العودة   منتديات الـــود > +:::::[ الأقسام الثقافية والأدبية ]:::::+ > منتدى القصص والروايات
موضوع مغلق
   
 
أدوات الموضوع تقييم الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 01-02-2009, 04:38 AM   رقم المشاركة : 191
!!! الرومـ ^_* ـانسي !!!
Band
 
الصورة الرمزية !!! الرومـ ^_* ـانسي !!!
 






!!! الرومـ ^_* ـانسي !!! غير متصل



الحلقة الخامسة والأربعون

الجفـــاء القــاتـــل


طرت من الفرح.. عندما أخبرني وليد بأنه قادم لزيارتنا هذه الليلة.. فأنا لم
أره منذ أسبوع.. وأشعر بحنين شديد إليه.
وشعرت بالحسرة لأنني لم أستطع المشاركة في إعداد طعام العشاء مع خالتي
وابنتيها..
قلت مخاطبة نهلة:
"يحب عصير البرتقال الطازج.. أرجوك حضري كمية كبيرة منه".
فتحت نهلة درج الثلاجة المليء بثمار البرتقال وأشارت إليها وقالت ساخرة:
"كل هذا؟"
سارة انفجرت ضاحكة فوبختها خالتي.. أما أنا فرمقت نهلة بنظرة غضب فابتسمت
وقالت:
"حاضر سيدتي.. وماذا أحضر بعد؟"
وكنت قد أخبرت خالتي عن الأطباق التي يفضلها وليد وطلبت منها أن تحضرها
بسخاء!
سمعت خالتي تسأل:
"ماذا عن سامر؟ هل تأكدت من أنه لن يحضر؟"
أجبت:
"نعم. هكذا أجاب وليد عندما سألته.. لكن اعملي حسابه.. ربما يتغير رأيه
ويأتي".
قالت سارة مفاجأة:
"أصبح وجه سامر وسيما الآن. هل ستتزوجين منه ثانية يا رغد؟"
هذه المرة خالتي زجرت ابنتها بعنف بل وطردتها من المطبخ.. سارة غبية لدرجة
ملحوظة.. وتفكيرها سخيف جدا..
الصمت حل على المطبخ بعد مغادرتها وأرادت نهلة أن تلطف الأجواء فسألتني:
"وخطيبته وأمها؟؟ أمتأكدة من أنهما لن تحضرا؟"
كانت تعرف هي الأجابة ولكنني جاريتها:
"لن تحضر.. سيأتي وليد فقط".
قالت ماهو الخطأ الذي قلته؟"
أوه.. إنها حتى لا تدرك خطأها! إنها طفلة بريئة ولا تستحق العقاب..
قلت:
"عندما قلت عن سامر إنه أصبح وسيما وسألتني إن كنت سأتزوج منه".
قالت ببلادة:
"نا الخطأ في ذلك؟ لقد أصبح وسيما بالفعل عندما عالج عينه البشعة".
قلت مجارية:
"نعم أعرف".
وانتظرت هي مني أيضاح الخطأ.. فقلت:
"لكن لا يليق أن تسأليني إن كنت سأتزوجه أم لا.. أولا لأنك صغيرة السن ولا
يستساغ منك كلام كبير كهذا.. وثانيا لأنني وسامر قد انفصلنا عن بعضنا البعض
نهائيا ولن نتزوج ثانية.."
ونظرت إلى عينها أستشف منهما الفهم, لكن.. لا يبدو أنها استوعبت تماما ما
عنيت!
قالت:
"إذن ستتزوجين بحسام؟"
أوه.. ألهمني الصبر يا رب!
أجبت:
"كلا".
قالت:
"إذن بمن؟"
قلت مظهرة الغضب لأفهمها أن عليها التوقف عن هذا:
"لا أعرف يا سارة ولا تكرري الحديث عن أمور كهذه ثانية.. مفهوم..؟؟"
واستدرت راغبة في الانصراف عنها.. فسمعتها تقول:
"أنا أعرف بمن".
استدرت إلى سارة مجددا فوجدتها تبتسم ولكن هذه المرة بمكر!
قلت مجارية لها:
"بمن في اعتقادك؟"
قالت:
"بابن عمك الطويل.. فأنا سمعتك تخبرين أختي بهذا".

*****************

بعد العشاء.. جلست مع أبي حسام والخالة وحسام ورغد نتجاذب أطراف الحديث..
أحاديثنا منذ البداية كانت عادية وغير هادفة.. باستثناء اعتذار أم حسام الذي
أزاح عني حملا.. لم أهنأ بزواله.. أما الصغيرة كانت صامتة إلا عن نظرات
تلقيها علي من حين لآخر!
ولكن هل يبدو في مظهري شيء غريب؟؟
سألت أم حسام:
"كم ستمكث في البلدة؟"
أجبت:
"أسبوع كحد أقصى.. بعض شئون العمل متوقفة على حضوري.."
قالت:
"وماذا عن رغد؟"
بسرعة التفت إلى الصغيرة واشتبكت نظراتنا.. ثم عدت إلى أم حسام:
"ستأتي معي قطعا".
وهل هناك شك في الأمر؟؟
أم حسام قالت:
"أليست إجازتها المرضية ممتدة لعدة أسابيع.. لن تكون هناك دراسة ولا جامعة
وبالتالي لا داعي لسفرها".
عدت ونظرت إلى رغد.. متوقعا أن تكون هذه فكرتها.. ثم قالت:
"نعم ولكن..لديها موعد الطبيب في الأسبوع المقبل.. كما وأنها يجب أن تبقى
قريبة من المستشفى لمتابعة العلاج.. هذا إلى أنه.. بإمكانها الدراسة في
المنزل والاستعانة بصديقاتها خلال فترة الاجازة".
أليس كلامي منطقيا؟؟
أم حسام قالت وقد طغت الجدية على نبرة صوتها:
"في الحقيقة يا وليد.. وباختصار وبلا مقدمات.. أريد أن تبقى ابنة أختي تحت
رعايتي من الآن فصاعدا".
أصبت بالدهشة.. وقلت مستغربا:
"ما الذي تقصدينه؟؟"
أجابت بكل ثقة:
"أقصد أن تبقى هنا في بيتي وتحت ناظري وبين أبنائي.. وهو المكان الطبيعي لها
أساسا".
درت بعيني بعشوائية ثم ألقيت نظرة على رغد أستشف منها موقفها.. لكني لم أفهم
المعاني المرتسمة على وجهها..
قلت:
"خالتي.. ألم يسبق وأن أغلقنا هذا الموضوع بعد أن أشبعناه حوارا وختمنا
القرارات؟
بقاء رغد تحت وصايتي أمر مفروغ منه البتة ولا مجال للحديث فيه أصلا".
تدخل حسام وقال:
"هذا ما تفرضه أنت".
لم أعره اهتماما وركزت أسماعي على الخالة التي تابعت:
"لم ننهه لكنك أصررت على موقفك واستغللت شغف الفتاة بالراسة كيف تكسبها إلى
جانبك".
استغلال؟؟ عندما أفكر في مسقبل رغد.. وأخطط له.. تسمونه استغلال؟؟
حسام قال:
"إنهم يعيدون ترميم المبنى المدمر من الجامعة هنا وستفتح العام المقبل
وتستطيع رغد العودة إليها مجددا".
قلت:
"ولماذا عليها أن تفل ذلك؟ الجامعة الأهلية في الجنوب أفضل مستوى وقد قطعت
شوطا مهما وبنجاح فلم تفكر أصلا في تغيير الجامعة؟"
كنت سأوجه سؤالا إلى رغد غير أن أم حسام سبقتني بالحديث:
"لتبقى معي.. وإن كانت حجتك الدراسة فها هو الحل أمامك".
استفزتني الجملة وقلت:
"ليست مسألة الجامعة فقط.. رغد تحت وصايتي أنا وأريد أن آخذها معي".
قالت أم حسام وبصوت حاد:
"في هذه المرة أعدتها إلينا بالجبائر.. في المرة القادمة كيف ستعيدها
إلينا؟؟"
أبو حسام تدخل ليخفف الشد الحاصل فقال:
"نحن نعرف أنك تعتني بها جيدا ولكن إنه قلب الأم.. لا تتصور كم كانت خالتها
مشغولة البال والقلب عليها".
قال حسام:
"جميعنا كنا قلقون عليها وهي بعيدة كل ذلك البعد. يجب أن تقدر مشاعرنا".
كأنك تماديت يا حسام؟ مشاعر ماذا تقصد؟ يجب أن تتوقف عند هذا قبل أن تشعل
غضبي..
قلت معارضا وبكل إصرار:
"الأمر مفروغ منه ولسنا هنا لنناقشه من جديد.. وأرجوكم لا داعي لهدر المزيد
من الوقت في جدال عقيم لقضية محسومة مسبقا".
قال حسام فجأة:
"أنت متسلط جدا".
صمت الجميع من المفاجأة.. وأنا نظرت إليه بتعجب.. حسبت أنها زلة لسان سيعتذر
عليها لكنه أضاف وللعجب:
"نحن أفرب إلى رغد منك وأحق بكفالتها.."
أبو حسام ردع حسام بنظرة غاضبة.. والأخير سكت ثوان ثم وجه خطابه إلى رغد:
"ما رأيك أنت يا رغد؟ ألست تفضلين البقاء مع والدتي؟؟"
نظرنا جميعا نحو رغد التي أجابت بإخضاع نظرها نحو الأرض.. كأنها تؤيد هذا..
ماذا يا رغد؟ أتريدين إحراجي أكثر مع أقاربك؟ ألم ننته كليا من موضوع إقامتك
معي؟
هل غيت رأيك الآن؟
خاطبتها سائلا وشاعرا بالخذلان منها:
"ماذا يا رغد؟"
فنظرت إلي وأجابت مضطربة:
"كما ترى أنت.. وليد".
الجميع نقلو بصرها عنها وصبوا أنظارا حارة علي..
ويحكم! هل تعتقدون أنني أهدد الفتاة أو أجبرها على شيء؟
قلت طالبا منها التأكيد:
"ألست ترغبين في متابعة الدراسة في الجامعة الأهلية؟"
قالت مؤكدة:
"بلى".
اطمأن قلبي لردها لكن أم حسام قالت معترضة:
"كلا.. ستبقين معي.. أريد أن أرعاك بنفسي من الآن فصاعدا.. ولن يطمءن قلبي
لسفرك على الإطلاق".
وإذا بحسام يخاطبني قائلا فجأة:
"لماذا لا تتنازل عن الوصاية؟"
نظرت إليه نظرة مندهشا ثم رمقته بحدة وقلت:
"أتنازل عنها لمن مثلا؟ لك أنت!؟"
حسام غضب من تعقيبي الساخر ورد منفعلا:
"تعرف أنني دون السن القانوني ولا يمكنني أن أكفل أحدا.. أنا أعني لوالدي فهو
بمقام والدها وهو ابن عم والدتها وأمي خالتها ونحن أقرب إليها منك".
عند هذا لم أتحمل.. اشتعلت نفسي غضبا وتصبب العرق من جبيني ورفعت يدي أمسحه
فلمست جبينا ساخنا يكاد يتقد نارا..
نظرت نحو رغد وأظن نظرتي كانت قوية للدرجة التي اهتز فيها جسدها وتراجع
للوراء..
زفرت زفرة قوية أخيرا كانت ساخنة ما يكفي لحرق أثاث الغرفة..
قلت أخيرا:
"يمكنكم مناقشة أمر الوصاية هذا بعد موتي, ولكن طالما أنا حي فابنة عمي ستبقى
تحت مسئوليتي أنا ما امتدت بي الحياة".
ووقفت وتابعت:
"علي الذهاب الآن.. شكرا على حسن الضيافة".
والتفت إلى رغد وقلت:
"رغد.. هلا رافقتني إلى البوابة؟"
سرنا جنبا إلى جنب بخطى بطيئة إلى أن ابتعدنا عن مدخل المنزل وانتصف بنا
الطريق إلى البوابة الخارجية لسور المنزل..
حينها أذنت للساني بالنطق:
"رغد".
وتوقف صوت خطوات العكاز.. التفت إلى رغد فرأيتها وقد توقفت عن المشي وكأنها
في انتظار شيء مهم..
قلت:
"هل كانت هذه فكرتك؟"
رغد قالت بسرعة:
"لا.. لا.. إنها خالتي, هي التي تريد مني البقاء.. على الأقل فترة نقاهتي".
قلت:
"والوصاية؟"
أجابت:
"حسام يتحدث بسخافة أحيانا".
كنت أنظر إليها بتشكك.. فهي لطالما طلبت مني تركها مع أقاربها, وخشيت أن تكون
هي وراء كل هذا..
لما قرأت الشك في عيني قالت مدافعة:
"صدقني لست أنا".
قلت:
"اسمعي يا رغد.. عليك أن تفهمي أقاربك أن موضوع الوصاية هذا مفروغ منه تماما
ولا أقبل منهم أن يفتحوه أمامي مجددا أبدا.. يجب أن تخبريهم أن يتوقفوا عن
محاولاتهم المزعجة وإلا فأنني سوف لن آتي بك لزيارتهم مجددا".
بدا التوتر على وجه رغد فقلت:
"أنا أعني ما أقول.."
ثم استدرت لأتابع طريقي إلى البوابة..
بعد ثوان لحقت رغد بي وسمعتها تناديني وتقول:
"وليد.. لا تغضب..!"
التفت إليها فوجدت عينيها متعلقتين بي..
كررت:
"أرجوك.. لا تغضب منهم".
وأضافت:
"أنا اعتذر لك عن أي كلمة مزعجة وجهت إليك هذه الليلة.. سامحهم أرجوك".
أراحني الشعور بأن رغد.. تكن لي التقدير وتكترث لمشاعري.. وتود تطييب خاطري
بعد الكلام الذي تلقيته من أهلها..
قلت:
"هذه المرة سأبتلع كل شيء.. لكن عليك أن تفهميهم جيدا بأنني فيما لو تكرر هذا
مرة أخرى, سأتخذ موقفا مختلفا".
أطرقت رغد برأسها إذعانا.
أخيرا قلت:
"والآن.. هل تأمرين بشء قبل ذهابي؟"
رأيت وجه رغد يبتسم فيما قسمات القلق مرسومة على جبينها وهي تقول:
"انتبه لنفسك".
أنتبه لنفسي؟!
إنها أول مرة تقولها لي وبهذه الطريقة ومعالم القلق والاهتمام ناطقة على
وجهها!
شعرت بدغدغة لطيفة تسري في جسدي لم تكن لتتناسب مع الغضب الذي أضمره!..
ابتسمت لها وفارقتها بارتياح..
ذهبت إلى شقة سامر والذي كان قد أعطاني مفتاحا احتياطيا لشقته بطلب مني.. حتى
يتسنى لي الدخول والخروج بحرية, خصوصا وأنه كان يقضي ساعات طويلة في العمل..
دخلت الشقة واتجهت إلى غرفة النوم.. وهناك.. رأيت شقيقي يجلس على السرير وفي
يده علبة ما..ووجهه متجهم.. ويظهر عليه الشرود.. حتى أنه لم ينتبه لدخولي..
"سامر"
بمجرد أن ناديته ارتبك وأغلق العلبة بسرعة وهب واقفا وهو يقول:
"وليد.. أأأأهلا".
وسار نحو الخزانة وأدخل العلبة في أحد الأدراج, الدرج الذي وجدته مقفلا ذلك
اليوم, وأقفل الدرج بالمفتاح وهو يقول:
"لم أنتبه لقدومك".
دققت النظر في وجهه فوجدت آثار الدموع تبلل رموشه.. شعرت بانقباض في قلبي
وسألت بقلق:
"أهناك شيء؟؟"
سامر تظاهر بالعفوية وابتسم وقال:
"لا. لا شيء".
لكنني لم أشتت نظري عنه فقال:
"تذكرت والدينا".
وظهر الخشوع والحزن على وجهه.. لم أصدق ما ادّعاه ولكنني لم أشأ إحراج الموقف
فقلت:
"رحمهما الله".
وتصرفت بشكل طبيعي رغم القلق الذي يعتصر أحشائي..
لا أعرف ما الشيء الذي كان سامر يخفيه في الدرج ويحذر أن أراه.. لكني أتوقع
وتقريبا شبه متأكد من أنه ذو علاقة برغد..
والفضول تملكني بشدة.. وانتهزت الفترة التي ذهب أخي فيها للاستحمام بعد ذلك
وتسللت يدي نحو الدرج..
كان المفتاح في ثقب الدرج.. فتحته بحذر واستخرجت العلبة الكبيرة الثقيلة
التي كانت تحتل معظم الدرج..
وضعت العلبة على السرير وهممت بفتحها, غير أن ضميري تغلب على فضولي في آخر
لحظة.. وإذا بي أعيد العلبة إلى الدرج وأقفله بالمفتاح وأغلق باب الخزانة
كما كان..
لحظتها أثنيت على نفسي أمانتي.. وشكرت ضميري على تأنيبه.. وبت راضيا عن نفسي
ومسرورا بها..
لكنني فيما بعد.. ندمت أشد الندم.. على أنني لم أكتشف وقتها السر الذي كان
شقيقي يخبئه.. رغم أنه كان طائعا بين يدي..

************************
بالأمس أبلغني وليد عن موعد سفرنا وهو مساء اليوم, واتصل بي قبل ساعة ليتأكد
من استعدادي. وقد أبلغني أنه في طريقه للمزرعة وسوف يكون هنا عصرا.
وفيما أنا مع ابنتي خالتي نجمع حاجياتي في حقيبتي رن هاتفي مرة أخرى.. نهلة
ونظرت بمكر وقالت:
"الوصي الطويل!"
وسارة ضحكت -كعادتها- بصوت مرتفع..
كان هاتفي موضوعا على المنضدة بجوار المرآة. وكنت أجلس على السرير أطوي
ملابسي..
قلت مخاطبة نهلة:
"ناوليني الهاتف".
فأسرعت سارة والتقطته من على المنضدة وأقبلت نحوي.. نهلة قالت لإغاضتي:
"دعيها تسير إليه بنفسها يا سارة!"
سارة غيرت اتجاه سيرها وعادت أدراجها إلى المنضدة..
قلت بحنق:
"هذا ليس وقته.. هاتي الهاتف سارة".
فقالت نهلة وهي تضحك بخبث:
"تعالي وخذيه بنفسك".
هتفت:
"تبا لكما".
ورميتهما ببعض ملابسي وأمسكت بعكازي وهببت لأقف, حينها أخذت نهلة الهاتف
ورمته نحوي على السرير وأطلقت أختها القهقهات وهما تغادران الغرفة.. مددت
يدي بسرعة والتقطت الهاتف..
كان رقم هاتف المزرعة, ذلك الذي ظهر على شاشة هاتفي..
"مرحبا".
"مرحبا يا رغد.. كيف حالك؟"
أتدرون من المتصل؟
إنها الشقراء!
ماذا تريدين مني؟؟ وكيف تملكين الجرأة على الاتصال بي وكأننا من الأصحاب؟؟
قلت بجفاء:
"نعم؟ ماذا تريدين؟"
قالت:
"حسنا.. خشيت ألا تجيبي على اتصالي.."
قلت:
"ظننته وليد.. لكن ماذا هناك؟"
قالت:
"إنه لم يصل بعد.. هل أخبرك بأنه.. حجز للسفر مساءً؟"
قلت:
"نعم".
الشقراء صمتت قليلا ثم سألت:
"رغد..هل فكرت في الموضوع الذي حدثتك عنه؟"
تعني الكلام الذي سممت قلبي بسماعه ذلك الصباح في المزرعة.. والذي بذلت قصاري
جهدي للتهرب منه..
أجبت:
"لا أريد أن أفكر به".
قالت:
"لماذا؟"
قلت بغضب:
"لا يعجبني.. ولو سمحت لا تعيدي فتح الموضوع ثانية".
قالت:
"يارغد لا بد من فتحه وأخذه بعين الاعتبار.. إنه ليس مجرد موضوع عابر بل فيه
مستقبلنا وحياتنا ومصيرنا نحن الثلاثة".
قلت وقد اشتد غيظي:
" لا شأن لك بمستقبلي ومصيري أنا".
قالت:
"وماذا عن مستقبل وليد؟ وحياته؟ ومصير الدوامة من الشجار التي نحيطها به؟ ألا
تفكرين فيه؟"
قلت باندفاع:
"وليد لن يتخلى عني تحت أية ظروف.. إنه بمقام أبي.. لن أبتعد عنه وإذا شءت
أنت فابتعدي وأريحينا".
صمتتالشقراء لبرهة ثم قالت:
"إذن هذا هو قرارك؟؟"
قلت بتحد:
"نعم. هذا هو قراري".
قالت وقد تجلى الألم والحزن في نبرة صوتها:
"لم أتوقع أن تكوني أنانية لهذا الحد".
ثم أضافت وقد اشتدت نبرتها:
"لكن.. وليد سيأتي الآن.. وسأخبره بما دار بيننا.. وعن قرارك.. وسأضعه أمام
الأمر الواقع وأطلب منه أن يعين من منا سيختار ليصطحبها في السفر".
وتوقفت برهة ثم أضافة:
"وفي بقية العمر".
وأقفلت السماعة فورا..
تسمرت على وضعي حقبة من الزمن.. تدحرج فيها رأسي على محيط الغرفة.. ثم تهالك
على السرير دائخا تصارعه كلمات أروى وتستل عقله اتلالا..
رفعت هاتفي أمام عيني.. أوشكت على الاتصال بوليد.. لكن أصابعي ارتجفت وحالت
دون مقدرتي على الضغط على الأزرار..
حاولت أن أركز على شيء لكنني فشلت.. أغمضت عيني ووضعت يدي اليسرى عليهما
لأخفف من مقدار النور الذي بدا قويا يخترق جفوني مقبلا من مصباح السقف..
"رغد!"
سمعت صوتا يناديني.. أبعدت عيني ونظرت باتجاه مصدر الصوت الذي ولشدة تيهي لم
أميزه.. ولولا أنها اقتربت مني كثيرا ربما لم أكن لأميزها.. كانت نهلة..
"ما بك!؟"
سألتني بقلق وهي تراني ملقية بثقل رأسي على السرير في ذلك الوضع..
جلست ومددت يدي نحوها فأقبلت إلي وشملتني في حضنها وهي تقول:
"ماذا جرى لك بحق السماء؟؟ ماذا قال لك ذلك المتعجرف اللئيم؟"
هززت رأسي في حضنها وأنا أطلق شهقاتي:
"ليس هو يا نهلة.. إنها هي.. هي".
سألت بتوتر وقد فهمت قصدي:
"ماذا أرادت منك؟"
انهرت وأنا أقول:
"تريد أن تحرمني من وليد.. ستأخذه مني يا نهلة.. ستأخذه مني".
أبعدت رأسي عن حضنها وقلت بانهيار:
"سأموت إن تخلى عني.. لا أستطيع العيش بدونه.. إنه وليد قلبي أنا.. يخصني
أنا.. إنه لي أنا.. أنا.. أنا.."

****************************
كنت قد حدثت سامر عن أمر عودتي إلى الجنوب مع رغد.. وألححت عليه كي يرافقنا..
وأعدت عرض فرصة العمل الكبيرة في مصنع أروى..
سامر كان في السابق يرفض الفكرة أما الآن فقد قبل العرض.. وطلب مهلة كي يرتب
أموره..
اتفقنا على أن أمهله بضعة أيام أخرى لينجز مهامه ويستعد للسفر..
وضع سامر ووحدته في هذه المدينة وبعده عني لم يكن يروق لي منذ البداية.. ولكن
الظروف لم تساعد على لم شملنا في بيت واحد كما هم الأخوة الأشقاء..
ودعته وذهبت إلى المزرعة لأقابل أروى وأهلها, وأقضي معهم بعض الوقت قبل
السفر..
في المزرعة طبعا كانت تنتظرني مشكلتي الكبرى.. مع أروى..
كنا أنا وهي نجلس بين الأشجار.. بعيدا عن مرأى أو مسمع أي إنسان.. نتحدث بشأن
كلامها الجنوني في لقائنا الفائت..
اعتقدت إنه كان انفعالا مؤقتا, غير أنني وجدتها على نفس الموقف هذا اليوم وقد
تجلى الإصرار الشديد عليها..
أروى كانت على غير سجيتها.. غاية في التوتر والعصبية..
"اسمعني يا وليد.. لا أريد أن نضيع الوقت والجهد في محاولة تغيير المواقف..
كل ما عليك اتخاذه الآن وبشكل حاسم هو القرار المصيري.. إما أن تأخذني أنا
معك, وللأبد.. أو تأخذها هي معك.. وللأبد".
كنت قد استنفذت طاقتي في محاولة إقناعها بالتخلي عن حلها الجنوني هذا.. لكن
دون جدوى..
قلت منفعلا:
"الهراء الذي تتفوهين به لن أحمله محمل الجد.. أجد نفسي مضطرا لأن أتركك هنا
مؤقتا وأعود معها هي إلى أن تنتهي موجة الجنون الذي أودت بعقلك.. بعدها
نناقش بعقل كل أمورنا".
أروى هتفت:
"لا تتهرب يا وليد.. أنا أحدثك بكل جدية.. إما أنا أو هي, ولا خيار ثالث
مطلقا".
الاصرار كان يندلع كالنار من عينيها.. والنار لم تحرق عيني ورأسي فقط.. بل
وأشعلت الآلام التي لم بالكاد هدأت قليلا في معدتي..
شهقت شهيقا طويلا لأملأ صدري بالهواء وأضغط على معدتي.. ثم استدرت للوراء
وخطوت مبتعدا عنها..
"وليد إلى أين؟"
لم أرد.. وخطوت خطوة أخرى فقالت:
"هل أفهم من هذا.. أنك قررت اختيارها هي؟"
توقفت لحظة ولم أستجب.. ثم خطوت خطوتين أخريين فسمعتها تقول بانفعال:
"إذا قررت الذهاب إليها فلا تفكر بالعودة إلي ثانية".
عند هذا الحد واستدرت إليها مذهولا وهتفت بغضب:
"ماذا تعنين؟ أروى.. أخرجي من رأسي في هذه الساعة.. أكاد أنفجر.. بالله عليك
ماذا تعنين بهذا الجنون؟؟"
أروى حمبقت برهة بي ثم قالت:
"ننفصل".
فجأة.. أصيب رأسي بارتجاج حاد إثر هذه الكلمة الفظيعة وانفغر فوهي وانفتحت
حدقتاي أوسعهما..
ذهلت.. صعقت.. تصلبت في موضعي.. غير مصدق!!
نطقت وأنا لا أجرؤ على التفوه بالكلمة من شدة فظاعتها:
" ماذا؟؟ تقولين ننـــ..ننـــــ.. ماذا؟"
أجابت أروى بكل ثقة:
"ننفصل يا وليد".
ولم يزدني برودها إلا ذهولا فوق ذهول..
بقيت أحملق فيها لوقت ما كان أطوله.. ثم أخرجت عبارات عشوائية من لساني:
"كيف تجرأت يا أروى؟ لا بد أنك بالفعل قد جننت..!.. ماذا..؟؟ كيف أطاعك
لسانك على التفوه بها؟؟ تقولين.. ننفصل؟؟"
صمتت أروى فسرت حتى صرت أمامها وقلت غير مصدق:
"ننفصل يا أروى؟؟ هل قلت ننفصل؟"
أروى قالت وقد تغير صوتها وجاء مبحوحا:
"نعم.. فنحن.. لن نستطيع العيش.. أنا.. وأنت.. وابنة عمك.. سوية.. لقد
خيرتك.. وأنت من اختار التخلي عني من أجلها".
مددت يدي إلى ذراعها وهززتها بقوة وصرخت:
"أنا؟؟"
وتابعت:
"بل أنت يا أروى من قرر كل شيء بجنونك.. أنت من يرفض العودة معي.. تعرفين كم
هي ظروفي حرجة هذه الفترة وعوضا عن حمل الهم معي تزيدين عاتقي أثقالا..
تريدين مني ترك رغد في بيت خالتها للأبد؟؟ هذا المستحيل بعينه.. أنا لن أتخلى
عن مسؤوليتي عن ابنة عمي هذه تحت أي ظروف ومهما كان".
قالت أروى بغضب:
"إذن تخل عني واحتفظ بابنة عمك المدللة الغالية.. لأناية.. حبيبة قلبك التي
لا تخجل من الاحتفاظ بصورتها تحت وسادتك".
هنا.. فار التنور..
رفعت يدي وأوشكت على تسديد لكمة قوية إلى وجهه أروى, غير أنني توقفت عند آخر
جزء من الثانية.. وتركت يدي معلقة في الهواء..

