خرجت الدول الفقيرة من المرحلة الأولى لقمة المعلومات بجنيف 2003 خالية الوفاض مؤجلة طموحاتها لدخول بوابة مجتمع المعلومات العالمي للمرحلة الثانية بتونس 2005 لعلها تتمكن من الحصول على ما لم تستطع أن تحصل عليه في المرحلة الأولي من القمة. لذا فمن المتوقع أن يكون هذا المؤتمر أكثر أهمية لأسباب عديدة لعل أبسطها أن دولة عربية -وهي تونس- ستستضيف المرحلة الثانية للقمة.
وقد قابلت الدول الغنية أهم مطلبين للدول النامية -ومن ضمنها الدول العربية- في قمة المعلومات الأولى بالرفض والتسويف، حيث رفضت مقترحهم بتمويل صندوق تضامن دولي لسد الفجوة الرقمية بين الشمال الغني والجنوب الفقير؛ متحججة بوجود صناديق دولية ومنظمات تمويلية عديدة يمكنها أن تفي بهذا الغرض. ومن جهة أخرى سوفت في مطلبهم بحق إدارة شبكة الإنترنت وتوزيع مواردها ومسئولياتها على كل دول العالم بالتساوي بدلاً من احتكار الولايات المتحدة لها كما هو جار الآن.
والدول العربية مثلها مثل دول العالم النامي تحاول أن يكون لها صوت مؤثر يدافع عن مصالح شعوبها.. هذا هو المنطقي والمتوقع، لذا تم توجيه دعوة من جامعة الدول العربية ووزارة الاتصالات والمعلومات المصرية لانعقاد المؤتمر التحضيري الثاني لقمة المعلومات من 9 إلى 10 مايو 2005، والذي سبقه المؤتمر الأول الذي عقد من قبلُ استعدادا للمرحلة الأولى.
وكان من المتوقع مشاركة عربية قوية بالمؤتمر المعني بإخراج ورقة عمل توضح تصور العرب للموضوعات التي ستناقشها المرحلة الثانية، فكلها قضايا ساخنة تهم مستقبل الشعوب العربية، لكن جاء الحضور العربي في هذا المؤتمر التحضيري بشكل أقل ما يقال عنه إنه ضعيف فلم يشهد المؤتمر غير حضور أربعة وزراء عرب من مصر (الدولة المضيفة) وتونس (صاحبه القمة) والأردن، والسعودية، مع تمثيل شكلي متواضع من المغرب والإمارات وسوريا، أما بقية الدول العربية فغابت غيابا تاما حتى على مستوى المندوبين الدائمين لجامعة الدول العربية.
بقية العالم هم الحضور
والعجيب أنه في الوقت الذي غاب فيه العرب عن مؤتمرهم شهدت جلسات المؤتمر حضورا مكثفا وقويا من العديد من الدول الأفريقية بصورة تفوق التواجد العربي، وذلك بدعوة من تونس ومصر في محاولة إقليمية لتوحيد موقف الكتلة العربية والأفريقية من قضايا القمة. وبجانب الحضور الأفريقي القوي شهد المؤتمر أيضا حضورا من بعض الدول مثل الأرجنتين والبرازيل وبلغاريا وكندا وأستراليا وأمريكا.
هذا إلى جانب حضور لافت من كبار المسئولين في العديد من المنظمات الدولية مثل الإتحاد الدولي للاتصالات ITU، ومؤسسة ICANN التي تدير شبكة الإنترنت، وجمعية الإنترنت العالمية ISOC ومجموعة عمل الأمم المتحدة WGIG المعنية بإيجاد تصور مستقبلي لكيفية إدارة شبكة الإنترنت بعد انتهاء الهيمنة الأمريكية عليها، وشهد المؤتمر حضور المنظمة العامة لتسجيل أسماء الإنترنت PIR ومؤسسة شبكة الإنترنت لأفريقيا AfriNIC والتي يدعو لها الإتحاد الأفريقي لتكون بديلة للمراكز الموجودة بأمريكا وأوربا.
