى مخلفة شعورا ً غامضا ً، هي أحلام ميتة، عوالم آفلة من الصور والأصوات الغامضة التي لا يمكنني استعادتها، أما الأحلام التي تبقى فهي أحلام حية، يمكنني استعادتها لو أردت، ما دامت موجودة في ذهني، وكل ما علي فعله أن أتمسك بها في لحظات النعاس لأجدها في اللجة الناعمة، ولكني بعد محاولات طويلة ومرهقة فشلت فيها في استعادة حلم وحيد وبسيط، كنت أمشي فيه وسط ممر طويل مشجر وممتد، صرفت الفكرة عن استعادة أحلام أعقد وأكثر ثراء ً بحيث بدا أحدها كحياة أخرى عشتها ذات يوم -.

كانت لينا قد أعدت الغداء، ولأنني كنت مثقلا ً، ولأنها كانت مشغولة باختبار ما، بحيث وزعت لقيماتها بين صفحات مذكرة وضعتها مطوية إلى جانبها، مر الغداء بصمت كئيب.

قطعت صمتي عندما انتهينا وعدت بيدين مبللتين وكوب الشاي العتيد، وكانت هي لا تزال مدفونة بين صفحات المذكرة:

أنا: لديك ِ امتحان غدا ً؟

لينا: امممممم.

أنا: وكيف استعدادك ِ له؟

لينا: لا أدري، درجتي في الامتحان الأول كانت منخفضة، وأحتاج إلى التعويض حتى لا أحمل المادة.

عدت إلى الصمت عندما لم أجد شيئا ً أقوله، واكتفيت بتمرير أصابعي على زجاج الكوب المحرق، وتأمل ملامح لينا الغارقة وشفتيها اللتين ترددان الكلمات بخفوت.

فهد: آآآآه... كم أشعر بحاجتي للتثاؤب عندما استمع لأحاديثكما معا ً.

أنا بسخرية: آسف لأننا لا نتحاور كما تريد.

فهد: أنتما لا تتحاوران أصلا ً، أنا قلت حديثكما ولم أقل حواركما، فما يدور بينكما لا يرقى لأن يكون حوارا ً، وإنما مجرد أحاديث، جزء منها ( أحاديث معيشية)، وأجزاء أخرى ليست إلا ثرثرة عن ما يدور لكما أو حولكما، ليس لديكما ذلك النوع من الحوار الذي يناقش فكرة أو حدث منفصل عنكما، وليس لديكما ذلك النوع من البوح الفكري الذي تعبران فيه عن أفكاركما، ولا ذلك البوح العاطفي الذي تعبران فيه عن عواطفكما وما تشعران به.

أنا: وماذا في ذلك؟ الحوار الذي تطمح إليه وتتحدث عنه يحتاج إلى محاور يقترب مستواه الثقافي من مستواي، وإلا فلا معنى ولا جدوى منه، ولينا ليست هذا المحاور فلذا الحوار معها حول موضوع ثقافي أو فكري لن يكون إلا سردا ً للأفكار من جانبي، أما البوح العاطفي فأظن أننا نستعيض عنه بوسائل أخرى، فخجل لينا يجعل استخدامنا للكلمات محدودا ً.

فهد: ولكن هذا يعني أن أقرب شخص لك افتراضيا ً، بعيد عن جزء كبير من حياتك، لا يمكنه الوصول إلى أفكارك، لا يمكنه فهمها، هذا قد يبدو لك الآن أمرا ً عاديا ً ومعقولا ً، فأنت أردتها زوجة لا مفكرة، ولذا كانت مواصفاتك في هذا الاتجاه، ولكن لتفكر بحالكما بعد عشر سنين، تخيل حجم الهوة التي ستفصل بينكما، أنت بعقلك الذي يتطور بسرعة ويقفز قفزات هائلة، وهي بعقلها النامي ببطء، وغير القادر على استخلاص التجارب وتطويرها، هذه الفجوة لن تكون فكرية فقط كما هي الحال عليه الآن، وإنما ستكون مادية أيضا ً، تخيل حجم الفجوة في تربيتكما لأبنائكما، أسلوبك وطريقتك المبنية على أسس نظرية وتجريبية خاصة بك، وأسلوبها الذي سيكون وريثا ً للبيئة التي جاءت منها والتي تعيش فيها، والآن كم مرة ستحتاج فيها أن تصطدم بها وأن تجبرها على انتهاج أسلوبك وطريقتك – فهي لن تقر كل أساليبك -، وقس هذا على كل شيء آخر مادي في حياتكما، هذه الفجوة قد تبتلع زواجكما في النهاية.

أنا: يا لتشاؤمك !!! لماذا تفترض أن عقليتها ستتطور ببطء؟ لا تنسى أنها هي من سيتعامل مع الأبناء بشكل يومي ومباشر، هذا أشبه ما يكون بتدريب وخبرة متنامية، ربما أفضل من خبرتي أنا، من سأكتفي بالتحديق عن بعد والتنظير.

فهد: هل تظن بأنها ستتعامل مع أبنائها كما يتعامل العالم !!! ترصد، تسجل، وتحلل !!! ههههههههههههههه، كل الخبرة التي ستحصل عليها خبرة عملية، خبرة خام، لا يمكن تحويلها إلى نظرية أو فكرة مجردة، ولذا ستجد أنها شبه جديدة مع كل طفل.

أنا: يمكن لي أنا أن أكون عاملا ً مساعدا ً لها في تطوير ذاتها.

فهد: بالتأكيد... دعني أتخيلك قليلا ً، مع كل تلك الهوة التي تفصل بينكما، تتوقف في كل يوم لتعيد تصحيح تصرفاتها وأفكارها حول كل شيء في حياتكما، ودعني أتخيل صبرك الطويل على هذا، ومقاومتها الأكيدة والمحتمة للتغيير، وغضبها من كل هذه الانتقادات التي توجهها لها، أخبرني كم صبرا ً؟ كم لطفا ً؟ كم حلما ً ستحمل في إهابك؟

أنا: أظن أن هذه هي الحياة الزوجية في معناها، محاولة الرجل والمرأة، الزوج والزوجة التوفيق بين اختلافاتهما لصالحهما ولصالح أبنائهما، تقديم التنازلات من هنا وهناك، يسمع الزوج لزوجته، وتسمع هي له، ويمكن للحياة أن تسير.

فهد: وماذا إذا كانت اختلافاتكما أكبر من أن يظلها سقف، ماذا إذا صارت الحياة تنازلات أليمة، هل أنت مستعد لتتحملها؟ لأني أخبرك أنها لن تفعل، وأنك ستسمع تحت سقفك زمجرتها في كل يوم.

أنا: حسنا ً... وما الذي تريدني أن أفعله؟

فهد: اكسر دائرتها المغلقة الآن، تحدث معها، حاورها، سرب لها أفكارك حول كل شيء وأي شيء، وافتح لك دربا ً إلى أفكارها، هذا سيقلص المسافة بينكما، وسيخفف الهوة المنظورة في المستقبل.

أنا: وماذا عن الهوة التي تفصلنا الآن، كيف يمكنني أن أطويها؟ كيف يمكنني أن أحدثها عن أشياء كثيرة وعديدة تشغلني، ولا أشعر بخيبة الأمل للسذاجة الكبيرة التي ستقابل بها أفكاري؟

فهد: هذه الهوة ستكون أكبر منك في يوم ما، وعليك الاختيار إما الآن أو أبدا ً.

رفعت لينا رأسها، وابتسمت:

- ما بك؟

- هه.

- مرت فترة لا بأس بها وأنت صامت وتتأملني، هل هناك شيء؟

- لا... لا... سلامتك.

غادرت غرفة الجلوس، كان كوب الشاي لا يزال يحتفظ بدفئه، ولكني مع ذلك وضعته في حوض المطبخ بشهية ناضبة، وقصدت مكتبي.

كنت متعبا ً بما يكفي لأنبذ أوراق الجد بعيدا ً، وأترك قدمي تحتلان المساحة إياها التي لطالما احتلتها قصيدة ( ذياب الجرادي)، ومخطوطة العم البعيد.










قديم 23-01-2009, 01:52 AM   رقم المشاركة : 13
أنا راحل
( ود جديد )
 





أنا راحل غير متصل










11

فهد بخبث: هل هو التعب حقا ً؟ أم أن هذا الجد ما عاد يستهويك؟

أنا بخمول: أظنك رأيت كيف كان اليوم ثقيلا ً.

فهد: وها أنت وحيد بين كتبك وأوراقك، فلم َ لا تستعيد يومك؟ لم َ لا تقلب أوراق جدك ومساراته، وتختار أحدها؟

أنا: حسنا ً... تريد أن تقول لي أني فقدت اهتمامي بالكتابة عن جدي، يمكنك قول هذا مباشرة والتوقف عن هذا التلاعب الممل.

فهد: ما أريد قوله هو ليس أنك فقدت اهتمامك فقط، وإنما فقدت ما هو أخطر، إيمانك به.

ثم أكمل بحماس: انظر إلى الأحداث التي جمعتها حول حياته، فرغم أن أكثرها لا يرد إلا في مخطوط عبد الرحمن بن عثمان، إلا أن الأحداث القليلة التي وردت في كتاب ( التبيين)، وهو كتاب ضعيف جدا ً كما تعرف، تنقض بعضها تماما ً، وتشكك وتضعف أخرى، هذا غير أن هذه الأحداث التي تحتاج إلى التحقق بشأنها، لا تستحق هذا الجهد، فهي ليست إلا معركة قبلية هنا، أو سطو على خراف هناك، وهذا ما يؤلمك حقا ً وتخفيه في نفسك ولا تبديه، فهذا الجد في النهاية لا يستحق كل هذا الجهد، وليس له تاريخ يصمد أمام الآلة النقدية والفكرية التي أعددتها، وأنت الآن تدرك أن ما سيخرج لك إن تركت جدك هكذا، عاريا ً أمام كلماتك، ليس إلا أشلاء تاريخ وإنسان وحكايات منظومة.

عاد ليكمل عندما لم أرد: أتعرف أي مأزق أوقعت نفسك فيه الآن؟ أتعرف ما الذي تشعر به؟

توقف مرة أخرى ليضفي على كلماته أهمية أكبر: تشعر بالتمزق ما بين عاطفتك تجاه جدك البعيد، وعقلك الذي ينبذه وينبذ كل ما يمثله هذا الجد من أفكار وثقافة.

فهد: تشعر بالفقد... لكل هذا الميراث الذي سيكون عليك تصفيته، وإحراقه أو دفنه في أحسن الأحوال.

فهد: وبالحزن... لأن جدك لم يكن زعيما ً كما تخيلته، وأن نفوذ والدك الآن أعظم وأكبر من نفوذه، وبالضيق لأن أشعاره لا قيمة أدبية لها، وأن ترديد العائلة لها هو ما جعلها مستساغة في أذنيك، وحتى قصيدة ( ذياب الجرادي) والتي لا دليل لديك بأنها من قصيده، وليست موجودة في ديوانه، لا قيمة كبيرة لها، هذا غير أن ( ذياب الجرادي) نفسه شاعر مداح مدح الجميع، وهذا ما يجعل مدائحه بلا قيمة كبيرة فنيا ً ومعنويا ً.

فهد: وبالقلق... من مصير هذا الكتاب الذي صيرته العائلة بين يديك، وأنت تدرك الآن بأنك لن تكتبه أبدا ً، كيف ستخبرهم بأن هذا الكتاب لن يكون؟

* * *

احتجت إلى عدة اتصالات حتى يرد علي ( أبو خالد)، جاءني صوته العجول:

- هلا يا شيخ، كيف حالك؟

- هلا... الحمد لله بخير، كيف حالك أنت؟

- الحمد لله... بشّر؟ هل انتهيت؟

- لا... لدي بعض الأسئلة ومحتاج للقاء بك.

- حياك الله، مر بي في المنزل غدا ً أو بعد غد، اليوم الذي يناسبك.

- أفضل أن تزورني أنت في منزلي.

- ما يصير بارك الله فيك، زرتك المرة الأخيرة، وهذه المرة دورك، ثم – وهو يضحك – العلم يؤتى ولا يأتي.

- على خير إن شاء الله، يناسبك غدا ً بعد المغرب؟

- على بركة الله.

وهو ما كان، وضعت المخطوطة والكتب التي أعطاني إياها، مع أوراقي التي سردت فيها أحداث حياة الجد، فيما كان مقدرا ً له أن يكون الفصل الأول من الكتاب، وقصدت المنزل الكائن شمال الرياض.

كان الحي جديدا ً، ويبدو أن المنزل شيد حديثا ً خلال السنوات القليلة الماضية، فالطريق الذي اضطررت إلى خوضه كان مليئا ً بفواصل أسمنتية تحدد الطريق، وحفريات واسعة، ومنازل متناثرة بينها مساحات لا بأس بها من الأرض الخالية.

أما المنزل فكان دلالة جيدة على أن ( أبا خالد) عتيق في ذوقه واختياراته، فرغم حداثة عهد المنزل، إلا أن كل شيء خلاف هذا قديم، خطوط البناء، واجهة المنزل الخارجية، تصميمه الداخلي، وحتى الأثاث بدا غير متناسق وبألوان كئيبة.