أروى صارت تحملق بي بذهول فائق.. وتحول لونها إلى الأصفر من شدة الفزع.. ولو
كنت قد سددت ضربتي إلى وجهها لكنت قد فصلت فكها الأسفل عن رأسها كليا..
تراجعت بقبضتي الثائرة والتفت يمينا فرأيت الشجرة التي نقف إلى جوارها
تراقبنا بسلام..
وكامجنون ضربت أحد أغصانها بعنف فخر مكسورا على الأرض..
ابتعدت مسرعا عن أروى لئلا تنالها يدي ببطش شديد.. ذهبت أبحث عن العم إلياس
فألفيته والخالة يجلسان عند مدخل المنزل يصنعان السلال السعفية ويتبادلان كرة
الحديث..
حين رأياني رحبا بي ودعياني للجلوس معهما.. ولكنهما سرعان ما رأيا الشرر
يتطاير من عيني والعرق يتصبب من جبيني..
العم إلياس وقف وقال قلقا:
"ما الخطب يا بني؟؟"
هتفت بغضب:
"عمي أريد أن أحدثك عن شيء".
وقد خرج صوتي مرعبا ما جعل الخالة ترفع يدها إلى صدرها..
قال العم:
"اهدأ يا بني.. رجاء".
قلت منفعلا:
"يجب أن تتدخل وتفعل شيئا يوقف جنون ابنة أختك هذا".
الخالة وقفت بدورها هي الأخرى وقالت:
"ماذا يحصل؟؟"
العم إلياس خاطبني:
"اجلس يا بني هداك الله.. تبدو منفعلا جدا".
والتفت إلى الخالة وطلب منها:
"احضري بعض الماء يا أم أروى باركك الله".
الخالة دخلت إلى المنزل على مضض لتحضر الماء, أما العم إلياس فحملق بي
متسائلا وأمسك بذراعي محاولا تهدئتي, غير أنني سحبت ذراعي وشددت على قبضتي
وقلت:
"عمي.. أروى.. فقدت عقلها.. تهددني.. إما أن أترك ابنة عمي في بيت خالتها
للأبد.. أو.."
ولم أقو على إتمام الجملة.. فسأل العم:
"أو ماذا؟"
قلت أخيرا منفعلا:
"أو ننفصل يا عم".
العن ذهل ونظر نحوي بدهشة فائقة.. فقلت:
"يجب أن تكلمها.. إنها مجنونة منذ عرفت أنني قتلت من كان ابن عمها..والآن
تريد مني إخلاء مسؤوليتي عن مكفولتي اليتيمة.. التي هي أمانة في عنقي إلى يوم
الدين.. وإلا سوف لن تستمر معي بعد الأن".
العم كان ينظر إلي بمنتهى الدهشة التي طغت على أي قدرة اه على التعبير..
قلت بحدة بالغة:
"تتعامل مع رباطي بها أو برغد وكأنهما لعبة يمكن تغييرها إن لزم الأمر..
أفهمها يا عم.. أنه لا يحق لها وضعي بين خيارين عابثين كهذين.. ولا الاستهانة
برباطنا بهذا الشكل المخزي..وإنني لست من الاستهتار لدرجة أن.. أرمي بوصاية
ابنة عمي على غيري.. أو أنفصل عن زوجتي.. فقط لأنهما لا تطيقان التعايش مع
بعضهما البعض".
واستدرت منصرفا قبل أن أعطي العم فرصة للاستيعاب..




يتبع,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,, ,,,,,,,,,,,,,,,,







قديم 01-02-2009, 04:41 AM   رقم المشاركة : 192
!!! الرومـ ^_* ـانسي !!!
Band
 
الصورة الرمزية !!! الرومـ ^_* ـانسي !!!
 






!!! الرومـ ^_* ـانسي !!! غير متصل


مازلت واقفة عند الشجرة.. أنظر إلى الغصن المرمي على الأرض.. الذي كسره
وليد عن جذعها قبل قليل..
كنت غارقة في الدموع.. لا أعرف ما أفعل أو كيف أفكر.. وقد انصرف وليد غاضبا
جدا مني.. وسيسافر وموضوعي معه معلق وشديد الالتهاب..
أحسست بحركة من حولي فنظرت في الاتجاه الذي سلكه وليد مغادرا وكلي لهفة أن
يكون عاد.. رأيت أمي وخالي يقبلان نحوي يكسو وجهيهما القلق الشديد..
كانت أمي تمسك بكأس مليء بالماء في يدها وقطرات منه تنسكب مع خطواتها
المضطربة.
قبل أن تصبح في مواجهتي سبقها سؤالها:
"ماذا حصل؟؟ أروى ماذا حصل مع وليد؟؟"
نظرت من بين دموعي إلى عينيها وعيني خالي.. وقلت:
"لق.. طلبت منه.. أن.. ينفصل عني".
وأجهشت بالبكاء واستدرت إلى الشجرة التي ضربها وليد. لم أكن أسمع غير صوت
بكائي إلى أن سمعت صوت خالي يهتف:
"ليندا.. تماسكي".
استدرت إلى أمي فرأيت الكأس يقع من يدها ورأيتها تضغط على صدرها وتتنفس
بصعوبة.. ثم تترنح وتخر على الأرض.

*******************************
استقبلتني ابنة خالة رغد الصغرى وقادتني إلى مدخل المجلس الجانبي.. لم يكن
حسام ولا أبوه موجودين ساعة وصولي.. وعند المدخل وجدت أم حسام تقف في
انتظارنا..
كنت أعرف أنها غير راضية عن سفر رغد وخشيت أن تعود لفتح موضوع اعتراضها في
هذه الساعة.. والصداع مشتد على رأسي بعد شجاري مع أروى, ولا ينقصني الآن أي
جدال.. وبعد تبادل التحية دخلنا إلى الداخل واتخذنا مجالسنا وأخبرتني أن أبا
حسام في الطريق إلينا.. ثم سألتها:
"هل رغد مستعدة؟"
أجابت وفي نبرتها شيء من عدم الرضا:
"نعم.جمعت أشياءها بمساعدة ابنتيّ.. إنها بالكاد تتحرك.. يشق السفر عليها مع
هذه الإصابة".
أرجوك! لا تفتحي الموضوع ثانية الآن!
قلت لئلا أدع لها الفرصة للبدء من جديد:
"إذن هلا أخطرتها بوصولي من فضلك؟ لا يزال أمامنا مشوار طويل".
الفتاة الصغيرة خرجت من الغرفة فورا.. ذاهبة لاستدعاء رغد.. أما أم حسام
فسألت:
"وأين زوجتك ووالدتها؟"
استغربت السؤال وأجبت:
"في المزرعة".
قالت مستغربة:
"حسبت أنك قادم من هناك".
قلت:
"نعم, كنت هناك".
سألت باستغراب أشد:
"ولمَ لم تحضرا معك مباشرة؟"
قلت مستغربا:
"ولمَ؟؟"
بدا القلق على وجه أم حسام مع بعض الحيرة ثم قالت:
"ألن تصطحبوهما معكما؟؟"
قلت:
"كلا.. إنهما لن تسافرا معنا الآن".
اتسعت حدقتا أم حسام واكفهرت ملامحها وقالت:
"لن تسافرا معكما؟؟ ماذا تقصد يا وليد؟؟"
قلت موضحا:
"لن تسافرا حاليا.. لكن.. ستلحقان بنا بعد فترة.. تودان البقاء في المزرعة
أياما أخرى".
تعبيرات وجه أم حسام ازدادت توترا واضطرابا وقالت:
"و.. رغد؟؟"
فهمت منها إنها قلقة بشأن من سيعتني بالصغيرة وهي مصابة هكذا.. فقلت:
"لدينا خادمة لتساعدها".
أم حسام قالت فجأة وبانفعال مهول:
"أتريد القول.. إنك.. ستسافر مع الفتاة.. بمفردكما؟"
ألجم السؤال لساني.. وفي ذات اللحظة رأيت أم حسام تهب واقفة وقد تناثر الشرر
من حولها وتقول بصوت حاد:
"هل جننت يا وليد؟؟ تريد أن تأخذ الفتاة بمفردها إلى الجنوب؟"
وقفت تباعا وقد أصابني الذهول من أمر الخالة وأردت أن أتحدث غير أن كلامها
اخترق المسافة الفاصلة بيننا بسرعة البرق وزلزلة الرعد..
"كنت أظن أن خطيبتك ووالدتها سترافقانكما كما في السابق.."
تدخلت بسرعة:
"ستلحقان بنا عما قريب.. وكذلك سامر.. لا يمكنني ترك العمل أكثر من هذا".
ردت أم حسام:
"وتريد مني أن أترك ابنتي تسافر وتعيش هناك لوحدها معك؟؟ هل فقدت صوابك يا
وليد؟؟"
ارتبكت واضطربت كل ذرات كياني.. تحول لوني إلى الأحمر وتفجرت قطرات العرق على
جسمي كله.. حاولت النطق:
"خالتي".
غير أنها قاطعتني بحدة وقالت صارخة في وجهي:
"كفى.. هذا ما كان ينقصني.. لم يبقى إلا أن نترك ابنتنا تقيم بمفردها مع رجل
غريب.. من تظن نفسك يا وليد؟؟ كيف تجرؤ؟"
تسمرت على وضعي مذهولا.. مكتوم النفس طائر الفؤاد محملق العينين.. لا أكاد
أفهم ما أسمع..
"خــــالـــ.. ما.. ماذا.. رجل غريب؟؟ أنا؟"
صاحت أم حسام بوجهي:
"نعم رجل غريب.. أتظن أن الوصاية على الفتاة تجعلك أباها حقا؟؟ أفق يا هذا..
أم لأنها فتاة يتيمة وحيدة تظن أنه بإمكانك التصرف بشأنها كما يحلو لك وأن
أحدا لن يوقفك عند حدودك؟؟ اصح يا وليد.. يا محترم".
تلقيت الكلام كصفعة قوية نارية على وجهي.. النار كانت تشتعل في عيني أم حسام
وفي صدرها النافث بالصراخ.. حملقت بها مذهولا.. غير مصدق لما أسمع.. ما الذي
تقوله هذه المرأة؟؟
كان صدري لا يزال يحبس النفس الأخير الذي التقطته وسط النار.. أطلقت نفسي
باندفاع وقوة وهتفت:
"ما الذي تقولينه يا خالة؟"
الغضب كان يتطاير من عينيها ومن عيني أنا تفجر بركان ثائر مدمر..
"ما الذي تظنينه بي؟؟ إنني أنا وليد.. ابن شاكر وندى.. ولست إنتاج وتربية
شوارع.. أنا تقولين لي هذا الكلام؟؟ لقد تربيت بين أبناءك وتحت ناظريك..
وكأنك لا تعرفين من أكون؟؟ أم لأنني دخلت السجن بضع سنين تظنين أنني خرجت منه
فاسقا قذرا لا يعرف حدوده ويتجرأ على حرمات الغير..؟؟ إنها ابنة عمي.. دمي
وحرمتي أنا.. والأمانة العظمى التي في عنقي.. كيف تجرئين على الظن بي هكذا؟؟
لن أغفر لك هذه الإهانة.. أبدا".
وسرت مبتعدا عنها متجها إلى الباب.. وفي طريقي اصطدمت بطارلة فما كان مني
إلا أن رفعتها وقلبتها رأسا على عقب ورميت بها بقوة بعيدا..
فتحت الباب بقوة وصفعته بالجدار حتى كدت أكسرهما سوية.. ثم خرجت بسرعة مغادر
المنزل.. صادفت حسام عند البوابة.. فدفعته بعيدا عن طريقي.. ثم ركبت سيارتي
وانطلقت بأقصى سرعة.. نحو المطار..

************************

ونحن نسير نحو غرفة المجلس سمعنا صوت انغلاق باب قوي.. اقشعرت له الجدران
والثريات!
ابنتا عمي كانتا تتعاونان في حمل حقيبة سفري وأنا أسير بعكازي حاملة حقيبة
يدي على كتفي إلى أن وصلنا إلى الباب.. الاثنتان عانقتاني وودعتاني
وابتعدتا..
طرقت الباب الداخلي لغرفة المجلس بهدوء ثم فتحته وأطللت بعيني في شوق لرؤية
وليد قلبي..
مسحت الغرفة بعيني وطولا وعرضا وارتفاعا.. ولم أعثر على وليد!
لكني رأيت إحدى الطاولات مقلوبة والتحف الزجاجية مكسورة على الأرض!
ورأيت خالتي تقف عند الباب الخارجي للمجلس, ثم رأيت حسام يدخل وهو يسأل:
"ماذا حدث؟؟"
وسمعت خالتي تسأله:
"هل خرج؟"
قال حسام:
"ضربني بيده وخرج! ماذا حل بهذا الرجل بحق السماء؟"
قالت خالتي وهي تغلق الباب وتقفله بعد دخول حسام:
"لا أعرف ممن ورث هذا المتعجرف غلظته! لا ياسر ولا شاكر رحمهما الله ولا سامر
يحفظه الله فيهم شيء من الفظاظة.. بل هم في منتهى التهذيب واللطف والهدوء..
أما هذا.. أعوذ بالله! متوحش وأخرق.. انظر ماذا فعل؟"
وهي تشير إلى الأرض..
فتحت أنا الباب وتقدمت إلى الداخل في قلق وتساؤل.. وأخذت أحدق في خالتي
وأسأل:
"ماذا حدث؟"
وكان وجه خالتي يتقد احمرارا فرمقتني بنظرة صامتة ثم انحنت إلى الأرض ترفع
قطع الزهرية المكسورة.
عدت وسألت:
"أين وليد؟"
أجابت وهي لا تنظر إلي:
"غادر".
ماذا؟؟ غادر؟؟ ماذا تعنين بغادر؟؟
سألتها:
"غادر؟؟"
قالت بغضب:
"نعم غادر.. عسى ألا يعود".
هتفت بقوة:
"أعوذ بالله.. لماذا ياخالتي؟؟.. ماذا حصل؟؟"
قالت وهي ترفع نظرها إلي وتتكلم بعصبية:
"إنه مجنون.. لا يعرف حدود نفسه.. يظننا سنتركه يتصرف كيفما يريد.. متسلط فظ
وعنيف.. من أين أتى بكل هذه العجرفة والوحشية؟"
حسام عقب مباشرة:
"من السجن قطعا".
اشتططت غضبا وانفجرت بشدة:
"لا تتحدثا عن وليد هكذا.. لا أسمح لكما.."
ثم تقدمت نحوهما وقلت:
"أخبراني ماذا حصل؟؟"
قال حسام:
"ألا ترين؟"
مشيرا للطاولة المقلوبة على الأرض.. والزجاج المتناثر حولها..
قلت:
"وليد فعل هذا؟"
ووجهت خطابي لخالتي التي لا تزال جاثية على الأرض تلملم ما تبعثر..
"لكن لماذا؟؟ ماذا حدث؟؟ هل تشاجرت معه؟"
خالتي وضعت ما بيدها جانبا ووقفت وقالت:
"نعم تشاجرت معه.. وغضب وصرخ في وجهي وقلب الدنيا رأسا على عقب وخرج ثائرا
كالبركان".
قلت بسرعة:
"ماذا قلت له؟ هل أهنته ثانية؟؟ خالتي..!! إلى أين ذهب الآن؟"
ردت بحدة:
"إلى حيثما ذهب.. بلا رجعة".
هتفت منفعلة:
"بعد ألف شر.. خالتي لا تقولي هذا ثانية يكفي أرجوك".
وعمدت إلى حقيبة يدي واستخرجت هاتفي واتصلت بهاتف وليد..
كان الهلع ينخر رأسي بشراسة وما إن رن الهاتف حتى كان قد أتى على قواي
الذهنية كاملة..
الهاتف رن مرة ثم مرة أخرى ثم انقطع الاتصال.. عاودت الاتصال فوجدت الهاتف
مغلقا.. كررت الاتصال عدة مرات.. الهاتف ظل مغلقا..
قلت أخاطب خالتي:
"أغلق هاتفه".
ثم سرت نحو هاتف المنزل الموضوع على منضدة في الجوار واتصلت برقم وليد مرات
أخرى.. دون جدوى..
قلت بعصبية:
"الهاتف مغلق يا خالتي ماذا قلت له؟"
خالتي تنهدت ثم قالت:
"اعترضت على سفرك معه".
صدمت.. حملقت فيها مندهشة وسألت:
"ماذا؟؟ لكن لماذا؟؟ تعرفين أنه آتٍ لأخذي فماذا تغير؟"
قالت خالتي وقد عاد الانفعال على وجهها:
"لن أسمح له بأخذك معه يا رغد.. ستبقين معي وتحت عيني.. سأضع حدا لجنون هذا
المتسلط".
تركتني خالتي في إعصار الحيرة والهلع واشتغلت بتنظيف وترتيب الطاولة وما
حولها متجاهلة تساؤلاتي.. مما زادني يقينا فوق يقين بأن ما حصل كان أمرا
خطيرا..
"خالتي أرجوك أفهميني ماحدث؟؟ ماذا فعل؟ ماذا قلت له؟؟ بالله عليك أخبريني".
وهذه المرة حسام ساندني وقال:
"أخبرينا بما حدث يا أمي؟"
خالتي قالت أخيرا:
"تصورا.. كان يريد أخذ رغد بمفردها إلى بيته! دون خطيبته ولا والدتها..! يظن
أن الوصاية كافية لتجعله مثل أبيها.. يقيم معها بمفرده أينما يريد".
هتف حسام مستنكرا:
"ماذا ماذا؟؟ يقيم معها بمفرده هكذا بكل بساطة؟؟ يا سلام! من يظن ذلك المعتوه
نفسه ؟؟"
خالتي قالت:
"وبكل جرأة يخبرني بأن خطيبته لن تسافر معه.. بلا حياء ولا لياقة.. ولما
اعترضت ثارت ثائرته وزلزل المنزل.. وقلب الطاولة بالتحف.. المجنون!"
تسمرت في مكاني مصعوقة بما أسمع.. ثم قلت:
"لكن.. لكن.. إنه.. إنه الوصي علي".
قالت خالتي بغضب:
"الوصي عليك شيء وأن يقيم معك بمفردكما في بيته شيء آخر.."
قلت مذهولة:
"خالتي!! إنه ابن عمي".
ردت مقاطعة:
"وحتى لو كان ابني.. مجنونة أنا كي أدعك تقيمين بمفردك مع رجل غريب؟ حتى لو
كان حسام أو أبا حسام.. هذا ما كان ينقصنا.
قلت وأنا في ذهولي:
"ألا.. تثقين به؟"
ردت:
"أثق بمن؟؟ بهذا؟؟"
وهي تشير إلى موضع الطاولة.. ثم أضافت:
"المتوحش المتعجرف خريج السجون؟؟"
عندها صرخت من أعماق قلبي:
"يكفي.. يكفي.. لا تتحدثي عنه هكذا.. لا أسمح لكم بإهانته.. لا أقبل أن
تصفوه بهذا.. أنتم لا تعرفون شيئا.."
والتقطت السماعة واتصلت من حديد وللأسف كان هاتف وليد مغلقا.. أعدت الاتصال
مرة ومرتين ومئة.. والهاتف لا يزال مغلقا..
ياإلهي.. وليد قلبي غاضب ولا يريد التحدث معي؟؟
نظرت إلى الساعة.. الوقت يمر ومن المفترض أن نكون في الطريق إلى المطار..
اتصلت بهاتف سامر ولما رد علي قلت باضطراب:
"هل وليد معك أو اتصل بك؟؟"
استغرب سامر السؤال فسألني:
"لا! غادر منذ الظهيرة.. أليس في المزرعة؟؟"
قلت بتوتر:
"كان هنا في بيت خالتي ليصطحبني إلى المطار, لكنه غادر من دوني.. أتصل به
ولكنه مغلق هاتفه.. أرجوك حاول التصال به وبالمزرعة واطلب منه مهاتفتي
فورا.."
سألني وقد تجلى القلق في نبرته:
"هل حدث شيء يا رغد؟؟"
نظرت نحو خالتي وأجبت:
"تشاجر مع خالتي.. لكن أرجوك قل له أن يتصل للضرورة".
صمت سامر لحظة ثم قال:
"حسنا".
وأنهيت المكالمة وبقيت جالسة على الجمر المتقد أنتظر اتصال سامر, وهاتف
المنزل وهاتفي المحمول كلاهما في حظني.. فيما عيناي محملقتان في ساعة يدي..
مرت الدقائق تلحق بعضها بعضا.. والهاتفان لا يرنان..
لم أطق صبرا حاولت الاتصال بوليد دون جدوى واتصلت بسامر فقال إنه لم يجده في
المزرعة وأن هاتفه المحمول مغلق طوال الوقت..
في هذه اللحظة حضر زوج خالتي وعلم بما حصل وبدوره صار يحاول الاتصال بوليد
عبر هاتفه بلا فائدة..
مضى الوقت.. ولا من خبر من أو عن وليد..
نبضات قلبي آخذة في التباطؤ.. أطرافي ترتجف خوفا وقلقا..
أنظاري متمركزة على الهاتفين وعلى الساعة.. والآن لم تعدعيناي بقادرتين على
الرؤية.. الضباب كثيف.. لا بل هي قطرات الندى.. لا بل الدموع.. تريد
الانطلاق من محجري..
وبعد ما يفوق الساعة.. رن هاتفي المحمول.. نظرت إلى الشاشة فرأيت اسم
سامر..
أجبت بسرعة:
"نعم سامر هل كلمته؟؟"
قال:
"كلا.. إنني الآن عند باب المنزل".
"المنزل؟"
"أعني منزل خالتك.. هل حسام هناك؟"
وطلبت من حسام الذهاب لاستقبال سامر.. غادرت خالتي المجلس وعاد حسام مع
سامر.. والأخير بدأ التحية والسؤال عن الأحوال ثم سألني مباشرة:
"ماذا حدث؟؟"
قلت بشكل غير مرتب:
"خرج غاضبا.. إنها خالتي.. إنه موعد إقلاع الطائرة.. هل سافر بدوني؟؟"
رآى سامر اضطرابي فحاول تهدئتي ثم قال:
"لن يفعل ذلك.. لكن أخبريني ما الذي حدث بالضبط؟"
قلت منفعلة:
"خالتي تشاجرت معه.. إنها يقسون عليه ولا يحترمونه ولا يثقون به".
أبو حسام قال مدافعا:
"ليس الأمر كذلك لا سمح الله.. أنه ابننا مثل حسام ومثلك يا سامر ولكن أم
حسام جن جنونها مذ رأت الفتاة بالعكاز والجبيرة.. تعرف كم تحب ابنة أختها
وتقلق عليها ولا تريدها أن تبتعد عنها".
قلت بغضب:
"لكن لا ذنب لوليد فيما حصل لي.. لماذا تنظرون إليه هكذا؟؟ إنه يعتني بي
جيدا ويعاملني بكل احترام وحنان وأدب.. وأنا لا أسمح..لا أسمح.."
وأخذت شهيقا باكيا ثم زفرت نفسي مع دموعي:
"لا أسمح لأحد بأن يهينه.. ولا أقبل بأن ينعته أحد بالمجرم.. أنتم كلكم
قساة.. كلكم بلا مشاعر.. كلكم ظالمون".
انخرطت في بكاء لم أبك مثله أمام أحد مسبقا.. غير نهلة..
الثلاثة.. سامر وحسام وأبوه التزموا الصمت للدقائق الأولى.. ثم تحدث سامر
مخاطبا الآخرين:
"بعد إذنكما.. هل لي بحديث خاص مع ابنة عمي؟"
وشعرت بهما يغادران.. ثم شعرت بسامر يقترب مني وسمعته يناديني..
مسحت دموعي ونظرت إيه فقال:
"أفهميني يا رغد.. ما الذي يدور ها هنا؟؟"
قلت مقاطعة:
هل تعتقد أنه سافر؟"
سامر قال:
"لا. كيف سيسافر ويتركك؟"
قلت:
"إذن لماذا أقفل هاتفه؟؟ انظر إلى الساعة.. لا شك أن الطائرة قد أقلعت منذ
فترة.."
ولمعت في رأسي فكرة فقلت:
"اتصل بالمطار وأسأل عنه".
وأنا أراقب سامر وهو مشغول بطلب الرقم تلو الآخر.. سمعته أخيرا يتحدث إلى
الطرف الآخر باهتمام, ثم شكره وأغلق الهاتف..
نظر إلي وعيناي متعلقتان به بلهفة.. ثم قال:
"يبدو.. أنه سافر بالفعل يا رغد".
"سافر؟!"
قال سامر:
"الموظف أكد لي أن اسم وليد شاكر جليل.. أدرج مع قائمة أسماء المسافرين
الذين ركبوا الطائرة المتجهة إلى الجنوب".
نظرت إليه بتشتت.. بضياع بعدم تركيز.. بعدم تصديق.. بانهيار..
"لا!"
سامر كان ينظر إلي بقلق وخوف..
قلت:
"وأنا؟؟"
لا زال سامر ينظر إلي.. والتعاطف ينبثق من نظراته..
كررت:
"وأنا؟؟ ماذا عني أنا؟"
سامر قال:
"وليد لن يفعل شيئا كهذا لسبب تافه.. أخبريني ماذا حصل بالتفصيل يا رغد".
قلت وأنا أنهار:
"لا أعرف.. أخبروني بأنه وصل.. فأتيت إلى هنا ولم أجده.. رحل فجأة.. تشاجر مع
خالتي في دقائق معدودة.. وغادر غاضبا.. خالتي أهانته.. لا أعرف ما قالت
بالضبط لكنها عارضت سفري معه بدون الشقراء.. لا بد أنها رمته بألفظ قاسية..
إنها تكرهه ولا تثق به.. تعيّره بالمجرم.. وتنعته بالمتوحش وخريج سجون..
وكلمات جارحة ومهينة.. آه يا إلهي.. وليد لا يستحق هذا.."
وأخفيت وجهي خلف يدي اليسرى من مرارة الموقف.. وعصرت عيني دموعا شجية..
أحسست بشيء يلامس يدي ففتحت عيني ورأيت منديلا تمده يد سامر نحوي..
"هوني عليك يا رغد".
قال سامر مواسيا..
أخذت المنديل ومسحت دموعي ثم قلت:
"ماذا أفعل الآن؟"
قال سامر مطمئنا:
"عندما يصل إلى المنزل سنهاتفه.. لا بد أنه كان غاضبا.. لكنه سيهدأ".
قلت بلهفة:
"هل تظن أنه سيعود؟"
قال:
"بل أنا على يقين من ذلك.. اطمئني.."
ثم أطرق برأسه إلى الأرض وشرد قليلا.. ثم قال:
"لم أكن أعلم بأنهم يسيئون إلى أخي.."
نظرت إليه فإذا بالاستياء البالغ يعشش على قسمات وجهه وإذا بكفيه ينقبضان
بشدة غضبا..
نظر إلي وألقى علي سؤالا:
"أأنت من أخبرهم عن سجنه؟؟"
أطرقت برأسي.. وأومأت نفيا.. وكانت نظرات الاتهام تشع في عينيه.. وقبل أن
أتكلم سمعنا صوت خالتي تلقي بالتحية وهي تطل علينا عند الباب.. التفتنا
إليها فإذا بها تقبل يتبعها حسام يحمل صينية أكواب الشاي..
وبعد حوار سريع وسطحي سألت:
"هل رد عليكم؟"
قال سامر:
"ليس بعد فهو في الطائرة الآن".
قالت:
"إذن فقد سافر".
ثم أضافت:
"رافقته السلامة".
لم أحتمل ذلك.. هببت واقفة هامة بالانصراف.. فإذا بسامر يهب واقفا هو الآخر
ويستأذن للمغادرة..
ناداه حسام:
"والشاي؟؟"
فرد مقتضبا:
"في مناسبة أفضل".
وغادر المكان..
في الردهة.. رأيت حقيبة سفري لا تزال واقفة قرب الباب.. تنتظرني.. أشحت
بوجهي بعيدا عنها فاستقبلتني أعين ابنتي خالتي اللتين تقفان على بعد
تراقبانني..
وبعد عناق الأعين جاء دور عناق الأذرع والأحضان..
وليد قلبي.. سافر ليس فقط من دوني.. بل ودون وداعي.. ودون أن يكلمني.. ودون
أن تقع عيناي عليه ولو لنظرة أخيرة..

