كنت أقود سيارتي الأجرة وكنت عائداً إلى منزلي ، وكان الوقت هو منتصف الليل ، وكانت السماء ملبدة بالغيوم ، والمطر يتساقط بغزارة ، وأثناء وصولي لأحدى الميادين الكبيرة، وجدت فتاة واقفةً فوق الرصيف المحاذي للميدان تشير بيديها إلىّ ، فأوقفت سيارتي لها وركبت معي ، فطلبت مني التوجه إلى حي قديم بالمدينة ، وكانت الفتاة ترتعد أطرافها من البرد وجميع ملابسها قد أبتل من ماء المطر ، فأشفقت لحالها وأعطيتها شالاً من الصوف كنت أعصب به رأسي ، وبعد سيرنا لمدة يسيرة طلبت مني الفتاة أن أوقف سيارتي على مقربة من فيلا قديمة ، فنزلت من السيارة وطلبت مني الأنتظار كي ماتعود بالأجرة لي ، فبقيت داخل سيارتي منتظرها ، ومرت الدقيقة تلو الدقيقة ولم ترجع لي الفتاة ، فقررت أن أنزل من سيارتي ، وأقرع باب الفيلا لأنظر ماوراء ذلك ، ففتح لي الباب شيخ طاعن في السن ، يضئ وجهه بالنور ويعلوه الوقار ، فقال لي ماطلبك أيها الرجل ، قلت له أنا صاحب سيارة الأجرة الذي أوصل الفتاة إليكم وقد طلبت من البقاء كي ماتعود لي بالأجرة ولم تعد ، فكأن الشيخ ، أستغرب من كلامي من الدهشة التي رأيتها قد ظهرت عليه ، لكنه سكت هنيئة ، وقال تفضل بالداخل لتأخذ الأجرة ، فدخلت معه وكنت أسير خلفه وأنا أرى خطوات ذلك الشيخ البطيئة أمامي ، حتى وصلنا إلى صالة كبيرة مملؤة بالتحف والسجاد العجمي ، الذي لم يسبق لي رؤيته ، ثم أدخلني إلى غرفة أخرى وهي عبارة عن مكتب أظنه خاص لذلك الشيخ ، وعندا فتح الشيخ المصباح الذي بداخل حجرة المكتب وأضاء مصباحه ، وأخذ يشير إلى صورة معلقةً فوق جدر المكتب وقال لي هل رأيت هذه الفتاة من قبل ، فقلت له إنها هي الفتاة التي كانت راكبةً معي ، فهز الشيخ رأسه ولم تنطق شفتاهُ بكلمة وقال لي ، لنذهب سوياً لمشوار قريب من هنا بالسيارة وسوف أحاسبك على ذلك أجمع ، نسيت وقتها أن أنني قد تأخرت على أبنائي الذين هم الآن في قلق علىّ ، لكن فضولي دفعني لأن أوافق بالذهاب مع ذلك الشيخ ، فلم أستطع أن أقول له لا ، وذلك تقديراً مني لكبر سنه ، وتحركنا سوياً بسيارتي ، وماهي سوى لحظات حتى طلب مني أن أوقف السيارة ، فنزل منها ونزلت معه ، وأخذنا نسير على أقدامنا حتى أدخلني مقبرةً ، وسرنا في تلك المقبرة حتى أستوقفني الشيخ عند قبر ، فوقفت معه فإذا بالشال الصوفي الذي كنت أعصب به رأسي ملقى على القبر ، فقلت للشيخ هذا الشال كأنه أو مثل الذي كان معي ، فرد الشيخ قائلاً بل هو نفس الشال ، وهذا القبر هو قبر إبنتي التي توفيت منذ ثلاثين عاماً ، وهي صاحبة تلك الصورة التي قد أريتك إياها ،فأصابتني الدهشة ، وقلت له ، ماالسر في ذلك ، فقال لي إن الذي حدث معك قد تكرر لأكثر من مرة ، ولم أجد لذلك تفسير ، وكنت كلما جاءت إبنتي للمنزل أحضر لقبرها لعلي أقف على سبب أعرف به سر ذلك ولكن لم أصل لشئ .