قادني طفل صغير – استقبلني بملابسه الداخلية - إلى الملحق الخارجي، وركض يستدعي أباه، فيما بقيت أنا واقفا ً أتأمل الغرفة الواسعة بموقدها الحجري، والذي ملأت فراغاته أدوات تراثية، لا ريب أنها استهلكت وقتا ً لا بأس به في البحث عنها واختيارها.

دقائق وجاء ( أبو خالد) مرحبا ً، يتبعه ابن له - تذكرت ملامحه بالكاد من اجتماعنا السنوي – يحمل القهوة، وبعد السلام والفنجال الأول، استجمعت كلماتي المترددة في جوفي لأرد على سؤال ( أبو خالد):

- بشّر؟ كيف الكتاب؟

- والله يا أبو خالد – بتنهيدة وهزة رأس تساعدان على بيان قلة الحيلة -، الأمور ليست كما أردتها للأسف.

- أفا... سلامات !!؟

- الله يسلمك... الأمر هو أني بدأت بداية طيبة في قراءة المصادر التي أعطيتني إياها، ورسمت لي خطة للكتابة، ولكني وقد تعمقت الآن في الموضوع، لم أعد أجد لدي الرغبة في الاستمرار.

- تكاسلت !!! يا رجل لم يعد باقيا ً إلا القليل، أجزم وتوكل وربك يعين.

- لا... ليس الأمر تكاسلا ً، الأمر عدم رغبة، هناك أشياء لست مقتنعا ً بها في سيرة الجد، فلذا لا أرغب في كتابتها، والمشكلة أني إذا لم أكتبها فلن يبقي شيء من السيرة.

- لم أفهم !!! ما هي الأشياء التي لست مقتنعا ً بها؟

- انظر هنا مثلا ً – وقد أخرجت أوراقي التي تلخص الأحداث -، يقول الشيخ ( عبد الرحمن بن عثمان) أن جدنا كان مع الركب الذين خرجوا على الوائلي، ويحدد هذه الحادثة بعام 1259 هـ ويورد أبيات للجد حول هذه المعركة وما جرى فيها، ولكن هنا في كتاب التبيين – وفتشت عن رقم الصفحة التي دونتها في أوراقي – يذكر المؤلف أن المعركة كانت في عام 1255 هـ، وأن المعركة التي كانت في عام 1259 هـ ليست هي ذات المعركة وإن جرت في ذات المكان، وهذه المعركة هي التي شارك فيها الجد، والآن إما أن كتاب التبيين مخطئ، أو أن الجد بكل بساطة شارك في معركة بلا قيمة، وأدعى أنه شارك في معركة أخرى جرت في ذات المكان ولكنها ذات قيمة كبيرة.

- الله المستعان... أتركك من كتاب التبيين، ففيه خلط كثير، ثم هل يعقل أن لا يعرف الناس من شارك في ركب الوائلي ومن لم يشارك؟ بحيث يكون من اليسير لأي أحد أن يدعي أنه شارك في هذه المعركة أو تلك.

- ولكن يا أبا خالد – وأنا أقلب الورقة لأقرأ ما كتبته في قفاها – أنا رجعت إلى موسوعة ( المعارك والغارات النجدية) للمحتم، ووجدت فيها أن معركة الوائلي كانت فعلا ً في عام 1255 هـ، وهذا معناه أن الجد كان عمره حينها 12 سنة، وأنه لم يشارك فيها رغم أبياته عنها.

- عجيب !!!

- وليس هذا فقط، هناك أشياء كثيرة أخرى دونتها في هذه الأوراق، هنا مثلا ً يقول الشيخ عبد الرحمن في المخطوط أن الجد صالح اختلف مع أخيه الأكبر مساعد، وأن العم مساعد كان يترصد للجد ويغري به ابن دهيش ولذلك أخرجه الجد صالح من الريلية مع أبنائه حمود وحسن، ثم أجد في كتاب ( أخبار نجد ورجالاتها في القرن الثالث عشر) أن إخراج الجد صالح لأخيه كان لخلافهما على مزرعة.

- الله يهديك... لا تكن حاطب ليل، ليس كل ما يكتب في هذه الكتب حقيقة، لو أنك التزمت أحسن الله إليك بمخطوط الشيخ عبد الرحمن، مع توثيق بعض التواريخ والأحداث من مصادر موثقة، لم َ وجدت كل هذا العناء في تأليف الكتاب.

- أي مصادر موثقة؟ أقول لك أنا رجعت للموسوعة، ولكتاب ( أخبار نجد) ووجدت بعض ما فيها ينقض ما كتبه الشيخ عبد الرحمن، حتى لم يعد لدي الآن شيء لأكتبه عن الجد صالح، وسأضطر إن مضيت في هذا الكتاب أن أنفي الكثير من الأحداث المشهورة عنه.

- لا حول ولا قوة إلا بالله.

- طيب... اسمع – بعد تأمل من أبي خالد، رافقه تحسس لمنابت لحيته التي بدأ الشيب يخالطها – أكمل أنت الكتاب، وبعد هذا أعطني إياه، وأنا أعدل عليه وأضيف له ما يفتح الله به.

- لا... أنا لا يمكن أن أكتب شيئا ً لم أقتنع به.

- لا بأس... اكتب ما تريده، وأنا سأعيد صياغة الكتاب بعدما تنتهي بما يناسب.

- وما الفائدة؟ لم َ أضيع الوقت في الكتابة ما دمت ستعيد أنت الكتابة من جديد ! لم َ لا تكتب أنت الكتاب، هذا هو المخطوط، وهذه هي الأحداث كما لخصتها أنا، وهذي نسخ من كل أوراقي يمكنك الاستفادة منها.

- المشكلة في الوقت، لو كنت متفرغا ً لكتبت الكتاب من البداية – قالها بحسرة -.

- لعلك تراجع نفسك في الموضوع – أكمل بعد تنهيدة -.

- أنا لم أتصل بك يا أبا خالد إلا بعدما راجعت نفسي جيدا ً، وقلبت الأمر في ذهني، واقتنعت بأني لا يمكن أن أتم الكتاب.

- لا حول ولا قوة إلا بالله... المشكلة أن الجميع متحمسين للكتاب، ويريدونه مطبوعا ً في اجتماع العائلة القادم، ولا أدري الآن ماذا سنقول لهم؟

- يمكن للكتاب أن يكون جاهزا ً في موعده، لو أنك وجدت أحدا ً يتفرغ له في الأيام القادمة بالاعتماد على المخططات والملخصات التي وضعتها.

- يصير خير – قالها بحنق -، هات الأوراق وسأنظر أنا في الأمر، عسى أن أجد من يتكفل به.

* * *

بدت لي نتيجة اجتماعي بأبي خالد وتخلصي من هذا المشروع البائس مناسبة تستحق الاحتفال، لذا اتصلت بلينا حال خروجي من منزله، وطلبت منها أن تستعد للخروج بعد صلاة العشاء مباشرة.

لم يكن هناك مكان محدد نذهب إليه، ولذا فكرت بجولة في الرياض مع كوب قهوة، ومن ثم عشاء في أحد المطاعم الفاخرة، والتي احتفظ بأسمائها في قائمة بجوالي، وأحرص على تجربتها واحدا ً تلو الآخر.

بعد الصلاة احتاج الأمر إلى اتصالين متقطعين لتخرج لينا متسربلة بعباءتها، قالت وهي تسحب العباءة بحرص حتى لا يغلق عليها الباب – بعد المرة التي كنست فيها عباءتها نصف الرياض، صارت أكثر حرصا ً في الركوب -:

- شكرا ً... لقد أنقذت ليلتي، كنت أشعر بملل شديد، وكنت أقلب خياراتي ما بين أن أشاهد التلفاز وأتعشى شطيرة جبن، أو أن أتصل بصديقة لأثرثر معها.

- هههههههههههههه، عليك ِ أن تشكري أبا خالد إذن، فخروجنا اليوم هو احتفال بتخلصي من كتاب جدي وإعادته إليه.

- غريب !!! ظننت أنك متحمس لكتابة ذلك الكتاب.

- كنت متحمسا ً له.

- وما الذي غير رأيك؟

- أشياء كثيرة اكتشفتها وأنا أحاول تأليف الكتاب، يمكنك ِ أن تقولي بأني اكتشفت بأن هذا الجد لا يستحق أن أؤلف عنه كتابا ً.

- حسنا ً... وما الذي سيحدث الآن للكتاب؟

- لا أدري، لا ريب أنهم سيبحثون عن ضحية جديدة له.

لم تقل شيئا ً، والتفتت تتأمل الطريق، فيما انحرفت أنا مع شارع طويل، كان في الشارع المعاكس له مقهى جيدا ً يقدم خدمة السيارات، وكان يمكنني ملاحظة الصف الطويل من السيارات المنتظرة، فلذا قررت التخلي عن تكاسلي والترجل للحصول على القهوة بنفسي.

اختارت هي نوعا ً مثلجا ً من القهوة ذو اسم مرعب، فيما اكتفيت أنا بالمخا الساخنة – الموكا لسريعي النسيان -، ودخلت المكان الذي يحمل رائحة... حسنا ً رائحة القهوة.

كان المحاسب الذي يرتدي مئزرا ً قاتما ً، شاب أسمر بلحية تطوق الفم فقط، وتترك الخدين أملسين، ونظارات ضخمة بلون الفضة تخفي عينيه تماما ً وتمنحه منظرا ً غريبا ً، نقر الطلب بسرعة على آلته وتناول المال مني بلا أي كلمة، ثم تحين لحظة فراغه هذه ليقفز من كرسيه ويتناول علبة حليب ويقف ليساعد زميل له ذو عينين ضيقتين وابتسامة لئيمة.

- ها... عم َ ستتحدثان في هذه الليلة الجميلة – كان هذا فهد وقد استغل انشغالي بتأمل الفاتورة -.

- يمكننا أن نتحدث عن أي شيء.

- كم أتوق لذلك.

تجاهلته وفضلت أن انتظر القهوة بصمت، وعندما عدت إلى السيارة كنت أفتش في ذهني عن موضوع يمكنني إثارته والتحدث مع لينا عنه.

كانت المواضيع تتساقط مع كل خطوة، ولذا ركبت السيارة بذهن خال ٍ واكتفيت بارتشاف القهوة وانتظار أن تفتح لينا موضوعا ً.

بعد أن لهت قليلا ً بمشروبها البارد، قالت وهي تضعه في حاملة الأكواب:

- من اتصل بي اليوم؟ توقع !!!

- من؟

- أريج.

- أريج؟

- صديقتي في الثانوية، أخبرتك عنها من قبل، التي توفي والدها العام الماضي.

- اها، تذكرتها، كيف حالها؟

- الحمد لله بخير، وأخبرتني بأنها خطبت لابن عمها منذر.

- منذر !!! ايه... الله يوفقهم.

- الله يوفقها، كانت تقول لنا في الثانوية أدعو لي يا بنات إني أتزوجه، يا حليلها، الله يهنيهم.










قديم 23-01-2009, 01:53 AM   رقم المشاركة : 14
أنا راحل
( ود جديد )
 





أنا راحل غير متصل










12

اخترت مقهى جديدا ً هذا الأسبوع، طاولة دائرية تجنبتها الأضواء فغرقت في عتمة زاوية بعيدة، لا يؤنس وحدتها وانفرادها إلا مقعدين متقابلين، ومناديل مطوية.

زارني نادل المقهى ثلاث مرات، وفي كل مرة كنت استمهله قليلا ً، وأعود إلى رواية جوزيه ساراماغو ( سنة موت ريكاردوريس) لأتابع ذلك الطبيب البرتغالي الذي عاد من غربته البرازيلية، ليلتقي بشبح الشاعر البرتغالي الكبير ( فرناندو بيسوا) الذي ابتدعه ذات يوم.

استسلمت أخيرا ً وبحنق للنادل، فطلبت موكا ساخنة، وعدت للسطور المكتظة للرواية – حيث كان ساراماغو يصر على تجاهل الفواصل والمسافات -، محاولا ً التركيز مع الضجيج الذي بدأ يتصاعد مع دخول أربعة من ذوي الرؤوس الضائعة – ضاعت وسط كل ذلك الشعر المجعد الذي يغطيها- وهم يتحدثون ويضحكون بصخب لا يتبدد.

تقلبت ما بين الصفحات، والموكا، وجوالي الذي ينتظر اتصال حسن – ليسألني عن المكان أو ليعتذر عن الحضور -، وتأمل الناس من حولي، ثرثرتهم التي يصلني جزء منها، فتبدو لي بكل تلك التقاطعات والكلمات الناقصة كهذيان.

- السلام عليكم – كان هذا حسن الذي حط على رأسي فجأة -.

- وعليكم السلام، من أين جئت !!! لم أرك وأنت تدخل !!!

- هههههههههههههههه، هذا لأنك كنت هائما ً، وعلى وجهك نظرة تأملية سخيفة.