***************************

تسع ساعات وأنا أحاول الاتصال بشقيقي من حين لحين وبجميع الأرقام التي لدي
دون نتيجة..أخذ القلق يتفاقم في صدري, خصوصا وأن رغد تتصل بي مرارا وتهول
الأمر.. حتى أنها أقترحت علي مهاتفة صديقه سيف غير أنني عارضت الفكرة وطلبت
منها الانتظار حتى صباح اليوم التالي.
وفي الصباح اتصلت بهاتفه فوجدته لا يزال مغلقا, وبالمنزل فلم يجبني أحد, ثم
بهواتفه المباشرة في مكتبه في مقر عمله, فأخبرت وبأنه قد اتصل بهم قبل فترة
وأبلغهم عن عودته من السفر..
على الأقل أعرف الآن أنه وصل إلى المدينة الساحلية بسلام..
اتصلت برغد وأخبرتها بالجديد وكنت أظن أنها سترتاح للخبر غير أنها انزعجت
وحزنت كثيرا..
كان أخي قد قضى في شقتي عدة أيام وقد كانت أياما جميلة أنعشت في صدري
الذكريات الماضية التي لن تعود.. الجميلة والمؤلمة معا.. وكان أشدها إيلاما
هي ذكريات والدينا رحمهما الله..
لم تمض سنة بعد على مصرعهما.. والنار لا تزال تتأجج في صدري.. ولن تخمد
أبدا..
وهو السبب الأول الذي كان يمنعني من العودة إلى المدينة الساحلية والعيش في
بيتنا القديم المليء بالذكريات.. مع شقيقي الذي ما فتىء يطلب مني هذا..
أما الثاني فهو بلا شك رغد..
وفي هذه المرة ألح علي شقيقي للسفر معه وأبلغني بأن خطيبته لن ترافقه وبأنه
لا يستطيع ترك رغد في بيت خالتها فهي بحاجة لمتابعة العلاج وكذلك الدراسة..
وقد خططت جديا للحاق به عما قريب.. خصوصا وأنا أرى أنه من الأفضل لي الابتعاد
عن هذه المدينة لبعض الوقت..
أثناء وجودي في مقر عملي في المدينة التجارية عاودت الاتصال بهاتف شقيقي
وللمفاجأة كان مفتوحا.
رن عدة مرات قبل أن يجيب وليد أخيرا:
"السلام عليكم".
"مرحبا سامر.. وعليكم السلام ورحمة الله".
وكان صوته منهكا:
"كيف حالك؟ وحمدا لله على سلامة الوصول".
"سلمك الله".
يرد بجمل قصيرة وعلى عجل.
سألته:
"ما هذا يا وليد! ألف مرة أتصل بك وهاتفك مغلق؟"
"نعم. لقد تركته مغلقا منذ الأمس".
سألت:
"أقلقتنا.. ماذا حصل؟ هل أنت بخير؟"
"نعم.. نعم".
قلت:
"تبدو مشغولا".
أجاب:
"أجل.."
قلت:
"حسنا.. سأتصل لاحقا.. أرجوك لا تغلق الهاتف.."
"حسنا".
وانهينا المكالمة ومباشرة هاتفت رغد وأخبرتها فأبلغتني بأنها ستتصل فورا.
بعد قليل اتصلت بي وأخبرتني بأن وليد لا يجيب. أبلغتها بأنه مشغول واقترحت
عليها الاتصال بعد ساعة أة أكثر.. واتصلت بي بعد ساعة ثم بعد ساعة أخرى
تخبرني بأنها كلما اتصلت بهاتف وليد وجدته مفتوحا ولكنه لا يجيب.
على هذا النحو مر ذلك النهار وفي الليل اتصلت به ودار بيننا حديث قصير امتنع
فيه وليد عن ذكر ما حصل يوم أمس. أظهر لامبالاة غريبة عندما حدثته عن رغد.
باختصار.. شقيقي كان غاضبا جدا من عائلة الخالة أم حسام بما فيهم رغد ولا
يرغب في الإتيان بذكر أي منهم.. على الاطلاق..
كان هذا غريبا لكن الأغرب.. أنه وبعد يومين بعث إلي بظرف عبر البريد الجوي
الموثق.. يحوي وثائق هامة.. طلب مني الاحتفاظ بها.. وأخبرني بأنه مسافر
إلى خارج البلاد للاستجمام.
الظرف كان يحوي تقريرا طبيا مفصلا عن إصابة رغد.. وصورا لبطاقته العائلية
الشاملة لاسم رغد.. وشيكا مصرفيا بمبلغ كبير.. وتوكيلا مؤقتا باسمي لأتولى
الوصاية على رغد..خلال الفترة التي سيقضيها في الخارج..
هكذا سافر وليد قبل أن يترك لنا المجال للاستيعاب..
ويمكنكم تصور وقع نبأ كهذا على الفتاة التي كانت تحترق رمادا من أجل
مهاتفته.. والتي تتلوى شوقا لعودته.. وتتصل بي عشرات المرات من السؤال عنه..
عندما رأيت ما حل بها.. تقلبت في مخيلتي ذكريات قديمة أخرى.. كانت مركونة
بإهمال في إحدى نتوءات دماغي.
حدث ذلك قبل تسع سنين عندما كنا في المدينة الساحلة في بيتنا القديم.
بعد أن غادر وليد المنزل, أصيبت رغد بحالة افتقاد مرضية إله.. في تلك الفترة
رفضت الذهاب إلى المدرسة وصارت تلازم والدتي كالظل حتى في النوم وتراودها
الكوابيس المفزعة وتصحو من النوم مفزوعة وتصرخ (أريد وليد.. أريد وليد)
كانت أشبه بالمذعورة وقد أدخلناها للمستشفى بسبب رفضها للطعام وزاد الأمر
سوءا الحرب والتدمير الذي تعرضت له مدينتنا وجعل الناس جميعا يعيشون حالة ذعر
هستيري.
ومن سيء إلى أسوأ تدهورت حالتها حتى قرر والدي رحمه الله الهجرة إلى الشمال
الذي كان ينعم بأمان حتى العام الماضي..
ومن سيء إلى أسوأ تدهورت نفسية رغد بعد سفر وليد المفاجىء هذا ووجدت نفسي
أعاصر إحدى أسوأ الفترات العصبية التي عاشتها من جديد..







قديم 01-02-2009, 04:44 AM   رقم المشاركة : 193
!!! الرومـ ^_* ـانسي !!!
Band
 
الصورة الرمزية !!! الرومـ ^_* ـانسي !!!
 






!!! الرومـ ^_* ـانسي !!! غير متصل


منذ ذلك اليوم المشؤوم.. الذي رحل فيه وليد بعد شجاره معي.. ووالدتي طريحة
الفراش في المستشفى والأطباء قرروا إجراء عملية جراحية لقلبها المريض..
أخيرا..
كان خالي يواضب على الاتصال بوليد الذي لم يكن يجيب.. حتى رد اليوم وأبلغ
خالي بأنه مسافر إلى خارج البلدة لبضعة أسابيع.
تدهورت صحة والدتي لما علمت بالخبر من خالي.. وها نحن نجلس إلى جانبيها في
غرفة العناية القلبية المركزة.. والطبيب يبقي كمامة الأوكسجين على وجهها
ويمنعها عن بذل أي مجهود يتعب قلبها.
أنا أمسكبيدها أضمها إلى صدري وأقبلها وأدعو الله أن يشفيها عاجلا..
التفت والدتي إلي وسألتني:
"ألم تتصلي بزوجك؟"
فأجبتها:
"كلا".
فقالت:
"هل يعلم بأنني في المستشفى؟"
فقلت:
"نعم. فقد أخبره خالي بذلك".
ونظرت إلى خالي الذي حرك رأسه مؤيدا. فقالت أمي:
"إذن لماذا لا يحضر لزيارتي؟ ليس من عادته التخلف في موقف كهذا".
أجاب خالي:
"لأنه مسافر حاليا".
فنظرت إلي وشدت على يدي وقالت:
"يا ابنتي.. هل تخفين عني شيئا؟"
فقلت:
"كلا".
ولكنها بدت متشككة واستدرت إلى خالي وسألت:
"هل تخفون عني شيئا يا أخي؟"
فقال أخي:
"ربما حصل شيء.. بعد ذلك الشجار.. ربما وليد نفذ ما طلبته أروى.. لا أريد
أن أرحل وأنا غير مطمئنة على ابنتي".
قربت رأسي من رأس أمي وأخذت أحضنها وأقبلها وأقول:
"لا تقولي هذا يا أمي أرجوك".
وهي تتابع:
"الأعمار بيد الله.. نسأله حسن الخاتمة".
فلم أتمالك نفسي وفاضت الدموع في عيني.. وقلت:
"أرجوك يا أمي لا تتحدثي هكذا.. شفاك الله ومد في عمرك.. أنا من لي غيرك في
هذه الدنيا؟"
وأحسست بيدها تمتد وتلامس يدي ثم سمعتها تقول:
"لا زوجك.. وخالك.. يرعاكم الله".
ثم التفتت إلى خالي وقالت:
"أخي يا قرة عيني.. أحضر وليد وصالحهما أصلح الله لك آخرتك.. الشاب جيد ومن
خيرة الرجال وأنا ما كدت أصدق أنني وجدت من أستأمنه على ابنتي مهجة قلبي".
خالي مسح على رأس أمي وقال:
"لا تشغلي بالك بهذه الأمور يا أم أروى هداك الله.. إنه شجار عابر يحصل بين
أي زوجين وينتهي".
لكن أمي أبدت عدم التصديق مخاطبة خالي:
"لا تدعه يذهب يا إلياس.. ما كان نديم ليطلب من شخص عادي أن يهتم بعائلته".
ثم التفتت إلي وقالت:
"لو لم يكن رجلا بمعنى الكلمة.. لما تمسك بالمسؤولية عن ابنة عمه اليتيمة
بهذا القدر".
وشددت على يدي وقالت:
"تمسكي به يا أروى.. لا تفرطي به.. يهديك الله".

******************************



حصلت على أقرب موعد ممكن مع أحد أطباء العظام في إحدى المستشفيات الكبيرة في
المدينة الصناعية واليوم سآخذ رغد من أجل المعاينة ومتابعة العلاج.
استخرجت الظرف الذي أرسله لي شقيقي قبل سفره وقلبت الأوراق لاستخراج التقرير
الطبي.
وأثناء ذلك اطلعت على مجمل الأوراق وبشكل أخص على ورقة التوكيل.
كانت ورقة رسمية وموثقة من قبل مكتب المحامي يونس المنذر وهو شخص سبق لوليد
وأن أخبرني بأنه يعمل معه في المصنع.
ذكر في هذا التوكيل أمورا كثيرة يفوضني لتوليها وفي الأسفل ذكرت جملة
الاستثناءات.. وفي الواقع لم يكن هناك غير استثناءين اثنين..
الزواج والسفر!
ويحك يا وليد!
وهل تظن مثلا بأنني سأستخدم هذا التوكيل وأعيد رغد إلى ذمتي وأهرب بها
بعيدا؟؟
ليتني أستطيع ذلك..
أخذت أوراق التقرير الطبي وذهبت إلى بيت أبي حسام.
تمنيت أن أقابل رغد بحالة أفضل ولكنها كانت بحالة يرثى لها..
"لا أريد أن أذهب إلى أي مكان.. ومن فضلك يا سامر لا تضغط علي.."
هذا ما استقبلتني به فقلت:
"بربك رغد! لا بد من معاينة إصابتك ومتابعة علاجك. بل إنني أخشى أن نكون قد
تأخرنا ويصيب قدمك أو يدك شيء لا قدر الله".
قالت بلا مبالاة:
"لا فرق عندي".
لن أبذل الجهد في محاولة تشجيعها فنبرتها أشد كآبة من أن تتغلب كلماتي
عليها..
لكنني قلت برجاء:
"يا رغد.. يجب أن نزور الطبيب حتى تتخلصي من هذا العكاز وهذه الجبيرة.. هل
يعجبك أن تظلي معاقة عن الحركة الطبيعية وحتاجة لمساعدة الآخرين في أبسط
الأشياء؟"
وكانت الآنسة نهلة تجلس معنا وسترافقنا إلى المستشفى, فقالت مشجعة رغد:
"على العكس. أنها تريد التخلص من هذين بسرعة. أليس كذلك؟ اشتاقت إلى الرسم
ونتوق لفنها الرائع! هيا بنا عزيزتي".
لكن ردة فعل رغد جاءت عنيفة!
انفجرت صارخة:
"قلت لكما اتركاني وشأني.. لا أريد الذهاب إلى أي مكان.. إلا إذا شئتما
حملي إلى المقبرة ودفني تحت الأرض.. لأرتاح وأريحكم جميعا.."
قالت الآنسة نهلة بعد الدهشة:
"بعد ألف شر! لا تتكلمي هكذا يا رغد".
فردت رغد بانفعال:
"ما لم يعجبكم كلامي فحلوا عني.. لماذا تضغطون علي؟؟ أتركوني وشأني..
أتركوني وشأني.."
وهمت بمغادرة المجلس حيث كنا هي وأنا والآنسة نهلة جالسين.. في ذات الوقت
دخلت الخالة أم حسام الغرفة وهي تنظر نحو رغد ويظهر أنها سمعت صوتها الصارخ
وكلامها الزاجر..
لما رأت رغد خالتها تصرفت بعصبية أكبر وغيرت اتجاه سيرها واستدارت نحو الباب
الخارجي للمجلس وخرجت إلى الفناء..
أم حسام لحقتها بسؤال:
"إلى أين يا رغد؟"
والأخيرة ردت بحدة:
"إلى حيث ألقت".
وهذه إجابة وبأسلوب لم أعهده على رغد. فهي لطالما كانت تحب خالتها وتعاملها
بكل احترام ومودة كما وأن رغد فتاة مهذبة وهادئة الطباع وراقية الأسلوب.
هذا تحول غريب في شخصيتها صبغها به حزنها وغضبها بسبب سفر وليد.
وبعد أن انصرفت رغد خاطبتني الخالة متسائلة:
"هل وافقت؟"
فأجبت إجابة مخيبة:
أبدا. لم تعرني أذنا صاغية. جل ما أخشاه هو أن تتطور إصابتها للأسوأ لا قدر
الله".
فقالت الخالة آسفة:
"إنها لا تستمع إلي وترمقني بنظرات الاتهام وتشعرني بأنني ارتكبت جريمة عظمى
في حقها. أيرضيك أن ندعها تسافر مع وليد بمفردهما؟؟ هل هذا يليق؟؟"
ولم أشأ فتح المجال لها لإدارة موضوع هكذا الآن, وفي خاطري نقمة على المعاملة
السيئة التي عومل بها شقيقي من قبلها وآثرت أن أصرف الاهتمام إلى إصابة رغد
فقلت:
"سألحق بها وأحاول إقناعها.. على الأقل ولو بزيارة واحدة للطبيب الآن".
ونهضت واستأذنت وخرجت إلى الفناء أتعقب رغد.
فوجدتها تسير ببطء بعكازها متغلغلة في الحديقة حتى وقفت عند إحدى الأشجار
الباسقة فاستندت إليها وأطلقت بصرها نحو الأعلى.
توقفت على بعد مترين أو أكثر منها ثم سألتها:
"أيمكننا التحدث؟"
ردت بضيق:
"أرجوك لا تتعب نفسك وتتعبني.. لن أذهب إلى المستشفى ولا يهمني ما يحل برجلي
ولا بيدي.. لن أخسر شيئا إن فقدتهما أيضا إزاء كل ما فقدت".
الحزن بلغ بها لهذا الحد.. وحزنها يعصرني.. قلت بلطف مشجعا:
"أنت لم تخسري شيئا يا رغد.."
فرمتني بنظرة قوية وقالت:
"ما حجم الخسارة التي تريدون مني فقدها حتى يمكنكم رؤيتها؟؟"
رددت:
"لا أحد يريد لك خسارة شيء.. رغد لا تنظري للأمر هكذا".
وضغطت على أعصابي وأضفت:
"إنه سافر مؤقتا ولم يرحل عن الدنيا لا سمح الله".
وأخذت تعبيرات وجهها تنهار شيئا فشيئا.. وتابعت:
"وسيعود حتما بإذن الله."
أطرقت برأسها وقالت نافية:
"لن يعود.. لقد تخلى عني.. أخلف بوعده.. إنه دائما يخلف بوعوده... لطالما
كان يتركني ويسافر بعيدا.. يظن أنني سأبقى حية لحين عودته ذات يوم.. لا
يعرف أنني سأموت عاجلا بسببه".
عضضت على أسناني بمرارة وتحملت الألم وقلت:
"بعد ألف شر وشر.. لا تكوني متشائمة هكذا.. لقد أخبرني بأنه سيقضي بضعة
أسابيع للاستجمام هناك ثم سيعود".
قالت مصرة:
"لن يعود إلي.. ألم ينقل كفالتي إليك؟ تبرأ من مسؤوليتي.. انتهينا".
وكم ألمت لألمها وتجرعت مرارتها. عقبت:
"الوصاية التي أسندها إلي جزئية ومؤقتة. لا تخشي.. ستعودين إلى كنفه ورعايته
فور مجيئه".
ولكن رغد أومأت برأسها عدم التصديق وبأسى قفلت:
"بلى.. ولكن.. هل أنا سيء لهذا الحد؟؟"
هنا حملقت بي وكأنها للتو تدرك أنني سامر خطيبها السابق والذي يحبها كثيرا..
تبدلت سحنة وجهها وقالت بصوت كئيب:
"أنت.. أعز إنسان على قلبي.. سامحني.."
وكانت تقول بمرارة وندم.. وقد تكون اللحظة الأولى التي تكتشف فيها رغد كم
قست علي وجرحتني وإلى أي عمق طعنت قلبي..
تابعت رغد:
"ليته لم يظهر في حياتي من جديد.. ليتني لم أقترب منه.. كم أنا حمقاء..
حمقاء وغبية وواهمة.. أتعلق بالأوهام.. والخيالات المستحيلة.. وواقعي..
فتاة يتيمة وحيدة بائسة معدمة.."
وضربت بعكازها جذع الشجرة وتابعت:
"ومعاقة وعاجزة وعالة على الآخرين".
قلت معترضا:
كفى يا رغد.. لا تصفي نفسك بهذا وأنت العزيزة الغالية وكلنا رهن إشارتك".
لكنها واصلت بكآبة:
"ما الذي كنت أتوقعه لنفسي؟؟ البلهاء.. ما الذي كان سيجعله يختارني؟؟ ما
الذي لدي ويستحق العودة من أجله؟؟ ماذا أملك أنا ليعجبه؟؟ أنا لم أثر لديه
إلا الإزعاج والقلق والمشاكل.."
وأضافت:
"وبعد كل هذا.. تأتي خالتي وعائلتها ويهينونه في بيتهم وعلى مرأى ومسمع
مني.. كيف أنتظر منه أن يعود من أجلي؟؟ يا لي من حمقاء.. غبية".
قلت:
"هوني عليك أرجوك.. لم كل هذا؟؟ بالله عليك.. إن هي إلا فترة مؤقتة ويعود
ونصلح الشروخ الحاصلة بين الجميع.. ليس شقيقي من النوع الذي يهرب من
المسؤوليات والشدائد بل هو أهل لها".
فقالت منفعلة:
"إذن لماذا لا يرد على اتصالاتي؟؟ لماذا قاطعني؟؟"
أجبت محاولا تحسين الموقف وتبريره:
"تعرفين.. إنه غاضب ولا يحسن المرء التصرف في ثورة الغضب. عندما يهدأ سيتصل
بك".
فقالت:
"ما ذنبي أنا؟؟.. لماذا يشملني في غضبه ومقاطعته؟"
قلت:
"أعذريه يا رغد.. ربما كانت خالتك بالغة القسوة عليه".
قالت:
"كلهم قساة.. وليد أشرف وأرقى منهم جميعا.. سوف لن أغفر لهم إهانتهم له..
وإذا لم يعد ويأخذني معه فسوف لن أبقى في هذا المنزل.. وسأعود إلى بيتي
المحروق وأدفن نفسي تحت أنقابه".
يتضح لكم مدى الاكتئاب الذي ألم برغد جراء سفر وليد.. لم أفلح يومها في
إقناعها بالذهاب إلى المستشفى وحالما عدت إلى شقتي هاتفت شقيقي وأبلغته عن
هذا فوبخني وألقى بالمسؤولية علي وقال لي بالحرف الواحد:
"أنت المسؤول عنها الآن ويجب أن تتصرف ولا تدع عنادها يتغلب عليك. أرحني من
همها بضعة أسابيع لا أكثر فأنا قرحتي تكاد تمزق أحشائي".
وفهمت من كلامه بأن وضعه الصحي متدهو وقلقت كثيرا.. وربما يكون الطبيب هو من
نصحه بالسفر والاستجمام بعيدا عن المشاكل والمسؤوليات من أجل صحته..
خصوصا وأنني لاحظت إكثاره من تناول الأدوية خلال فترة مكوثه في شقتي..
واهذا تحاشيت في المكالمات التالية وقدر الإمكان إبلاغه بالتفاصيل المزعجة عن
وضع رغد وادعيت بأنها في تحسن بينما هي عكس ذلك..
إلى أن حل يوم احتد الجدال فيه بين رغد وخالتها واتصلت بي هي بنفسها وطلبت
مني أخذها إلى المستشفى.
لم يكن هدفها هو المستشفى بل الابتعاد عن خالتها..
زرنا الطبيب وعاينها واطلع على تقاريرها وأجرى لها بعض الفحوصات ثم أخبرنا
بأنه لا يزال أمامها أسابيع أخرى قبل أن يمكنها الاستغناء عن الجبيرة
والعكاز..
وهذا خبر لم يزد رغد إلا كآبة ما كان أغناها عنها.. فانزوت على نفسها في
غرفتها بقية اليوم.
اتصلت بشقيقي مساءً وأعلمته بأننا زرنا الطبيب أخيرا وأخبرته بما قال, كما
أوصاني مني مسبقا.. ولكنني أخفيت عنه مسألة الإحباط الشديد الذي ألم برغد
وطمأنته على صحتها.. وأذكر أنه يومها سألني بتشكك:
"لأا تخفي عني شيئا؟؟ هل حقا تقبلت النبأ؟"
فقلت له:
"أسألها بنفسك لتتأكد!"
قال:
"سأفعل, في الوقت المناسب".
والله الأعلم متى يحين الوقت المناسب حسب معادلة وليد..!
ومرت أيام أخرى.. والحال كما هي.
وليد غائب ويتابع أخبار رغد عن بعد ويرفض التحدث معها أو أقاربها أو عن شجاره
معهم.. وهي في كآبة مستمرة لا تعرف حتى البسمة السطحية إلى وجهها طريقا..
إلى أن طلبت مني الخالة أن أزورهم ذات مرة..
"لا أفعل هذا إلا من أجل رغد.. الفتاة تذبل يوما بعد يوم وأخشى أن تموت بين
يدي.. معاملتها ونظراتها لي كلها اتهام ونفور شديدين.. وأنا لا أقوى على
مواجهتها خشية أن يزداد الموقف حدة ولا أستطيع تحمل وضعها هذا.. قلبي منفطر
عليها ويكاد الشعور بالذنب يمزقني.. أريد أن نتصالح مع وليد لأجلها وأن
أفهمه أنني لم أقصد إهانته شخصيا بل توضيح حدود علاقته برغد.. قل له أن يعود
وإلا أنها ستموت أن بقيت على هذه الحال.."
قلت وأنا أعلم كم يرفض وبشدة الحديث عن أو مع عائلة الخالة:
"سأخبره عن رغبتك في محادثته حينما أتصل به".
فقالت:
"اتصل به الآن يا سامر رجاء ودعني أكلمه".
أحرجني الطلب فأذعنت له كارها واتصلت بشقيقي وبعد تبادل التحيات أخبرته بأنني
في منزل أبي حسام وأن الخالة أم حسام ترغب وبشدة في التحدث معه, وبدوره أيضا
وليد أحرجني جدا حيث قال:
"لا أرغب في التحدث مع أحد يا سامر.. البتة.. أرجوك أنهِ المكالمة".
قلت ووجهي يحمر حرجا:
"ولكن.."
فقال:
"آسف يا سامر سأغلق الهاتف رجاء لا تكرر هذا ثانية. اعذرني ومع السلامة".
وقطع الاتصال.
أبعدت الهاتف عن أذني وعيناي تطئان الأرض خجلا وأم حسام تراقبني ثم قالت:
"لم يشأ التحدث معي أليس كذلك؟"
قلت محرجا:
"إنه.. أعني.."
وطبعا أم حسام فهمت الأمر. قالت مستنكرة:
"ولكن ما هذا الطبع في أخيك؟ يجب أن يكون أرحب صدرا وأوسع بالا وأرقى ذوقا من
هذا".
في ذات اللحظة أقبلت رغد تدخل الغرفة سائرة بعكازها وعلى وجهها أمارات القلق
والفضول..
لا بد أنها كانت تنتظر المكالمة بصبر نافذ.. وبعد تحيتي سألت عما إذا كنا قد
أفلحنا في الاتصال بوليد.. فأطرقنا برأسينا.. وفهمت رغد ما جرى.. فطأطأت
رأسها حزنا.. وتراجعت للوراء..
أم حسام حاولت أن تطيب خاطر رغد فقالت:
"ربما لا يزال ناقما علي.. سيبلغه سامر اعتذاري ويطلب الصفح بالنيابة عني..
لا أظنه سيرفض اعتذاري هذه المرة".
ولم تعر رغد الكلام أهمية واستدارت لتغادر يائسة.. فقالت أم حسام مخاطبة
إياي:
"أعد الاتصال به وأخبره بأن رغد هي من يرغب بالحديث معه".
والتفت إلى رغد.. موقفي صار غاية في الحرج.. واتصلت فلم يرد.
وبقيت أنظار رغد وأم حسام تراقبان وتترقبان بأمل يائس.. وضعت الهاتف أخيرا
في جيبي وقلت:
"ربما انشغل".
وهو مبرر ندرك زيفه ثلاثتنا.. أم حسام قالت:
"بل ربما ينوي قطع الصلة بيننا نهائيا".
فالتفتت رغد إليها وتكلمت منزعجة:
"يقطع صلته بنا؟ ماذا تعنين؟؟ كيف يقطع صلته بي أنا؟؟ إنني ابنة عمه..
ومكفولته.. لا يجوز له.."
قالت أم حسام:
"كما ترين, لا يريد أن يعطينا فرصة للتصالح معه بتاتا.. فبماذا تفسرين هذا؟"
قالت رغد وقد علا صوتها واشتد احمرار وجهها واشتعل الغضب في عينيها:
"أنت السبب ياخالتي.. أنت السبب".
ولم تعقب الخالة فاستمرت رغد في الاتهام:
"دفعته لأان يتركني ويرحل.. ماذا سيحل بي الآن؟"
قالت أم حسام بلطف محاولة تهدئة رغد:
"ستسير حياتك طبيعية بيننا والله يغنينا عنه وعن وصايته.. سريع الغضب عنيف
الرد.."
وفي الواقع لم يكن يجدر بها قول هذا على مسامعنا وفيما رغد على أهبة
الانفجار..
اشتطت رغد غضبا وانتفخ وريد جبينها وهتفت بعنف:
"قلت لك لا تتحدثي عن وليد هكذا.. إذا لم يكن يعني لكم أنتم شيئا فأنا لا
أستغني عنه.. ولا أريد وصيا غيره.. وسألحق به أينما ذهب.. ولا أحد له الحق في
توجيه حياتي غيره هو.. وليس لأنني يتيمة الأبوين ستعبثون بي كما تريدون..
وإذا تخلى عني كليا فسوف لن أبقى معكم.. سوف لن أسامحكم أبدا لأنكم أنتم
السبب.. وما لم تعيدوه إلي فسأخرج بنفسي للبحث عنه.. عسى ألا أعود حية بعد
خروجي".
وسارت نحو الباب وغادرت ثائرة..
خين الصمت بيننا أنا والخالة لبعض الوقت ثم إذا بها تقول:
"جن جنونها!!"
وبقيت صامتا.. فواصلت:
"لم أكن أتوقع أنها.. لا تزال مولعة به لهذا الحد.. حتى بعد كل تلك السنين"ز
أثارت الجملة جل اهتمامي وركزت النظر إلى عيني الخالة يعلوني التساؤل..
فقالت هي:
"عندما كانت صغيرة كانت مهوسة به للغاية, حسبناه تعلق طفولي لطفلة يتيمة تبحث
عن الحنان.. وكان شقيقك يدللها كثيرا معه أينما ذهب.. والتك رحمها الله كانت
قلقة بهذا الشأن.. وكانت تعتقد أنهما حين يكبران قد تتطور علاقتهما..
مع فلرق السن.. لكن عندما غاب تلك السنين توقعنا أن تكون قد نسيته وانتهى كل
شيء".
ثم أضافت:
"لكن يبدو أن الحنين إلى الماضي قد اجتاح كل عواطفها ولا أعرف.. إن كان الآن
يعني لها وليد السابق أم أن الأمر قد تخطى ذلك بكثير.."
هنا وقفت شاعرا بالحرج والجرح معا.. لم يكن ليخطر ببالي أن لهذا علاقة
بالماضي البعيد.. وقد أذهلني كلام الخالة وأرسلني إلى غياهب الأفكار..
لكن.. ماذا عني أنا؟؟ لا يبدو أن أحدا يكترث لمشاعري أو يقيم لها اعتبارا..
يتحدثون معي عن رغد وكأنها لم تكن خطيبتي لسنين ولم أكن على وشك الزواج منها
حين فقدتها فجأة..
"أستأذنك للانصراف الآن".
ذهبت إلى شقتي كئيبا مكسور الخاطر.. مشوش الأفكار..
لم يكن كلام خالتي يفارقني.. ولم أستطع لا تصديقه ولا تكذيبه.. كانت رغد
طفلة صغيرة فكيف يمكن أن تكون قد أحبت وليد هذا النوع من الحب في ذلك
الزمان؟؟
و.. ماذا عن وليد؟؟ هل يعقل أن شيئا ما.. كان بينهما حقا؟؟ هل يمكن أن يكون
وليد.. هل يمكن أن يكون هو أيضا..؟؟؟
يا للسخف..
تحاشيت التفكير قدر الإمكان إلى أن اتصلت بأخي لا حقا.. في البداية عاتبته
على إحراجي مع أم حسام فلم يكترث..
ثم نقلت إليه تحيات رغد وأشواقها الشديدة إليه وأنا أدوس على قلبي وأتصرف
كالرجل الآلي تماما.. ودققت في كلامه وردوده جيدا باحثا عن أي دليل يؤدي إلى
تأكيد أفكاري أو نفيها.. غير أن أخي كان يتحدث ببلادة شديدة.. لم تكشف لي أي
شيء..
وأخيرا.. داهمتني رغبة ملحة في توجيه سؤال مباشر إليه.. غير أنه قال فجأة
إنه يتلقى اتصالا آخر وأنهى المكالمة عاجلا..
قررت بعد ذلك مواجهته في الاتصال التالي لتتضح حقائق الأمور..
ولكن.. وفي اليوم التالي مباشرة وفيما كنت أجلس في شقتي بكسل في عطلتي
الأسبوعية رن جرس الباب وإذا بي أفاجأ بأخي يقف خلفه!!!
اهتز قلبي واصفر لوني وسألت وأنا بالكاد أخرج الحروف صحيحة من فمي:
:وليد!!!.. مــــ.. ماذا حصل؟؟"
فمد وليد يده وربت على كتفي وقال والخشوع والحزن يكسوان وجهه العريض:
"البقاء لله.. توفيت خالتي أم أروى بالأمس.. إنا لله وأنا إليه راجعون".