******************
تكملة القصة
أخبرته ولماذا لم تسأل عن هذه الحالة أحد المشائخ ، فرد علىّ قائلاً لاأعرف شخصاً معيناً أثق بصدق كلامه ، ولم أفكر يوماً بذلك ، فقلت له إن لي صديق يخاف الله ـ تعالى ـ وهو من الزهاد في الدنيا ، ومنقطع عن ملذاتها ، فبإمكانه أن يعرف سر هذه الحالة العجيبة ، وافق الشيخ بعد إقناعي له بذلك ، وأتفقنا على أن نذهب سوياً بعد مغرب يوم الخميس إلى صديقي .
طلب الشيخ مني أن أعود به إلى منزله فتحركنا سوياً بالسيارة ، وفور وصولنا إلى في منزله أخرج من جيبة محفظة جلديةً قديمة بها نقود وأعطاني إياها وقال لي خذ ماشئت منها ،
فعرفت طيبة ذلك الرجل ومدى عفويته وطهارة قلبه ، فقلت له لا ياوالدي العزيز والله لن أتقاضى منك أجراً وأعتبرني إبناً لك ، فالدنيا لاتزال بخير ، والخير في أمة محمد صلى الله عليه وسلم موجود إلى أن تقوم الساعة .
نزل من السيارة وذهب نحو الفيلا الخاصة به وأنا عدت لمنزلي وزوجتي منتظرة عند باب المنزل من الداخل وعيناها مليئتان بالدمع ، فلم أخبرها بالقصة ولكن قلت لها بأن السيارة أصابها عطل وأنا في طريقي للمنزل وهذا هو سبب تأخري .
جاء يوم الخميس وتوجهت نحو فيلا الشيخ وكان الوقت بعد صلاة العصر ، فطرقت باب منزله ، ففتح لي الباب ودخلت ، وجلست على مقربةً منه لكنه لم يتكلم معي أثناء جلوسي عنده ، فقد كان ماسكاً القرآن الكريم يقرأ به ، وصوته أثناء القراءة كله حزن وخشيةً من الله ، لم أحاول أن أقطع عليه قراءة القرآن فجلست أستمع له وهو يقرأ إلى أن أنتهى ، بعدها تكلم معي وحدثني عن حياته وعن عمله وعن وحدته ، وأن زوجته توفيت بعد وفاة إبنته بسنين قلائل ، ، فقلت له كم عمرك الآن أيها الشيخ ، فقال جاوزت المائة عام وأرجو أن تكون سنوات عمري تلك كانت في طاعة الله ـ تعالى ـ جاء وقت صلاة المغرب فذهبنا للجامع وصلينا به صلاة المغرب ، وبعدها توجهنا لصديقي ، ودار هناك حوار بين الشيخ وصديقي ، وسأل الشيخ صديقي إن كان هناك سبباً أو رداً شافياً فقله لي وأنا كلي آذان صاغية لك ، فطلب صديقي من الشيخ أن يخبره عن حياة إبنته قبل وفاتها
عن سلوكياتها وخلافه ، ففال الشيخ كانت إبنتي هي الوحيدة ولم يرزقنا الله ـ تعالى ـ غيرها ، وكانت جميع طلباتها متوفرة ، ولم ينقصها يوماً شيئاً ما ، وكانت تعيش حياة بأجمل معانيها ، ولم أذكر يوماً أن رأيت على وجهها سوى الإبتسامة والوجه الوضاء المشرق لي ولوالدتها ، وكانت على خلق ودين . فسأل صديقي الشيخ اهل كانت إبنتك تقضي جميع أوقاتها معكم أو أنك لاحظت عليها خلاف ذلك ، قال الشيخ أثناء إجتماع أفراد الأسرة لانرى تغيبها عن ذلك ، ولكنها كانت تؤثر الوحدة كثيراً ، وكانت والدتها تذهب إليها لترى مابها فتجدها نائمة ، وكان نومها ثقيل جداً فقد كانت تقضي الساعات الطوال نائمة ، لاتحس بمن حولها ، وكنت قد عرضتها على دكتور ، ولكن قال لي بأن حاتها الصحية ممتازة ولاداعي للقلق ، وهذا النوم طبيعي تختلف ظروفه بين إنسان وآخر .