- لم أكن أتأمل، كنت أفكر فيك، فلذا بدت ملامحي سخيفة.

- ألم تطلب لي بعد؟ – وهو يقلب القائمة التي جلبها له النادل البغيض –

- لا... دلل نفسك هذه المرة، اختر شيئا ً مختلفا ً، وإلا ستموت ولم تذق إلا الموكا.

- اها... حسنا ً، شورك وهداية الله، سأجرب الموكا.

- يا أحمق !!! نحن نشرب الموكا كل خميس، جرب شيئا ً آخر.

- امممممم، أنت ماذا طلبت؟

- موكا – بصبر -.

- قهوة إيطالية – قلتها للنادل بنفاد صبر وأنا انتزع القائمة من يد حسن -.

- كيف حالك؟ - سأل وهو ينتزع منديلا ً، ويمسح به وجهه -.

- الحمد لله بخير حال.

- وكيف حال كتابك السحري؟

- تخلصت منه.

- ماذا !!! يعني انتهيت منه؟

- لا... تخلصت منه.

- لم أفهم.

- بكل بساطة جمعت كل الأوراق والكتب والمخطوطات وأعدتها إلى أصحابها، واعتذرت عن إكمال الكتاب.

- ولم َ؟ ما الذي حدث؟

- حكاية طويلة، يمكنك أن تقول أنني لم أعد متحمسا ً لا لجدي، ولا لحكايته.

- اها.

- ماذا عنك أنت؟ كيف حال قصيدتك؟

- مازالت تنمو، أحضرت معي الجديد – قالها وهو يلوح بكتابه الأزرق -.

- بالمناسبة... الأبيات التي أرسلتها لي الأحد الماضي.

- ما بها؟

- كانت عبارة عن ثلاث قصائد ( لا تنتظر) و( عفن) و...

- حكاية لا تنسى.

- نعم... ( حكاية لا تنسى)، ( لا تنتظر) فقط هي التي بدت لي تنتمي إلى القصيدة الكبيرة، أما القصيدتين الباقيتين !!! فلا أدري !!!

- تنتمي لها – قال بابتسامة -، يمكنك اعتبارها من قصائد الملك الشاب.

- ولكن القصيدة الكبيرة ذاتها على لسانه !!!

- هههههههههههههههه، لا تتعامل مع الشعر بالمنطق، القصيدة تركز كموضوع أساسي على الملك الشاب، ولكنها تتناول موضوعات أخرى، تقترب منه أحيانا ً، وتبتعد عنه أحيانا ً أخرى.

- لم َ إذن تكون هذه القصائد مضمنة في القصيدة الكبيرة؟ لم َ لا تفصلها عنها وتجعلها قصائد مستقلة؟

- لأنه لن يكون هناك حينها قصيدة كبيرة.

- ولكن لا يمكنك تسمية الناتج قصيدة كبيرة، إذا لم تكن له وحدة عضوية، وترابط ما بين القصائد الصغيرة.

- ومن قال لك أنه لا يوجد ترابط !!! كل قصيدة من هذه القصائد، تضيف للقصيدة الكبيرة، وتنير جانبا ً مظلما ً منها.

- اشرح لي، لدينا الموضوع الرئيسي الذي كانت معظم القصائد تدندن حوله، الملك وحيرته، ولدينا قصيدة ( عفن)، ما الذي تضيفه قصيدة ( عفن) للموضوع الرئيسي؟

- قلت لك هذه القصيدة منسوبة للملك.

- ملك محتار ما بين الموت والحياة، ويكتب قصيدة عن عفن ملأ يدي فتاة؟

- هههههههههههههههههههه، بالله عليك هل تسألني هذا السؤال؟ سأخبرك – وهو ينهض – ولكن دعنا نخرج الآن لأني أريد تدخين سيجارة.

- لا يمكنك التعامل مع القصيدة – أكمل وقد صرنا نتجول على الرصيف، وبين أصابعه سيجارته – كما تتعامل مع قصة، في القصيدة الزمان والمكان ضائعان، لا يوجد إشارات محددة، من يقول ماذا؟ ومتى؟ هناك بالطبع القصائد المباشرة، التي يتحدث فيها الشاعر، ويعبر بشكل مباشر، عن إحساساته أو آرائه، ويملأها بالحكم، هذه قصائد بلا أبعاد، فقط بعد واحد ( الشاعر)، واعتماد هذه القصائد الأساسي على قدرة الشاعر على حشر المعاني والأفكار في الشكل العروضي الذي بدأ به قصيدته.

- وقصيدتك بالطبع ليست قصيدة مباشرة.

- لا تسخر أرجوك – لوح بسيجارته -، قصيدتي ذات أبعاد متعددة، لدينا البعد الخارجي الملك الشاعر، قصته ونهايته، هذا البعد الخارجي يمكنك اعتباره الإطار الذي يحتوي القصيدة ككل، والذي نعود إليه من حين إلى حين، ولكن للقصيدة أبعاد أخرى، أو فلنقل أصوات أخرى.

- من هو الصوت الذي كان وراء عفن؟

- أنا.

- أليست القصيدة تبدأ بـ ( قالت) !!!

- لا... أقصد أن قصائد الملك تأتي على لسانه، وهذه القصيدة جاءت على لساني أنا.

- هي تتعرض – أكمل وهو يتخلص من السيجارة ليبحث عن أخرى – لحادثة مررت بها أنا، وغيرت بعض الأشياء في حياتي.

- اها.

* * *

ليلة

1

جاء الشتاء
فأشعلوا النار في الأرجاء
يبتغون الدفء
ويدفعون هجمة المساء

2

ظلالهم تجول في الخيام
أصواتهم تردها الآكام
والليل لا يخفي عيونهم
لا يخفي...
لمعة السؤال في الظلام

3

ويضحكون في خفوت
يتحدثون عن أشواقهم
عن ضمة الدفء في البيوت
عن كل ما يفوت
هناك...
لأني أخاف أن أموت

رأيت فيما يرى النائم

عدنا
وكل ما مر كان حلما ً سخيفا ً
وظنون
وأوهام طرقتنا ذات ليل
فبددها الصباح المجيد

أكملت أنا كلامي
وكتابي
وضحكت ِ أنت ِ على
ما قلت منذ زمن بعيد

وفقدنا الزمان
فر من تحت أرجلنا المكان
فغدونا في فراغ حبيب
كفراشتين
أو طفلتين في ليلة العيد

ثم توارى كل شيء
وأفقت سريعا
غارق في فراشي...
ملك وحيد

أتعرفين ما الذي سيؤذيني أكثر؟
أتعرفين ما الذي سيؤذيك أكثر؟
أن نتذكر
وأن نتمنى أن يعود الزمان السعيد

لم َ؟

لم َ كان كل هذا؟
كيف صرنا هكذا؟
كيف انتهينا؟
وكيف صرت أنا حكاية للآخرين !!!

ولم َ صرتي
ترسمينني بلا فم
وتضعين لي الكلمات
تغلقين الدروب إلي
وتحجبين الطرقات
وتطمسين الكثير
توارينه تحت أستار كثيفة
لتصوغي من جديد
رجل فريد
يعجب الناظرين

ولكن عندها ما الذي مني سيبقى
في المكان الذي قد كان يدعى قلبك
وعندما نلتقي يوما ً هل ستعرفيني؟
وهل سأعرف أنا الوجه الذي نبت
في المكان الذي قد كان وجهك !!!

* * *

- كان يتحدث عن أنثى، ألم تلاحظ ذلك؟ - قالها فهد ونحن عائدان -.

- ولم َ يحتاج إلى كل هذا الغموض؟ الرجال يتحدثون عن الإناث طيلة الوقت.

- ليس اللواتي يحبونهن.

- حسنا ً... ربما هو يتكلم عن فتاة ما، هل تعرف عدد القصائد التي كتبت عن النساء؟ تكاد كل قصيدة أن تكون رداء ً لامرأة.

- لا... لا... هناك شيء ما في تلك القصيدة، ولكن أحتاج للعودة إلى الإطلاع عليها، لأكتشفه.

- ربما... سنرى.

حاولت عدم التفكير في الموضوع، وإبعاد فهد والاستعاضة عنه بالحديث مع لينا، وقد خرجت أخيرا ً من منزل أهلها الهادئ، ولكنها كانت كعادتها مختصرة الأحاديث والكلمات.

وصلنا المنزل، خلعت ملابسي، ودفعت نفسي دفعا ً إلى الحصول على حمام دافئ، يغسل عن روحي وعن بدني دخان حسن.

عندما خرجت كانت لينا تنتظر!!!

كيف عرفت؟ أشياء كثيرة أخبرتني، لبسها، صوتها، نظرة عينيها، وذلك العطر الغامض الذي نثرته في الغرفة كنداء أو نذير.

في داخلي كان هناك رفض ونفور، رفض لهذا الصمت، ونفور من أن أستدرج هكذا بلا كلمات، فلذا تجاهلت كل هذه الإشارات، واستلقيت منتظرا ً نداء ً يسمع.

مرت دقائق وأنفاسنا لا تنتظم.

مرت دقائق والنور الخافت يرسم أشباح أجسادنا الراقدة.

مرت دقائق، خفت رائحة العطر وتبدد غموضه، غيب الغطاء ملابس لينا، ونزع الظلام أي معنى من نظراتها.

مرت دقائق وانتظمت أنفاس لينا.










قديم 23-01-2009, 01:53 AM   رقم المشاركة : 15
أنا راحل
( ود جديد )
 





أنا راحل غير متصل










13

انفردت بنفسي أخيرا ً، ببطن يثقله غداء الجمعة الحاشد في منزل والدي، وضعت كوب الشاي على مكتبي الذي استعاد شيئا ً من النظام، بعدما زالت الكتب والأوراق التي كانت تملؤه، والتي كان يجمع بينها جد قديم.

بعد عدة رشفات، فتحت بريدي وطبعت قصائد حسن الأخيرة، وجلست أتأملها.

- تأمل نهاية ( حكاية لا تنسى) – قال فهد -.

- ما بها !!!

- تعطيك وهما ً بأن ( عفن) تتلوها في الترتيب فعلا ً، فهي تتحدث عن حب انتهى، ومن ثم يتبعها قصيدة عن فتاة يعذبها العفن، فتربط ذهنيا ً بين هذا وذاك، وتعتبر العفن هو الحب الذي انتهى.

- وما الذي تراه أنت؟

- أرى أنهما متزامنتان.

- كيف؟

- ( حكاية لا تنسى) تتحدث عن نهاية حب، حب غريب، ونهايته جاءت مباغتة، وبلا حسبان، وفي القصيدة التالية، نرى الفتاة تتحدث عن عفن غزاها وتمنت زواله طويلا ً فزال فجأة.

- لأن القصيدة تقول – أكملت أنا – (وكان يوم الأمنيات / فزال).

- بالضبط... بالضبط... هذا التزامن في النهايتين، يعني أن القصيدتين ذاتهما متزامنتين، وأن النهاية لهما واحدة، لأنهما انتهتا بشكل مفاجئ.

- وما الذي نستفيده من هذا؟

- فكر قليلا ً.

- آ... – بعد تأمل -، غريب !!! في القصيدة الأولى نجد ذلك الحب العاصف الذي ينتهي بسرعة وبشكل مفاجئ، ونجد في القصيدة الثانية تلك الفتاة التي تتمنى أن يزول العفن، وبما أننا نفترض أن القصيدتين متزامنتين، أي لهما ذات زمن الحدث، فهذا يعني أنهما لا علاقة لهما ببعضهما، وأن هذه حكاية، وتلك حكاية أخرى، وإلا كيف تكون حبا ً في الحالة الأولى، وعفنا ً في الثانية !!!

- رائع... هذا ما فكرت فيه أنا.

- حقا ً – قلت بسخرية -.

- ولكن لم َ يصنع حسن وهما ً بتوالي القصيدتين؟ لم َ يوردهما بشكل يجعل من يقرأهما، يصل نهاية هذه ببداية تلك؟

- الإجابة عند حسن.

- لم َ لا نسأله؟

- عن ماذا؟

- عن ما فهمناه.

- لن اتصل به لهذا.

- أرسل له رسالة، تشرح فيها ما فهمته.

- آ... فعلا ً، لم َ لا.

عدت إلى البريد، فتحت رسالة بيضاء، وكتبت فيها ما فكرت فيه، كنت أكتب سطورا ً أعود لأمسحها، أو لأعيد ترتيبها، أو لأزينها ببعض الكلمات أو الأفكار، وعندما صارت بين يدي رسالة مكتملة، دفعتها وأغلقت الجهاز، وانصرفت إلى كتابي.

* * *

كان يمكنني تلمس غضب لينا طيلة اليوم، غضب مخبئ، ملفوف بعناية، بقشرة باردة، وبلا مبالاة غريبة.

كانت موجودة وغير موجودة طيلة اليوم.

فلذا كان تسللي إلى المطبخ وهي تغسل أواني العشاء، والقبلة التي طبعتها وراء أذنها.