قديم 01-02-2009, 04:45 AM   رقم المشاركة : 194
!!! الرومـ ^_* ـانسي !!!
Band
 
الصورة الرمزية !!! الرومـ ^_* ـانسي !!!
 






!!! الرومـ ^_* ـانسي !!! غير متصل


الحلقة السادسة والأربعون

عد إلـــــيّ

انقضت فترة العزاء وقد شاركت في التعزية مع بقية أفراد عائلة خالتي, وعندما
جاء دوري ووقفت أمام الشقراء لأواسيها لم أستطع مصافحتها بسبب يدي المصابة
واكتفيت بعبارة مخنوقة خرجت من فمي ببطء.
والشقراء بدورها ردت بشكل عابر دون أن ترفع نظرها إلي.. لكن الحزن جليا على
وجهها.
السيدة ليندا كانت طيبة وقد أحسنت معاملتي وسهرت إلى جانبي في المستشفى
ورعتني بكل مودة ولطف... رحمها الله... وغفر خطاياها...
متى سيحين أجلي أنا أيضا؟؟...
أنتظر الموت.. ليأخذني كما أخذ أحبابي... ويخرجني من شقايا الدنايا وما
فيها...
كنت أعرف أن وليد موجود في القسم الآخر من قاعة التعازي.. وكنت أعرف أنه أبعد
ما يكون عن التفكير بي في هذه الفترة.. لكنني كنت في شوق منجرف لرؤيته ولو
لدقيقة واحدة... ولو لنظرة بعيدة عاجلة... أعانق فيها عينيه ولو لآخر مرة في
حياتي...
ولخيبة الأمل وتحالف الأقدار ضدي, عدنا إلى المنزل دون أن ألتقي به ولا حتى
صدفة..
ومرت الأيام... ونخر الشوق عظامي.. وأتلف الحنين ذهني...
ولم أعد بقادرة على الانتظار يوما آخر.. كيف... وأنا أعرف أن ما يفصلني عنه
هي أميال قليلة لا أكثر...؟؟ وأن هو لم يأت إلي... فسأذهب أنا إليه... فقط
لألقي نظرة...
"هل أنت مجنونة!؟"
قالت نهلة معترضة على فكرتي وليدة اللحظة.. فقلت:
"نعم مجنونة.. لكني أريد أن أراه بأي شكل يا نهلة..أكاد أختنق.. لا أحد يحس
بي هنا".
قالت:
"تخيلي كم سيكون وضعك حرجا ومدعاة للسخرية عندما تذهبين فجأة إلى المزرعة
الآن... هيا رغد.. تخلي عن هذه الفكرة السخيفة... توفيت أم زوجته قبل أيام
وأنت تفكرين في هذا؟؟"
قلت:
"سألقي عليه التحية وأعتذر منه وأعود... حتى لو لم يرد علي... المهم أن تكتحل
عيناي برؤيته... ويبرد صدري بتقديم الاعتذار..."
فقالت:
"ماذا سيقول عنك يا رغد؟؟ هو في محنة عظيمة وأنت تذهبين لتقديم الاعتذار!
سيستحقر موقفك... ليس هذه وقته.. انتظري أسبوعين على الأقل".
هتفت:
"لا أقوى على الانتظار... ألا تفهمين؟؟ أنتِ لا تشعرين بالنار المضرمة في
صدري..."
أشاحت نهلة بوجهها عني وقالت:
"لقد حذرتك... افعلي ما تشائين".
وغادرت المكان...
خرجت بعد ذلك إلى الحديقة...طلبا لبعض الهواء النقي... والتقيت بحسام صدفة
وهو مقبل نحو المنزل... فلمعت الفكرة في بالي كمصباح قوي أعشى عيني عن رؤية
ما هو أعمق من ذلك...
"مرحبا حسام".
حييته فرد مبتسما:
"مرحبا رغد.. ماذا تفعلين هنا؟؟ تدربين رجلك على المشي؟؟"
قلت وآمالي تتعلق به:
"حسام.. هلا أسديت إلي معروفا؟"
قال وعلى وجهه الاستغراب:
"بكل سرور!"
فقلت بلهفة:
"أريدك أن.. أن تصطحبني في مشوار.."
فسأل:
"إلى أين؟"
ازدردت ريقي وقلت:
"إلى... مزرعة أروى".
سأل متعجبا:
"مزرعة أروى؟؟"
"نعم.. أرجوك".
ففكر قليلا ثم سأل:
"لماذا؟؟"
ترددت في الإجابة.. عرفت أنني لو قلت من أجل مقابلة وليد فإنه لن يوافق..
فقلت:
"سأتفقد أحوالهم.. وألقي التحية".
وبدا مبررا معقولا بعد عدة أيام على وفاة السيدة ليندا.. وسألني إن كنت قد
أعلمت خالتي بهذا فأقنعته بأن الأمر لا يستدعي... وبعد تردد قصير وافق على
اصطحابي, وخرجنا مباشرة...
حين بلغنا المزرعة لم يكن وليد موجودا وأخبرنا العجوز والذي كان يجلس كعادته
قرب باب المنزل بأن وليد قد ذهب في مشوار وسيعود قريبا.. ودعانا للدخول لكننا
آثرنا البقاء في الخارج وانتظاره.. وذهب العجوز لاستدعاء الشقراء فعلاني
التوتر.. أنا لم آت من أجلها كما أنها لا تنتظر مني زيارتها.. لكني وضعت نفسي
في هذا الموقف وعلي التصرف الآن..
أبدى حسام إعجابه بالمزرعة وراح يتحدث عن انبهاره بما يرى غير أنني لم أكن
مركزة السمع معه.. بل في انتظار لحظة ظهور الشقراء..
وأخيرا ظهرت...
ملفوفة في السواد الحزين, كما هي حالي.. وكأن عدوى اليُتم والبؤس قد انتقلت
مني إليها...
وقد اعتدت في الماضي رؤيتها ملونة بشتى ألوان قوس قزح.. مثل سرب من الفراشات
أو إكليل من الزهور...
عندما اقتربت زممت شفتي ترددا ثم ألقيت عليها التحية وسألتها عن أحوالها..
وأنا متأكدة من أنها تدرك أنني لم أكن لأقلق على أحوالها أو أترث لها.. ولا
بد أنها تدرك أن سبب حضوري هو... وليد...
ساعد وجود حسام في تلطيف الجو.. وتشتيت الكآبة وصرف أذهاننا إلى الحديث عن
المزرعة وشؤونها..
ذهبت الشقراء لإعداد القهوة فوجدتها فرصة للاسترخاء من عناء الموقف المصطنع..
وبقي حسام والعجوز يتحدثان أحاديث عادية... أما أنا فعيناي ظلتا ترقبان
البوابة إلى أن رأيت أخيرا سيارة تقف عندها ومنها يخرج مجموعة من الرجال...
يقودهم الرجل الطويل العريض.. بهي الطلعة قوي القسمات ثاقب النظرات.. مضرم
ناري وحارق جفوني وسالب عقلي وشاغل تفكيري.. حبيبي الجافي.. وليد قلبي..
الأرض لم تكن أرضا والسماء لم تكن سماء... حين عانقت عيناي عينيه.. والتحمت
نظراتي بنظراته..
آه.. كيف لي أن أصف لكم؟؟
لحظتها خلا الكون من كل الخلائق... سوانا... لا وجود للأرض ولا السماء... ولا
النور ولا الهواء... ولا الجماد ولا الأحياء... فقط... أنا وهو... وعيون
أربعة متشابكة متلاحمة... ذائبة في بحور بعضها البعض... أيما ذوبان...

وليد قلبي... آه... كم اشتقت إليك... لو لا إعاقتي... لربما... ركضت إليه
بجنون وغطست في حضنه الواسع...
اقترب وليد يتقدم بقية الرجال فوقفنا جميعا... ورأيت الدهشة تنبثق في وجهه
وهو يحط ببصره الهابط من العلا علي وعلى حسام..
بادر حسام بإلقاء التحية فرد وليد دون أن يحاول إخفاء عجبه.. ودوى صوته في
كهف أذني فتطايرت خفافيش حسي تلتقط وتحتضن ذبذبات صوته وتخبئها في أعماق
الكهف... ككنز من الذهب...
بعد التحيات السريعة استأذن وليد وسار مع الرجال إلى قلب المزرعة ولحق العجوز
بهم... ولحقت بهم عيناي ركضا... وهوَتا متعثرتين لهفة عند مفترق الطرق...
وبعد قليل عاد وليد فتسابقتا لاحتضانه بسرعة... تكاد الواحدة تفقأ الآخرى...
لتنفرد بالحبيب الغائب... وتذوب في أعماق صدره...
وليد كان وجهه محمرا ويعلوه الاستياء فوق التعجب.. انغمست في ترجمة تعبيرات
وجهه وطلاسم عينيه... فتهت... وظللت طريقي... وفقدت أي قدرة لي على النطق
والتعبير.. وقفت أشبه بشجيرة ظئيلة لا جذع لها تمد أغصانها محاولة تسلق
الشجرة الضخمة الواقفة أمامها.. بكل شموخ...
لاحظ حسام صمتي وتوتري فتولى الكلام:
"جئنا نلقي التحية نسأل عن الأخبار".
ولم يتحدث وليد.. فقال حسام متظاهرا بالمرح:
"ألن تدعونا للجلوس؟"
فتكلم وليد أخيرا قائلا:
"أنتما بمفردكما؟"
فأجاب حسام بعفوية:
"نعم".
وازداد الاستياء على وجه وليد... ثم قال:
"منذ متى وأنتم هنا؟"
فرد حسام مستغربا:
"منذ دقائق.. ولكن.. هل يزعجكم حضورنا؟"
قال وليد:
"أنا آسف ولكن لدي ما أقوم به الآن.. إنهم في انتظاري".
مشيرا إلى قلب المزرعة..
كل هذا وعيناي ملتحمتين بوجهه منذ أن وقعتا عليه أول وصوله... لكن..
ماذا يا وليد؟ ألن تتحدث معي.. وتسأل عن أحوالي..؟؟ إنك حتى لا تنظر إلي..
أنا هنا وليد هل تراني؟؟ هل تميزني؟؟ لماذا كل هذا الجفاء؟؟ أرجوك.. التفت
إلي لحظة.. دع عيني تخبرانك كم اشتقت إليك.. دعهما تعاتبانك على جفاك.. أو
تعتذران لأرضائك.. وليد..إنك حتى.. لم تتحسن الترحيب بنا كأي ضيوف..
انتبهت على صوت حسام يقول:
"لا بأس.. نعتذر على الزيارة المفاجئة.. كانت فكرة رغد"
ولذكر اسمي.. اخيرا تكرم على وليد بنظرة.. لكنها لم تكن أي نظره.. كانت حادة
وساخنة جدا لسعتني وكادت تفقدني البصر..
حاولت التحدث فلم تسعفني شجاعتي المنهارة بمرآى الحبيب.. تأتأت ببعض الحروف
التي لم أسمعها أنا..
التفت إلى حسام وقال:
"هل نذهب؟"
نذهب..؟؟ وهل أتينا؟؟ هكذا بهذه السرعة؟؟أنا لم أكد أراه.. انتظر.. أنا لدي
عشرات بل الآلاف المشاعر لأعبر عنها.. دعني استرد أنفاسي.. دع لساني يسترجع
قدرته على النطق.. دعني واقفة قرب وليد أستمد دعمه وأستشعر حنلنه!
قال وليد وهو يشيح بوجهه حنانه!
قال وليد وهو يشيح بوجهه عني:
"سأرافقكما"
فقال حسام معتقدا وليد يقصد مرافقتنا إلى السيارة المركونة في الخارج:
"لا تكلف نفسك.. نعرف الطرق.. شكرا"
فازداد احمرار وجه وليد وقال:
"أعني إلى المنزل"
فضربنا الاستغراب.. ونظرنا أنا وحسام إلى بعضنا البعض!! لماذا يريد وليد
مرافقتنا إلى المنزل؟؟ هل هذا يعني.. سيأتي معنا؟؟ هل حقا سيأتي معنا؟؟
"هيا فأنا لا أريد التأخر على ضيوفي"
قال هذا وسار يسبقنا نحو سيارة حسام.. وسرنا خلفه كتلميذين مطيعين.. أبلهين..
حتى ركبنا السيارة والتي بالكاد حشر وليد جسده فيها.. وانطلقنا عائدين إلى
منزل خالتي..
كنت أجلس خلف حسام,إذ إن وليد كان قد دفع بمقعده إلى الوراء لأقصى حد ليمد
رجليه.. فسيارة حسام صغيرة جدا..
الصمت خيم علينا طوال الطريق.. الذي انقضى وأنا أحاول تهدئة نبضات قلبي
وإعادتها إلى معدل سرعتها الطبيعي... ولم يقطع الصمت غير جمل قصيرة عابرة من
طرف حسام.. وجملة(خفف السرعة) من لسان وليد.. فقاد حسام السيارة بسرعة عادية
على عكس عادته...وطال المشوار.. خصزصا وأننا اضطررنا للتوقف مرتين عند مركزي
تفتيش بوليسي...
وفي كلا المرتين يطلب رجال الشرطة رخصة القيادة والبطاقات الشخصية.. ولحسن
الحظ أو ربما لحسن العادة كان وليد يحمل صورة بطاقته العائلية والتي تشمل
هويتي...
لذلك قال وليد بعدما قادرنا نقطة التفتيش الثانية مخاطبا حسام:
"ماذا لو لم أرافقكما؟"
فقال حسام:
"لم نواجه أي نقاط في طريق الحضور".
عندما وصلنا إلى المنزل هبط وليد من السيارة أولا وتبعناه...
قال حسام:
"تفضل".
داعيا إياه للدخول إلى المنزل من باب اللياقة... غير أن وليد قال:
"شكرا, لدي ضيوف كما تعلم سأعود إليهم".
فقال حسام:
"هل.. أوصلك؟"
فأجاب وليد:
"سأتدبر أمري".
ثم فجأة أدار وجهه نحوي وقال:
"في المرة القادمة إذا أردت الذهاب إلى أي مكان فاطلبي ذلك من سامر فقط..
مفهوم؟"
هل هو يخاطبيني؟؟
هل يعنيني أنا؟؟
هل ينظر إلي أنا؟؟
كان حسام يوشك على فتح بوابة المنزل ولما سمع هذا استدار ونظر إلى وليد وقال
مستاء:
"وهل ستظن أنني سأختطفها مثلا؟ إنها ابنة خالتي كما هي ابنة عمك".
وبدا أن الجملة قد استفزت وليد فقال غاضبا:
"أنا لم أتحدث معك.. هذا أولا.., أما ثانيا فلا تقارن نفسك بي.. إنني الوصي
هنا ومن يقرر مع من أسمح أو لا أسمح لابنة عمي بركوب السيارة".
شعر حسام بالإهانة فقال حانقا:
"هكذا..؟؟.. من تظن نفسك؟"
فرد وليد:
"لا أظن نفسي بل أنا على يقين ممن أكون... وإذا سمحت.. افتح الباب ودع الفتاة
تدخل عوضا عن الوقوف في الشارع هكذا".
هنا... اجتاحتني شجاعة مفاجئة فتدخلت ناطقة أخيرا:
"وليد أنا..."
وقاطعني وليد فجأة قائلا بفظاظة:
"ادخلي".
نظرت إليه شاعرة بالانكسار... وليد... كيف تخاطبني هكذا؟؟ وليد هل نسيت من
أكون؟؟ لماذا تغيرت إلى هذه الدرجة؟؟ دعني أتحدث..
وأصررت على النطق... أريد أن أفهم وليد لماذا ذهبنا إلى المزرعة وما مقدار
لهفتي إليه... وحاجتي للتحدث معه...
"وليد..."
نطقت باسمه فإذا به يقاطعني مكررا بفظاظة أشد وهو يعض على أسنانه ويبث الشرر
من عينيه:
"قلت إلى الداخل... هيا".
انكمشت على نفسي... تقلصت حتى أوشكت على الاختفاء... من رد وليد...
حسام فتح الباب وقال بصوت خافت:
"ادخلي يا رغد".
فدخلت خطوة, وتوقفت عند فتحة الباب وانقلبت على عقبي ورأيت وليد يولي ظهره
إلينا ويسير مبتعدا...
اقترب حسام ووقف أمامي مباشرة حائلا دون رؤية وليد... فتراجعت للوراء ودخلنا
إلى الداخل... وأغلق هو البوابة وسار مبتعدا وبقيت عيناي معلقتين على بوابة
السور أحملق فيها... نظرت إليه فرأى تعبيرات الأسى المريرة على وجهي.. فأقبل
نحوي وأظهر التعاطف قال:
"إنه... لا يكترث بك يا رغد".
نظرت إليه والعبرة تكاد تختفي... فقال:
"لا أعرف ما الذي يعجبك في رجل كهذا؟ إنك تضيعين مشاعرك هباء".
صعقت.. وأخذتني الدهشة من كلام حسام.. الذي واصل وهو يرى سحنتي تتغير:
"أتظنين أنني لا أعرف أنك تحبينه؟ أنا أعرف يا رغد".
وتضاعف ذهولي وحملقت به غير مصدقة لما أسمع...
قال حسام:
"سارة لفتت انتباهي لهذا ذات مرة.. والآن تصرفاتك كلها فاضحة.."
مازلت أحملق فيه بذهول... عاجزة عن التعليق...
تابع هو:
"لكنني لن أقف مكتوف اليدين يا رغد.. سبق وأن وافقت على الزواج مني.. وهي
الآن مسألة وقت.. إياك والتلاعب معي... إياك..."
وأشار إلي بسبابته مهددا... ثم استدار وواصل طريقه داخلا إلى المنزل...

*************************
أما وليد فعندما جاء لزيارتي في شقتي... أخبرني عما حصل ووبخني بشدة وأثار
معي شجارا حاميا..
"لقد كلفتك أنت وأعني أنت... بأن تهتم بشؤونها في غيابي.. فلماذا تدعها تخرج
مع حسام في سيارته مهما كان المشوار؟؟"
قلت مستنكرا:
"يا وليد! أنت تتكلم عن حسام وكأنه شخص غريب... إنه ابن خالتها وثل أخيها
ومثلي ومثلك تماما ولطالما كان يصطحبها سابقا في المشاوير إذا اقتضى الأمر..
ليس لها ملجأ غيره وغيرنا ولذلك هي تعتمد عليه..."
غضب أخي كثيرا وقال صارخا:
"كان ذلك في السابق.. في عهد أبي رحمه الله.. لكن أنا لا أسمح لها بالخروج
معه.. وفي عهدي أنا يجب عليها أن تلتزم بما أقوله أنا".
قلت مستاء وساخرا:
"لكنك لم توصيني بألا أسمح لها بالخروج معه.. ولم تذكر أسماء المسموح لهم في
توكيلك السامي ذاك".
فاشتط أخي غضبا وضرب الجدار بيده فجاءت ضربته على لوحة معلقة وأوشك أن
يكسرها... وللعلم فإن لشقيقي هذا قبضة فتاكة جربتها أكثر من مرة..
ولا تزال أمامي تجارب أخرى... كما سترون....
أثار غضبه شيئا من الروع في نفسي وإذا به يزمجر:
"أنا لا أمزح هنا يا سامر... أحدثك بمنتهى الجدية والمسؤولية... فلا
تستفزني..."
فقلت مدافعا:
"وما أداني أنا أن هذا سيغضبك وإلى هذه الحد؟ لماذا لم تنبهني مسبقا؟"
فقال:
"هي تعرف هذا جيدا وسبق وأن حذرتها.. مرارا وتكرارا... لكنها تضرب بكلامي عرض
الحائط.. قل لها... أن تتوقف عن عنادها هذا وإلا..."
وهو يشير بسبابته نحوي مهددا... فهتفت معترضا:
"وإلا ماذا يا وليد؟؟"
ولم يرد وكأنه لا يجرؤ على النطق بما يدور بخلده من شدة فظاظته... فأعدت
السؤال:
"وإلا ماذا بعد؟ لماذا كل هذه القسوة والصرامة في معاملتها؟"
رد أخي بحدة:
"أعاملها كيفما يحلو لي".
فاعترضت مستنكرا:
"كلا... كلا يا أخي ليس كما يحلو لك... أنت قاس وفظ للغاية... وتصب جام غضبك
على من لا ذنب لهم في الإساءة إليك... رغد كانت مستميتة لأجل لقائك أو التحدث
معك والاعتذار لك على خطأ لم تقترفه هي من أجل تطييب خاطرك, وأنت عاملتها
بمنتهى الغلظة والرعونة... معاملة لا يحتملها رجل شديد فكيف بفتاة رقيقة؟؟"
هتف وليد بغضب:
"سامر!"
فقلت مسترسلا:
"نعم يا وليد.. أزل الغشاوة عن عينيك... وميز مع من تتعامل... إنها فتاة
حساسة ولا يليق بك أن تعاملها كهذا".
وعوضا عن أن تثير كلماتي الندم وتأنيب الضمير في نفس شقيقي, إذا بي أراه ينظر
إلي والشرر يتطاير من عينيه ويقول:
"وهل ستعلمني كيف أعامل فتاتي؟"
أذهلتني كلمة وليد هذه وحملقت به متفحصا... وقفزت كلمات خالتي أم حسام إلى
رأسي...
قلت:
"فتاتك؟؟"
ورأيت تعبيرات وجه أخي تتغير... وكأنه انتبه للتو للكلمة... فقال محاولا
تغيير أو تصحيح المعنى:
"الفتاة التي تحت وصايتي أنا".
وأضاف ليصرف الانتباه عن الكلمة:
"وما دامت تحت وصايتي أنا فأنا من يحدد ويقرر كل شيء يخصها... ولا أسمح لأحد
بالتدخل... فهل هذا واضح؟؟"
حيرني أمر أخي... ولم أعرف بم أفسر موقفه من رغد... أهو الحرص عليها أم
التسلط عليها أم شيء آخر..؟
قلت:
"حسنا... إنما أريد أن ألتفت انتباهك لما قد غضبك قد أغفلك عنه... أنت لا
تدرك حجم المعاناة التي تخلفها مواقفك القاسية في نفسيتها... إنها من البشر
وليست قطعة من الحديد... كل تلك الفترة وهي تحاول الاتصال بك لتقدم لك كلمة
اعتذار عن شيء لم تقترفه لترضيك أنت بصفتك ولي أمرها وفي مقام الأب وأكثر
لديها... وأنت لاه في الخارج لا تكترث لشيء.. وبعد هذا تلومها إن هي حضرت
بحثا عنك في المزرعة؟؟ على الأقل.. استمع لما تود قوله ثم افعل ما تشاء... أي
قلب تملك أنت؟"
فجأة أمسك وليد بقميصي وأخذ يهزني بقوة ويهتف:
"أنا لا أملك قلبا.. أنتم قتلتموه.. إنكم السبب.. كلكم السبب.."
ودفع بي إلى الجدار... ثم جعل يصرخ في مهددا:
"إياك... ثم إياك... ثم إياك يا سامر... والسماح لهذا بالتكرر... هل فهمت؟"
وأبعد يده عني ثم سار مغادرا الشقة... مخلفا بصمات جمله الأخيرة مطبوعة على
طبلتي أذني...

