بعد تسمية دورة البابطين القادمة باسمه هل يحظى ابن المقرب العيوني بأبحاث خليجية جادة؟
أعلنت مؤسسة جائزة عبد العزيز البابطين للإبداع الشعري، فتح باب الترشيح للدورة الثامنة للمؤسسة التي تحمل اسم الشاعر علي بن المقرب العيوني، التي تقام في البحرين في أكتوبر العام المقبل، وخصصت ثلاث جوائز قيمتها سبعون ألف دولار للإبداع النقدي، وأفضل ديوان شعر، وأفضل قصيدة. وقد أتاح اختيار المؤسسة لشخصية علي ابن المقرب الفرصة لعدد من الباحثين الخليجيين المهتمين بتراث منطقة الخليج للتنقيب من جديد في آثار ابن المقرب وآثار الدولة العيونية التي ينتمي إليها، كما أتاح هذا الاختيار، لكونه يلامس جانباً مسكوتاً عنه من تراث الخليج، بالرغم من الشهرة الواسعة التي يحظى بها الشاعر، مطالبة عدد من الباحثين بإضافة اسم جديد لهذه الدورة هو الشاعر أبو البحر جعفر الخطي الذي ساهم في تأسيس حركة شعرية ناشطة في القرن السادس عشر الميلادي وخلف ابن المقرب في مرحلته الشعرية المتطورة، ويأتي ارتباط الشاعرين، ابن المقرب وأبو البحر، لانتمائهما لمنطقة جغرافية واحدة، ولكونهما رائدين من رواد الشعر الأصيل في الخليج، ولأنهما أيضاً يشتركان في العديد من الخصائص الفنية والموضوعية في شعريهما.
وقد دأبت مؤسسة البابطين على تسمية دوراتها بأسماء شعراء وأدباء ينتمون في الغالب للمنطقة التي تحتضن الدورة، وكانت آخر دورة أقيمت في الجزائر حملت اسم الأمير الشاعر أبو فراس الحمداني، والأمير عبد القادر الجزائري. ويتوقع أن تهتم الأبحاث التي ستشهدها الدورة المقبلة بمواضيع وتحقيقات جديدة بشأن ابن المقرب وحياته وشعره، خاصة في ما يتعلق بالتحقيق في الأحداث والسرد التاريخي الذي ورد في قصائده، سيما أن المصادر التي تناولت سيرته أو شعره لا تزال شحيحة، ولم يقدم أي من هذه الأبحاث على إضافة جديد عما هو مدون سوى التركيز على جوانب فرعية من سيرته، كانتمائه القبلي، والطائفي، ونسبة الديوان إليه، والتحريف المزعوم لبعض نسخ ديوانه، وهكذا.
الأمير والدولة: نشأ علي بن المقرب العيوني «572هـ - 630هـ» في مسقط رأسه الأحساء وتلقى فيها مبادئ ثقافته، وكانت الأحساء موطناً لقبائل عربية بارزة مثل ربيعة وعبد القيس وبكر وتغلب ولذلك فقد أوصل الباحثون نسب ابن المقرب بأكثر من واحدة من هذه القبائل، ولم يقصّر الشاعر في إضفاء جو من الالتباس من خلال مدحه وافتخاره وتمجيده لمعظم هذه القبائل. وينتمي علي ابن المقرب إلى الأمير عبد اللّه بن علي العيوني، الذي انتزع الأحساء من حكم القرامطة، وحكم القطيف والبحرين، وأسس الإمارة العيونية (466 ـ 636هـ).
وبالرغم من أن الدولة العيونية انفصلت عن كيان الدولة العباسية واستقلت بأمرائها إلا أنها لم تكن على صدام مع مركز الخلافة في بغداد، خاصة أن الخلافة العباسية مدت يد العون لأمراء العيونيين الذين حاربوا بقيادة الأمير عبد اللّه بن علي القرامطة وقضوا على دولتهم. ويشهد شعر ابن المقرب الذي يعتمد عليه كواحد من أكثر المصادر تأريخاً للدولة العيونية، العلاقة الحميمة بين الخليفة وبعض أمراء العيونيين خاصة في الفترة التي شهدت فيها الدولة مراحل من الاستقرار، سيما حين تولى الأمر محمد بن ابي الحسين، لكن بعد مقتله غيلة بدأ من جديد الصراع بين الأمراء العيونيين وضعفت دولتهم، وخلال الثلاثين سنة (600هـ إلى 630هـ) تولى الإمارة في الدولة العيونية ما يزيد على عشرة أمراء، وكان الملك متداولاً في القطيف بين أبناء الفضل بن عبد اللّه وفي الأحساء بين علي بن عبد اللّه فكان الصراع مستمراً بينهم.