توقفت عن عملها لحظة، ولكنها عادت وإن لمحت ابتسامة خافتة في الانعكاسات المتعددة للصواني الغارقة في الماء، همست في أذنها:

- غاضبة؟

- مم َ أغضب؟ - حمل لي صوتها استغرابا ً، ونصف التفاتة متسائلة -.

- لا أدري، تبدين لي غاضبة اليوم أو متضايقة.

- لا... لا... لا يوجد ما يضايقني أو يغضبني.

- أكيد !!!

- أكيد.

- هههههههههههههههههههههههه، ولا حتى انتظارك ِ البارحة؟

- أي انتظار – وقد أسدلت يديها فأغرقهما الماء المتدفق -.

- البارحة... في الفراش.

غرقت في صمت مذهول، كان يمكنني ملاحظة تحفز وعصبية في يديها اللتين عادتا إلى الانشغال، وهروب في عينيها اللتين تركزتا على بقايا الطعام المستعصية.

تراجعت أنا، اتكأت على حافة نضد، وجعلت أتأمل ظهرها، رقبتها التي تركها الشعر المرفوع عارية، نحيلة، ثم رفعت رأسي أتأمل السقف، أكملت:

- البارحة، كنت أعلم أنك ِ تريدينني، ولكني لم آتيك كما العادة، لأني أريد... – فرت مني الكلمات فجأة، لا أدري ما الذي حل بي، فجأة صرت غير قادر على قول ما كنت أظن أني سأقوله - ... احم، لأني أريد أن أشعر بأنك ِ تريدينني أيضا ً، وأنك ِ لا تكتفين بالإشارات وإنما تقتربين عندما لا أفعل أنا ذلك.

أنهت لينا عملها، أو أنها اختصرته، ومسحت يديها، وخرجت من المطبخ وأنا أبحث عن الجملة التالية.

لحقت بها إلى غرفة الجلوس، كانت تهم بالجلوس وبيدها جهاز التحكم، عندما مددت يدي وأطفأت التلفاز.

- كنت أتكلم معك ِ !!!

- من الأدب – أكملت عندما واجهتني عينيها الصامتتين- أن لا نترك من يتكلم معنا وهو لم ينته من كلامه.

- أنت ِ غاضبة من عدم استجابتي لرغبتك بالأمس، فلم َ لا تقولين شيئا ً !!!

- ماذا أقول؟

- أي شيء – بنفاد صبر –، هل احتاج إلى تعليمك ِ الكلام !!!

- ما بك اليوم؟ أنا لست غاضبة ولا شيء والله.

- هل أردتني البارحة أم لا؟

- أجيبي – عندما خفضت رأسها ولم ترد -.

- إيه.

- ولم َ لم تقولي أو تفعلي شيئا ً وتركتني أنام.

- لا حول ولا قوة إلا بالله – عندما لم ترد -.

- ماذا تريدني أن أقول؟

- لم َ لم تقولي شيئا ً البارحة، لم َ لم تحاولي التقرب مني!!!

- استحي !!! إذا أنت لا تريد، فأنا لا أريد.

- أنا أريد، ولكني لا أريد أن يتم الأمر في صمت تام من قبلك، أريد أن أشعر بأنك ِ تشاركينني، لا مجرد الاستسلام لي.

- الكلام معك ِ مضيعة للوقت – إذ عادت لصمتها -.

* * *

وجدت رسالة حسن، وقد لجئت إلى مكتبي، بعيدا ً عن غضبي وعن لينا.

(

ما شاء الله

ما شاء الله

منذ متى بدأت بالقراءة والتحليل يا أبا فالح

ليس لي كشاعر أن أشرح لك قصائدي، ولكني سأضع لك بعض القصائد، ربما تساعدك قليلا ً في تنقيباتك

من يصلحني؟

في روحي شروخ وصدوع
وفي قلبي فتات
وآلاف الأنات
فمن يصلحني؟

وفي روحي كسور لا تجبر
هشيم لازال يؤرقني
يمحوني... يفرقني
فأغدو مجروحا ً آلاف المرات

فتبا ً للنفس إذ منتني
بأن الكسر سيجبر
وأني سأعود جديدا ً
مغسولا بماء السماوات

وأني سآتيك ِ كطفل لا يحفل
بما يُكتب
وبما يملئ عليك ِ من الطعنات

وأنك ِ ستريني
ستملأ عينك ِ عيني
وسننسى الكثير من الكلمات

وأني من روحك ِ سأستل
عفنا ً كان قد احتل
ظننت ِ أنه قد زال
وطمرته السنوات

فالآن وقد كذبتُ ظنوني
ومضيت بعيدا ً
وتناسيت...
فمن يصلحني؟

نقش

كنت ِ نقشا ً غائرا ً
وقديما ً على جدراني
أخفيته حياء ً بستار

وانتظرنا طويلا ً
ما كشفتُ الستار
ولا أنت ِ سألت ِ
ما الذي يحويه الجدار

وعصية أنت ِ كنت ِ
في نقوشك
تنقشين كثيرا ً
ترهقين القلوب والأحجار

ثم تهنا
ابتعدنا كأننا ما التقينا
واقتربنا
كأن ما بيننا أشبار

ثم انتهينا
لا !!!
أنا انتهيت
لأني لا أجيد الانتحار
ولا أنت ِ تجيدين الانتظار

أنا... من أنا؟

1

أنا !!!
من أنا؟
إذا لم يكن في دمائي الخلاص
وتمتمات القدر

2

أنا !!!
من أنا؟
إذا لم أكن قتيل !
ذبيح !
يقي قومه موتة المنتحر

3

أنا ميت هذا الصباح
بسيف يسل
ويكسر إذا ما لطخته الدماء
فليس للذي انتزع روح الملك
وأهدى السيوف لأغمادها من بقاء

4

وسيبعث الزهر وطير الفضاء
إذا ما سقطت
وستتلقاني يدان
وألف لسان
وحكايات سيروونها لأطفالهم
عن الملك الذي ما استكان

5

أنا !!!
من أنا؟
أنا ملك لم يخف طعنة السيف
ولا ألهاه الصولجان

)










قديم 23-01-2009, 01:54 AM   رقم المشاركة : 16
أنا راحل
( ود جديد )
 





أنا راحل غير متصل










14

صباح سبت، احتجت إلى كوب قهوة كبير وجولة خفيفة بين عدد من مواقع الانترنت لأتخلص من ثقله.

كان اجتماع إداري ما، قد كفانا اجتماعا ً تربويا ً آخر من اجتماعات ( أبو نايف)، والذي سحب في طريقه عددا ً من رؤساء الأقسام - أحدهم ناصر – مما أفسح الصباح لسليمان، فغادر المكتب وبين يديه أوراق يعزز بها وهم أنه ماض ٍ إلى عمل ما.

لم تكن خياراتي مبهجة، كان علي أن اختار ما بين نظام ( المالية) ومشاكله التي تنتظر حلا ً، مشروع ( التنظيم الإداري) والذي لازال تحليله المبدئي ينتظر زيارات أخرى للإدارة المعنية، وأخيرا ً ( المستودعات) والذي قاربت تعديلاتي على تحليله – بعد زيارتي ّ الأسبوع الماضي – على الانتهاء.

اخترت نظام ( المالية) بعد تردد، وانهمكت في دورة مرهقة من النفاذ إلى شفرة البرنامج، التعديل عليها، واختبار التعديل، وهي دورة تتكرر بتكرار الأخطاء، والتعديلات.

مر الوقت وأنا بين سطور الشفرة الكئيبة، ومنطقها الرتيب والدقيق، عاد سليمان، تحدث قليلا ً، خرج، ثم عاد مرة أخرى.

- أف – بصوت عال ٍ وقد يئست أخيرا ً من اكتشاف خطأ ما، مدفون بين السطور والفواصل -.

- سلامات - وهو مشغول بقراءة شيء ما على شاشته -.

- هذا النظام الكريه، يبدو أن مشاكله لن تنتهي أبدا ً.

- ههههههههههه، وكيف ينتهي وهؤلاء الكلاب يطلبون تعديلات جديدة في كل يوم؟ لو كنت في مكانك لرفضت أي تعديلات جديدة، ولصرفت وقتي في حل المشاكل البرمجية فقط.

- عندها يتصل مديرهم بناصر ليشتكي عدم تعاوننا معهم، وأنت تعرف كيف سيتصرف ناصر حينها.

- المهم – أكملت وأنا أمد له ملفا ً صغيرا ً -، أنا مشغول جدا ً بالمالية و( المستودعات)، فلذا تابع أنت تحليل مشروع ( التنظيم الإداري)، نحتاج إلى اجتماع جديد معهم، لاستكمال بعض البيانات، ستجدها مكتوبة في الورقة الأولى في الملف، لا... لا... التي بعدها، الصفراء... الورقة الصفراء.

انصرفت إلى عملي، فيما جعل يقلب هو أوراق الملف وهو يدندن.

- حسنا ً... متى تريد أن نذهب إليهم؟

- اممممم – وأنا أفرك أذني -، أنا مشغول تماما ً، فلذا أذهب أنت إليهم غدا ً.

- أنا أفضل أن نذهب إليهم معا ً.

- للأسف، لا أستطيع.

- يمكننا تأجيل الموعد إلى يوم الاثنين.

- آ... لا أريد أن نتأخر كثيرا ً، سيمر أسبوعين على استلامنا للمشروع ولم نمر بهم سوى مرة واحدة، وأخشى أن يسألنا ناصر عن ما تم في المشروع في أي لحظة.

- لا عليك... فليحمد ربه أننا استلمنا المشروع، وعندما يسأل أنا من سيجيبه.

* * *

كنت قد صليت المغرب للتو عندما اتصل بي أخي خالد، وأخبرني بعجل أن والدي لديه ضيوف هذه الليلة، وأنه يطلب حضوري.

كان هذا غريبا ً، فهذه الدعوات المفاجئة ليست من طباع أبي.

لم أفكر في الأمر كثيرا ً، صليت العشاء وقصدت منزل والدي القريب، فوجدت سيارات الضيوف تسد الباب – هذا غريب !! هل وصلوا بهذه السرعة؟ أم أنهم كانوا هنا قبل الصلاة ! -، دخلت كان هناك بالإضافة لأبي وأخوتي صالح – الكبير – وخالد ومحمد، عدد من رجال العائلة – بعضهم أعرف كنيته، وبعضهم اسمه الأول، والبقية ملامحهم التي أراها مرة في العام أو مرتين – ميزت من بينهم أبو خالد.

بعد السلام وفنجال القهوة الذي قدمه لي أخي محمد، تحدث أحد الرجال – أظن أنه يدعى أبو تركي -:

أبو تركي: كنا نتحدث مع والدك قبل حضورك يا أبا عبد الله – هكذا كان يناديني البعض بما أني بلا عيال وأن اسم والدي عبد الله -، لقد تفاجئنا بتراجعك عن كتابة الكتاب، وكنا نرجو أن يتوسط لنا عندك، ولكنه أخبرنا بأنه لا يدري عن تراجعك شيئا ً، و... – لم يجد كلمة يقولها فسكت، وتركني للعيون التي تنتظر -.

أنا: آ... – وارتباك غريب يجتاحني -، أنا زرت أبا خالد الأربعاء الماضي، وأخبرته بأني لا أستطيع إكمال الكتاب لأسباب شرحتها له – والتفت لأبي خالد الذي كان جالسا ً وقد مد رجليه ووضع يديه على بطنه، فاعتدل في جلسته -.

أبو خالد: نعم... نعم... الشيخ كان لديه بعض الـ... – وتوقف ليناول فنجاله لمحمد – الاعتراضات على بعض الأحداث التي وردت في الكتاب، يعني أشكلت عليه بعض المسائل ولم تتحقق له بعض التواريخ – والتفت إلي -، أليس كذلك يا شيخ؟

أنا: ليست اعتراضات، أنا درست مخطوطة الشيخ عبد الرحمن، وكتاب التبيين، ورجعت لموسوعة المحتم، وغيرها من الكتب، ووجدت أن بعض الأحداث المذكورة في المخطوطة غير صحيحة...

رجل ذو ملامح هادئة مقاطعا ً: كيف تكون غير صحيحة؟ الأحداث التي في المخطوطة رواها الشيخ عبد الرحمن عن الجد مباشرة.

أبو خالد: ربما يقصد أن الجد صالح رواها في آخر أيامه فاختلطت عليه بعض الأمور.

رجل آخر يلقبونه ( بسك) – لأنه كان يرددها في شبابه، وتعني يكفيك -: الجد لم يخرف في آخر أيامه، مات وذاكرته معه.

أبو تركي: دعوا الرجل يتحدث.

أنا: أنا أخبرت أبا خالد، هناك أحداث مثلا ً ذكر في المخطوطة أن الجد حضرها، وبعد البحث اكتشفت أنها وقعت في صغره، وأنه لا يمكن أن يكون قد شارك فيها.

بسك: الله يهديك !!! ليست كل الكتب موثقة، فلا تأخذ بكل ما يرد فيها، أليس كذلك يا أبا خالد؟ أليست بعض الكتب التي بحثت فيها تورد بعض الأمور التي ثبت عدم صحتها.