ورغم غياب التواجد العربي المؤثر في فعاليات المؤتمر -باستثناء مصر وتونس والسعودية- فقد شهدت جلسات القمة التحضيرية نقاشات هامة للغاية؛ فتم في بداية المؤتمر استعراض آليات التمويل المقترحة لصندوق التضامن الرقمي حيث تم اقتراح آلية مبادلة الديون بين الدول الغنية والفقيرة، وهذا النظام يقضي بتنفيذ مشروعات في مجالات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بالدول المدينة تقوم بها شركات من الدول الدائنة –المتقدمة تكنولوجيا- على أن يتم سداد ديون تلك المشروعات بالاتفاق بين حكومات تلك الدول.
وتم استعراض تجربة مصر والأرجنتين لتنفيذ هذا المقترح، على الرغم من عدم توضيح الجلسات كيفية تطبيق هذا على نطاق عالمي، وكيف يأخذ طابع الالتزام دون فرض ديون تكبل الدول الفقيرة فإنه بلا شك مقترح جدير بالعرض على القمة.
كما استعرضت جلسات المؤتمر مع منظمة تكنولوجيا المعلومات من أجل التنمية IT4DEV كيف يمكن مساعدة الدول النامية في تمويل وتنفيذ برامج تنموية باستخدام حلول وأدوات تكنولوجيا المعلومات في مشروعات استكشافية لها صفتا الاستدامة والاستمرارية، على أن تقوم الدول نفسها بتكملة مراحل المشروع، وترددت مشروعات في التعليم ومحو الأمية والتدريب وتطوير القدرات والحكومة الإلكترونية.
جلسات ساخنة
كانت الجلسات الأكثر سخونة هي عن إدارة شبكة الإنترنت، حيث شهدت حضورا بارزا من اللجنة المكلفة بدارسة أفضل الحلول التي يمكن إدارة الشبكة من خلالها، وهي اللجنة التي شكلها الأمين العام للأمم المتحدة WGIG، وظهر جليا من خلال مشاركة العديد من أعضاء تلك اللجنة أنها تفتقر للتجانس، حتى إن البعض اتهمها بأنها لم تراع في تشكيل أعضائها الـ16 توازن القوى بين دول الشمال والجنوب وبين ممثلي المجتمع المدني والقطاعات الخاصة.
ولفت النظر عدم وجود تصور -ولو مبدئيا- بين أعضاء اللجنة متفق عليه للصورة التي ستكون عليها إدارة شبكة الإنترنت بعد عام 2006، واكتفت اللجنة بالتأكيد على أنها ستنتهي من وضع كافة تصوراتها بحلول سبتمبر القادم لتكون جاهزة لعرضها على المؤتمر التحضيري الأخير للقمة الذي سيعقد بجنيف.
ولم تخل جلسات القمة من بعض الأمور التقنية؛ فتم استعراض مميزات بروتوكول الجيل الجديد لشبكة الإنترنت Ipv6 الذي بات مطلبا للعديد من دول العالم بعد القصور الواضح في البروتوكول القديم، والذي لا يتسع للكم الهائل المتزايد من عناوين الإنترنت IP address.
وجاءت قضية المحتوى الإلكتروني وهيمنة اللغة الإنجليزية على شبكة الإنترنت ضمن القضايا الهامة التي ناقشتها القمة، لكنها لم تذكر أي مبادرات أو خطط واضحة المعالم للتغلب عليها، حتى موضوع كتابة أسماء النطاقات باللغة العربية تم ذكره على استحياء ولم يكن هناك أي شكل من أشكال التعاون بين الدول العربية متفق عليه ليعرض على القمة.
