بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذى قصم بالموت رقاب الجبابرة ، وكسر به ظهور الأكاسرة وقصر به آمال القياصرة ، الذين لم تزل قلوبهم عن ذكر الموت نافرة ، حتى جاءهم الوعد الحق فأرداهم فى الحافرة ، فنقلوا من القصور إلى القبور ، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود ، ومن التنعم بالطعام والشراب إلى التمرغ فى التراب ، ومن أنس العشرة إلى وحشة الوحدة ومن المضجع الوثير إلى المصرع الوبيل ، فانظر هل وجدوا من الموت حصنا وعزا ، واتخذوا من دونه حجابا وسترا ، وانظر هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا ، فسبحان من انفرد بالقهر والاستيلاء ‘واستأثر باستحقاق البقاء ، جعل الموت مخلصا للأتقياء ، وموعدا فى حقهم للقاء ، وجعل القبر سجنا للأشقياء ، وحبسا ضيقا عليهم إلى يوم الفصل والقضاء ، فله الإنعام بالنعم المتظاهرة ، وله الانتقام بالنقم القاهرة ،وله الشكر فى السموات والأرض ، وله الحمد فى الأولى والأخرة ،والصلاة والسلام على الرسول المرتضى والنبى المجتبى وعلى آهله وصحبه والتابعين .
فجدير بمن الموت مصرعه ، والتراب مضجعه ، والدود أنيسه ، ومنكر ونكير جليسه ، والقبر مقره ، وبطن الأرض مستقر ، والقيامة موعده ، والجنة أو النار مورده ، أن لا يكون له فكر إلا فى موته وقبره .
أتيت القبور فساءلتها
أين المعظم والمحتقر
وأين المذل بسلطانه
وأين القوى على ما قدر
تفانوا جميعا فمامخبر
وماتوا جميعا ومات الخبر
فيا سائلى عن أناس مضوا
أمالك فيما مضى معتبر ؟
تروح وتغدو بذاك الثرى
فتمحى محاسن تلك الصور
------
كان عثمان - رضى الله عنه إذا مر على قبر يبكى حتى تخضل لحيته من البكاء ، وكان يقول :سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول : ما رأيت منظرا قط إلا كان القبر أفظع منه . وسمعته يقول إن القبر أول منازل الآخرة ، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه ، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه }
-
وعن سلام بن صالح قال : فقد الحسن البصرى رحمه الله ذات يوم ، فلما أمسى ، قال له أصحابه : أين كنت ؟ قال كنت اليوم عند إخوان لى ، إن نسيت ذكرونى ، وإن غبت عنهم لم يغتابونى ، فقال له أصحابه : نعم الإخوان والله يا أبا سعيد ، دلنا عليهم . قال : هؤلاء أهل القبور .
-
وعن مفضل بن يونس قال : كان الربيع بن أبى راشد رحمه الله يخرج إلى الجبان فيقيم سائر نهاره ثم يرجع مكتئبا ، فيقول أهله : أين كنت ؟ فيقول كنت فى المقابر ، نظرت إلى قوم منعوا ما نحن فيه . ثم يبكى .
- وقال ثابت البنانى : كنا نشهد الجنائز فلا نرى إلا متقنعا باكيا .
فهكذا كان خوفهم من الموت .. وأما نحن اليوم فرحم الله تعالى حالنا :
لا تنظر إلى جماعة يحضرون جنازة إلا وأكثرهم يضحكون ويلهون ، ولا يتكلمون إلا فى ميراثه وما خلفه لورثته ، ولا يتفكر واحد منهم إلا ماشاء الله فى جنازة نفسه ، وفى حاله إذا حمل عليها ولا سبب لهذه الغفلة إلا قسوة القلوب بكثرة المعاصى والذنوب ، حتى نسينا الله تعالى واليوم الآخره .
-
قال أبو عمر بن العلاء جلست إلى جرير وهو يملى على كاتبه شعرا ، فاطلعت جنازة فأمسك ، وقال : شيبتنى والله هذه الجنائز وأنشا يقول
تروعنا الجنائز مقبلات
ونلهو حين تذهب مدبرات
كروعة ثلة لمغار ذئب
فلما غاب عادت راتعات
-
وحكى عن هارون الرشيد أنه انتقى أكفانه بيده عند الموت ، وكان ينظر إليها ويقول : ما أغنى عنى ماليه . هلك عنى سلطانيه .
-
دخل المزنى على الشافعى رحمه الله تعالى عليهما فى مرضه الذى توفى فيه ، فقال له : كيف أصبحت يا أبا عبدالله ؟ فقال له أصبحت من الدنيا راحلا ، وللإخوان مفارقا ، ولسوء عملى ملاقيا ، ولكأس المنية شاربا ، وعلى الله تعالى واردا ، ولا أدرى أروحى تصير إلى الجنة فأهنيها ، أم إلى النار فأعزيها .
خاتمه :
{ كل نفس ذائقة الموت }
{ قل إن الموت الذى تفرون منه فإنه ملاقيكم}
{ أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم فى بروج مشيدة }
فاللهم ألهمنا الثبات عند الممات ، وأعذنا من عذاب النار وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات وفتن المسيح الدجال واجعلنا ممن يبادر الفوت ويراقب الموت ويأهب للرحلة قبل الموت ...
وصلى اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن سلك نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين .
وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين . |
العرض العادي