أبو خالد: نعم... نعم... بعض الكتب مثلا ً تقول أن الإمارة في الريلية قبل صالح بن علي، كانت لنوفل بن حمدان، مع أنها كانت لابن حمد وهو الذي أخرجه الجد بعدما وقع بينهم في ( الدشانة).

أبو تركي: الدشانة كانت على ابن حومل !

أبو خالد متهللا ً: هو ابن حمد، كان يسمى بابن حومل، أمه هي حومل.

بسك: غير صحيح، أمه اسمها نورة.

فهد بسخرية: وهذا ما يهمنا الآن.

ذو الملامح الهادئة: اسمها نورة وكانت تلقب بحومل، وهي التي قال فيها الشاعر:


وين أهلكم يا راعين العمد /// أمكم حومل وأبونا سعد


أبو خالد وقد عاد الحديث إليه: نعم... فبعض الكتب تورد أخبارا ً يجمعونها بلا تثبت.

أنا: موسوعة المحتم كتاب موثق، والمحتم مؤرخ معروف، و...

بسك: سبحان الله !!! وكتاب المحتم قرآن منزل !!!

أنا بغيظ: لا... ولكنه عندي أوثق من مخطوطة الشيخ عبد الرحمن.

بسك بحدة: الشيخ أخذها من الجد مباشرة.

أبو خالد مهدئا ً: اذكروا الله يا جماعة الخير، يا أبا فيصل – هذه كنية ( بسك) –، أبو عبد الله يقصد أنه قد يكون هناك نقص في مخطوطة الجد.

فهد: وها هم يملون عليك مقاصدك.

بسك بتوتر: أنا لم أقل بأن مخطوطة الجد كاملة، فيها نقص بالتأكيد، الكامل الله سبحانه وتعالى، ولكن هذا لا يعني أن نلقي بالمخطوطة كاملة بحجة أنها غير موثقة، وإلا لا يا أبو صالح؟ - موجها ً سؤاله لأبي -.

شعرت بغيظ حقيقي، من جر الرجل لأبي إلى ساحة الصراع.

أبي الصامت تكلم بنبرته الهادئة: كلامك صحيح يا أبا فيصل، ولا أظن أن أحدا ً يشكك في صحة المخطوطة.

بسك ملتفتا ً لي: الحمد لله... فالمخطوطة هي مرجعنا الأول وكتاب جدنا يجب أن يعتمد عليها.

نظرته إليه ببرود ثم قلت ببطء: هل قرأت المخطوطة؟

بسك: لا.

سألت بسرعة: هل قرأت كتاب المحتم؟

بسك: لا ولكن...

قاطعته: إذن أنت بكل بساطة تجزم بصحة أشياء لم تقرأها.

بسك بحنق: يا أخي بالمنطق، الكتاب مروي عن الجد مباشرة و...

قاطعته بتصميم: وبدلا ً من أن تقرأ وتبحث كما فعلت أنا، تأتي إلى هنا وتملي علي آرائك، سأقولها لك بوضوح هذه المرة لعلك تسمعها جيدا ً، كتاب الجد فيه أكاذيب، أخبار كاذبة، مزيفة، لم تقع، وإن كان الجد هو من قالها فهو قد كذب فيها غفر الله له – حاول الحديث، وكذا أبو خالد ولكني أكملت بصوت عال ٍ -، وإن كان الجد لم يقلها فيكون عندها الشيخ عبد الرحمن هو من كذبها للأسف، وأنا لست على استعداد لترديد الأكاذيب إرضاء لك ولغيرك.

حل صمت ثقيل عندما انتهيت، لم أنظر لأحد، ولا أدري أين كانت أنظارهم هم.

نهض أبي قبل أن يقول أحد شيئا ً وقال بذات الهدوء: تفضلوا، العشاء جاهز.

ارتبك أخوتي وهرولوا إلى الداخل فالعشاء لم يجهز بعد، والسفرة لازال ينقصها الكثير، ولكن أبي نهض ونهض الرجال معه وساروا إلى غرفة الطعام المجاورة.

تعشينا بصمت تقطعه أحاديث طفيفة ومتقطعة بين أبو خالد وأبو تركي، ثم انصرفوا بعدما تناولوا الشاي ودعوا لأبي بالبركة.

ودعهم أبي عند الباب ثم قال لي أنا وصالح الواقفين معه: تصبحون على خير.

ودخل لينام.

زفرت بضيق لما آل إليه الأمر، خرجت من المنزل ومعي صالح ووقفنا عند سيارتي، نظر لي وابتسم ثم قال: هداك الله، هناك أشياء يجب أن لا تقولها.

أنا: ماذا تريدني أن أفعل يا أبا عبد الله؟ هل هذه تصرفات رجال؟ يأتون إلى أبي ليحدثوه عن الكتاب وهو لا شأن له به، يصرون على صحة المخطوطة رغم كل ما قلته عن الأخطاء التي فيها، ماذا أفعل؟

صالح: اسمع... أنا لا يهمني الكتاب ولا المخطوطة، واعتبر الموضوع كله سخيف، ولكن كان يجب عليك أن تراعي وجود أبي ومكانته.

أنا: أراعي مكانته !!! وأنا ماذا فعلت؟ أنا لم أخطئ على أحد منهم، رغم أنهم تعاملوا معي كطفل يحتاج إلى ولي أمره طيلة الوقت.

صالح: ليتك أخطأت عليهم هم، كان الأمر هينا ً وأصلحنا ما بينك وبينهم، ولكنك أخطأت على جدنا ذاته.

أنا: كيف أخطأت عليه !!! الكتاب مليء بالأكاذيب وهم يصرون على أنه صحيح، ماذا تريدني أن أقول؟

صالح: أنا قلت لك الكتاب لا يهمني – خفت صوته وفقدت بعض الكلمات عندما فتحت باب سيارتي وانسللت إليها لأشعل المحرك قبل أن أعود لوقفتي - .... يجب عليك أن لا تتعرض للجد أو تتهمه بالكذب حتى ولو كنت مؤمنا ً بهذا، لأن عقولهم صغيرة، والجد بالنسبة لهم كالمقدس، لا يجوز مسه، يا أخي في كل سنة يصدعون رؤوسنا بقصائد في مدحه، ثم تأتي أنت لتقول أنه كاذب ومدعي !!!

أنا: صالح... أنت لم تقرأ المخطوط كما قرأته أنا، وإلا...

قاطعني: يا أخي قلت لك المخطوط لا يهمني، ليكن الجد كذابا ً، في النهاية هو جدهم وجدنا جميعا ً، وأنت عندما قلت رأيك لهم أهنتهم، أهنتنا جميعا ً، وأهنت أبي قبل كل هذا، فكر بموقف أبي الآن، كبير العائلة وعميدها تهان عائلته وممن؟ من ابنه !!! ماذا سيقول الآن؟ أنت بأسلوبك اليوم أفسدت جهد سنوات طويلة قام به أبي لجمع العائلة، لا يهم ما في المخطوط، ما يهم ما يقوم به أبي من أجل العائلة وأنت بكل بساطة وضعت نفسك بين أبي وعائلته.

أنا: لا حول ولا قوة إلا بالله، كل هذا لأني قلت رأيي النقدي في هذا الكتاب !!! هل صارت كلمة الحق الآن صعبة على الجميع؟

صالح: أنا أفكر بشيء وأنت تفكر بشيء آخر، هل تظن أننا نصدق كل ما يقال عن الجد؟ لا بالطبع، نحن نعلم بأن الجميع يبالغون حوله، كما تفعل كل العائلات الأخرى مع أجدادهم، ولكن العائلات الأخرى احترمت أجدادها وكتبت عنهم كتبا ً توقرهم، وترصد ما قيل ويقال عنهم، أما نحن فقد هاجمت أنت الرابط الذي يربط بيننا ويجمعنا.

أنا بحنق: سبحان الله !!! ما يربطنا الآن صار فقط جد أسطوري، يعيش في مخيلتنا أكثر مما عاش في الواقع، هل نحن سذج إلى هذه الدرجة؟

صالح: لا... ولكن ما الحاجة إلى أن نهاجم جدنا ونقلل من قيمته؟

أنا: أنا لم أقلل من قيمته، ما فعله الجد أمر طبيعي، كلنا نمجد ذواتنا ونحكي عنها الجميل فقط، وما نريد لا ما كان.

صالح بملل: أنت اتهمت الجد بالكذب وهذا في حد ذاته اتهام كبير وخطير جدا ً، ولا يهم إن كان صحيحا ً أو غير صحيح، المهم هو أنه ما كان عليك أن تقوله، عموما ً سنتحدث حول الموضوع في وقت آخر، فأنا ذاهب الآن لإحضار أم عبد الله – زوجته – من عند صديقة لها، مع السلامة.

أنا: مع السلامة.










قديم 23-01-2009, 01:55 AM   رقم المشاركة : 17
أنا راحل
( ود جديد )
 





أنا راحل غير متصل










15

لم أنم جيدا ً.

كنت قد قضيت الليلة أستعيد ما حدث، وأقلبه في ذهني، يملؤني شعور غريب، لم أفلح في تحديده.

لم آبه لوصولي للعمل متأخرا ً.

قدت السيارة بهدوء غريب، بعد أن أقنعت نفسي بالكاد بالذهاب وعدم الحصول على إجازة اضطرارية.

- السلام عليكم – وقد دخلت المكتب ووجدت سليمان واقفا ً -.

- وعليكم السلام، الحمد لله على السلامة، أين أنت؟ ولم َ هاتفك مغلق؟

- الله يسلمك... ماذا تريد؟

- اتصل ناصر يريدنا في اجتماع.

- لا... ليس هذا الصباح، أنا بالكاد نمت البارحة.

- سلامات؟

- كنت متعبا ً قليلا ً.

- لم َ لم تأخذ إجازة؟

- لا أدري.

- حسنا ً ستأتي أم ماذا؟

- أمري لله، ما دمت هنا فلنذهب.

دخلنا المكتب، وانتظرنا ناصر حتى التفت إلينا.

ناصر: كيف حالكما.

أنا وسليمان: الحمد لله.

ناصر: ماذا تم في المشروع الذي سلمته لكما قبل أسبوعين؟

سليمان: زرنا الإدارة وبدأنا بالتحليل المبدئي ولدينا اجتماع آخر معهم غدا ً بإذن الله.

ناصر: وأين خطة المشروع؟ لم تقدموا خطة المشروع مع أن هذه هي أول خطوة يفترض أن تقوموا بها، ثم أين وصلتم في التحليل؟

سليمان: نحن أخبرناك منذ البداية بانشغالنا، وتداخل المشاريع لدينا.

ناصر: بم َ أنتم مشغولون؟ نظام ( المالية) يعمل ويكفي أن يتابعه أحدكما، المستودعات لم تقوموا بالتحليل بعد، ولم تجتمعوا مع أحد من الإدارة.

أنا مقاطعا ً: لا... أنا اجتمعت بمدير المستودعات الاثنين الماضي.

ناصر مكملا ً من دون أن يهتم باعتراضي: وهذا المشروع بلا خطة ولم تخطوا فيه خطوة واحدة؟ ثم تقول لي أنكم مشغولون يا سليمان؟ مشغولين بماذا بالشاي والانترنت والثرثرة؟

سليمان: لا يوجد أحد في هذه الإدارة مشتت بين ثلاثة مشاريع سوانا، فلذا لا تلمنا على التأخير، وعلى التداخل في العمل، فقد أخبرناك منذ البداية بأن هذا سيحدث، ثم إننا كما أخبرتك زرنا الإدارة وقمنا بتحليل مبدئي وسنكمل التحليل في اجتماعنا معهم غدا ً.

ناصر: وأنا كيف أعرف ما تفعلونه إذا لم تقدموا لي خطة واضحة بالمهام وتواريخ تنفيذها؟ مشروع بلا خطة، هذه مهزلة، الآن تخرجون من هنا وتعدون لي الخطة، ولا أريدها خطة عامة، بل أريد خطة تفصيلية لكل مرحلة من مراحل المشروع، وأريدها على مكتبي قبل الظهر.

خرجنا من المكتب حانقين، وشعرت بضيق شديد زادته شتائم سليمان المتواصلة.

قال سليمان حالما وصلنا المكتب:

- هذا هو، يسلمك المشروع بابتسامة ومديح، ومن ثم يلعنك في كل مرحلة من مراحله.

- المهم الآن – قلتها بضيق ظاهر -، لنبدأ بإعداد الخطة، ونسلمها ونرتاح.

- أعدها أنت إذا أردت، أما أنا فلا يهمني هذا المعتوه، وليفعل ما بدا له.

انصرف إلى جهازه، فجلست أتأمل الصور العشوائية التي كانت تلتقطها شاشة التوقف من خبايا ملفاتي لتعرضها، حقل في الحصاد، طفلة تبتسم مغمضة العينين، فتاة جامعية تراجع دروسها في ظل شجرة، بدر مكتمل، رجل أسود يقود دراجة وقد احتضن ماعزا ً بنظرات فضولية، راحة يد بيضاء بلا خطوط، غلاف رواية ( بجعات برية)، صورة لي في إحدى رحلاتي الخارجية أتكئ على السياج الخارجي لفندق ومن ورائي بحر هادئ.