****************************
في اليوم التالي حضر سامر لزيارتي وأخبرني عن زيارة وليد له البارحة وعن
شجاره معه بسبب خروجي مع حسام وبين لي مدى الغضب الذي اكتسحه والتهديد الذي
رماه به, وطلب مني:
"لا تكرري ذلك ثانية.. إذ أن وليد على ما يبدو ولا يولي حسام ثقة كبيرة, أو
لنقل إنه مستاء منه بسبب الشجار العائلي..."
وأنا أعرف بحقيقة الأمر وقلت تلقائيا:
"إنه لا يطيقه منذ زمن".
فظهر التعجب على سامر وسأل:
"أحقا؟؟ لكن لماذا؟"
فانتبهت إلى أنني تسرعت في جملتي السابقة... وحاولت تدارك الأمر فقلت:
"لأنه... لأنه نعته بألفاظ سيئة... ذكرت لك ذلك.."
وطبعا لم أكن لأشير إلى موضوع عرض حسام الزواج مني ورفض وليد له والشحنات
التي نشأت بينهما منذ شهور لهذا السبب...
شي من الغموض اكتسى وجه سامر وسألني:
"أهناك ما لا أعرفه يا رغد؟؟"
فقلت متظاهرة الاستغراب:
"عن ماذا؟؟"
فقال:
"عن حسام... عن وليد... أو عنك؟؟"
فقلت مستمرة في تظاهري:
"لم أفهم قصدك!"
فقال:
"لأن وليد كان غاضبا بمقدار فوق المعقول... لسبب تافه".
فقلت مؤكدة:
"كما قلت. حسام شتم وليد زعيره بأنه خريج سجون وأهانه بقسوة ولهذا... وليد لا
يطيقه".
وأقنع كلامي هذا سامر وأثناه عن محاولة التعمق أكثر...
قال أخيرا:
"على أية حال يا رغد.. إذا أردت أي شيء فاطلبيه مني أنا فقط".
فنظرت إليه وفي عيني مزيج من الامتنان والأسى, والندم... وقلت:
"شكرا... ولا أظنني سأحتاج شيئا بعد الآن.."
وطأطأت رأسي بأسى... فبعد وليد... لا شيء يستحق الاهتمام...
لما أحس سامر المرارة في نبرة صوتي حدثني بلطف بالغ وقال:
"تشجعي يا رغد... توفيت والدة زوجته قبل أيام... هذا سبب أكبر من كاف لتبدل
أوضاعه.."
لا تحاول مواساتي يا سامر... ما بي أبلغ من حدة المواساة...
"سأفعل... ما يطلبه مني... بلغه هذا... سألتزم بكل ما يريد... فقط... ليصفح
عني..."
هل... هل تحبينه... إلى هذا الحد؟؟"
داهمني سامر بسؤاله... أومأت برأسي... نظرت إلى الفراغ... في إجابة أبلغ من
الكلام...







قديم 01-02-2009, 04:47 AM   رقم المشاركة : 195
!!! الرومـ ^_* ـانسي !!!
Band
 
الصورة الرمزية !!! الرومـ ^_* ـانسي !!!
 






!!! الرومـ ^_* ـانسي !!! غير متصل

حدثت مجموعة من أعمال الشغب في المدينة واضطرب الأمن فيها.
وهي منذ شهدت مأساة القصف في عيد الحج الماضي لم تزل عرضة لحوادث صغيرة
متفرقة تفقد أهاليها الأمان للعيش فيها.
الكثير من سكانها هجروها واتخذت جماعات من المتمردين المنازل المهجورة بؤرا
لإدارة عمليات الشغب. ومؤخرا حظر التجول في الشوارع بعد منتصف الليل وتكثف
دوريات الشرطة وتضاعف عدد نقاط التفتيش والمراقبة...
كنت قد مررت أثناء سفري بإحدى مدن المنطقة... ورأيت حالة التخريب الفظيعة
التي ألمت بها مؤخرا بعد أعمال شغب مصحوبة بهجوم عدائي تعرضت لها... وأوضاع
البلد بشكل عام آخذة في التدهور السريع...
والآن.. أنا جالس في غرفة المعيشة في المنزل الريفي في المزرعة أتابع الأخبار
على التلفاز وأشاهد مناظر بشعة لجثث قتلى من المتمردين الذين تمت مداهمتهم
وإبادتهم..
ولقطات أخرى لمجموعة من أعضاء منظمة سرية نفذت عملية اغتيال لأحد كبار
المسئولين, وتم الكشف عن بعض أعضائها وهاهم يقادون بإذلال إلى مأواهم
الأخير... السجن..
مناظر تثير الرهبة في قلبي.. خصوصا بعد تجربتي المريرة خلف القضبان.. لا زال
جسدي يقشعر منها وقلبي يضطرب... ومعدتي تشتعل نارا على ذكراها..
شربت آخر رشفة من الحليب البارد الذي أدمنت على شربه في الأونة الأخيرة كلما
اشتد ألم معدتي.. وابتلعت معها القرص المخفف للحموضة الذي صار عنصرا رئيسيا
من عناصر وجباتي اليومية.. وتنفست باسترخاء..
خضت مؤخرا لعلاج جديد لقرحة معدتي ولكنه لم ينجح... وأوجاعها تراودني من حين
لآخر وتقض مضجعي..
فيما أنا مغمض عيني باسترخاء.. سمعت صوتا يقترب من الباب... ففتحت عيني
والتفت إلى مصدره فإذا بي أرى أروى تدخل الغرفة...
أنا وهي لم نجتمع اجتماعا خاصا ولم نتحدث إلا أحاديث عادية خلال الأيام
الماضية... التي تلت رحيل الخالة ليندا رحمها الله.
وأجواء الكآبة كانت تسيطر بشكل مريع على المزرعة وعلى المنزل وقد غابت سيدته
بلا عودة ترجى...
وكان لقائي السابق معها قبل السفر هو أبشع اللقاءات وأفضعها...قالت أروى:
"ماذا تشاهد؟"
فقلت:
"نشرة الأخبار.."
واسترسلت:
"الوضع يزداد اضطرابا في المدينة الصناعية".
وجلست أروى على أحد المقاعد المجاورة تتابع الأنباء معي...

خيم السكون علينا وأصغينا إلى النشرة باهتمام.. على الأقل بالنسبة لي... وبعد
انتهائها.. تركت التلفاز مشغلا وقمت بقصد الخروج..
عندما اقتربت من الباب اختفى صوت التلفاز فألقيت نظرة للوراء ورأيت أروى وقد
أوقفته ثم سارت باتجاهي..
"وليد".
نادتني فاستدرت إليها كليا.. شعرت بأنها ترغب في التحدث معي وبدا أن قواها
تخونها..
الحديث عن أي شيء لن يكون لائقا الآن وقبر الخالة رحمها الله لم يبرد بعد.
صمِتُ منتظرا ما ستقوله.. ولما طال ترددها قلت:
"خيرا إن شاء الله؟"
وإذا بالدموع تقفز من عينيها فتنكس رأسها وتخفيه خلف يدها..
شعرت بالأسى عليها ومددت يدي وربت على كتفها بحنان.. وما كان منها إلا أن
أسندت رأسها إلى صدري وبكت بحرقة..
قلت مواسيا:
"تشجعي يا أروى.. كلنا للموت والبقاء لله الواحد الأحد".
فقالت بانهيار:
"لا أتخيل حياتي بدونها.. إنني السبب في موتها.. أنا السبب".
وكانت الخالة قد توفيت بعد عملية جراحية أجريت لها في القلب إثر تعرضها لنوبة
جديدة.
فقلت:
"كيف تقولين ذلك؟"
فقالت:
"نعم.. فهي مرضت بعد أن.. أخبرتها عن قرار انفصالنا.. لو لم أخبرها بذلك..
ماتت".
عضضت على أسناني متأثرا بهذا الكلام.. ثم قلت:
"الموت بيد الله وحده.. ولكل أجله المقدر.. لندعو لها الرحمة والمغفرة".
قالت أروى:
"رحمك الله يا أمي.. كنت نعم الأمهات وخير النساء.. عشت حياة مريرة وحيدة بعد
سجن أبي.. ورحيله.. شقيت في هذه الدنيا وعملت دون راحة أعمالا منهكة يعجز
عنها الرجال.. وحين ابتسمت لنا الدنيا.. حين تحسنت أوضاعنا.. آه يا أمي..
أبعدتك الأقدار قبل أن تهنئي.. ما كان أسرع رحيلك يا أماه.."
نحيبها الشجي هيج في ذاكرتي ذكرى والدتي رحمها الله.. إنه ما من مصاب أفجع
على قلب البشر من فقد الأحبة..
على الأقل.. أنتِ عشت مع والدتك ولازمتها منذ ولادتك وحتى آخر لحظة في
حياتها..
أما أنا.. فقد حرمت من والديّ الحبيبين ثمان سنين وأنا محبوس في أبشع مكان
رأيته على الإطلاق.. وهما حيّان يرزقان.. وما إن خرجت إليهما.. حتى داهمهما
الموت وأخذهما معا.. وبأشنع طريقة..
لا حول ولا قوة إلا بالله..
وفيما نحن هكذا أقبل العم إلياس.. ألقى علينا نظرة ثم قال مخاطبا إيّاي:
"حضر الضيوف يا بني".
فقلت:
"حسنا.. أنا قادم".
وهم مجموعة من تجار الفواكه كنت سأعقد معهم اتفاق عمل.
انصرف العم إلياس.. فالتفت إلى أروى وقلت:
"يريدون شراء محصول العنب والليمون بالكامل.. سنتخلص من عناء بيعه في الأسواق
وقد عرضوا سعرا جيدا.. ما رأيك؟"
نظرت أروى إلي نظرة لا مبالاة ثم قالت:
"افعلوا ما تشاءون".
قلت:
"سنكتب وثيقة رسمية وسنحتاج لتوقيعك بصفتك مالكة المزرعة.. سأجلب لك العقد
لمراجعته وتوقيعه".
قالت:
"أرجوك.. أعفني من هذه الأمور فأنا لست في وضع يسمح بالتفكير في أي شيء".
وأنا أعلم بهذا ولكن..
"لكن.. العمل يجب أن يستمر.. إن أهملنا المحصول فسنخسره".
قالت:
"افعلوا ما ترونه مناسبا".
وكان هناك في خاطري شيء أود ذكره وأعاق الظرف الحالي لساني.. لكنني هذه
اللحظة وجدتها فرصة ملائمة قليلا فقلت:
"و... كذلك بالنسبة للمصنع.. هناك أمور معلقة في انتظاري.."
نظرت أروى إلي نظرة جادة.. فقلت متابعا:
"علي العودة إلى العمل عاجلا.. لا يجب ترك المصنع أطول من هذه المدة".
فقالت وهي تضغط على صدغيها بيدها اليسرى:
"افعل ما تريد.. أنا باقية مع ذكرى أمي ورائحتها العابقة في جو المنزل.."
عنجما نقلت نبأ وفاة نديم رحمه الله إلى عائلته في العام الماضي.. أتذكر أن
أروى أبدت صمودا غريبا في وجه الخبر المفجع.. أما الآن.. فهي منهارة لوفاة
والدتها..
لطالما كنت أظنها أكثر صلابة في مواجهة المصائب.. وأرى فيها قوة وقدرة كبيرة
على التحمل.. ووضعها هذا جعلني أرجىء إلى أجل غير مسمى موضوعنا السابق.. بشأن
مستقبل علاقتنا معا..
فلأترك عني هم أروى... وهم رغد... وأتفرغ لهم العمل فهو أرأف بي منهما...
وبعد لقائي بتجار الفواكه وفيما كنت واقفا في المزرعة أرتب الوثائق فوجئت
بضيف غير متوقع يدخل المزرعة!
لقد كان حسام...
حياني فنظرت إلى ما حوله, لأستوثق من عدم حضور رغد برفقته... لكنه كان
منفردا... فرددت التحية وكلي حيرة من سبب حضوره... ثم قدته إلى المقاعد
المجاورة وجلسنا متواجهين... تفصلنا طاولة صغيرة... فأمكنه قراءة تساؤلاتي
مباشرة...
قال موضحا:
"أعرف أنك لم تتوقع زيارتي.. لكنني أود التحدث معك في أمر مهم وإن لم يكن
الظرف الحالي مناسبا".
أقلقني كلامه فسألت باهتمام:
"ماذا هناك؟؟"
فتأتأ قليلا... ثم أجاب:
"إنه.. ليس موضوعا جديدا.. ولكن... أود تذكيرك به وتعجيل تنفيذه".
وبسرعة تفتح في رأسي موضوع أظن أنه يقصده...
قلت:
"هات من الوسط ولا داع للمقدمات.. أي موضوع تعني".
اضطرب حسام وتغير لونه.. ثم قال:
"مو... موضوعي أنا ورغد".
تمالكت نفسي لئلا أنفجر فجأة في وجه الضيف في هذه اللحظة وهذا المكان..
ثم قلت متظاهرا عدم الفهم:
"موضوعك أنت ورغد؟؟"
نظر إلي حسام وقال وهو يزدرد ريقه:
"أعني موضوع.. زواجنا".
احتقنت الدماء في وجهي وتورمت عيناي غضبا.. وبالتأكيد لاحظ حسام ذلك لأن بعض
الخوف اعترى تقاسيم وجهه..
قلت وأنا أضغطط على نفسي كي لا أثور بركانا:
"أي زواج؟؟"
تردد ثم قال:
"هل نسيت؟؟ لقد.. سبق وأن عرضنا الأمر عليك.. أنت تعرف أنني.. أنني أرغب في
الزواج من رغد".
لم أستطع تمالك نفسي أكثر.. هببت واقفا باندفاع كان من القوة بحيث جعل الكرسي
ينقلب من خلفي ويرتطم بالأرض..
وقف حسام بدوره واجلا..
قلت:
"هل فقدت صوابك؟ ألا ترى في أي ظرف نحن؟؟"
قال حسام معتذرا ومدافعا:
"لا أقصد هذا أبدا.. لسنا نريد ارتباطا شكليا علنيا.. كل ما نريده هو عقد
قران شرعي حتى.."
صرخت غاضبا مقاطعا:
"حتى ماذا؟؟"
ألجم لسان حسام فكررت بعصبية:
"حتى ماذا... أكمل؟؟"
قال باضطراب:
"حتى نستقر.. أنا ورغد.. بما أنها تقيم عندنا وبما أنها موافقة على الزواج
مني.."
ضربت على الطاولة بعصبية وقلت:
"ومن قال أنها موافقة على هذا؟؟"
أجاب:
"هي.. أعربت عن قبولها واستعدادها منذ زمن".
نفثت ما في صدري من نيران ملتهبة... وضربت الطاولة مجددا بقوة أكبر وقلت:
"ومن قال لك... إن الأمر متوقف على قبولها هي؟؟"
قال حسام متراجعا:
"بالطبع أعني بعد موافقتك أنت...فأنت ولي أمرها".
فقلت بغضب:
"نعم.. أنا ولي أمرها.. وأنا لا أوافق على هذا".
صمت حسام برهة وسأل بعدها:
"لماذا؟؟"
فزمجرت:
"لا تسأل لماذا... أنا الوصي وأفعل ما أريد".
تغيرت سحنة حسام من الرجاء إلى النقمة وقال مهاجما:
"لكن.. هذا لا يعطيك الحق في التحكم برغد... ما دامت موافقة".
استفزتني الجملة فصرخت منذرا:
"حسام!!"
وحسام أطلق العنان لثورته وقال:
"أي نوع من الأوصياء أنت؟؟ ولماذا هذا العناد؟"
صرخت مجددا:
"حسام... يكفي.."
لكنه تابع بعصبيته:
"أخبرني ماهي حججك؟ إذا كان بشأن الدراسة فنحن لن نتزوج الآن وإنما بعد
التخرج ولكنني أريد أن أرتبط بها رسميا وأريح مشاعري وقلبي".
انفجرت... ثرت... انقضضت على كتفيه فجأة وصرخت بقسوة:
"أي مشاعر وأي قلب أيها الــــــ.."
حسام حاول إبعاد يدي عنه وهو يقول:
"إنني أحبها ولن أسمح لك بالوقوف في طريقي".
وبانفلات تام.. سددت لكمة إلى وجهه ثم دفعت به بعيدا... وأنا أصرخ:
"أرني ماذا ستفعل لإزاحتي أيها العاشق المعتوه".
كانت ضربتي موجعة جدا... أمسك حسام بفكه متألما وترنح قليلا... ثم صرخ:
"متوحش وستظل متوحش... يا خريج السجون".
وأوشكت أن أنفلت أكثر وأنقض عليه وأوسعه ضربا... غير أن العم إلياس ظهر فجأة
ورأى الاضطراب الحاصل بيننا فتساءل:
"ما الأمر؟؟"
حسام سار إلى الخلف مبتعدا وهو يقول:
"لا ترحم ولا تدع الرحمة تهبط من السماء؟؟... لكنني لن أسمح لك بالتحكم بهذا
وإن لزم الأمر سألجأ للقضاء وأخلصها من سطوتك نهائيا... أسمعت؟"
صرخت مهددا:
"أغرب عن وجهي هذه الساعة قبل أن تندم... انصرف فورا..."
قال:
"سأذهب.. لكن سترى ما سأفعل.. سنتزوج رغما عن أنفك وقبضتك وجبروتك.."
هممت بالانقضاض به فأقبل العم إلياس وحال دون إمساكي به..
واحتراما للرجل العجوز وللمكان الذي نحن فيه.. تركته يفلت من قبضتي لكنني
هددته:
"ابتعد عنها نهائيا... نهائيا... ماذا وإلا.. فأقسم برب السماء.. أنني سأمحيك
من على هذا الكوكب... وقبل أن تصل إلى ما تصبو إليه نفسك.. سيتعين عليك أن
تدوس على قبري أولا.. ما من قوة في الأرض ستجبرني على تحقيق هدفك... مطلقا...
أيها المراهق الأبله".
وبعد أن غادر حسام سأني العم عما حصل فاعتذرت عن الإجابة وخرجت من المزرعة
غاضبا أبحث عن شيء أنفث فيه غضبي بعيدا عن الأنظار...

************

"ماذا تقولين!!"
ارتسمت الدهشة على وجهي حين
أخبرتني نهلة بأن حسام ذهب شخصيا إلى وليد عصرا وفتح موضوع زواجنا أمامه..
وأن وليد رفض الموضوع ولكم حسام بعنف على وجهه..
قالت:
"هذا ما أخبرني به.. وهناك كدمة مريعة على وجهه وتورم فظيع!"
قلت:
"يا إلهي! ما الذي دفعه إلى هذا الجنون؟ يذهب إليه بنفسه وبمفرده وفي هذه
الفترة؟؟ هل فقد صوابه؟؟"
قالت نهلة:
"يحبك يا رغد ولا يطيق صبرا.. وأراد أغتنام فرصة تواجد ابن عمك في المنطقة...
ولو لم يكن سامر خطيبك السابق لكان طلب الأمر منه... والآن وصيك الرسمي يهدده
بألا يعود لطرح الأمر ثانية وإلا محاه من الوجود... تهديد صريح بالقتل وأمام
أحد الشهود".
قلت حانقة ومهاجمة:
"ماذا تعنين؟؟"
فقالت نهلة:
"أنت أدرى".
فازداد غضبي وخاطبتها بحدة:
"لا أسمح لك... ابن عمي ليس سفاحا... وإذا كان قد ارتكب جريمة في السابق
فإنه..."
وانتبهت لكلامي وأخرست فمي...
فقالت نهلة متحدية:
"فإنه ماذا؟؟"
ولم أجرؤ على الإجابة... فنظرت إلي نهلة بجدية وقالت:
"فإنه قد يفعلها ثانية".
زمجرت:
"توقفي... أنت لا تعرفين شيئا... كلكم ظالمون.... اتركوا وليد وشأنه وإياكم
وإهانته ثانية... لأنتم تهينونني أنا وتجرحونني أنا... ألا تحسون بذلك؟؟"
وتراجعت نهلة عن موقفها لما رأت عصبيتي.... وقالت:
"حسنا يا رغد... ولكن اهدئي".
فواصلت:
"كيف أهدأ وأنتم كلما جيء بذكر وليد نعتموه بألفاظ قاسية؟ رأفة به وبي... هذا
كثير... كثير..."
وفيما أنا في غمرة انفعالي طرق الباب ودخلت سارة تقول مخاطبة إياي:
"ابن عمك هنا ويريدك".
قفزت واقفة وقفز قلبي معي... ودارت بي الأفكار وأرسلتني إلى البعيد... فقلت
بهلع:
"وليد؟؟"
فردت سارة وهي تحرك رأسها حركة طفولية:
"لا! بل سامر".
وسرعان ما أصبت بخيبة أمل... إلى أين ذهبت أفكارك يا رغد؟؟ يا لك من مسكينة
واهمة! طبعا سيكون سامر... ألا زلت تعتقدين بأن وليد سيعود إليك ذات يوم...؟؟
كان الوقت ليلا... وليس من عادة سامر زيارتي في الليل ودون سابق موعد... إلا
لأمور طارئة أة ضرورية...
ارتديت حجابي وعباءتي وذهبت لملاقاته في غرفة المجلس كالعادة... وهناك من أول
نظرة ألقيتها عليه لاحظت أن هناك ما يقلقه... وعرفت أن للزيارة سبب قاهرا...
بعد التحية والسؤال عن الأحوال... سألته:
"ماذا هناك؟؟"
وفاجأني عندما قال:
"وليد يريد أن ترافقيني الآن إلى الشقة.. إنه هناك وينتظرنا.."
هل سمعتم؟؟ يقول... إن وليد يريد مقابلتي... هل هذا ما قاله؟؟ هل هذا ما يفهم
من كلامه؟؟
تسمرت في مكاني مأخوذة بالمفاجأة ونظرت من حولي أتأكد من أنني لا أتخيل!
وليد يريد مقابلتي... أخيرا؟؟
قطع علي حبل شرودي صوت سامر وهو يقول بنبرة قلقة:
"لا يبدو بمزاج جيد... لا أعرف ما الطارىء الذي يشغل باله لكنه طلب أن آخذك
إلى الشقة في هذا الوقت..."
عرفت... لقد فهمت... موضوع حسام... لا محالة...
لم أحرك ساكنا... من شدة القلق... إلى أن قال سامر يحثني على الاستعجال:
"هيا يا رغد فالوقت ليس من صالحنا..."
وصلنا إلى الشقة أخيرا... ومع وصولنا وصلت ضربات قلبي إلى أقصى سرعة...
وبدأت أحس بالنبضات في شرايين عنقي... وفيما سامر يستخرج مفتاح الشقة عند
الباب حدثني بصوت خافت قائلا:
"أنبهك يا رغد... يبدو أن شياطين رأسه تسيطر عليه.."
أرعبتني جملته فبلعت ريقي وقلت:
"هل.. هو غاضب جدا؟؟"
فأجاب وهو يخفض صوته:
"يشتعل بركانا.. حاولت أن أعرف ما القصة فلم يخبرني ورفضت إحضارك فهددني بأنه
إن ذهب بنفسه إلى منزل خالتك فسوف يحرقه بمن فيه.. لا أستبعد هذا... فوجهه
ينذر بالشر..."
وضعت يدي اليسرى على عنقي فزعا... ورددت رأسي إلى الوراء... فقال سامر محاولا
بعد كل هذا طمأنتي:
"سأكون معك.."
وفتح الباب... لملمت شظايا قوتي وذكرت اسم الله... ودخلت الشقة...
في الداخل وقعت عيناي مباشرة على العينين الملتهبتين.. القادحتين بالشرر...
اللتين لم أحظ برؤيتهما منذ أيام... ولم أحظ برعايتهما... منذ أسابيع...
كان وجهه كتلة من الحمم البركانية المتوهجة... عابس التعبيرات... قاطب
الحاجبين وأحمر العينين... تلك الحمرة التي تكسو وجه وليد وعينيه عندما يشتط
غضبا... وكان يتنفس عبر فمه... وتكاد ألهبة من النار المتأججة تخرج مع
زفيره... وكان يقف وسط الشقة وعلى أهبة الهجوم...
يا لطيف...!
أردت أن أبدأ بالتحية... غير أنه لم يكن لها مجال هنا... مع وجه مرعب يقدح
شررا... وعندما أغلق سامر الباب خلفه تكلم وليد فجأة:
"من فضلك يا سامر ابق في الخارج قليلا".
تبادلت النظر مع سامر.. الذي رأى اضطرابي وقرأ توسلاتي.. فقال:
"هل الموضوع سري لهذا الحد؟؟"
فقال وليد بصبر نافذ:
"رجاء ابق في الخارج إلى أن أستدعيك.."
فنظر إلي سامر مجددا ثم قال:
"يمكنني دخول غرفة النوم".
فزمجر وليد بحدة:
"قلت في الخارج... لو سمحت".
فلم يتحرك سامر بل أصر:
"سأدخل إلى الغرفة يا وليد".
هنا هتف وليد بغضب:
"سامر... رجاءً أخرج الآن ولا تضيع الوقت..."
قال سامر:
"يبدو عليك الغضب الشديد يا وليد.. لماذا لا تسترخي قليلا ثم تتحاوران؟؟"
صرخ وليد:
"أنا لست غاضبا..."
واضح جدا! ماذا تريد أكثر من هذا!!؟؟
قال سامر:
"لكن يا أخي..."
فقاطعه وليد بفظاظة:
"انصرف يا سامر أرجوك ولا تغضبني بالفعل.."
ولم يملك سامر من الأمر شيئا... فنظر إلي نظرة عطف وإشفاق... ثم فتح باب
الشقة... وقال محذرا:
"إياك أن تقسو عليها... أحذرك..."
وألقى علي نظرة أخيرة وخرج...
بقينا أنا والمذنب المتوهج وليد بمفردنا في الشقة...هو ينفث الأنفاس الغاضبة
الحارقة.. وأنا أرتجف هلعا...
وبعد أن التهم عدة أنفاس... قال أخيرا:
"اجلسي يا رغد".
رفعت بصري إليه ولم أتحرك... كنت مضطربة وقلبي تركض نبضاته بسرعة...
ولا أقوى على السير من فرط توتري... ولما رآني متصلبة في مكاني قال بصوت حاد:
"اجلسي يا رغد هيا".
فزعت وارتددت للوراء... وحين لاحظ ذلك قال:
"ما بك تنظرين إلي بهذا الذعر؟؟ هل أبدو كالغول المفترس؟؟ أم هل تظنين أنني
سألكمك أنت أيضا؟"
خفت.. وأومأت رأسي بـــ (لا).. فأشار إلى المقعد.. فسرت مذعنة... أعرج في
خطواتي... إلى أن جلست على طرف المقعد... ووضعت حقيبتي إلى جانبي...
وليد كان مرعبا لحد كبير.. وكنت أسمع صوت الهواء يصطدم بفمه كالإعصار.. وكلما
أطلق نفسا قويا جذب نفسا أقوى.. حتى أوشك الهواء على النفاذ من الشقة...
فجأة اقترب خطوة مني فأرجعت ظهري إلى الوراء تلقائيا.. خشية أن تحرقني أنفاسه
أو تلسعني نظراته.. توقف وليد على بعد خطوتين مني ثم قال:
"أظنك تعرفين لم أنت هنا".
رفعت رأسي وأومأت بـــ(لا).. فهتف بسرعة:
"بل تعرفين".
أفزعني صوته.. فغيرت موقفي وأومأت بــــ(نعم).. وأنا متوقعة أن يكون الموضوع
هو موضوع حسام...
قال:
"تعرفين أن ابن خالتك العزيزة... قد أتى إلي خصيصا هذا اليوم ليطلب موافقتي
على خطبتكما".
تصاعدت دفعة من الدماء إلى وجهي... وهويت بأنظاري نحو الأرض حرجا.. ولم أقل
شيئا.. فتابع هو:
"أتى بمفرده وبكل شجاعة... بل بكل وقاحة.. بعد الإهانات الفظيعة التي رموني
بها في منزلهم.. وبدون اعتبار للظروف التي نمر بها في المزرعة... بلا احترام
لي ولا لعائلتي... أتى إلي مطالبا بتحويل مشروع زواجكما المزعوم إلى واقع...
بكل بساطة".
وأيضا لم أقل شيئا... بل لم أجرؤ حتى على التنفس...
قال:
"وحجته.. أنكما متفقان.. ومستعدان للارتباط.. ومنذ زمن.. وأنه يريد أن يريح
مشاعره وقلبه!".
فطأطأت برأسي نحو الأسفل أكثر... أكاد أكسر عنقي من حدة الطأطأة... وأفجر
عروق وجهي من غزارة الدماء المتدفقة فيها...
فتابع وليد:
"وربما مشاعرك وقلبك أنت أيضا".
ذهلت, ورفعت بصري إليه بطرفة عين, ثم غضضته من جديد في حرج شديد...
ولم أرفعه ثانية إلى أن سمعت صوت اصطفاق كفي وليد ببعضهما البعض.. نظرت إليه
فشاهدت حشدا من ألسنة النار تغادر عينيه مقبلة إلي...
قال:
"ماهو رأيك؟"
ولم أتكلم فردد السؤال بغلظة:
"ما هو رأيك؟ أجيبيني؟؟"
فأطلقت لساني بتلعثم:
"في ماذا؟"
فقال بعصبية:
"في هذا الأمر قطعا".
فلم أجبه لكنني حملقت فيه... فاقترب مني أكثر وسأل بعصبية وجفاف بالغين:
"لا تحملقي بي هكذا بل أخبريني ما هو رأيك الآن يا رغد؟؟ تكلمي".
فقلت مفزوعة من صوته:
"لا أعرف".
فقال:
"لا تعرفين؟؟ كيف لا تعرفين؟؟ أخبريني ماهو رأيك الصريح؟"
أجبت في خوف:
"كما ترى أنت".
قطب حاجبيه أقصاهما وقال:
"كما أرى أنا؟؟"
فكررت:
"كما تريد أنت... أنت ولي أمري وما تطلبه سأنفذه".
وليد فجأة ضرب مسند المقعد المجاور ورأيت سحابة من الغبار تطير مفزوعة منه...
ثم قال:
"قولي يا رغد.. ما هو رأيك أنت؟؟ وهل اتفقت معه على أن يأتي لتقديم عرضه في
المزرعة؟"
فرددت نافية:
"لا.. كلا لم أتفق معه.. لقد أتاك من تلقاء نفسه.. لم أعرف إلا من نهلة قبل
حضوري إلى هنا مباشرة".
ونظر إلي بتشكك فأكدت:
"لم أتفق معه على أي شيء صدقني".
فسأل:
"ولا على الزواج؟"
فصمت.. وكرر هو سؤاله بحدة:
"ولا على الزواج يا رغد؟؟ هل سبق وأن اتفقتما على ذلك؟؟ أجيبي..؟؟"
في الواقع.. كان هذا ما حصل قبل شهور.. قبل انتقالي للعيش في المنزل الكبير..
والتحاقي بالجامعة...
قلت معترفة:
"أجل"
وما كدت أنطق بالكلمة إلا ويدا وليد تطبقان فجأة على كتفي وتهزاني.. وإذا به
يصرخ في وجهي:
"كيف تجرئين على فعل ذلك؟؟ من سمح لك باتخاذ قرار في موضوع كبير كهذا دون
إذني أنا؟؟ كيف تتفقين معه على الزواج دون علمي؟"
فقلت مدافعة ومفزوعة في آن واحد:
"أنت تعلم بذلك.. لقد عرضت عليك خالتي الموضوع من قبل.. تعرف كل شيء".
فقال وهو يهزني:
"وأنتتعرفين أنني رفضت الموضوع مسبقا.. وحذرتك من إعادة طرحه أو التفكير به
مجددا.. ألن أحذرك يا رغد؟؟ ألم أحذرك؟؟"
أجبت:
"بلى.. لكن..."
فهتف:
"لكن ماذا؟؟ أكملي".
ابتلعت ريقي وأرغمني الخوف من صوته على النطق فقلت:
"لكنك.. أنت لم ترفض الموضوع بل رفضت توقيته.. وحسام... حسام هو الذي أعاد
فتحه الآن.. هو من رغب في تعجيله".
صرخ وليد:
"وأنت متفقة معه أليس كذلك؟؟"
قلت مدافعة:
"ليس كذلك.. قلت لك إنني لم أعلم عن زيارته لك إلا من نهلة قبل حضوري".
فضغط وليد على كتفي وقال:
"لكنك موافقة ألست كذلك؟؟"
وشعرت بالألم من قوة قبضته.. والفزع من نظراته المهددة...
قلت:
"سأفعل ما تطلبه مني أنت".
فزاد ضغطه على كتفي وهتف:
"موافقة على ذلك؟ أجيبيني؟؟ أترغبين بالزواج من ابن خالتك المخبول هذا؟؟
أجيبيني؟؟"
أطلقت صيحة ألم وقلت والدموع تقفز من عيني فجأة:
"آه.. أنت تؤلمني.."