توصيات القاهرة.. كلاسيكية
أما عن توصيات المؤتمر والتي خرجت على شكل ورقتين، الأولى إعلان أفريقي عربي جاء مؤكدا على أهمية التكامل الإقليمي العربي والأفريقي الذي سيكون بمثابة طريق لخفض تكاليف خدمات الاتصالات والمعلومات، والاعتماد على الموارد الذاتية والمشتركة قدر الإمكان. وجاء فيها أهمية تطوير البنية التحتية والمحتوى، وتوفر وسائل وأدوات النفاذ المعلوماتي، والاهتمام بتعميم فكر الخدمة الشاملة التي تقضي بالاهتمام بتوصيل الخدمات والبنية التحتية إلى البيئة الريفية والنائية، ولم تذكر هذه الورقة أي أفكار أو مشروعات محددة قابلة للتنفيذ المشترك عربيا وأفريقيا.
أما الورقة الثانية فكانت الإعلان العربي الذي جاء تحت اسم "توصيات القاهرة"، وكان الإعلان كلاسيكيا أكثر من اللازم، حيث طالب بأمور أغلبها محل اتفاق عالمي بالفعل، ففيما يخص قضية التمويل ذكرت التوصيات أن مسألة سد الفجوة الرقمية بين الدول الغنية والفقيرة هي المدخل الرئيسي للتنمية في العالم مع اعتبار أن بناء جسر لعبور هذه الفجوة هو مسئولية المجتمع الدولي، بإشارة بسيطة إلى إمكانية الاعتماد على برنامج مبادلة الديون كآلية للتمويل.
ولم توضح التوصيات أي تصور يكشف عن وجهة نظر العرب لمستقبل إدارة شبكة الإنترنت، ولكنهم أكدوا فقط على أنها يجب أن تتفق مع المبادئ المذكورة بالفقرة 49 من إعلان جنيف 2003 وهي الفقرة الخاصة بالسيادة الوطنية للدول على شبكة الإنترنت، ولكن كيف ستكون هذه السيادة؟ وكيف يحال دون استغلال الدول سلطاتها في تقييد الحريات على شبكة المعلومات الدولية؟.. لم توضح التوصيات! في حين أوضح الوزراء العرب الذين شاركوا في القمة أن توصيات القاهرة ما هي إلا نقاط مبدئية!! وسيتم عرضها على اجتماع وزراء الاتصالات العرب الذي سيعقد في الجامعة العربية يونيو القادم، وهكذا جاءت باقي التوصيات شبيهة إلى حد كبير بتوصيات القمة التحضيرية الأولى يوليو 2003.
ورغم اهتمام "توصيات القاهرة" بالتأكيد على مشاركة المجتمع المدني العربي والقطاع الخاص العربي فلم تكن مشاركة ممثلي المجتمع المدني مؤثرة، ومع أنهم جاءوا بورقة عمل جيدة إلى حد ما فإنها لم تأخذ حقها في العرض والمناقشة ولم يتم الإشارة إليها في توصيات القاهرة.
أما القطاع الخاص العربي فاستمر في مسلسل غيابه، حيث لم يشهد المؤتمر سوى حضور القليل من رجال الأعمال ممثلين للقطاع الحكومي، مع رجل أعمال وحيد ممثل لإحدى شركات تكنولوجيا المعلومات العالمية، ولا نعرف هل هو غياب متعمد من رجال الأعمال أم أن الحكومات العربية لم تكن جادة في دعوتها لهم.
شهدت جلسات المؤتمر العربي التحضيري الثاني حضورا دوليا مكثفا، وربما لأول مرة يجتمع كل هذا العدد من المنظمات الدولية المهمة في أحد الأقاليم التي تنتمي إلى العالم النامي.
ومع هذا التواجد كنا نتوقع إجابات توضح ماذا سيفعل العالم في القضايا التي تعثرت فيها قمة المعلومات الأولى بجنيف، لكن للأسف خاب الظن.
لذا ليس أمامنا إلا أن ننتظر ما ستسفر عنه المرحلة الثانية من القمة التي وصفت بمرحلة الحلول والحسم.
العرض العادي