فهد بسخريته البغيضة: ها... هل ستبدأ بإعداد الخطة الآن أم أنك تفضل راحة قصيرة؟

أنا بحنق: أخرس.

فهد: أخبرتك بأن هذا ما ستجده هنا دائما ً، سيلقي عليك ناصر كل الأحمال التي يستطيع إلقاءها، وسيتملص سليمان من كل الأعمال التي يمكنه أن يتملص منها، وستجد نفسك خائضا ً في كل شيء، وستفقد بعد فترة لذة الإنجاز، وتجد نفسك غارقا ً في متاهة من المهام التي لا تنتهي ولا تقود إلى نهاية، على ناصر ومن وراءه سليمان أن يعرفا حدودك، تحتاج الآن وقبل أي وقت آخر أن تضع الحدود، وأن تجعلها ظاهرة، واضحة للجميع، أفعل ذلك الآن، ولا تأبه لأحد.

نقرت على لوحة المفاتيح فاختفت شاشة التوقف، وظهر سطح المكتب الذي تغطيه لوحة ( الشاعر) لليون جيرارد، والتي تناثرت فوقها ملفات كثيرة ومتنوعة الأهداف، قصدت البريد وافتتحت رسالة موجهة إلى ناصر، مع نسخة لسليمان، وأخرى لأبي نايف.

استنفدت مني الرسالة ساعة في صياغتها وفي التفكير في دلالاتها، وما يمكن أن تقدمه لي، وفي النهاية أرسلتها رغم ترقبي للعاصفة التي ستتلوها.

((

المكرم / رئيس قسم البرمجيات المحترم.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

تحية طيبة وبعد.

نظرا ً إلى تداخل المشاريع التي أعمل عليها، وتكثف العمل فيها، حيث أعمل في كل من ( مشروع المالية)، ( مشروع المستودعات)، و ( مشروع التنظيم الإداري)، ونظرا ً إلى أن دوري في كل مشروع من هذه المشاريع يتوزع على تحليل الأنظمة، تصميمها، ومن ثم تطويرها وتدريب المستخدمين لها، وهو جهد كبير جدا ً، ويراد مني إنجازه في نفس الوقت، ومن دون أي توزيع للعمل، وفي ظل تدخلات إدارية دائمة في أسلوب العمل وأولوياته، وحيث أنه ظهر من سعادتكم عدم رضا عن أدائي في المشاريع السابقة الذكر، فلذا آمل منكم التكرم بالتالي:

1. تحديد مسئولياتي ومسئوليات أعضاء الفريق في كل مشروع من المشاريع السابقة، بحيث تتم محاسبتي عند التقصير في أداء ما أوكل لي.

2. تحديد أولويات واضحة للمشاريع، بناء ً على الخطط المقدمة، بحيث لا يتم إهمال جزء من مشروع لصالح مشروع آخر.

3. التوجيه بالتغييرات التي ترونها لازمة لتطوير أسلوب العمل القائم حاليا ً.

وتقبلوا تحياتي.

))

* * *

يبدو أن سليمان لم ينتبه للرسالة التي أرسلتها، لأنه سألني وقد استدعانا ناصر بعد الظهر:

- هل أرسلت له الخطة؟

- لا.

بدا مستغربا ً، ولكنه لم يقل شيئا ً وأعد نفسه لعاصفة جديدة من ناصر.

كان ناصر يفتش أوراقا ً تكدست على أحد المقاعد، عندما دخلنا، أشار لنا بالجلوس وانهمك فيما يقوم به، وعندما لم يحصل على مراده، هز رأسه وزفر وعاد إلى مقعده.

ناصر: ما مشكلتكما الآن؟

سليمان: عذرا ً يا أبا خالد، الخطة بدأنا في إعدادها، ولكن لأنك طلبتها تفصيلية لم نستطع إنهائها في الوقت المحدد وسنعمل عليها هذا اليوم كله، وستجدها على مكتبك غدا ً صباحا ً بإذن الله.

قال ناصر باستخفاف وهو يطوح بيمناه: من الواضح أنه لا يوجد أي تنسيق أو تعاون بينكما.

تجاهل سليمان والتفت إلي: ما مشكلتك أنت؟

قلت بخفوت بعدما تنحنحت: الأعمال الموكلة لي كثيرة، وكما هو واضح من رسالتي أريد تحديدها بوضوح بحيث يمكنني إنجازها، ويمكنكم كإدارة محاسبتي لو كان هناك أي تقصير مني.

قال ناصر بهدوء شديد: أنا أوكل لكما مشروع واضح ومحدد، ولذا عليكما أنتما أن تحددا مهام كل مرحلة من مراحل المشروع، تضعان هذه المهام في خطة واضحة ومحددة، وتزوداني بالخطة لأتابع عملكما، بعد هذا توزعان هذه المهام بينكما وتنجزانها، أنا ليس لدي الوقت لآتي وأحدد لكل واحد منكما ما الذي عليه أن يقوم به، وكيف يقوم به، وإلا يمكنني إحضار أي شخص من الشارع وأجعله يدير هذه المشاريع، وأستغني عنكما.

أنا: وعندما نزودك بالمهام التي علينا أن نقوم بها، ويمر الوقت ولا نقوم بها، من الذي يتوجه له اللوم؟

ناصر بحنق: هذه مصيبة، ما تقوله أنت الآن مصيبة، أنتما فريق واحد، وعليكما أن تقوما بالمهام كفريق، كلامك هذا يعني أن كل واحد منكما يعمل لوحده من دون أي تعاون أو تنسيق، هل لديكما مشكلة معا ً؟ هل لديك مشكلة مع سليمان – وأشار إلي -.

أنا بتوتر أحاول إخفاءه: أنا لدي مشكلة مع مطالبتي بمهام كثيرة، وأن ألام على ما أقوم به وما لا أقوم به، فلذا أريد أن يحدد لي مهامي بوضوح بحيث ألام عندما لا أنجزها.

ناصر بصوت أعلى: قلت لك أنا أدير قسما ً كاملا ً، لا مشاريعكما، فلذا أنا أسلم لكما المشروع وأطلب منكما إدارته، لست متفرغا ً لأن أحدد لكما مهامكما في كل مشروع، ومن يقوم بماذا؟ هذه مشكلتكما أنتما ويجب أن تحلاها معا ً، تكلم يا سليمان، أنت الأقدم والأعرف بطريقة العمل، لم َ لم تحددا المهام التي يجب على كل منكما القيام بها؟

قال سليمان من دون أن ينظر لي: نحن نحدد المهام ونوزعها في بداية كل مشروع.

ناصر: إذن لم َ تزعجونني !

هز سليمان كتفيه ولم يرد، وصمت ناصر قليلا ً، ثم عاد ليقول: سأمهلكما إلى صباح الغد لترسلا لي الخطة كما طلبتها.

قلت: أنا ما زلت مصر على موقفي، أريد أن تحدد لي مهامي في كل المشاريع القائمة.

تأملني ناصر بثبات ثم التفت إلى سليمان وقال: أريد الخطة التفصيلية على مكتبي صباح الغد، مفهوم يا سليمان؟ سأحدد لك مهامك بإذن الله – وقد التفت إلي -.

* * *

- ما الذي حدث؟ - سليمان بغضب وقد خرجنا -.

- لا شيء، - من دون أن أنظر إليه - أريد أن أعرف الذي لي والذي علي في كل هذه المشاريع.

- طيب !!! كلنا متعبون من هذه المهام والمشاريع المتراكمة، أنا أعمل معك في ذات المشاريع، ولكن مع ذلك لم أعط الفرصة لهذا الكلب أن يهزئنا، ما الذي كتبته له؟

- ما قلته لك، أريد أن أعرف مهامي في كل مشروع، لا أريد أن تحول لي كل الأعمال التي لا يريدها أحد، وأن أطالب بالقيام بالأعمال المملة والكئيبة.

- ولم َ لم تخبرني قبل أن تكتب له؟

- أرسلت لك نسخة من الرسالة.

- أحسنت ! بعدما أرسلتها له ! ما الفائدة؟ أنت لا تعرف ما الذي سيحدث الآن، سيدقق ناصر علينا في كل خطوة نقوم بها، سيترصد لنا في كل شيء، سيلومنا على النقطة والفاصلة.

- دعه يفعل ما يريد بعد أن يحدد لنا مهامنا، عندما يكون لدي مهمة واضحة ومحددة سأقوم بها بشكل صحيح، وعندما سأخطئ سأعرف أين أخطأت وكيف، وسأتعلم من أخطائي، أما أن يطلب مني أن أقوم بالتحليل والتصميم والاختبار والتدريب، وإعداد الخطط في ثلاثة مشاريع، وألام لعدم قدرتي على ملاحقة كل هذه التفاصيل، فهذا طلب غير منطقي.

- أنا أعرف كل هذا، ولكن كان عليك أن تتفق معي قبل أن ترسل له الرسالة، هو الآن يظن بأننا لا نتعاون وأننا لا نوزع المهام بيننا، وهذا سيجعله يتدخل في كل شيء، ويحدد لكل منا مهام قد لا تناسبه، وندخل في دوامة من الصراع معه لن تنتهي.

- نحن في صراع معه من الأساس – وقد دخلنا المكتب الآن -، ثم لنتحدث بصراحة يا سليمان، أنا من يقوم بالكثير من المهام هنا، مشروع ( المالية) أنا من يتابع مشاكله ويحلها، بينما تستثقله أنت وتستثقل مستخدميه، مشروع ( المستودعات) بدأنا ثلاثة في المشروع، أنا وأنت وزيد، فقمت أنت وزيد بتوزيع العمل بحيث لا تلتقيان أبدا ً، فلم أعترض، ثم صرت كلما أطلب منك الذهاب معي للاجتماع ترفض وتتحجج ببغضك للإدارة ومديرها، ولأن زيد صار غير مفيد لنا بجرة قلم من ناصر، صرت أنا المسئول عن المشروع بكامله، والآن مشروع ( التنظيم الإداري) أطلب منك بالأمس الاجتماع معهم لأني مشغول تماما ً، وتصر على أن نجتمع معهم سوية، ليأتي ناصر اليوم ويلومنا معا ً، ثم تطلب مني أن لا أطلب توزيعا ً للمهام !!! يا أخي، حتى عندما طلب منا ناصر الخطة هذا الصباح، طلبت منك مساعدتي فيها ورفضت ! ماذا كنت تتوقع مني؟ أن أعدها بنفسي وأريحك كالعادة من هذه الهموم ! لا... فليحدد لنا ناصر مهامنا، وليقم كل منا بمهامه، وإذا قصر فيها يتحمل هو وحده عاقبة تقصيره، لا أن تعم العقوبة الجميع، أنت زميل عزيز يا سليمان ولكني مللت من القيام بالمهام التي لا تقوم أنت بها.










قديم 23-01-2009, 01:56 AM   رقم المشاركة : 18
أنا راحل
( ود جديد )
 





أنا راحل غير متصل










16

التقينا من جديد، ولكني أتيت هذه المرة وبين يدي أوراق تملؤها خطوط أضحكت حسن، ومنحته مزاجا ً رائقا ً.

- أرى أنك استبدلتني بجدك.

- تعني أني استبدلت جدي بك، صحيح، وستكون نهايتك على يدي بإذن الله.

بعدما تناولنا قهوتنا، وثرثرنا قليلا ً، وضعت أنا راحة مفتوحة على الأوراق، وقلت:

- هنا شيء من التحليل والنقد لقصائدك الجديدة فقط، التي أرسلتها لي، لأن القصائد القديمة كلها، حكايات الملك، وأيامه القديمة، لا أحتفظ منها في ذاكرتي إلا بالقليل.

- سأرسل لك كل شيء، عندما تكتمل القصيدة الكبيرة، فليست كلها مكتوبة على الحاسوب، فبعضها لازال على الورق.

- لا بأس، المهم... هل تريد سماع النقد أم أنك تتحسس منه؟

- هات ما عندك.

- تحليلي – قلت وأنا أتناول الأوراق – يتناول فقط ( لا تنتظر)، ( حكاية لا تنسى)، ( عفن)، و ( من يصلحني؟)، ( نقش)، و( أنا... من أنا؟)، هذه هي القصائد التي بين يدي.

- جميل – قالها وهو يفتح علبة سجائره -.

- هناك علاقات لاحظتها بين القصائد الست، أولا ً ( لاتنتظر) و ( من أنا؟) هما القصيدتان الوحيدتان عن الملك، أو حتى لا أدخل معك في جدل، الوحيدتان اللتان يظهر فيهما الملك بشكل صريح، ( حكاية لا تنسى) و ( نقش) هناك تشابه بينهما، كما أن هناك تشابه أكثر، بين ( عفن) و ( من يصلحني؟)، ويؤكد هذا البيت الوارد في المقطع ما قبل الأخير ( وأني من روحك ِ سأستل / عفنا ً كان قد احتل / ظننت ِ أنه قد زال / وطمرته السنوات).

- طيب.