قديم 01-02-2009, 04:50 AM   رقم المشاركة : 196
!!! الرومـ ^_* ـانسي !!!
Band
 
الصورة الرمزية !!! الرومـ ^_* ـانسي !!!
 






!!! الرومـ ^_* ـانسي !!! غير متصل

وليد دفع بكتفي نحو المسند فجأة وابتعد سائرا نحو الباب..
أنا أخفيت وجهي خلف يدي المصابة وأخذت أذرف شحنة الدموع المخزنة في عيني..
وتأوهت من قسوة وليد.. قسوة لم أعهدها ولم أكن أنتظرها منه.. بعد كل ذلك
العطف والحنان اللذين غمرني بهما طوال سنين... وبعد كل الفراق والجفاء
والمقاطعة التي فرضها علي منذ أسابيع...
عندما أفرغت كل دموعي أزحت يدي عن عيني... وشاهدته يدور حول نفسه تارة ويسير
يمينا وشمالا تارة أخرى... وهالة من اللهيب الأحمر تحيط به...
وحين رآني أنظر إليه صرخ فجأة:
"ألم أحذرك من مغبة فتح هذا الموضوع يا رغد؟؟ ألم أفعل؟؟"
ولم يمنحني فرصة للرد بل تابع مزلزلا:
"لكنكم تستخفون بي.. وترونني مجرما حقيرا خريج سجون... لست أهلا لتولي
الوصاية على فتاة يتيمة.. ولا أؤتمن عليها..."
أردت أن أنطق (كلا) لكن وليد لم يعطني المجال وواصل:
"سأريكم.. ما الذي يستطيع المجرمون فعله.. سترون أن كلمتي أنا.. هي النافذة..
وأنه ما من قوة في الأرض سترغمني على الموافقة على هذا الزواج مهما كانت.."
واقترب مني مجددا... ورمقني بنظرات التهديد الشديدة.. وقال:
"ستحققين أمنيتك بالزواج منه فقط بعدما أموت يا رغد.. هل تفهمين؟؟"
وعندما لم ير مني أي ردة فعل تصور أنني لم أفهمه أو لم أعر كلامه اهتماما...
فأطبق على كتفي كالصقر المنقض على فريسته... بمنتهى الخشونة وراح يصرخ:
"أكلمك يا رغد... أصغي إلي جيدا.. واحفظي كلامي بالحرف الواحد... أنا المسئول
عنك هنا.. وأنا من يقرر كل شيء يتعلق بك... صغيرا كان أم كبيرا... شئت أم
أبيت... تركك أبي تحت عهدتي أنا.. وليس تحت عهدة خالتك وعائلتها.. وإن أبقيتك
هناك كل هذا الوقت فهذا لأنني أنا أريد إبقائك.. وليس لتتصرفي كما يحلو لك..
أنت وابن خالتك المراهق الأبله... ومتى ما شئت أنا...سآتي وآخذك.. وخالتك..
وزوجها.. وأبناؤها.. كلهم لا يملكون الحق في تسير أمورك.. وحسام بالذات..
وبالذات حسام.. واسمعيني جيدا.. هذا الفتى بالذات.. سيكون آخر آخر آخر شخص
على وجه الأرض.. سأسمح له بالاقتراب منك.. ولن يكون ذلك إلا بعد موتي.. أفهمت
ذلك يا رغد؟؟ أفهمت ذلك؟؟"
كل هذا الصواريخ في وجهي.. والضغط العنيف على كتفي.. والأعاصير النارية
المنطلقة من عينيك وتريد مني ألا أفهم؟
صحت بخوف وأنا أحاول استعطافه والنجاة من بطش يديه:
"نعم... فهمت.."
فضغط على كتفي بخشونة أشد وقال:
"فهمت جيدا؟؟ أنا لن أعيد كلامي في المرة المقبلة إن تكرر الأمر.. ولن أكتفي
بلكم وجهه.. بل سأهشم عظامه كلها.. وأطحن رأسه... أوعيت هذا؟؟"
قلت:
"فهممت.. فهمت.. أرجوك... يكفي".
وواصل عصر كتفي بقبضتيه وهو يجبرني على النظر في عينيه ويخترقني بنظرته
الثاقبة النهددة ويقول:
"لا تضطريني لتصرف لا تحمد عقباه يا رغد... أحذرك... أحذرك... ما أنا فيه
يكفيني... التزمي بكلامي وإلا.."
أطلقت إجابتي مع زفرة ألم:
"حاضر... فهمت... سأفعل ما تأمرني به... هذا موجع... أرجوك أتركني..."
وانخرطت في البكاء من الألم... فأطلق سراح كتفي وابتعد...
جعلت أمسد كتفي الأيمن بيدي اليسرى لأخفف الألم... ولم أرفع رأسي مجددا... حل
سكون مخيف بضع دقائق.. ثم سمعت صوت باب الشقة ينفتح فرفعت رأسي ونظرت إلى
وليد فشاهدته يغادر...
وقفت بسرعة وسألت:
"إلى أين تذهب؟؟"
لكنه أغلق الباب ولم يجبني... أسرعت أسير بعكازي إلى الباب وأردت فتحه فإذا
بي أسمع صوت قفله يدار..
ضربت الباب وهتفت بفزع:
"وليد إلى أين تذهب؟ افتح الباب".
فسمعته يقول من خلف الباب:
"سأرسل إليك سامر".
فقلت:
"لا تتركني وحدي.. أرجوك افتح".
ولكنه لم يفتح ولم أعد أسمع صوته...
بقيت واقفة عند الباب في انتظار عودة وليد أو سامر.. ومرت بضع دقائق ولم يظهر
أي منهما..
انتابني الذعر.. وعدت إلى المقعد واستخرجت هاتفي من حقيبتي واتصلت بوليد فلم
يجبني.. واتصلت بسامر فوجدت الخط مشغولا..
انتظرت دقيقة ثم أعدت الاتصال بسامر فرد علي وأخبرني بأنه في صالون الحلاقة
أسفل المبنى وسيصعد بعد عشر دقائق...
"لكنني وحدي في الشقة... ذهب وليد وتركني أرجوك تعال الآن".
قال سامر:
"لم يذهب. أخبرته أن يبقى وينتظرني. سيأتيك الآن".
وأنهيت المكالمة ونظرت نحو الباب في انتظار عودة وليد... ولكنه لم يعد. أخذ
القلق والخوف يتفاقمان في صدري... وإن هي إلا دقائق حتى عاودت الاتصال بسامر
وأخبرته بأن وليد لم يعد ورجوته أن يوافيني في الحال.
فقال إنه قادم... وأقبلت نحو الباب في انتظاره... وعندما اقتربت نمه خيل إلي
أنني سمعت صوتا من خلفه ففزعت... أصغيت بسكون... فتكرر الصوت وأجفل قلبي...
"سامر؟؟"
ناديت بحنجرة مخنوقة... ولم أسمع ردا... لكنني أحسست بحركة ما... وكأن أحدهم
يقف خلف الباب مباشرة أو يستند إليه... سألت:
"وليد؟"
فسمعت صوته يرد:
"نعم هنا".
لقد كان وليد قلبي يقف خلف الباب... مستندا إليه...
عندما سمعت صوته حلت الطمأنينة في قلبي... فألقيت بثقل جسمي على الباب...
وخيل إلي... أنني أحسست بالحرارة تتخلله منبعثة من جسم وليد...
يفصل بيني وبينه باب خشبي... وعشرات المشاكل ومئات الشحنات... والمشاعر
المتضاربة والمواقف الملاطمة... والكلمات القاسية... والمعاملة الجافة...
التي أثخن قلبي وجسدي بخدوشها قبل قليل...
تلمست كتفي... فألفيت الألم قد انقشع... وتلمست الباب فوجدته دافئا وحنونا...
وألصقت أذني به... فتوهمت أنني أسمع نبضات قلب وليد... تناديني...
أفقت من أوهامي على صوت خشن زاجر... أصدره وليد...
"أقول لك انتظرني ها هنا فتذهب إلى الحلاق؟؟"
ثم أتى رد بصوت سامر:
"لم أتوقع أن تنهيا الحوار بهذه السرعة كما وأنني لم أشأ الوقوف هكذا
كالبواب".
فقال وليد متضايقا:
"قلت لك إنني لن أطيل الكلام وكما ترى فالوقت ليل ولا يزال أمامك مشوار
إعادتها... تعرف أن التجول محظور آخر الليل هناك.."
ثم سمعت صوت المفتاح يدخل في ثقبه فابتعدت بسرعة...
كان سامر هو من فتح الباب فدخل ولم أر أحدا من خلفه... استدار للوراء ثم
التفت إلي وأغلق الباب من بعده وسألني:
"هل أنت بخير؟؟"
أجبته:
"نعم".
فاقترب وهو يحملق في عيني ويرى أثر الدموع ثم سأل:
"ماذا قال لك؟؟"
فطأطأت برأسي ولم أجبه. فألح علي بالسؤال غير أنني اعتذرت عن الإجابة....
قال:
"إذن الموضوع سري بينكما؟"
ألقيت نظرت سريعة عليه ثم نظرت إلى الأرض لأبعد عيني عن عينيه... خشية أن
يكتشف شيئا...
سأل برجاء:
"ألن تخبريني؟"
فلم أرد...
كيف أخبرك وبم؟؟! سيضرب هذا على وترك الحساس المؤلم... أأقول إن حسام عرض على
وليد الزواج مني...؟؟
احترم سامر موقفي وقال متراجعا:
"كما تشائين. إنما أردت المؤلزرة. فإذا ما أساء إليك أخي بأي شكل فأخبريني
حتى أوقفه عند حده".
فشددت على قبضتي ولم أتفوه بشيء...
بعد ذلك... أعادني سامر إلى منزل خالتي... ولأن المسافة بين المدينتين
التجارية والصناعية طويلة نسبيا, فقد وصلنا في ساعة متأخرة من الليل...
أما وليد فكان قد اختفى فور ظهور سامر عند باب الشقة... ولا أعرف إن كان قد
عاد إلى مزرعة الشقراء أم أنه بات في شقة أخيه تلك الليلة...
وجدت خالتي ونهلة في انتظاري وعيونهما ملأى بالتساؤلات... أخبرتهما بأنه لا
شيء يستحق القلق وذهبت إلى غرفتي فتبعتنب نهلة... والتي سهرت في انتظار عودتي
على نار هادئة لتعرف ما حصل...
"لا شيء".
تعجبت من قولي وسألت:
"لا شيء؟؟ كل هذا الوقت وتقولين لا شيء؟؟"
أجبت:
"تعرفين... الوقت ضاع في قطع المسافة من هنا إلى شقة سامر... ذهابا وإيابا".
سألتني بصبر نافذ:
"المهم ماذا حدث وفيم تكلمتما؟ وهل تصالح معك..؟؟"
أجبت بإعياء:
"أسكتي يا نهلة أنا متعبة ولا طاقة لي بالحديث".
وألقيت بثقل جسمي على السرير... ومددت أطرافي... لكن نهلة لم تعتقني:
"أرجوك يا رغد أخبريني بما حصل الفضول يخنقني؟؟"
قلت أخيرا وأنا أنظر إلى السقف وأتنفس الصعداء باسترخاء بعد كل ذلك
التوتر...:
"تشاجر معي.. فجر صواريخ فتاكة في وجهي.. وهددني بأن.."
قالت نهلة بلهفة:
"بأن ماذا...؟ أكملي!؟"
فوجهت بصري نحوها وقلت:
"بأن يهشم عظام حسام إن عاود طرح موضوع الزواج ثانية..."
حملقت بي نهلة بدهشة... ثم قالت مستنتجة:
"هكذا إذن.."
ثم أضافت:
"تهديد صريح آخر..."
حينها قلت بجدية وصراحة:
"إنه ينوي شرا.. أخبري حسام بأن يبتعد عني وأن يلغي الفكرة نهائيا من رأسه
لينجو بنفسه..."
غضبت نهلة من كلامي الصريح الجارح.. وقالت وهي تستدير مغادرة:
"أخبريه أنت بذلك.. أنا لن أجرح أخي بهذه القسوة.. أنت عديمة الإحساس".




رفض كل من أخي ورغد إطلاعي على موضوع الحوار الذي دار بينهما... لكني لم أسكت
على الدموع التي رأيت آثارها في وجه رغد ليلتها...
"حسنا... أنا لن أطلب منك إخباري بتفاصيل الموضوع وسأنسى أنني من جلبها
وأعادها في قلب الليل وأن الحديث دار في شقتي أنا... لكنني لن أتغلضى عن جرحك
لها وجعلها تبكي يا وليد".
نفثت كلامي بانفعال أمام أخي, الجالس بصمت يشرب الماء البارد... ويبتلع قطع
الجليد الصغيرة السابحة في الكأس.
تجاهل أخي كلامي فغضبت وقلت:
"أكلمك يا وليد ألا تسمع؟"
نظر أخي إلي من خلال زجاج الكأس الشفاف الذي يحمله في يده وأجاب:
"اسمع".
فقلت:
"إذن أخبرني.. لماذا جعلتها تبكي؟ لماذا تعاملها بخشونة؟"
أجاب أخي:
"ليس من شأنك يا سامر وأرجوك... أنا متعب كفاية... دعني أسترخي".
فقلت مستنكرا:
"ليس شأني؟؟ كيف تقول هذا؟ إنها ليست ابنة عمك وحدك..."
وكأن الجملة أثارت أخي فقال بحدة:
"الأمر لا يعنيك يا سامر فرجاء لا تتدخل".
فقلت غاضبا:
"بل يعنيني... أنا لا أتحمل رؤية رغد تبكي أو تتألم... ولا أسمح لك بأن تسبب
لها هذا".
وقف أخي فجأة... وألقى بالكأس بعنف نحو الأرض فتكسر...
ثم صرخ غاضبا:
"أما زلت تفكر بها؟؟...سامر ... أيها الأحمق... إنها لا تكترث بك".
جفلت ولم أستطع التعقيب.
اقترب أخي مني حتى صار أمام وجهي مباشرة وإذا به يسألني:
"ألا زلت تحبها؟؟"
ففارت الدماء في وجهي... لم أكن أتوقع منه هذا السؤال وهكذا مباشرة... أخي
أمسك بذراعي بقوة وقال:
"لقد رأيت ما تخفيه في خزانتك... يا لك من بائس... تخلص منها تماما... إنها
لا تفكر بك.. ولن تعود إليك... لا تتعب نفسك... انسها نهائيا".
وطعن كلام أخي على جرح قلبي مباشرة... فأبعدت يده عني فعاد وأمسك بي وأعاقني
عن الحركة وقال:
"أخرجها من رأسك نهائيا يا سامر... ولا تدافع عنها فهي خائنة وتستحق العقاب".
عند هذا لم أتمالك نفسي ودفعت بأخي بقوة حتى ارتطم بالجدلر.
وأوليته ظهري قاصدا الخروج من المكان غير أنه أمسك بي فجأة وجذبني في اتجاهه
ولوى ذراعي...
وهو يقول:
"أجب على سؤالي أولا".
حاولت الفكاك منه ولكنه كان يطبق علي ويعيق حركتي كلما أردت التملص.
هتفت:
"اتركني وليد".
رفست بطنه بركبتي حتى أبعده عني. وبصراحة رفستي لم تكن قوية... لكن أخي أطلق
صرخة ألم واندفع مبتعدا عني... وأمسك ببطنه وراح يتلوى. ثم إذا به يجثو على
الأرض بالضبط فوق شظايا الكأس المكسور دون أن ينتبه لها... ويحني رأسه إلى
الأرض ويتقيأ الماء الذي شربه قبل قليل... ممزوجا بالدم...
هلعت لمنظر أخي... وأقبلت إليه قلقا ومددت يدي نحوه, غير أنه أبعدها بفظاظة
وأخذ يتلوى... وأخيرا نهض وسار نحو الباب.
"إلى أين؟؟"
فالوقت كان قد تجاوز الواحدة ليلا... ويفترض به المبيت عندي... ووضعه لا يسمح
بالمغادرة...
تبعته وحاولت استيقافه إلا أنه صدني وغادر الشقة...
وقبل غروب الشمس التالية اتصل بي وأخبرني بأنه في طريقه إلى المطار...
مسافرا إلى الجنوب.
سافر أخي إلى المدينة الساحلية... وغاب عنا بضعة أسابيع...
جاء سفره مفاجئا ودون سابق تخطيط وتهيئة... وتوقعت أن أواجه موقفا صعبا مع
رغد لدى إبلاغها عن هذا... فكتمت النبأ عمدا في البداية...
وفي الآونة الأخيرة لاحظت أن رغد لحد ما قد هدأت... أعني أنها لم تعد تثور
وتغضب بسرعة... بل بدت مستسلمة لما نقوله لها بدون جدال... صحيح أن حالتها
هذه لم ترضني لكنها على الأقل أفضل من التهيج الشديد الذي سبقها, وكذلك أبدت
تجاوبا جيدا مع برنامج العلاج في المستشفى وحضرت المواعيد التالية بلا
اعتراض...
والأهم...أنها توقفت عن الاتصال بهاتف وليد وعن السؤال عنه... اعتقدت أن
مادرا بينهما تلك الليلة قد أراحها بشكل ما... وأن اعتقادها أن وليد في
الجوار هدأ نفسيتها...
وخشيت إن أنا كشفت لها حقيقة سفره الآن أن تتقلب بها الأحوال, فواصلت كتم
النبأ إلى أن حل هذا اليوم... والذي قرر فيه الطبيب أخيرا نزع جبيرة يدها...
بعد أن نزعت الجبيرة... وحركت رغد يدها... رأيت ابتسامة تشع على وجهها ولأول
مرة مذ قدمت إلى المدينة الصناعية.. وبمجرد أن غادرنا عيادة الطبيب قالت لي:
"سأتصل بوليد وأخبره بأنني أستطيع تحريك يدي كالسابق, لا بد وأنه سيفرح
للخبر!"
واستخرجت هاتفها واتصلت به ولم يرد, فحمدت الله في داخلي... لكنها سرعان ما
فكرت بالاتصال بالمزرعة والسؤال عنه... حينها لم أجد مناصا من إطلاعها على
الحقيقة...
ساعتها تجهم وجه رغد واختفت تماما آثار الابتسامة التي عبرت على وجهها قبل
قليل... أحسست بالندم على تسببي بقتل بهجتها القصيرة... ولكي أشجعها ادعيت أن
وليد قد أعرب لي عن عزمه اصطحابنا معه في المرة المقبلة... ولم يكن هناك جدوى
من ادعائي.
ومضت الأيام والأسابيع وهي على حالها من الكآبة وفقدان الاهتمام بأي شيء..
حتى أنها نحلت أكثر مما هي نحيلة وانطوت على نفسها أكثر مما هي منطوية وما
عدت أطيق رؤيتها بهذه الحال...
الشيء الوحيد على الأقل.. الذي صرفت إليه بعض الاهتمام... كان الرسم, ولكي
أشجعها على الانشغال به وطرح الأحزان جانبا جلبت لها عدة الرسم كاملة,
ووعدتها كذلك بشراء حاسوب محمول مع ملحقاته وكتبه... عما قريب...
أما وليد فكما فاجأني بسفره فاجأني بعودته ذلك اليوم...
صدمت للوهلة الأولى عندما دخلت شقتي ورأيته جالسا يشاهد التلفاز... وقد كان
وجهه شاحبا هزيلا ملتحيا, وقد خسر جسمه عدة أرطال.
ولا لم يبد أنه قد حلق شعره أو ذقنه منذ لقائي الأخير به قبل أربع أسابيع...
وقف ليحييني ويصافحني, فحييته وسألته:
"ماذا حل بجسدك؟؟!"
فابتسم ورد:
"القرحة حرمتنا من الطعام..."
فسألت:
"هل تراجع طبيبا؟"
فأجاب:
"لا وقت لذلك, العمل مضغوطا جدا وبالكاد نتنفس".
وتبادلنا حديثا قصيرا عرفت فيه أنه عائد من أجل شؤون عمل تتطلب توقيع زوجته
شخصيا على بعض الوثائق الهامة...
"ولكن.. ألست موكلا للتصرف بكل شيء... توكيلا شاملا ورسميا".
فأجاب:
"بلى, لكن هناك بعض الاستثناءات الضرورية".
أطرقت برأسي برهة, وراودني سؤال طارىء لم يسبق لي أن طرحته على أخي:
"متى ستتزوجان؟"
ألقى علي أخي نظرة لا مبالاة, ثم أدار وجهه بعيدا عني... واستخرج من أحد
جيوبه قرصا دوائيا ووضعه في فمه. ثم جذب نفسا عميقا ثم قال:
"إنني أريد على الأقل.. أن تسير أمور المصنع كما يجب. أروى لا تفكر في حجم
الخسائر التي ستلم بثروتها إن هي بقيت عالقة في الشمال وأملاكها مزروعة في
الجنوب.
لولا السيد أسامة المنذر بعد الله لفاتها الكثير.. ليس جميع موظفي المصنع
والشركة بأمانة المنذر... يجب أن يبقي صاحب الأملاك عينه مفتوحة على
ثرواته... يجب أن تعود إلى الجنوب".
فهمت حرص أخي على أموال زوجته, وتفانيه في العمل لأجلها, وقلت:
"البركة فيك يا أخي".
فنظر إلي وأوشك أن يقول شيئا لكنه تراجع والتزم بالصمت.
ثم عاد وقال:
"أنا لا أريد العيش وحيدا هناك... أريد عائلتي من حولي... المنزل كبير
وكئيب..."
فانتهزت الفرصة وسألت:
"ماذا عن عودتنا أنا ورغد؟"
وكأن السؤال أوجعه أو صب خل الليمون الحامض على معدته فإذا بي أرى وجهه يتألم
ويده ترتفع إلى موضع معدته وفمه يطلق آهة مريرة...
قلت قلقا:
"أأنت بخير؟"
وما كان من وليد إلا أن وقف واستدار باتجاه الباب... قال أخيرا وهو ينصرف:
"ليس بعد... دعهم ينزعون جبيرة رجلها أولا... أراك لاحقا".
عندما وصل إلى الباب توقف واستدار إلي وقال:
"لا تخبرها عن حضوري".







..







قديم 01-02-2009, 04:57 AM   رقم المشاركة : 197
!!! الرومـ ^_* ـانسي !!!
Band
 
الصورة الرمزية !!! الرومـ ^_* ـانسي !!!
 