لذلك لم نعطي لذلك الموضوع أي جانباً من الأهمية .
عندها قال صديقي للشيخ هل تسمح لي بالبقاء عندك بالمنزل فترة من الزمن ، وسوف نعرف أمر ذلك بعدها ، وافق الشيخ بذلك ورحب بصديقي وقال له البيت بيتك ومنها تؤنس وحدتي فأنا أعيش ببيت كبير بمفردي .
أنتقل بعدها صديقي لمنزل ذلك الشيخ ، وأنقطعت عني الأخبار ولم أستطع أن أذهب لمنزل الشيخ لتحري الخبر ، لكن بعد مدة شهر تقريباً جاءني صديقي المذكور الى منزلي ، وجلسنا سوياً ، وسألته كيف الأمور ، فأخذ يحثني بالقصة بالكامل وقال ، بعد إسبوع من الزمان وأنا في غرفة الفتاة ، والوقت كان ليلاً سمعت بنداء غريب وصوت من جهة ستائر النافذة ، وفجأة ظهرت لي صورة فتاة في قمة الحسن والجمال بداخل الغرفة وقالت لي أنا هيفاء ، أنا لم أمت ، وكنت قد رأيت صورت هيفاء من والدها ، وليس هناك إختلاف كبير بينهما ، وأثناء نقاشي معها أخذت أسألها عن سيرتها وعن سيرة والدها فكانت حذرةً بالإجابة ، وأنا كنت قد أخذت عن هيفاء معلومات كبيرة من والدها ، ، فقلت لماذا تتهربين من الإجابة ، قالت لم أتهرب منك أسأل وأنا أجاوبك قدر المستطاع ، فقلت لها هل رأيت والدك قالت نعم وهو كذلك قد رآني ، وأنا لم أمت بل لازلت حيةً ، ، فأخذت أقرأ سورة الصافات وكانت هيفاء تتلوى ولون وجهها يحمر حتى أ وصلت لقوله تعالى ، دحوراً ولهم عذاب واصب ، قامت تصرخ وتضع أصبعيها على أذنيها وأخذت تخرج من فمها زبد وعيناها تغيرت حتى أصبحت بيضاوية الشكر وفجأة أصبحت تمد يدها تجاهي ورأيت أن أصابعها تغيرت هيئته وأظافرها طالت فأخذت تنهش بجسمي وأنا مستمر بقراءة السورة حتى قامت بالصراخ الشديد وقالت لن أعود أرجوك أتركني ، فقلت لها أولاً من أنتي ، فكانت تحاول أعدم الإجابة ، فأخذت أقرأ القرآن ، فقالت إنتهى سوف أجاوبك ، أنا قرين هيفاء أنا أعشقها ، أنا حرمت منها بموتها كنت آتي لمنزلها بعد وفاتها على هيئة صورتها كي أخفف عن عذابي الذي لاقيته من فراقها ، قلت ومنأي الجن أنت قال من المسلمين وأنا لست بكافر ، ومن على الحنبلي ، لكن حبي لها كبير ، قلت له آلاتؤمن بالموت والحساب ، قال بلا ، أؤمن بذلك ، ومنذ وفاة هيفاء ماتزوجت ، ، فقلت له عاهدني عهداً أمام الله ـ تعالى ـ أن لاتعود وتتشكل على صورتها ، فوالدها رجل مسن ، وحرامُ ُ عليك الذي تفعله .
فعاهدني بذلك ، ولكنه قال لن أستطيع أن أمتنع من زيارتي لمنزلها لتذكرها ، قلت له ، حتى منزلها عاهدني أن لاتقربه ، قال لاأتطع ، قلت سوف أحرقك بكلام الله ، فأخذ يصرخ كفى كفى أعاهدك عهداً بأنني لن آتي لمنزلها ، قلت له الآن أخرج وتب لربك وأعلم أنك ستحاسب من الله على كل عملك ذلك ,