- لحظة... إذا استبعدنا قصائد الملك، لأنها تدور حول القصة الأساسية، الملك وحيرته، تتبقى لنا هذه القصائد الأربع التي تزعم أنت أنها مضمنة في القصة الكبيرة، ولكن الغريب أنها خارج خط الحكاية تماما ً، ولا يوجد ما يمكن أن يربطها بالملك.

- هذه قراءتك أنت.

- لحظة... لحظة... دعني أقول كل ما لدي أولا ً، بالتأكيد كل ما سأقوله، هو قراءتي الخاصة لقصيدتك، وهذا جيد، فأنت كشاعر تحتاج إلى قارئ، إلى من يخبرك كيف قرأ قصيدتك، وكيف أثرت به.

- جميل – وهو ينفث الدخان كسفينة نهرية -.

- ( حكاية لا تنسى) و( نقش) لهما ذات المعنى، أو ذات النَفَس، الحب الجميل الذي انتهى بشكل مفاجئ، بل إننا لو حللنا القصيدتين بيتا ً، بيتا ً، لتجمعت بين يدينا مجموعة من الدلالات المهمة، ركز معي.

- ههههههههههههههههه، هذه قصائدي، لا أحتاج للتركيز معك لأفهمها.

- لا... لا... أعني ركز في كلامي.

- طيب.

- لنأخذ قصيدة ( حكاية لا تنسى)، ما هي دلالات القصيدة؟ ( أحببتك ِ منذ البداية / بخفوت / بسكوت / وبامتنان...) حب صامت، ثم ماذا؟ ( وكنا اثنان / لا يعلمان / تكفيهما الكتابة والشكوى للورق / وكنت أصنع قصائد / يغيبها ليل أو يحييها أرق) إلى آخر المقطع، إذن الحب الصامت كان من الطرفين، ثم ماذا؟ ( فلم َ كان للحب ثمن؟ / متى كان للحب ثمن؟ / متى كان للحب دفاتر ومحاضر / وأسئلة منها لا نفيق / ولم َ كنا منذ البداية / نكتب النهاية / بأصابع لا ترى)، والآن نأتي للمقطع المهم، هذا المقطع مليء بالدلالات، بل أنا اعتبره المقطع الذي يأخذ القصيدة إلى اتجاه جديد، فالحب الذي بدأ صامتا ً، والذي سنظن أنه لم يولد أو لم يخرج للنور، في هذا المقطع نشعر وكأنه قفز قفزة زمنية، وكأن هناك دلالات متضافرة، كانت تسوقها لنا بداية القصيدة ( أحببتك ِ منذ البداية) بداية ماذا؟ كما كان يسوقها لنا العنوان ( حكاية لا تنسى).

- أكمل – عندما توقفت لأنظر إليه، وهو يعتدل في جلسته، ويدفن سيجارته في المنفضة -.

- يتساءل الملك – وأنا أغمز له بعيني -، ( فلم َ كان للحب ثمن؟ / متى كان للحب ثمن؟ / متى كان للحب دفاتر ومحاضر / وأسئلة منها لا نفيق)، أسئلة حرى، أسئلة رهيبة، لماذا يكون هناك ثمن للحب؟ ولماذا يتحول الحب إلى ما يشبه السلطة، وهذا تدل عليه كلمة محاضر التي تصرف الذهن إلى أقسام الشرطة ومحاضر التحقيق، هذه الأسئلة التي تصدمنا فجأة، تجعلنا في مواجهة تساؤلات لا ندري ما الذي بعثها؟ ما الذي حركها؟ ما الذي حدث؟ هل تم رفض هذا الحب من الآخرين؟ هل تمت محاربته كما يحدث لكل قصص الحب؟ المقطع التالي يمنحنا شيئا ً مهما ً ( ولم َ كنا منذ البداية / نكتب النهاية / بأصابع لا ترى) وكأن النهاية كتبت بأيدي الحبيبين، وكأنهما كتبا النهاية منذ البداية، ويأتي المقطع الأخير ليروي لنا لحظات النهاية العاصفة والمفاجئة.

- ( نقش)، تدور في ذات المدار، وتحمل ذات الدلالات، المقاطع كلها ما عدا المقطع الأخير تحمل ذات الحكاية عن الحب الصامت ( كنت ِ نقشا ً غائرا ً / وقديما ً على جدراني / أخفيته حياء ً بستار / وانتظرنا طويلا ً / ما كشفتُ الستار / ولا أنت ِ سألت ِ / ما الذي يحويه الجدار / وعصية أنت ِ كنت ِ / في نقوشك / تنقشين كثيرا ً / ترهقين القلوب والأحجار... إلى آخره)، ثم المقطع الأخير ( ثم انتهينا / لا / أنا انتهيت / لأني لا أجيد الانتحار / ولا أنت ِ تجيدين الانتظار)، محمل بدلالات مشابهة للنص السابق، النهاية وكأنها كتبت بأيدي الحبيبين، وإن كان الاستدراك في ( لا / أنا انتهيت)، يجعل الأمر في حق المحب أكثر.

- حتى الآن أنت...

- لحظة، الله يرضى عليك، باقي أشياء كثيرة.

- نأتي الآن – أكملت وقد أشار لي بيده مستسلما ً - إلى القصيدتين الأخريين، ( عفن) و( من يصلحني؟) ونحاول كما فعلنا مع القصيدتين السابقتين، استخراج دلالاتهما، لنتأمل القصيدة الأولى، تبدأ هذه القصيدة بكلمة مهمة جدا ً ( قالت...)، أهمية هذه الكلمة بالطبع تأتي من أنها تمنح مساحة القصيدة لهذه التي تقول، وبالطبع تمضي القصيدة لتحدثنا عن هذا ( العفن)، برمزية جميلة، حيث يبدو العفن كوباء خفي، مستتر بشكل جميل، اجتاح هذه الفتاة التي استقبلته في البداية ببهجة، ولكنها عادت فيما بعد لتتمنى زواله، وتأتي نهاية القصيدة، لتخبرنا بزوال هذا العفن.

- الآن بما أن القصيدتين السابقتين، تحدثتا عن تجربة حب انتهت بشكل مفاجئ، وبما أن هذه القصيدة تحدثنا عن عفن تمنت الفتاة زواله فزال، فمن المفروض أن نربط بينهما لنقول أن الحب هو العفن الذي تمنت الفتاة زواله فزال، ولكني كما كتبت لك في رسالتي، فكرت بأن هذا غير منطقي، في المرة الأولى كان هناك حب صامت، وانتهى فجأة، ثم نأتي لنقول أن ذلك الحب الصامت كان عفنا ً أيضا ً تمنت الفتاة الخلاص منه فزال !!! هناك خلل في بنية القصيدة، وخلل كبير.

- هناك نقطة تنوير – قال ببطء وهو يختفي وراء سيجارة -، لستٌ ملزما ً بها، ولكني سأمنحك إياها.

- ما هي؟

- العفن الذي تمنت الفتاة زواله، ليس الحب.

- ما هو إذن؟

قال وهو يحرك سيجارته في الهواء، وكأنه يكتب بها كلمات ما:

- عفن... حسن.

كانت لحظات طويلة تلك، كان هو فيها صامتا ً، وكنت أنا أتأمل القصيدة، وقد تغيرت الآن أشياء كثيرة:

- كيف؟ - سألت بتقشف، سؤال يمكن أن يمنحه أوسع مساحة ممكنة ليتحدث -.

- حكاية طويلة.

- لا أريد أن أكون فضوليا ً، ولكن يمكنك التحدث لو أحببت.

- أتذكر ليلى؟

- نعم... بالتأكيد.

- حسنا ً، اتضح أنها بعد كل هذه السنوات لم تكن لا تبالي حقا ً.

- هذه العودة المفاجئة لها – أكمل – عقدت ما ظننت أنه استقر من حياتي، أنت تعرف كيف هي مشاعري تجاهها!!!

- وما علاقة هذا بحكاية العفن.

- اها... العفن حكاية أخرى، عودة ليلى أربكتني كثيرا ً، كنت أحاول التفكير بوسيلة أحل بها الأمر، من دون إيلام خولة، كنت أحاول إيقاف الزمن، أضع بيني وبين ليلى مسافة، وبيني وبين خولة مسافات، ولكن الأمر كان مؤلما ً للجميع.

- ثم ماذا؟

- لم تنجح محاولة إيقاف الزمن بالطبع – وهو يسحب سيجارة جديدة -، وكنت أشعر كل يوم بأني أمشي على حافة هاوية أراها ولا يمكنني تجنبها، وكانت الدفعة التي ألقتني في الهاوية، قصيدة مكسورة وصلتني.

- من ليلى؟

- لا... من خولة.

- ظننت أن ليلى هي الشاعرة؟

- هي كذلك، خولة لا تكتب الشعر.

- ولكنها أرسلت لك قصيدة !!!

- نعم... وعنونتها بعفن.

- العفن الذي تتمنى أن تتخلص منه، والذي غزاها في الشتاء.

- بالضبط... بالضبط.

- ثم ماذا؟

- لا شيء.

- كيف لا شيء؟

- حقيقة... لا شيء، تلك القصيدة بكلماتها البسيطة، بمرارتها الهائلة، كسرت شيئا ً في داخلي، أتعرف تلك اللحظات التي يكون فيها شيء ما هناك، ثم لا يكون؟ هناك شيء في داخلي كان موجودا ً، كان يملؤني بالحياة ثم لم يعد هنالك، غرقت في كآبة، ثم في حزن، بدأت تتكشف لي الكثير من الأشياء التي كنت أتغافل عنها من قبل، الإشارات التي كنت أجدها في قصائد ليلى، كلمات خولة الغامضة، والتي كنت ألقيها بعيدا ً، لأني كنت أظن أني محمي بالحب، بالثقة، وأنه لا شيء يمكن أن يمسني، ويحيلني عفنا ً في روحها.

- وكيف انتهى الأمر؟

- آ... لم ينتهي، أنا ابتعدت قليلا ً للتفكير في الأمر.

- وإلى ماذا توصلت؟

- لا شيء، لا يمكنني التفكير حتى تهدأ روحي.

- اها... وبدلا ً من التفكير وحل الوضع المعلق، انشغلت بكتابة قصيدتك !!!

- الشعر يخفف عن روحي.

- لا... الشعر هو ما يحجبك عن العالم، الشعر، خلق الكلمات، يمنحك ذلك الشعور المفقود من الفهم، من السيطرة.

- أي سيطرة؟

- سيطرتك على حياتك، حسن، أنا لم أقل لك هذا من قبل، ولكني سأقوله الآن، لأني أشعر بأني مدفوع له من داخلي، تأمل حياتك يا حسن، أنت لا تعيش في قصيدة كبيرة كما تتوهم، الأمور لا تنصلح ببيت أو بيتين تقولهما، الشعر كان يضع بينك وبين الحياة، بينك وبين الناس أغشية تجعلك لا ترى الأشياء كما هي، وإنما تراها كما تريد، أتذكر عندما تزوجت أمك؟ ما الذي فعلته؟ غضبت، أثرت الغبار في كل مكان، وتسببت بشقوق لا يمكن رتقها، ومن ثم ماذا؟ كتبت قصيدة، وخرجت من تلك المرحلة بسجائرك هذه التي اعتنقتها لتؤلم أمك، كنت دائما ً تتصرف بهذه الطريقة، لا ترغب برؤية الناس كما هم، لا يمكنك فهمهم إلا عندما تحشرهم بين بيتين من أبياتك، وعندما تدرك أنك أخطأت، أخطأت في فهمك، وفي تصرفاتك، تعود للشعر، لأنه هو المجال الوحيد الذي تجيده، والذي تجيد الحركة فيه بلا عوائق، هو ما يمكنك فيه رسم الأشياء، وإعادة رسمها مرارا ً، وفي كل مرة تخرج كما تريدها، كما تريدها تماما ً.

- والآن – أكملت في صمته -، في وسط أزمة عاطفية، بدلا ً من أن تسعى إلى من تحب، وتوضح كل ما تشعر به، بدلا ً من أن تحاول حل الخيوط المتشابكة بين ليلى وخولة، بدلا ً من أن تحاول إدارة الأزمة على أرض الواقع، تلجأ إلى إدارتها من خلال شخصيات شعرية تخلقها، ملك وشعب !!! موت ومجد !!! تهرق مشاعرك، وتتخذ عذاباتك معينا ً لأبياتك !!! تغرق معك من تحب !!! يا للسخافة !!! يا للسخافة !!! أتظن أن سكوتك سيحل المشكلة من نفسها !!! ألا تظن أن وجودك بالقرب منهما يسبب لهما ما يكفي من الحزن والألم؟

- أنا آسف لقسوتي عليك يا حسن – وقد توقفت ثم أكملت ببطء -، ولكن لابد لك من أن تحل الأمر وعاجلا ً، يجب أن تتخذ قرارك، ومن بعدها يمكنك أن تعود لأشعارك.

* * *

(

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أشكرك على درس البارحة، كان مفيدا ً.