!!! الرومـ ^_* ـانسي !!! غير متصل

الحلقة السابعة والأربعون

تحت جنــاحك مهــما يكــــــــن


في طريق عودتنا من مكتب الشؤون المدنية القابع في المدينة الصناعية حيث
استخرجنا بعض الوثائق اللازمة للعمل, مررنا على منزل خالة رغد وقال وليد إنه
سيوصل إليها بعض الحاجيات. وبعدما إلى المزرعة لاحظت شرود وانشغال باله.
ولكي أكون دقيقة أكثر أقول إنني لاحظت ذلك منذ أن غلدر وليد منزل خالة رغد.
كان وليد قد عاد قبل يومين من المدينة الساحلة جالبا معه حقيبة عمله من
الأوراق والوثائق المهمة التي يريد مني الاطلاع عليها وقبولها ورفضها.
حسابات... عقود... فواتير... مشاريع... وأشياء مزعجة اعتاد وليد على أن
يقحمني فيها حينما كنا في المدينة الساحلية.
شؤون العمل هي كل ما دار نقاشنا حوله خلال الأيام القليلة التي قضاها هنا...
ولم نتحدث عن أي شيء آخر... وكأننا لسنا خطيبين... فرقت بينهما عدة أسابيع
والتقيا أخيرا...
وها هو الآن يستعد للمغادرة ويأخذ حقيبته من فوق المكتب ويخطو وسط الغرفة...
باتجاه الباب.
كان يريد الذهاب إلى أخيه ليقضي الليلة معه وليصطحبه إلى المطار غدا.
كنت أراقبه بصمت وتأمل... ولاحظ هو تحديقي به فتوقف وسأل:
"أهناك شيء؟"
هناك أشياء كثيرة ولكن لا مجال لطرحها الآن.
أجبته بعد تردد:
"لا...لاشيء... فقط... لم لا تقضي الليلة هنا؟؟"
فنظر إلي نظرة ذات مغزى... فقلت:
"سأعد لك عشاء معتبرا...لا يبدو أنك تأكل شيئا منذ أسابيع".
وخشيت أن يستسخف الفكرة لكنه لم يشأ إحراجي فقال:
"لا بأس... لكن يجب أن يكون عشاء مبكرا... إذ سيتعين علي الخروج باكرا
صباحا".
فابتسمت بسرور وانصرفت من فوري إلى المطبخ وعملت بنشاط...
وفيما أنا منشغلة مع طهوي أقبل خالي إلى المطبخ..
"هل تكلمتما؟"
مشيرا إلى موضوع زواجنا المعلق. فمنذ يوم طلبت منه أن ننفصل وحتى يومنا هذا
وليد لم يفتح الموضوع ولم يخبرني عن قراراته ولا ما يجول بخاطره... ولم يجمع
بيننا لقاء خاص أو حوار خاص... أو حتى سفرة طعام... وفاة والدتي رحمها الله
شغلتنا عن التفكير بأنفسنا.
علاقتنا باردة كالثلج.. وهو وجد في العنل مهربا من التصادم معي... ولكن إلى
متى؟؟
أجبت أخيرا على سؤال خالي:
"ليس بعد".
فحزن ونهد. كان قلقا علي. قلت له:
"إنه لم يقم هنا غير ثلاثة أيام... كان مشغولا مع الوثائق والأوراق... لم
تسنح الفرصة".
فقال خالي:
"الشاب ينتظر منك أنت فتح الموضوع يا بنيتي فهو لن يجرؤ على هذا في ظل ظروفنا
الحالية".
قلت بصراحة:
"لا أعرف من أين أبدأ ولا كيف... أنا مشوشة جدا يا خالي وفقد والدتي أربك
حياتي".
وسكت برهة ثم واصلت:
"استطعت دعوته للبقاء هنا الليلة... وتناول العشاء معي... سأحاول أن ألمح
للموضوع أثناء ذلك... وأرى إن... كان على استعداد للتطرق إليه الآن..."
شد خالي على يدي وقال:
"أصلح الله أمركما وبارك فيكما... تشجعي بنيتي..."
ثم غادر...
تركت الطعام ينضج على النار... وذهبت إلى حيث وليد... كان جالسا في غرفة
المعيشة يطالع الصحيفة باهتمام... وقد ترك حقيبة سفره على المقعد بجانبه..
هممت بأن أقترب منه وأبعد الحقيبة وأجلس بجواره... ولكن خانتني شجاعتي... لما
انتبه وليد لحضوري قال معلقا على خبر قرأ في الصحيفة:
"سيحظرون الرحلات الجوية من جديد... لا نعلم لكم من الزمن... سيزداد الأمر
سوءا ومشقة".
وقطب حاجبيه استياء... وتابع القراءة...
أردت التفوه بأي تعليق غير أن هاتفه سبقني بالرنين فأجابه وليد, وسمعته يتحدث
باهتمام إلى الطرف الآخر والذي أدركت من مضمون الكلام أنه شقيقه يسأله عن
موعد حضوره ثم يطلب منه أمرا ملحا...
هتف وليد وهو يقف ملحا:
"رغد؟؟"
فأصغيت لحديثه باهتمام... وكانت آخر جملة قالها:
"حسنا أنا قادم".
وأنهى المكالمة. سألته بفضول:
"خيرا؟؟"
فنظر إلي نظرة سريعة ثم قال:
"يجب أن أغادر الآن... أنا أسف".
أصبت بخيبة كبيرة... وقلت معترضة:
"والعشاء؟؟"
فقال معتذرا:
"تناولاه بالصحة والعافية... لن أستطيع مشاركتكما".
غضبت وقلت:
"لقد أعددته من أجلك أنت يا وليد... ألا تقدر هذا؟؟"
أطرق وليد برأسه ثم قال نعتذرا:
"بلى يا أروى طبعا أقدر... لكن..."
فقاطعته منفعلة:
"لكن حبيبة القلب أولى بكل التقدير".
نظر إلي وليد والدماء أخذة في الصعود إلى وجنتيه. ولم يجرؤ على التفوه بكلمة.
أما أنا فقد اختل ميزاني لحظتها وأطلقت لساني قائلة:
"لم سكت؟ قل شيئا... ألست ذاهبا إليها؟"
زفر وليد زفرة ضيق من صدره ثم قال:
"سأذهب إلى شقيقي... يطلب حضور حلا والأمر مقلق".
فقلت:
"لكنه أمر متعلق برغد... أليس كذلك؟؟"
ولم يجب فقلت:
"لن يمكنك الإنكار".
هنا قال:
"لا أعرف ماذا هناك يا أروى... سامر لم يوضح لكنه أقلقني... ربما حدث شيء لا
قدر الله".
فقلت:
"أو ربما الصغيرة الغالية تتدلل على وصيها الحنون النبيل!"
نظر وليد إلي بانزعاج فقلت:
"إنها بالمرصاد لأي شيء يسعدني... ألا تلاحظ هذا؟؟"
زفر وليد الكلمات بضيق:
"هذا ليس وقته... أرجوك..."
وأولاني ظهره وتناول حقيبته هاما بالمغادرة...
لم أتمالك نفسي حينها وشعرت بالإهانة والخذلان والغيظ, فهتفت مجنونة:
"وليد... إذا خرجت الآن فلا تعد إلى هنا ثانية".
توقف وليد واستدار إلي... ورأيت في عينه دهشة ثم مرارة كبيرة... لكنني لم
أستطع السيطرة على شعوري... في أحوج الأوقات إليه تركني وسافر... والآن مع
أول خطوة للتصالح بيننا وفيما أنا أشغل تفكيري وجهدي فيه ولأجله... يتركني
وينصرف إليها...
أشاح وليد وجهه دون تعليق وسار نحو الباب. فهتفت مجددا:
"قلت... إذا خرجت فلا تعد ثانية... أبدا... هل سمعت؟"
ولم يكترث بكلامي, فصرخت في غيظ:
"هل سمعتني يا وليد؟؟"
استدار آنذاك بعصبية ونظر إلي وهتف بغضب:
"نعم سمعت".
ثم أضاف:
"كم يؤسفني هذا منك... أولا أنا قلت سأذهب إلى شقيقي... يعني إلى المدينة
التجارية وليست الصناعية والطريقان مختلفان ومتباعدان... وثانيا ليس بالوقت
المناسب لتقليب المواجع... دعينا نفترق بسلام الآن".
كنت أشعر بأن جزءا من قلبي قد نزع بعنف قلت منهارة:
"لن يكون هناك مرة قادمة... إذا خرجت الآن فلا تعد... أنا لم أعد أحتمل...
هذا كثير... أي نوع من الأزواج أنت؟؟"
وهرولت منصرفة عن غرفة المعيشة وعائدة إلى المطبخ وأسندت جبيني إلى الثلاجة
وأخذت أبكي...
بعد قليل سمعت صوت وليد يناديني ولم أجبه... أحسست به يقف عند الباب ثم يقترب
مني... ثم سمعته يقول لي:
"أروى.. أرجوك... لاتزيديني هما على هم".
واستمررت في ذرف عبرات الخذلان والأسف... إن الهم الأكبر هو هم امرأة تحب
زوجها وتعرف أن قلبه مشغول بحب امرأة غيرها... هذا هو الهم الأدهى والأمر...
قلت:
"إذا كنت متعلقا بها لهذا الحد ولا تستطيع الاستغناء عنها فاذهب إليها... أنا
لن أجبرك على البقاء معي ولا على حبي... ما حاجتي إلى رجل مشغول القلب
بغيري...؟؟... اذهب... ولا تعد إلي ثانية".

********************************

"أجّل سفرك".
نظر شقيقي إلي باستغراب ثم سأل:
"عفوا؟؟ ماذا؟"
فكررت مؤكدا والجد يملأ عيني:
"أجل سفرك يا وليد ودعنا نسوي الأمور ونحل المشاكل أولا".
قال بانزعاج:
"أتجلبني من المزرعة إلى هنا مفزوعا على وجه السرعة... مسببا ما سببت هناك...
لتقول لي أجل سفرك؟ يا سامر وضح ماذا لديك؟ وما بها رغد؟"
أجبت بكل جدية:
"أم تقل إنك لا تريد إخطارها عن حضورك؟ ألم أقل لك إن هذا سيحزنها؟؟ إذن
لماذا ذهبت إلى بيت خالتها اليوم وقابلتها؟ وبطريقة جافة؟ ألا تعرف كم من
الحزن سببت لها معاملتك هذه؟ إذا كنت قد ضقت ذرعا بها ولا تريد تحمل أعباء
مسؤوليتها بعد الآن ولا تطيقها بسبب خلافك مع أهلها فانقل الوصاية الكاملة
إلي أنا ونهائيا".
دوهم أخي وحملق في... وأنا أركز في عينيه بحدة وشدة...
ثم سألني:
"ماذا تعني؟؟"
فأجبت منفعلا:
"أعني أن تتنازل عن الوصاية عليها لي أنا... وأخلصك من هذا العناء تماما".
وإذا بالحمرة تلون وجه وليد وإذا به يقول مهددا:
"كيف تجرؤ؟؟"
فأجبت بحدة:
"على الأقل... أنا سأعاملها معاملة حسنة تليق بها كابنة عم وحيدة ويتيمة
الأبوين".
وقف وليد فجأة وهتف بغضب:
"أتعني أنني لا أحسن معاملتها يا سامر؟"
فوقفت تباعا ورددت بصوت قوي:
"هل تسمي هذه القسوة والصرامة والخشونة... معاملة حسنة؟؟ وليد... لقد كنت
أزورها قبل اتصالي بك... اتصلت بي الخالة وطلبت مني أن أذهب إليها... أخبرتني
بأنك ذهبت إليهم ظهرا وقابلت رغد والله الأعلم ماذا قلت لها... وجعلتها تحبس
نفسها في غرفتها منذ ذلك الحين ولا تفتح الباب لأحد... حاولت أن أكلمها لكنها
طلبت مني الانصراف... أنا لا أعرف ما الذي قلته لها وجعلتها تحزن لهذا
الحد... ثم تريد السفر بلامبالاة... وتتركني أنا أواجه الأمر وأرمم ما تهدمه
أنت... أتسمي هذه معاملة حسنة؟؟"
وليد نظر إلى ساعة يده... وبدا متوترا... ثم قال:
"اتصل بها".
ولم أتحرك... فقال وليد:
"الآن".
فقلت:
"أقول لك إنني قدمت من عندها قبل ساعتين وهي منزية على نفسها... وهاتفها مغلق
منذ النهار".
قال:
"إذن اتصل بهاتف المنزل واسأل عنها ودعني أكلمها".
بقيت واقفا في موضعي... أنظر إلى أخي بتشكك... ثم سألته:
"أخبرني أولا... ما الذي قلته لها؟؟ لماذا ذهبت إليها؟؟"
فأجاب مندفعا:
"أنا لم أذهب لزيارتها بل مررت لسبب آخر... ولم أقل شيئا".
فقلت:
"إذن لماذا هي محطمة هكذا؟ لا بد أنك قلت أو فعلت شيئا جارحا حتى لو لم
تدركه".
وهذه الجملة استفزت أخي فهتف بغضب:
"وهل تراني وحشا ذا مخالب وأنياب؟؟"
قلت غاضبا:
"لا أراك تقدر شيئا أو تفهم شيئا... ألا تعرف ما تعني لها وما يعني رضاك أو
غضبك؟؟ إما أن تكون أعمى أو بلا إحساس... وفي كلتا الحالتين لا تصلح لرعاية
رغد... فدعني أتولى أمرها بنفسي من الآن فصاعدا".
سكت وليد مبهوتا وتبعثرت نظراته ثم استجمعها واسترد رباطة جأشه وقال:
"اتصل الآن".
ألقيت عليه نظرة مستهجنة ثم توجهت نحو الهاتف واتصلت بمنزل الخالة فأجابتني
هي وعلمت منها أن رغد لا تزال حبيسة غرفتها وطلبت منها استدعاءها للتحدث معي
فلم تستجب, وقلت لخالتي بأن تخبرها بأن وليد يريد التحدث معها ولكنها أيضا لم
تستجب...
حين وضعت السماعة على الهاتف رأيت أخي ينظر إلى ساعة يده ثم يقول:
"إذن دعنا نذهب".
انطلقنا من فورنا بسيارتي إلى المدينة الصناعية. عندما وصلنا إلى منزل أبي
حسام لم يخرج وليد من السيارة بل قال:
"تعال بها".
التفت إليه وقلت:
"لم لا تأتي معي ونسوي المشكلة مع العائلة الآن؟"
فرد:
"ليس هذا وقته".
وتركته في انتظاري في السيارة ودخلت إلى المنزل, لم تفتح رغد الباب إلا بعد
أن أقسمت لها مرارا وتكرارا أن وليد قد حضر معي ويريد مقابلتها... وعندما
فتحته ذهلنا للسواد الذي لون وجهها الكئيب حتى غدا مضاهيا لسواد وشاحها. نقلت
بصرها بيننا ثم سألت:
"أين هو؟"
فأجبت:
"ينتظرنا في السيارة".
وبدا عليها عدم التصديق ونظرت إلى خالتها تبحث عن تأكيد فقالت أم حسام:
"لقد أحضره سامر ولكنه لا يريد دخول منزلنا كما تعرفين".
فأطرقت رغد برأسها وقالت:
"أنتم تكذبون علي".
وتراجعت خطوة بعكازها إلى الخلف فقلت بسرعة:
"ولماذا سنكذب عليك يا رغد تعالي وتأكدي بنفسك".
بعثرت رغد علينا نظرات التشكك ثم قالت:
"إذا اكتشفت أنكم تخدعونني..."
فقاطعتها الخالة:
"يهديك الله يا رغد... انظري إلى حالك وحالنا معك... اذهبي معه وارحمي نفسك
وارحمينا".
ورافقتني رغد يدفعها الأمل خطوة ويوقفها الشك أخرى حتى صرنا أمام السيارة
ورأت وليد بأم عينيها... نظرت إلي غير مصدقة فقلت مؤكدا:
"هل صدقتني الآن؟"
ثم فتحت لها الباب الخلفي فجلست خلف مقعدي ورأيت أخي يلتفت إليها وسمعته يلقي
التحية.
جلست على مقعدي والتفت إلى أخي وسألت:
"إلى أين؟"
فأجاب:
"جولة قصيرة".
وسرنا يرافقنا الصمت الشديد.... وربما كانت أفئدتنا تتخاطب وأفكارنا تتصافح
دون أن نشعر بها.
بمحاذاة الكورنيش طلب مني أخي أن أوقف السيارة وأشار بيده نحو المقاعد
الإسمنتية العامة قائلا:
"دعونا نجلس هنا قليلا".
وسبقنا بالخروج من السيارة والتوجه نحو المقاعد. التفت إلى رغد فرأيتها قابعة
في مكانها والتوتر جلي على وجهها ويدها ممسكة بطرف وشاحها بانفعال.
سألتها:
"ألن تنزلي؟"
فأجابت بصوت وجل:
"ماذا... يريد؟؟"
فقلت مطمئنا:
"مم أنت خائفة؟ ألست تريدين التحدث معه؟؟ هو هنا لن يسمعك.."
وإن كنت غير واثق مما سيقوله... وإذ بدا على رغد التردد, شجعتها قائلا:
"فرصتنا لنقول كل ما نريد ونضع الحروف على النقط... طلبت منه أن يؤجل سفره
حتى نحل المشاكل العالقة أولا..."
وأخيرا خرجنا من السيارة وذهبنا نحو وليد... ترددت رغد في الجلوس فأخرجت
منديلا ومسحت المقعد لأنظفه وقلت:
"تفضلي".
وعندما جلسنا جوارها ثم التفت إلى وليد وقلت:
"ندخل في الموضوع مباشرة... يجب أن تؤجل رحلة الغد وتعيد الحسابات".
قال وليد:
"لا مجال... سفري ضروري للغاية".
ثم التفت نحو رغد وقال:
"لا يمكنني أن آخذك معي الآن يا رغد".
وما كاد ينهي الجملة حتى انهارت رغد فجأة... وكأن جملة وليد كانت الدبوس الذي
فجر البالون...
قالت وهي شديدة التهيج وتكاد تمزق طرف وشاحها المشدود بين يديها:
"أنا لست متواطئة مع خالتي... ولست راضية عما قالت... ولن أحدث أي مشاكل مع
أروى بعد الآن... سأهتم بدراستي فقط... لن أسبب لك أي إزعاج... وأي شيء
سأحتاجه سأطلبه من سامر... سأبقى منعزلة في غرفتي أدرس وأرسم... وسأنفذ كل ما
تطلبه مني... لكن أرجوك... دعني أعود إلى بيتي وجامعتي... فأنا ليس لي غيرهما
ولا أريد أن أتشرد ويضيع مستقبلي أكثر من هذا أرجوك..."
وانخرطت رغد في بكاء قوي مؤثر... كأنها كانت تربطه عنوة على طرف حنجرتها
وأفلت منها بغتة دفعة واحدة... كان منظرها مؤلما جدا...
وقفت كما وقف أخي وسرنا مقتربين منها... وصرنا أمامها مباشرة...
قال وليد:
"ما الذي تقولينه؟!"
فقالت رغد بنفس الانفعال:
"سأفعل ما تطلبه مني لكن لا تتركني هنا أرجوك... أعدني إلى بيتي وجامعتي...
سأطلب من أقاربي أن يعتذروا منك... الآن إذا شئت... وسأتصالح مع الشقراء
وأنسى أنها من تسبب بإصابتي... قل لها أنني لن أزعجها أبدا ولن تشعر بوجودي
في المنزل... أرجوك لا تذهب بدوني... أرجوك..."
كدت أبكي مع رغد... أخرجت مناديل وقدمتها لها تمسح دموعها وأنا أقول:
"كلا يا رغد أرجوك... تماسكي".
ونظرت إلى شقيقي فرأيته يحملق فيها مندهشا من سوء حالتها... ثم يجلس على
المقعد بجوارها ويسند مرفقيه إلى ركبتيه وجبينه إلى كفيه ويجذب عدة أنفاس
قوية ثم يلتفت إليها ويقول:
"رغد... أروى لن تأتي معي هذه المرة ولذلك لا أستطيع أخذك".
فالتفتت أيه رغد ومسحت دموعها...
تابع وليد:
"عندما تتحسن الأوضاع سنعود جميعا... لكن الآن... صعب".
فقالت رغد:
"لماذا؟"
فأجاب أخي:
"قلت لك.. لأن أروى لن ترافقنا وهي ما تزال غارقة في الحزن على فقد والدتها
رحمها الله... لا نستطيع الذهاب أنا وأنت وسامر... لن يكون هذا مقبولا لن
توافق خالتك".
فقالت رغد بسرعة:
"لا تأبه بكلام خالتي".
فرد وليد:
"ليست خالتك فحسب... إن كان هذا تفكيرها هي فكيف بتفكير الآخرين؟"
فردت رغد:
"أنا لا آبه بتفكير أحد... أنت في مقام أبي.. وسامر أخي.. أنتما عائلتي
الحقيقية وليس لي ملجأ غيركما".
وليد نظر إلي ليرى وقع الكلام على نفسي... فأرسلت نظري بعيدا عنه... ثم سمعته
يقول:
"حسنا يا رغد عندما آتي في المرة المقبلة..."
ولم يتم كلامه لأن رغد قاطعته منفعلة:
"كلا.. لن يكون هناك مرة مقبلة... سأذهب معك الآن... أرجوك لا تتركني".
فقال وليد:
"سأسافر باكرا يا رغد... لم نرتب لسفرك وسامر".
فقلت:
"أجل سفرك يوما أو يومين على الأكثر وسيكون كل شيئا مرتبا".
فالتفت أخي إلي وقال:
"لا يمكن. لدي اجتماع مهم للغاية صباحا.. أمر معد له بصعوبة منذ أسابيع".
فقالت رغد مصرة:
"سآتي معك".
فنظر وليد إليها وقد علاه الانزعاج وقال:
"يستحيل ذلك الآن. سنناقش الأمر في المرة التالية".
فقالت رغد وهي تنهار مجددا وتفقد تماسكها:
"أنت تكذب علي... لا تريد أخذي معك... تماطل إلى أن أمل وأكف عن ملاحقتك...
قلها صراحة يا وليد إنك لم تعد تريد كفالتي... تريد أن تتخلص مني حتى تكسب
خطيبتك ويصفو لها الجو معك وحدك".
أصابتنا الدهشة من كلام رغد... ووقف وليد غاضبا وهتف بخشونة:
"ما هذا الكلام المجنون يا رغد؟"
فهتفت رغد:
"هذه هي الحقيقة.. لقد اخترتها هي وتنازلت عني..."
هنا أطلق وليد زجرة قوية:
"رغد يكفي".
بصوت عال وفظ جدا لدرجة أن رغد انتفضت فزعا ثم بلعت صوتها وكتمت أنفاسها, ثم
سار مبتعدا متجها إلى السيارة... ثم توقف واستدار نحونا وقال:
"هل هذا ظنك بي يا رغد؟ فيم ستختلفين عن أقاربك؟ كلكم تبخسونني قدري وتسيئون
إلي".
وأولانا ظهره واقترب أكثر من السيارة حتى مد يد ليفتح الباب ووجده مقفلا...
فركل السيارة برجله وهتف:
"تعال وافتحها".
وقفت رغد ونادت:
"وليد".
ثم التفتت إلي وأمسكت بذراعي وقالت متوسلة:
"لا تدعه يذهب أرجوك".
عضضت أسناني وقلت:
"لا تقلقي".
ثم خاطبت أخي:
"سأتصل بشركة الطيران وأرى ما إذا كان لديهم مقاعد شاغرة على رحلة الغد".
والتفت إلى رغد قائلا:
"فهي رحلات يومية ولا بد أن مقعدين على الأقل لا يزالان شاغرين".
وهذه فكرة طرأت على بالي للتو... أنتجها قلقي على رغد وتخوفي من ما قد
يعتريها بعد هذا...
حثثتها على السير إلى أن صرنا عند وليد فخاطبته سائلا:
"ما قولك؟؟"
فلم يرد... فقلت:
"دعنا نمر الآن بمكتب الطيران ونرى ما يمكن فعله".
فقال:
"الوقت متأخر على فكرة كهذه".
فقلت:
"إما هذه... أو امنحني تصريحا بالسفر مع رغد وسنلحق بك عاجلا".
فزفر بضيق وقال:
"افتح الأبواب".
وركبنا السيارة وسرنا في الطريق وعندما اقتربنا من مفترق طرق أردت الانعطاف
بالسيارة لأسلك الشارع المؤدي إلى مكتب الطيران فقال:
"اسلك اليمين".
وهو الطريق المؤدي إلى بيت أبي حسام,فقلت:
"دعنا نمر بالمكتب أولا".
فرد:
"إلى المنزل يا سامر وكفى".
هنا هتفت رغد:
"كلا... لا أريد العودة إلى منزل خالتي... لا أريد".
فالتفت وليد إليها وقال:
"افهمي يا رغد هذا صعب جدا الآن".
ولكنها ألحت:
"لا أريد العودة... لا تسافرعني... لا تفعل هذا بي".
أما أنا فقد انعطفت يسارا وانطلقت بأقصى سرعة ممكنة في الطريق إلى مكتب
الطيران.
أثناء هذا وردتني مكالمة من أم حسام تطمئن فيها على رغد فطمأنتها وأخبرتها
بأننا سنعود بعد قليل.
توقفت عند مكتب شركة الطيران وفتحت الباب وقلت:
"سأتحقق وأعود".
وحالفني الحظ واشتريت تذكرتين وعدت أزف البشرى إلى رغد.. غير آبه برأي
وليد... فأنا لم أعد أقوى على تحمل كآبتها...
تهلل وجهها حينما أخبرتها ومع ذلك أخذت تنظر نحو وليد والذي كان ينظر عبر
النافذة إلى الخارج وعلى وجهها القلق وكأنها تسأله عن رأيه وتطلب موافقته...
لم يعلق أخي فاعتبرنا صمته بمثابة الضوء الأخضر... وتابعنا المسير...
أظنه خاف على رغد وأدرك إلى أي حد وصلت بها نفسيتها...
عدنا أدراجنا إلى منزل أبي حسام ولما فتحت الباب لها ترددت في الخروج...
وإذا بها تخاطب وليد قائلة:
"لا تفعلها وتسافر عنا".
فأجاب:
"وهل سأقود الطيارة وأسافر مثلا؟"
فقالت:
"لكن... إذا تعرقل سفري لأي سبب... فسوف... فسوف..."
فالتفت وليد إليها:
"فسوف ماذا؟"
ولم تكمل رغد وخرجت من السيارة ورافقتها إلى داخل المنزل وأخبرت العائلة
بأننا اشترينا التذكرتين وسنسافر مع وليد.
فور أن أنهيت إعلام الخبر رأيت رغد تنظر إلى خالتها وتقول مهددة:
"لا تحاولي منعي يا خالتي وإلا فأنني سأحبس نفسي في الغرفة إلى أن أموت وألحق
بأمي".
فلم تقل أم حسام شيئا... ورن هاتفي فإذا به أخي يستعجل خروجي ويوصيني:
"قل لرغد ألا تنام دون عشاء... وأن تتناول فطورا جيدا قبل المغادرة صباحا.
أكد عليها هذه مرارا".
ونقلت وصيته إليها فردت والسرور يتجلى على وجهها:
"حاضر".
وعدت إلى السيارة ونظرة إلى أخي فرأيته شاردا... يفكر بعمق. قلت:
"صدقني وليد... هذا أفضل حل... وإلا فأن نفسية رغد ستتدهور".
التفت إلي أخي وتنهد وقال:
"لقد أحدثت مشكلة كبيرة لي مع أروى يا سامر..."
سألته بقلق:
"أي مشكلة؟"
قال:
"تصرفت وكأن الأمر يعني رغد فقط... وحين تعرف أروى بأن رغد عائدة معي فستقلب
الدنيا رأسا على عقب".
فكرت قليلا... بعدها قلت:
"إذن قل لها أن رغد عائدة معي أنا وليس معك".
فرمقني أخي بنظرة غامضة وأوشك على قول شيء, لكنه حبس لسانه ولاذ بالصمت....












قديم 01-02-2009, 04:58 AM   رقم المشاركة : 198
!!! الرومـ ^_* ـانسي !!!
Band
 
الصورة الرمزية !!! الرومـ ^_* ـانسي !!!
 