كان عبد اللّه بن علي أول من حكم الدولة العيونية، ولأن الحكم كان في البدء محصوراً بذريته، فقد خلفه ابنه الفضل بن عبد اللّه الذي نقل مركز الحكم إلى القطيف، ويقول في حقه ابن المقرب:
منا الذي كل يوم فوق دارته
داع ينادي إليه الجائع الضرما
وكان للأمير الفضل بن عبد اللّه مناد ينادي كل يوم على سطح داره يدعو الناس إلى الطعام، وبعد وفاته خلفه ابنه أبو سنان محمد بن الفضل، والمعروف بكرمه أيضاً.. يقول ابن المقرب:
منا الذي من نداه مات عامله غماً
وأصبح في الأموات مخترما
وفي عهده بدأت آثار الانشقاقات داخل البيت الحاكم وانقسم العيونيون بين أمراء آل الحسن في القطيف وآل أبي منصور في الأحساء. لكن المتتبع لأشعار علي بن المقرب، يلاحظ انه سرد مناقب بطولية لعدد كبير من الأمراء العيونيين بحيث لم يخل واحد من الذين لم يخاصموه أو ينكلوا به من مناقب كلها تأتي في باب البطولة والفروسية والشجاعة والكرم، بل إن ابن المقرب لم يلتفت إلى أي منقبة بعيدة عن هذه المكارم، وهو ما يشكل جانباً آخر من شخصية الشاعر علي بن المقرب العيوني، كما ظل طوال عمره شاعراً يستنهض الهمم ويذود عن المكرمات، عالي النفس بعيداً عن التكسب بشعره أو طلب العون والمال، كما كان بعيداً عن شعر الهجاء. فهو يمدح الأمير علي أبي منصور بقوله: منا الذي فضّ أموال الخزائن في غوث الرعية لا قرضاً ولا سلماً ويمتدح أحد حكام أسرته وهو محمد بن ابي الحسين، وقد شهدت الدولة العيونية في عهده استقراراً ووحد الدولة العيونية وأوكل إليه الخليفة العباسي في بغداد حماية الطريق وتأديب قطاع الطرق.
يقول ابن المقرب:
منا الذي أصحب المجتاز من حلب
إلى العراق إلى نجد إلى أدما
ويقول في ابن أبي الحسين:
منا الذي ركز الرمحين ضاحية
وجوّز العرب العرباء بينهما
حتى احتوى ما اصطفاه من عقائلها
غصباً وهان عليه رغم من رغما
حيث كان محمد بن ابي الحسين إذا انتهى من معركة ركز فيها رمحين وكان يعطي من الغنائم كل من مر بغنيمته بين الرمحين.
شعره:
برز علي بن المقرب في نظم الشعر وهو لم يتعد العاشرة من عمره، وكان شعره يمتاز بجزالة وعاطفة وطنية جياشة، بل انه وفي مراحل مبكرة من حياته اصطدم بسلطان بني قومه من العيونيين فنظم الشعر معترضاً وثائراً، حتى نكّل به حاكم الأحساء أبو المنصور علي بن عبد اللّه الذي أمر بحبسه ومصادرة أملاكه وبساتينه، ودفعه بعدها للمنفى في العراق، وقد لقي في حياته اضطهاداً كبيراً من قبل اسرته التي اوغل الحساد صدور ملوكها عليه بادعاء طموحه وتطلعه للإمارة، خاصة أن بعض أشعاره تفيد بذلك، وقد ولد في الأحساء عام (572هـ) وكان الشاعر من سلالة الفرع الثالث في الأسرة العيونية، وهو ضبار بن عبد اللّه، ولم تكن لهذا الفرع مشاركة في الحكم ذلك إن الإمارة اقتصرت بعد وفاة جدهم عبد اللّه بن علي مؤسس الدولة العيونية على أحفاد الفضل بن عبد اللّه وأحفاد أخيه علي بن عبد اللّه، وكان هناك صراع بين هذين الفرعين. وكانت علاقة الشاعر وثيقة بأبناء الفضل بن عبد اللّه، وقد خصهم بغالب مدائحه وسجل بشعره مفاخرهم، وقد دفع الشاعر ثمن الصراع بين أبناء العمومة. فاضطهد وسجن، وسافر للعراق والشام يمدح بني عمومته ويستثير مروءتهم ويطلب مسامحتهم.