لدي خبر جيد، وجدت نهاية للقصيدة، أتمنى أن تعجبك، وبالمناسبة تخلصت من كتابي الأزرق، وهذه هي القصيدة الكبيرة، ستجدها مرفقة مع الرسالة، أضعها كاملة بين يديك، النسخة الوحيدة، يمكنك بعد قراءتها حذفها، لينتهي كل شيء.


وداعا ً

الليل

يا لهذا الظلام الكثيف
يا لبرد الشتاء
يا لهجمة الريح
وجلبة الأحياء
متى يأتي الصباح؟

حلم

رأيت النهاية كرأس ذئب يطل
من شقوق الخيام
ويمضي بعيدا ً فلا أتبعه
لأني بلا قدمين، ولا أجيد الكلام
كطفل رضيع
تهدهده عجوز غريبة
لها وجه طويل ونظرات مريبة

ورأيت أطلالا ً قديمة
ومقابر تملؤها الجثث
خلف بابها الذئب ينتظر
بصمت عجيب
بصبر غريب
وعلى أنيابه دم قديم
وأرواح سليبة

وألقتني العجوز على الحطام
وسمعت بقلب طفل خطوة الذئب
وأنفاسه التي لامست أذناي
وكلامه الذي انتزعني من لجة الأحلام
"سيدي جاء الصباح"

بعيدا ً... إلى الأشجار أو حافة الجبل

للصباح الذي نموت فيه رائحة
تذكرنا بأزمان قد نسيناها
تذكرنا...
بأحلام بنيناها
بأوقات قضيناها
بالوجوه التي أفلت
وظننا أنها انتقلت
وأننا ما التقيناها
تعود اليوم مسرعة
ضاحكة وعابسة
لترهق القلب...
بالنهايات التي جنيناها

فأختفي...
بين الدروع
وبين أبيات القصيد
بين السيوف ورايات الجنود
والتهي
بكرات القتال
بانتشاءات النزال
بالتماعات السيوف على الجلود

فلا أختفي
ولا من روحي رائحة الموت تزول
وأرى النهار، أرى أيامي في أفول
وأرى كل ما كنت منه أفر
في مواجهتي يستقر
في جثوم لا يحول

وينكسر
ذاك الذي كان يربطني بالحياة
ذاك الذي كان يدفعني بعيدا ً
عن القتال وعن صلصلة السيوف
وحصاني الذي أدام الوقوف
يتعلم الآن الاندفاع إلى الممات

مغمض العينين اخترق الصفوف
الريح في ثيابي
الحزن في إهابي
وهجمة الشموس على أهدابي

في يدي سيف مل الرقاد
يشتهي الدماء
وملمس الأحشاء
وأن يجول كما يشاء
وأنا أخب
والفارس النبيل ينتظر
اللحظة التي فيها سينتصر

رائحة الموت لا تطاق
وأذناي لا تسمعان
وفي روحي سؤال كبير... لماذا؟
لماذا؟
لماذا؟
واستفاق
السيف النائم استفاق
وعادت يدي المشرعة إلى الأمام
لتغرس السيف في الأعماق
ورأيت النهاية وحيدا ً في الذهول
بين الأشجار ونباتات الحقول
عيناي تنظران بعيدا ً... إلى الأشجار أو حافة الجبل
قالوا بطل؟
وماذا إذا لم أرد أن أكون البطل !!!










قديم 23-01-2009, 01:57 AM   رقم المشاركة : 19
أنا راحل
( ود جديد )
 





أنا راحل غير متصل










17

وكأنما مرت دهور، التقينا في المقهى الذي بدأ فيه كل شيء.

كنت قد استنفدت ساعة أعيد فيها رسم التفاصيل للمكان الذي صار يعابث الذاكرة والأوراق، أضع خطا ً هنا، منفضة هناك، لوحة بألوان باهتة، وغبار يسلب من الإطارات زهوها، وصحفا ً، ورائحة، رائحة قهوة لا تخطئها الأنوف، حتى المقاعد منحتها ملمسا ً، وحدا ً للرخاوة التي تستقبل فيها الأجساد، ثم جلست بيدي القلم الذي ظل بلا غطاء كل هذه المدة.

- ما الذي حدث؟ - سألني فهد حالما استقبلني -.

- لا شيء ما خلا أني تخلصت منك لفترة وجيزة.

- لماذا؟

- كنت أحتاجها لأفكر.

- تفكر بماذا !!!

- بنا، بي وبك، بتأثيرك الغريب علي.

- تأثيري الغريب !!!

- نعم... ليست مصادفة أن علاقاتي ساءت مؤخرا ً، علاقتي بزملائي في العمل، علاقتي بزوجتي، علاقتي بعائلتي، حتى صديقي الوحيد اختفى.

- يا سلام !!! وما ذنبي أنا؟

- أنت من كان يدفعني للمواجهة في كل مرة.

- لا أصدق أنك تفكر بهذه الطريقة !!! علاقتك بمديرك وزملائك كانت سيئة من قبلي، ولكنك كنت تخفي ذلك ولا تبديه، وكذا علاقتك بزوجتك، صمت لا نهائي، وكلمات بلا معنى، وعائلتك يجب أن تشكرني لأني خلصتك من مشروعهم الوهمي، وصديقك اختفى منذ زمن بعيد، منذ قرر أن يغادر العالم ليعيش في كنف القصائد والملوك المعتوهين.

- كنت أفكر في الفترة الماضية، أبعدتك عني لأفكر جيدا ً من دون تدخلاتك، وتوصلت إلى أنك جانب حاد مني، جانب لا يجب أن يظهر للناس، وأنني أخطأت خطئا ً كبيرا ً، ويحتاج مني إلى سنوات لإصلاحه، عندما جعلتك تتعامل معهم.

- نعم – أكملت -، صحيح ما تقوله، علاقتي بزملائي لم تكن جيدة، كان فيها جانب استغلالي يرهقني، ولكني استبدلت ذلك الآن بعلاقة باردة ورسمية، صرت كلبا ً آخر في نظر سليمان، ونعم، كانت علاقتي بلينا بسيطة، ولكن ما الذي جنيته من محاولة تعقيدها؟ لا شيء، سوى حزن مكتوم من قبلها، وشعور مؤلم بأنها لم تكن كافية بنظري، وما الذي كان يدعوني لإهانة عائلتي، فليؤمنوا بجد أسطوري، لم َ كان علي أن أحطم صورته أمامهم !!! ألا يكفي أنه يجمعهم ويوحد بينهم.

- وحسن – بعد وقفة قصيرة وسبابة مرفوعة -، لم َ اعتبرت تردده ومحاولته البحث عن حل يشفي روحه هروبا ً وانشغالا ً بالقصيدة !!! لم َ لم أرى في التجاءه للقصيدة رغبة حقيقية في أن لا يرى الوجه القبيح للعالم، رغبته في أن يوقف الزمن، ليحتفظ فيه بليلى كما أحبها، وبخولة كما عرفها، ولكني وبدافع منك أوحيت له، بأن وجوده ذاته مؤلم لهما، فدفع نفسه بيأس بعيدا ً، وبدلا ً من أن استرده من القصيدة، أغرقته فيها.

- أنا آسف – قال - كان علي أن أخدعك، لتحتفظ بعلاقتك المهترئة بزملائك، حيث تغرق في كل يوم، في مقابل أن لا يحولك أحمق ما إلى كلب في كتابه !!! كما كان علي أن أشجعك على تضييع وقتك واسمك على كتاب سخيف، وبلا مادة حقيقية، فقط ليجد أقربائك ما يفخرون به !!! كما كان علي أن أعجب بعلاقتك الغريبة بزوجتك، والتي تتوزع بين كلمات قليلة، نصفها تأفف، أما صديقك الشاعر فكان علي أن استمع لقصائده إلى ما لا نهاية، كان علي أن اتركه يحدثنا عن الملوك والقتال !!! والمجد !!! وبعد هذا كله أن أؤمن بأنه يفعل ذلك، لا ليبرر لنفسه إخفاقاته وحماقاته، وإنما لأنه يريد أن يوقف الزمن !!! ومن يدري !!! ربما يفلح في العودة بالزمن إلى الخلف والأمام، وعندها ستكون الأمور ميسرة جدا ً والحمد لله، حيث يمكنه أن يكون أحمق ما خلق الله، ولا يحتاج الأمر منه إلا إلى قصيدة تعيده أعواما ً إلى الوراء ليبدأ من جديد !!!

- سخريتك لا تلهيني، أنا لا أبرر لحسن أخطاءه، ولا أعتبر ما قام به صحيحا ً، ولكني أحاول تفسيره، لم َ انشغل بالقصيدة؟ لم َ كان ينشغل بها دائما ً عن التعامل مع الناس والعالم؟ هذا سلوك غريب؟ ولا يقوم به الإنسان إلا لدوافع داخلية، وأنا أحاول فهم هذه الدوافع، رغبته في رؤية الأشياء جميلة كما عرفها، أو كما افترضها، وكأن لديه تلك اللوحة الكبيرة في روحه والتي كان يرسمها ببطء، وكان المشهد يتغير أمام عينيه بسرعة، أسرع مما يجب، حتى جاء اليوم الذي قرر فيه أن يغمض عينيه، وأن يرسم من خياله الصورة التي زالت، انمحت، ولم يبقى منها شيء، وأنا بدلا ً من أحاول فتح عينيه حتى لا يسقط، مزقت لوحته، ونعتها بالتفاهة، واللامعنى، تخيل اللوحة التي اعتبرها أهم ما لديه، وقضى وقته كله في حراستها، ورسمها، أمزقها أنا، وأصم سمعي عن شكواه، من اليأس الذي يملأ روحه، والشيء الذي كسر في داخله ولم يستطع إصلاحه !!!

- هل تصدق كل ما يقوله الشعراء !!! صاحبك شاعر، وكأي شاعر كان يبني له صنما ً يريد من الجميع أن يعبدوه، وأنت أولهم، وإلا لم َ كان يصر على أن يحشر قصائده في كل اجتماعاتكما، بينما يسخر من مجرد ذكرك لكتاب جدك الذي كان يشغلك حينها؟ كان شاعر لا يرى إلا نفسه، لا يرى إلا التمثال العملاق الذي يبنيه ببطء، وما انكسر في داخله كان ذلكم التمثال.

- إن كان ما تقوله صحيحا ً فكيف تفسر انشغاله بقصيدة عن ملك مخير بين المجد أو العار؟ لا يبدو لي أن شاعرا ً مكسورا ً ينشغل بهذين الخيارين !!! كيف تنكسر صورته في داخله ومع ذلك يفكر بالمجد، وهل يختاره أم لا !!!

- الشعراء يخدعون أنفسهم، ألا تعرف هذا؟ صنع من نفسه ملكا ً !!! وأوقف أمتين على روحه !!! وجعل يكتب قصائد منفصلة يلم فيها حطامه، ليأتي في النهاية ويختار المجد طبعا ً، ما الذي سيختاره سوى هذا؟

- لا... لا... الملك قتل نفسه في نهاية القصيدة، أي مجد هذا !!! الملك رفض أن يختار، هذا مغزى القصيدة، الملك انتحر، وبهذا يكون قد رفض المجد، ورفض العار، واختار لنفسه خيارا ً بينهما.

- ههههههههههههههه، وهذا مجد مبطن، وكأنه يقول أنه متعال ٍ على كل الخيارات، وأنه يمكنه أن يشق له طريقا ً حيث لا طريق.

- نعم... صحيح، والدليل على ذلك أنه بعدما انتهى من القصيدة، قام بالتخلص منها ووضعها بين يدي، ولم يلجأ لنشرها !!!

- هههههههههههه، إنه يكتفي بك، أنت أداته، أنت من ستقوم بنشر قصيدته يوما ً ما، فرصته هو ضئيلة، ولكن أنت من يمكنه منح قصيدته الوهج الذي تحتاجه.

- وماذا لو لم أنشرها؟

- ستفعل... ستفعل.

- أنت تثير الغيظ.

- لأنني أقول ما لا يجب أن يقال.

- هل تعرف لم َ اجتمعت بك اليوم؟

- لتشطبني.

- لا تبدو مستاء ً من ذلك؟

- لا يبدو لي الشطب نهاية سيئة – وعلى فمه ابتسامة غامضة -.

- غريب !!! أذكر أنه كان لديك ذلك الهلع من النهاية، وأن لا تحتويك ذاكرة، إلى آخر ما قلته يومها.

- من هذا الجانب، أنا مطمئن، سأعيش أطول منك.

- ماذا تعني؟

- ستعرف فيما بعد.

- هل لديك كلمات أخيرة؟

- وداعا ً – بابتسامة خبيثة -.

تناولت القلم، وبحركة سريعة شطبته.

أظلم المكان وتواريت أنا وراء شطب عميق.


- تمت... هنا فقط -













قديم 23-01-2009, 12:50 PM   رقم المشاركة : 20
الجذااابة
( وِد ماسي )
 
الصورة الرمزية الجذااابة


يعطيكـ العافية على هالرواية

ولي عودهـ للقراتها

ونورت القسم بحضوركـ






موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)
   


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع تقييم هذا الموضوع
تقييم هذا الموضوع:

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:51 AM.




 


    مجمموعة ترايدنت العربية