!!! الرومـ ^_* ـانسي !!! غير متصل

من الصباح الباكر... اتصلت بسامر لأتأكد من أن كل شيء يسير بخير... وتناولت
فطوري وبقيت جالسة في الحديقة مع أقاربي وحقائبي... في انتظار مجيء ابني عني.
وعندما أتى سامر... عمد إلى الحقائب يحملها... وخرج عمي أبو حسام لملاقاة
وليد... الذي لم يدخل المنزل.
عانقتني نهلة بحرارة... أما خالتي قفد ذرفت الدموع وهي تضمني إلى صدرها...
وأبقتني في حظنها طويلا... إلى أن سمعت صوت سامر يقول:
"هيا بنا".
ابتعدت عن خالتي... فمسحت على رأسي وقالت:
"انتبهي لنفسك جيدا يا رغد..."
أومأت بنعم.. فالتفتت نحو سامر وقالت:
"اعتني بها وصنها كعينك يا بني... ولا تدع أخاك يقسو عليها".
فقال سامر:
"توصينني أنا يا خالتي؟؟"
فقالت:
"أذكّر... عل الذكرى تنفع المؤمنين".
فأكد لها:
"اطمئني... رغد بعنقي".
ثم التفت إلي وقال:
"هيا وإلا تأخرنا".
جلت بنظري لألقي نظرة الوداع على أقاربي... وافتقدت حسام الذي كان نائما ولم
ينهض لوداعي...
وأخيرا... غادرت المنزل... ورحلت عائدة إلى منزلي الحقيقي... في الجنوب...
وصلنا إلى المنزل الكبير ضحى...
وليد أسرع بالاستحمام ثم غادر المنزل على عجل وهو يقول:
"اهتم بكل شيء... سأعود عصرا... اتصل بي عند الحاجة".
واختفى بسرعة... أما سامر ففي البداية أخذ يتجول في أنحاء المنزل مستعيدا
الذكريات الماضية... وشاعرا بالألم لتذكر والديّ... ولأنني لا أستطيع صعود
الدرج فلم أرافقه عندما واصل جولته في الطابق العلوي... إنما ذهبت إلى غرفتي
اسفلية واستلقيت على سريري باسترخاء وأغمضت عيني...
آه... أخيرا أنا هنا من جديد...
كأن ما حصل... حلم طويل... لقد مضت عدة أسابيع منذ غادرت هذه الغرفة... على
أمل العودة بعد أيام... وبدون الشقراء...
يا للأيام... يا للأحلام...
ولم أشعر بنفسي وأنا أستسلم لنوم عميق... عميق جدا... عوضت فيه سهر الليالي
المؤرقة التي قضيتها بعيدا عن وليد قلبي...

*****************************

عدت من عملي قبيل المغرب فوجدت شقيقي متمددا على الكنبة في غرفة المعيشة
الرئيسية, غارقا في النوم, والتلفاز مشغلا والمصابيح مطفأة... وعلى الطاولة
جواره علبة فواكه مشكلة فارغة وقارورة ماء... ما إن هتفت باسمه مرتين حتى
استيقظ وراح ينظر إلى ما حوله ثم يتثاءب ويمدد ذراعيه ثم يقول:
"عدت أخيرا؟!... تأخرت".
فقلت:
"أخبرتك أنني سأعود متأخرا. كان أمامي الكثير لأنجزه اليوم".
ثم أضفت:
"وعلى فكرة يمكنك استلام وظيفتك رسميا ابتداءا من الغد.. وقد خصصت سيارة
تابعة للمصنع لتستخدمها إلى أن نجلب سيارتك من الشمال".
قال:
"عظيم... ممتاز... وأين ستعينني؟"
قلت:
"معي يا سامر... نائب عني ومساعدي الأول".
وأضفت:
"مثل السيد أسامة.. وأريدك أن تتقن الوظيفة بسرعة لتحمل العبء معي.. خصوصا
وأن المنذر يطالب بإجازة منذ زمن وأنا أرفضها".
سألني أخي:
"هل أسامة المنذر هذا موضع ثقة؟"
فأجبت:
"نعم.. وهو من كان يدير المصنع ويرعى ثروة أروى وأملاكها إلى أن تسلمتها..
إنه رجل أمينن.. وجدّي الثقة".
سأل:
"وماذا عن بقية الموظفين؟ الإداريين بالذات؟؟"
فقلت:
"لا أولي الثقة المطلقة في حياتي إلا خمسة رجال.. سيف وأبيه.. وعمي إلياس..
والسيد أسامة.. وأنت".
ثم مددت يدي وربت على كتف شقيقي وقلت:
"وأنت أولهم يا شقيقي... سأعتمد عليك كثيرا..."
ابتسم سامر وقال:
"بكل تأكيد.."
ثم أضاف مازحا:
"المهم أن تسبغ علي الرواتب والعطايا الكريمة! دعني أتذوق طعم الثراء من
جديد".
وضحكنا بابتهاج...
ثم سألته:
"ماذا عن رغد؟"
فحك شعر رأسه وقال:
"ربما نائمة... لم أرها منذ ساعات".
استنكرت هذا وقلت جادا:
"منذ ساعات!"
قال:
"نعم فهي قد دخلت غرفتها المجاورة بعد انصرافك ولم تجب عندما ناديتها قبل أن
أنام..."
أثارت الجملة قلقي فقلت:
"تعني أنك ام ترها منذ الصباح؟؟ وأنا من اعتمدت عليك؟"
وخرجت من غرفة المعيشة وذهبت إلى غرفة رغد وتبعني أخي.
طرقت الباب وناديتها بضع مرات فلم تجب. قال أخي:
"أظنها نائمة... قفد كانت متعبة من عناء السفر كما أنها لم تنم البارحة".
قلت:
"يجب أن نتأكد".
وطرقت الباب بقوة أكبر وهتفت مناديا إياها بصوت عال... ولم تجب... فما كان
مني إلا أن أمسكت بقبضة الباب وفتحته... وأخي يهتف:
" ماذا تفعل!!؟"
لم أدخل الغرفة بل ناديت رغد بصوت يعلو مرة بعد مرة إلى أن سمعت صوتها أخيرا
يرد...
"نعم؟؟"
"هذا أنا... هل أدخل؟؟"
"نعم... ماذا هناك؟؟"
أطللت برأسي داخل الغرفة فوجدتها جالسة على سريرها مادة رجليها وهي لا تزال
ترتدي عباءتها... ويبدو عليها النعاس الشديد... تراجعت للوراء وقلت:
"أنا آسف ولكننا طرقنا الباب وناديناك مرارا فلم تردي".
ولم أسمع لها ردا... فقلت:
"هل كنت نائمة؟"
فلم نرد... فعدت وأطللت برأسي نحو الداخل ورأيتها تتثاءب وهي شبه واعية
فسألت:
"هل شربت منوما أم ماذا؟؟"
ولم ترد... قلقت وسألت:
"هل أنت بخير؟"
فأجابت أخيرا وهي تفرك عينيها:
"أجل... أنا نعسى".
وأمالت رأسها إلى الوسادة وأغمضت عينيها... انسحبت من الغرفة وأغلقت الباب
وأنا أكرر اعتذاري...
لاقاني أخي بنظرات استهجان فشرحت له:
"داهمها الإغماء من قبل وشارفت على الموت... لم يبدو نومها طبيعيا مع كل ذلك
الطرق والنداء".
واتجهت إلى المطبخ وجلست على أحد المقعد أرخي أعصابي وعندما لحق بي أخي قلت:
"ستكون الخادمة هنا غدا... وسأعمل على توظيف طاهية أيضا".
قال سامر متجاوبا:
"على ذكر الطعام أنا أتضور جوعا".
واتصلنا بأحد المطاعم وطلبنا وجبة غنية تناولنا نصيبنا أنا وأخي منها فور
وصولها.
"أين سأنام؟"
سأل خي ونحن على مائدة الطعام, فأجبت:
"في أي غرفة تشاء... لكن الغرف بحاجة إلى تنظيف أولا وغرفتك السابقة ظلت
مقفلة... استخدم غرفتي الليلة".
قال:
"وأنت؟"
قلت:
"أنام في غرفة المعيشة على مقربة من رغد.. فهي تخشى المبيت بمفردها في الطابق
الأرضي".
وفوجئت بأخي يرد:
"إذن لا بأس. سأنام في غرفة المعيشة وابق أنت في غرفتك".
وكتمت في صدري شيئا لم أشأ إخراجه ساعتها...
ومع مرور الأيام بدأت تصرفات أخي تزعجني... فهو نصب نفسه مسؤولا أولا عن رغد
وحل مكاني في رعايتها... كنا نتناوب في الذهاب للعمل والبقاء في المنزل مع
رغد... وكنت أسهر كل ليلة لمتابعة العمل أولا بأول... ومع مطلع الأسبوع
المقبل ستعود رغد إلى جامعتها وسيتولى هو إقلالها ذهابا وعودة... أما أنا
فسأضطر للذهاب إلى المزرعة نهاية ها الأسبوع لأعالج مشاكلي مع أروى... والتي
ترفض الحديث معي منذ ليلة العشاء الذي أفسدته قبل سفري...


***************************




"إلى المزرعة؟!"
شهقت مندهشة لما أعلمنا وليد عن نيته في الذهاب إلى المزرعة غدا... ورجحت أن
يكون الهدف هو جلب الشقراء.
لم أستطع شيئا وكتمت اعتراضي في داخلي... لا يهم إن كانت الشقراء ستأتي.. لا
يهم إن كانت قد انتصرت علي.. المهم أن أبقى تحت سقف واحد مع وليد وأحظى
برؤيته كل يوم... إنني رأيت الموت من دونه... وسأقبل بأي شيء لقاء أن أظل على
مقربة منه ويظل طيفه يجول من حولي...
ومنذ أن أخبرنا بالخبر وأنا واقفة على أعصاب مشدودة في انتظار ما ستسفر عنه
سفرته هذه...
لم يكن وليد يجالسني أو يتحدث معي إلا بكلام عابر... وكان يقضي معظم الوقت في
مكتبه يعمل.
كنت سأجن لو أنه لم يحضرني معه... لم تكن شمس النهار التالي لتطلع علي وبي
عقل... بعد مقابلته البليدة عند بوابة منزل خالتي...
على فكرة... نظارته الشمسية أصبحت ملكي الآن!
اليوم ستزورني مرح وتجلب معها بعض المحاضرات الهامة لأطلع عليها... سأعود
للجامعة قريبا وأشغل وقتي في الدراسة من جديد... وأبعد عن رأسي التفكير في
الشقراء...
الساعة الآن الواحدة ظهرا ونحن -أنا وسامر- نتناول طعام الغداء في المطبخ...
ووليد في عمله...
"ما بك يا رغد؟؟ فيم أنت شاردة؟؟"
سألني سامر وهو يرى يدي تقلب الحساء بالملعقة طويلا... دون أن أرشف منه
شيئا...
قلت تلقائيا:
"هل تظن أنه سيحضرها معه؟؟"
فرد سامر:
"أظن ذلك, وهذا شأنهما".
فازداد توتري... فقال سامر:
"من الطبيعي أن يجلب زوجته معه يا رغد".
تناولت رشفة من الحساء بلعتها ولم أشعر بطعمها... ثم قلت:
"المهم.. أن تقبل بوجودي.. لأن وليد.. فيما لو رفضت.. سيعيدني إلى خالتي".
فاستغرب سامر وقال:
"وما علاقة هذا بك؟؟"
قلت:
"إنها لا تريد أن أعيش معهما".
"أهكذا؟"
نعم. لأن الانسجام بيني وبينها مستحيل.."
تجلى على سامر بعض التردد ثم تجرأ وسأل:
"هل تدرك هي أنك..."
طأطأت رأسي ونظرت إلى وعاء الحساء الموضوع أمامي حرجا... ففهم سامر إجابتي...
سامر يفهمني جيدا... وهو دائما معي صريح ومباشر... ليس فيه الغموض ولا ينشر
الحيرة والتساؤل والذهول أينما حل... كما هو وليد...
قال بعد صمت قصير:
"إذن وليد يعرف... الآن تأكدت".
فرفعت بصري إليه وسألت:
"يعرف ماذا؟؟"
فهوى ببصره إلى أطباق طعامه وتظاهر بالانشغال بتقطيع قطعة اللحم... وقال:
"أنك تحبينه".
شددت على يدي وفارت الدماء في وجهي وأبعدت نظري عن عيني سامر وقلت بصوت ضعيف:
"أأأأ... لا... ليس كذلك".
وأمسكت بطرف مفرش مائدة الطعام وأخذت أشد وأرخي فيه باضطراب...
سامر وضع قطعة اللحم في فمه وراح يمضغها ثم بلعها وقال:
"بل يعرف".
فرفعت بصري إليه باهتمام فوجدته يرفع كأس العصير ويشرب جرعة منه... متظاهرا
بالبرود...
قلت:
"كيف؟"
قال وهو يتابع تناول طعامه:
"ليس بهذا الغباء".
وأحسست بقلبي يخفق بقوة... هل يمكن أن يكون وليد... قد اكتشف أنني أحبه..
أكثر من حب ابنة لأبيها؟؟
وفيما أنا شاردة في تفكيري سمعت سامر يقول بجدية:
"لكن ذلك لن يغير شيئا يا رغد... وليد رجل متزوج ويكبرك بعشر سنين.. ولا أظنه
يعتبرك إلا ابنة أو أخت صغيرة يتيمة تكفل برعايتها".
فقدت شهيتي للطعام فجأة وتوجم وجهي حزنا... ولاحظ سامر التغيرات التي اعترتني
فوضع شوكته جانبا وخاطبني بنبرة أكثر جدية وواقعية:
"يا رغد... ستستفيقين يوما وتدركين أين كنت تتخبطين... لكنني لا أريد أن
تصابي بصدمة قاسية.. فكري مليا في وضعك... وقيمي الأشياء تقييما عقلانيا وليس
عاطفيا... ماهي نهاية حب رجل مرتبط بفتاة أخرى لا يملك أي سبب ليتخلى عنها؟
ولا أي دافع ليفكر في غيرها".
أصبت بعسر هضم وتلوت معدتي... ورفعت عيني بانكسار وأبرزت يدي على المائدة
وقلت:
"حتى لو تزوجها... سأبقى معه... تحت وصايته".
قال:
"ستكبرين يوما... ولن تحتجي وصيا... وهو سيتزوج ويكرس جهده لعائلته الجديدة..
هذا هو المسار الطبيعي للحياة".
قلت بشء من الاتفعال:
"وأنا؟؟"
فصمت سامر... ثم قال:
"أنت أيضا... ستتزوجين وتعيشين حياتك... مع من يستحقك ويقدرك".
وتبادلنا نظرات عميقة... ثم قال:
"القرار بيدك".
فأخذت أنظر إلى يدي... أتأمل راحتيهما... والخطوط التي تملأهما... وكأنني
أفتش عن القرار بينهما... وأراهما خاليتين جوفاوين... لا تحملان شيئا...
مددتهما نحو سامر أريه باطنهما الأجوف وأنا أقول:
"يداي لا تملكان شيئا".
فمد سامر يده نحو يدي وقال:
"ما في يدي هو ملكك".
وكانت عيناه تحملقان بي تملؤهما المعاني العميقة...
شعرت بمرارة في حلقي... كأنني تجرعت دواء مركزا... وانهارت تعبيرات وجهي أمام
نظرات سامر فإذا بي أقول دون تفكير:
"ألا زلت تحبني؟"
وكانت إجابته بأن شد قبضة يده وأغمض عينيه كمن يعتصر ألما...
نعم يحبني... أعرف ذلك... كان مهوسا بي... يغمرني بلطفه ويمطرني بهداياه
ويغلفني بعواطفه...
لم يكن خطيبي فقط... كان أخي وصديقي المقرب... وكان يشاركني كل شيء... ولم
أشعر يوما وهو معي بأنني بحاجة لأي شيء...
لماذا لا تزل تحبني يا سامر... بعد ما فعلته بك...؟؟
آه...كم يؤلمني قلبي... كم يقرصني ضميري... كم أنا أنانية... كم أنا حزينة من
أجلك...
رفعت رأسي أريد أن أرمي به إلى الوراء لعل الأحزان تتساقط منه... فإذا بعيني
تقعان فجأة على وليد...
جفلت وسحبت يدي نحو صدري أمسك نفسي الذي انحشر فجأة في شعيباتي الهوائية إثر
ظهور وليد المباغت... و
أحس سامر بحركتي السريعة ففتح عينيه والتفت إلى الوراء... إلى الباب... فوجد
وليد يقف هناك...
"أهلا وليد... كيف كان يومك؟"
بادر سامر بالسؤال فرد وليد:
"كان حافلا جدا".
قال سامر:
"قرصنا الجوع فشرعنا بالأكل قبلك".
رد وليد:
"بالهناء والعافية".
وتوجه نحو المغسل فغسل يديه وأقبل واتخذ مقعدا... على رأس المائدة...
قال:
"ماذا لدينا اليوم؟"
فأجاب سامر متظاهرا بالمرح:
"مشويات طلبناها من مطعم... وحساء أعدته رغد".
فطأطأت رأسي خجلا من الحساء المتواضع الذي أعددته...
وبدأ وليد يعد أطباقه وسكب لنفسه شيئا من الحساء... وأخذ يرتشفه... ولم ينطق
بأي تعليق...
وسامر عاد يتناول طعامه ويطرح على وليد الأسئلة حول العمل... حيث إنه سيذهب
بعد قليل... ويجيب وليد أجوبة مختصرة... إلى أن سمعته يقول:
"لم لا تأكلين؟"
انتبهت على سؤاله فرفعت رأسي ونظرت إليه نظرة سريعة ثم أخفضت رأسي وأجبت بصوت
خافت:
"اكتفيت الحمدلله".
وأمسكت بعكازي الموضوع إلى جواري وقمت عن المائدة...
سامر قال:
"لم تأكلي شيئا رغد".
فقلت:
"الحمد لله".
وسرت متجهة إلى الباب... فاستوقفني صوت وليد يقول:
"على فكرة هل لديك استعداد لزيارة الطبيب اليوم".
فتذكرت صديقتي مرح وقلت وأنا لا أجرؤ على رفع بصري إليه:
"اليوم؟ أأأأ ستأتي مرح لزيارتي".
فقال:
"ماذا عن بعد الغد أو بعده؟"
فأجبت:
"بعد الغد..."
فقال:
"لا بأس".
ثم تابعت طريقي إلى غرفتي...
وقبل مجيء مرح ذهبت إلى المطبخ لأحضر بعض أطباق المكسرات والحلويات...
وشيئا من العصير... وفيما أنا أحمل الصينية بيدي اليمنى بينما تمسك يدي
اليسرى بالعكاز... اختل توازن الصينية فوقعت أرضا وتحطم الكأسان الزجاجيان
محدثين جلبة كبيرة... وتبعثرت الأطباق والمحتويات على مساحة كبيرة...
"أوه... هذا ما كان ينقصني!"
تذمرت بصوت غاضب... ثم جثوت على الأرض بحذر ألتقط شظايا الزجاج والطعام
المبعثر...
"ماذا حصل؟"
التفت بسرعة نجو مصدر الصوت... وجدته واقفا عند الباب والقلق يخطو نتوءا على
جبينه ويحفر مابين حاجبيه... ثم اقترب مني وسأل:
"هل انزلقت؟؟ هل أنت بخير؟"
سحبت نظراتي عنه وسلطتها بخنوع نحو الشظايا وأجبت هامسة:
"أوقعت هذا من يدي".
ورأيت ظله ينعكس على الأرضية الملساء... ثم رأيت يده تظهر من الفضاء وتهبط
على الشظايا وتلملمها...
جمع قطع الزجاج الكبيرة والطعام في الصينية وانغمست أنا في التقاط الأشلاء
الصغيرة وإذا به يرفع الصينية ويقول:
"دعيها عنك".
فنهضت مستندة على عكازي ورأيته يتجه نحو المكنسة الكهربائية فشعرت بالحرج
وتقدمت خطوتين وأنا أقول:
"أنا سأنظفها".
فالتفت إلي وقال:
"لا عليك... احذري أن تدوسي عليها".
وقد كنت حافية القدم اليمنى, أما الآخرى فمجبرة كما تعلمون...
عكف وليد على تنظيف الأرضية بحذر من أي شظايا ممكنة... وعكفت عيناي على
مراقبته بكل عناية... فهما قد حرمتا من رؤيته أسابيع طويلة ولم ترتويا بمرآه
بعد...
لما فرغ من مهمته استدرت بسرعة نحو الدواليب وتظاهرت بأنني أستخرج كأسين
آخرين وأطباق جديدة... وسمعته يقول:
""دعيني أساعدك"
وتولى بنفسه تحضير كل شيء ثم حمل الصينية إلى العربة ثم سأل:
"أين ستستقبلينها؟"
أجبت:
"في غرفة الضيوف الرئيسية".
فقاد العربة إلى هناك ثم عاد وسأل:
"شيء آخر؟؟"
فأخفضت رأسي وابتسمت وقلت:
"شكرا لك".
فرد:
"العفو... صغيرتي".
رفعت إليه بصري بسرعة... هل قال صغيرتي؟؟ هل ناداني بصغيرتي من جديد؟؟ أخيرا
حن علي؟؟ هل صفح عني ورضا علي؟؟
حاولت أن أقرأ شيئا في عينيه لكنه استدار منصرفا وهو يقول:
"إذا احتجتني فناديني".
بعد ذلك ذهبت إلى غرفتي قريرة العين... ونظرت إلى وجهي في المرآة... فوجدته
متوهجا...
نزعت وشاحي وأطلقت سراح شعري السجين... إن لدي ضيفة مقربة وأنا لا أريد أن
أستقبلها كما في الزيارة السابقة! أتذكرون؟؟ الشقراء في قمة الأناقة وأزهى
الألوان...
وأنا خلف السواد وتحت الجبائر!
وأردت التزين ولكنني لم أملك شيئا في هذه الغرفة! لا حلي ولا مساحيق ولا
ملابس تليق باستقبال ضيوف مقربين!
"أوه... ما هذا الحظ العاثر! كيف سأصعد الآن إلى غرفتي... وكيف سأهبط!؟"
لا!
لا تذهبو بأفكاركم إلى الجحيم! هل تظنون أنني سأطلب هذا من وليد؟؟
في غرفة الضيوف استقبلت ضيفتي بعباءتي ووشاحي... وكأنني لست من أصحاب
المنزل... وكان وليد هو الذي فتح لها الباب وقادها إلى الغرفة.
"واو! ما هذه الأناقة يارغد؟؟ تبدين مذهلة!"
قالت مرح مازحة وهي تتأملني, فأجبت وأنا أرفع رأسي وحاجباي وأغمض عيني مفتعلة
المكابرة المازحة:
"لا تحاولي مضاهاتي! احترقي غيرة!"
وضحكنا مرحتين. وحقيقة اعتادت مرح وجميع الزميلات على رؤيتي بمظهر رسمي
عادي... في الجامعة لم أكن أرتدي غير الملابس الرسمية ولم أكن أضع أي مساحيق
أو حلي كما تفعل هي ومعظم الطالبات... بعضهن يحملن عدة التزين معهن عوضا عن
الكتب!
أما أنا فلم أتزين منذ أن.... سافر والدي للحج... العام الماضي... ولم
يعودا... وكما تعلمون بقيت في منزلنا في المدينة الصناعية تحت مرأى وليد إلى
أن احترق المنزل... ثم عشت في شقة سامر إلى أن بلغنا مقتل الحبيبين رحمهما
الله... وانتقلت بعدها إلى مزرعة الشقراء... ثم إلى هنا... ثم إلى منزل
خالتي... كالمشردة الضائعة بلا مأوى...مغلفة بسواد عباءتي...
لاحظت مرح شرودي فقالت:
"ابتسمي وأريني جمالك الحقيقي".
فابتسمت بعفوية فقالت:
"رائعة جدا! ستبهرينه بالتأكيد!".
تقوس حاجباي استغرابا وسألت:
"أبهر من؟".
فضحكت مرح ثم قالت:
"الرجل الذي ستتزوجينه ذات يوم..."
آه! يا لأفكارك السخيفة!
أما هي فتابعت:
"فنانة.. جميلة... خلوقة ومن عائلة راقية.. وابنة مليونير كبير!... سينبهر
حتما".
قرصت يدها قرصة خفيفة وقلت:
"دعك من هذا... أخبريني كيف هي الجامعة؟ والزميلات؟؟"
وأخبرتني بعدة أمور كان أكثر ما أثار اهتمامي هو المعرض الفني الذي يقام
حاليا في إحدى القاعات, بإشراف شقيقها, والذي شاركت هي فيه ببعض لوحاتها.
وأعلمتني بأنها ومجموعة من زميلاتنا قد اتفقن على حضوره يوم الغد, اليوم
الأخير للمعرض.
وكانت مرح قد سبق وأن أخبرتني عن المعرض عندما كنت راقدة في المستشفى...
قلت:
"غدا آخر يوم؟"
فأجابت:
"نعم".
قلت:
"يا للخسارة! كم تمنيت الحضور".
فقالت وقد لمعت فكرة في عينيها:
"ولم لا رغد؟ تعالي معنا فكلنا سنذهب غدا ونقضي وقتا رائعا".
قلت وأنا أشير إلى عكازي:
"وهذا".
فقالت:
"وما المانع؟ ألست تستطيعين السير؟؟ لا تفوتي فرصة كهذه رغد".
وكبرت الفكرة في رأسي بسرعة.. وشجعتني مرح حتى آمنت بها وقررت الذهاب!

**************************
عاد شقيقي مساء يحمل معه عشاء من أحد المطاعم وكيسا يحوي معتبرة من كرات
البوظة المختلفة الأنواع قال عنها:
"وهذه لرغد! ستدهشها".
وذهب مباشرة ليريها إياها... ولأن المطبخ قريب من غرفة رغد فمن السهل سماع أي
حوار يدور عند الباب...
كانت مسرورة.. وسمعت ضحكتها وضحكة سامر تنطلقان بمرح وتطرقان أذني بتحدي..
تجاهلت ذلك وخدرت أعصابي لتمر الليلة بسلام.
وقبل أن آوي إلى فراشي باكرا عاودت الاتصال بالمزرعة وتفقد أحوال أروى والعم
إلياس.. وقد رفضت أروى التحدث معي وطلب عمي مني الحضور لحل المشكلة...
فأخبرته بأنني سأعود نههاية الأسبوع كما خططت.
أويت إلى فراشي وبعد منتصف الليل استيقضت بسبب ألم في معدتي.. ذهبت إلى
المطبخ لأتناول دوائي وأشرب الماء وسمعت صوت التلفاز في غرفة المعيشة..
وتوقعت أن يكون أخي قد نام تاركا الجهاز مشغلا وذهبت بقصد إيقافه وفوجئت حين
أطللت برأسي فرأيت أخي ورغد يشاهدان التلفاز معا... ويلتهمان البوظة...
قال سامر حين رآني:
"ألم تنم بعد؟"
والأجدر أن أطرح أنا هذا السؤال... قلت:
"بلى, نهضت لأشرب ماء.. ولكن لم أنتما ساهرين للآن؟"
فرد:
"نشاهد فيلما ممتعا... ثم إننا لن ننهض باكرا مثلك!"
ولم أجد أي تعليق أعقب به... فانسحبت وعدت إلى فراشي...
لكن معدتي شاءت تعذيبي ساعة من الزمن حتى هدأت... وسلمتني للأفكار والهواجس..
تلعب بي بقية الليل...
كان لدي عمل كثير ومهم جدا في اليوم التالي.. عدت ظهرا من الشركة فيما ذهب
شقيقي إليها.
اعتكفت في مكتبي لإنجاز أمور ضرورية.. ودعوت أحد الموظفين المسؤولين لزيارتي
في المنزل وإتمام العمل معي..
وفيما أنا في قمة الانشغال طرق الباب وأجبت الطارق.. فكان رغد







قديم 01-02-2009, 07:06 AM   رقم المشاركة : 199
لياالي بيروووت
( وِد ماسي )
 
الصورة الرمزية لياالي بيروووت

الفارس حرام عليك كان كملت طيب وش كانت تبغى رغد يعني لازم تقهررررني اه منك


انتظر بكرة وكلي شوق



تحيييييييييييياتي







التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة





يسلمووو الايادي القمه على التوقيع الرائع فديتك يالغلا

قديم 01-02-2009, 04:11 PM   رقم المشاركة : 200
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور







التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)
   


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 04:44 PM.




 


    مجمموعة ترايدنت العربية