لكن لم يجد الباحثون مصدراً لاقتفاء أثر الدولة العيونية والظروف التاريخية التي أحاطت بها، بدءاً من نشوء الحركة القرمطية وإقامة الدولة والمشكلات التي عصفت بالجزيرة العربية إبان حكم القرامطة، وكذلك الجدل الذي لا يزال يأخذ مداه بشأن حقيقة القرامطة ونسبتهم التاريخية والجغرافية والقومية، لم يجد الباحثون أفضل من ديوان بن المقرب العيوني الذي سجّل ودون تلك الأحداث بتفاصيل دقيقة، نجد فيها معارك العيونيين مع القرامطة والأصول الفارسية لتلك الحركة والقبائل العربية التي انخرطت في دولة القرامطة، والعادات والتقاليد التي استوحت من التراث الفارسي ملهماً لها وجلبها القرامطة للجزيرة العربية، بالإضافة إلى تفاصيل دقيقة ذكرها الشاعر في قصائده. أما علاقة الدولة العيونية بالدولة العباسية، والحروب التي خاضها العيونيون ضد خصومهم مثل السلاجقة الذين تحالفوا معهم للقضاء على القرامطة ثم اختلفوا واقتتلوا، وكذلك الصراعات الداخلية الطاحنة التي أوهنت من قوة العيونيين وفتت عزيمتهم وساهمت في القضاء على دولتهم، فلم يكن لها من مصدر أكثر دقة من أشعار علي بن المقرب نفسه وقد برزت قصيدته الميمية التي تصل إلى نحو مائة وخمسين بيتاً، لأنها أرخت أحداث الدولة العيونية بتفاصيل جمعت بين الجزالة الشعرية والنظرة التاريخية.
من قصيدته الميمية:
قم فاشدد العيس للترحال معتزماً
وأرم الفجاج بها فالخطب قد فقما
ولا تلفت لا أهل ولا وطن
فالحر يرحل عن دار الأذى كرماً
كم رحلة وهبت عزاً تدين له شوس
الرجال وكم قد أورثت نعماً
وكم إقامة مغرور له جلبت حتفاً
وساقت إلى ساحاته النقما
واسمع، ولا تلغ ما أنشأت من حكم
فذو الحجا لم يزل يستنبط الحكما
لم يبك من رمدت عيناه أو سبلت
جفناه ألا لخوف من حدوث عمى
ومن رأى الضيم عاراً لم تمر به
شرارة منه إلا خالها أطما
وكل مجد إذا لم يُبن محتده
بالبأس نقره الأعداء فانهدما
لا يضبط الأمر من في عوده خور
ليس البغاث يساوي أجدلاً قطما
وللبيوت سطاعات تقوم بها
لا خروعاً جعلت يوماً ولا عنما
ماكل ساع إلا إلى العلياء يدركها
من حكّم السيف في أعدائه حكما
من ارعف السيف في هام العدا غضباً
للمجد حُق له أن يرعف القلما
لا تطلب الرأي إلا من أخي ثقة
لا يصدر القوم من لا يورد العلما
ولا يُعد كريماً من مواهبه
تمسي وتصبح في أعدائه ديما
من استخّف بأرباب العلا سفهاً
وسامها الخسف، أدمى كفه ندما
ألا فسل عن كليب كيف جدله
جساس، هل كان إلا أن حمى فرمى
ولا يعز الفتى إلا بأسرته
لو كان في البأس عمراً والندى هرما
لا ترض بالهون في خل تعاشره
فلن ترى غير جار الذل مهتضما
* * *
وفي الحكمة:
من سالم الناس لم تسلم مقاتله منهم
ومن عاث فيهم بالأذى سلما
ومن رأى الضيم عاراً لم تمر به
شرارة منه إلا خالها هطما
وذو النباهة لا يرضى بمنقصة
لو لم يجد غير أطراف القنا عصما
أو يقول:
كل السيادة في السخاء ولن ترى
ذا البخل يدعى في العشيرة سيدا
ومن الخساسة أن تكون على العدا
غيثاً وفي الأدنين ليثا البدا
العرض العادي
