كانت المقالة الأخيرة حول نقاب المسلمات التي كتبها جاك سترو، وزير الداخلية والخارجية البريطاني الأسبق، مثل العاصفة القوية التي رفعت النقاب عن كثير من الشك والتوجس والتحسب بين الجالية المسلمة في بريطانيا، وبقية أفراد المجتمع. فقد كتب سترو، العضو الفاعل في البرلمان، مقالة في إحدى الصحف، طلب فيها من المسلمات المنقبات أن يكشفن عن وجوههن عند مراجعتهن في دائرته الانتخابية «بلاكبيرن» في شمال غربي انجلترا، وانتقد النقاب قائلاً إنه تعبير مرئي للاختلاف والتفرقة، وان ارتداءه كفيل بأن يجعل من العلاقات بين المجتمع أكثر صعوبة، وهو تعبير ظاهر عن الفصل. وسرعان ما كبرت كرة الثلج الصغيرة وتدخلت أطراف عدة بين مؤيد وشاجب لهذا الرأي، وأمسك الإعلام بطرف الخيط، وصار النقاب موضوع الساعة ومادة للتندر والسخرية عند بعض الصحف، وصارت وجوه النسوة المنقبات رسوماً كاريكاتيرية، ومن جانب آخر استغلت صحف الخصوم السياسيين وبعض الصحف اليسارية تصريحات سترو، ووجدتها فرصة سانحة للتهجم عليه واتهامه بالاعتداء على الحرية الشخصية والحكم على الناس من خلال ما يلبسون ومحاولة إرشادهم إلى الطريقة التي يجب أن يظهروا بها وفرض رأيه عليهم، وما زالت القضية تتفاعل حتى الآن، وكان على «سيدتي» أن تتابع الخيوط من البداية.
نقابي.. خط أحمر
أول ما كان علينا عمله هو البحث عن نساء منقبات يعشن في لندن، فهن أول مَن يجب أن نستمع إليه، وبشيء من الصعوبة عثرنا على شابتين مغربيتين تسيران في أحد أحياء شمال غربي لندن، وقبل أن نبدأ الحديث كان شرط إحداهن أن يكون الحوار منقباً أيضاً، أي لا أسماء تعلن ولا صور تلتقط، وكان لها ما تريد:
لماذا تلبسين النقاب؟
ـ لقد بدأ الأمر منذ خمس سنوات بطلب من زوجي ورغبة أردت أن أحققها له، وأنا أرتديه تشبهاً بنساء الرسول صلى الله عليه وسلم.
وكيف يتعامل الناس هنا مع نقابك؟
ـ بكل احترام وتفهم، ولم أصادف أية مضايقة كبيرة إلى الآن، عكس ما كان يحدث قبل عشر سنوات، عندما جئت إلى هذا البلد لأول مرة وكنت محجبة أرتدي اللباس الشرعي العادي، وجاء أحدهم وجر «الإيشارب» الذي كان يغطي شعري بقوة وفرّ هارباً.
ألم يستوقفك أحد في الشارع ليسألك عن دوافع لبس النقاب؟
ـ يحدث أحياناً، لكن بشكل ودي في الغالب، وأشرح لهم الأمر ببساطة ووضوح. لكن أكثر ما يثير استغرابهم شرائي للملابس الحديثة أو الماكياج أو العطور، وكثيراً ما تسألني إحداهن مستغربة: ماذا تفعلين بهذه الملابس وأنت متلفعة بالسواد؟، وأجيبها بأني ألبس وأتزين لزوجي وأحرص على أناقتي في التجمعات التي تضم النساء فقط، وغالباً ما يتفهمن الأمر ويودعنني بابتسامة.
ألا ترين أن النقاب يعوق المرأة عن مزاولة بعض المهن في بريطانيا كالتعليم في المدارس الثانوية، والطب والهندسة وغيرها من المهن التي تحتاج إلى الحوار والتواصل؟
ـ نعم، أنا أؤيدك في هذا الأمر، ومَن تتنقب في هذا البلد فعليها أن تضع هذا الأمر في حسبانها وترضى بالمسموح فقط.
ما الذي يضيفه لك النقاب؟
ـ القيمة واحترام النفس وقد صار النقاب وبعد خمس سنوات من لبسه، جزءاً مني ولا استطيع الخروج بدونه.
متى تجبرين على رفع النقاب؟
ـ عند التصوير وفي بعض المراجعات التي تتطلب أن اكون كاشفة الوجه، ومتى طلبت مني أية سلطة محلية أن أفعل ذلك بسبب الضرورات الأمنية أو بسبب طريقة سير الأمور هنا، لكني سرعان ما أعود إلى تغطية وجهي.
ما أنت فاعلة لو صدر قانون يمنع النقاب في هذا البلد؟
ـ أترك هذا البلد وأعود إلى بلدي أو أي بلد يسمح لي بالنقاب الذي هو خط أحمر في حياتي.
ماذا تقول غير المنقبات؟
المرأة المسلمة في بريطانيا على ثلاثة أنواع: سافرة، محجبة، ومنقبة، وقد استمعنا الى ما تقوله الأخيرة، لكن ماذا عن الأخريات:
تقول أسماء عبد اللطيف (محجبة):
ـ النقاب ليس فرضاً، واللباس الشرعي يؤدي الغرض كما أظن، وإذا كان النقاب نوعاً من الحياء الزائد، فأنا أرى بعض المنقبات ممن يصرخن بصوت عال ويتشاجرن في الشارع ولا يلتزمن بالقوانين.
هل أنت ضد النقاب في بريطانيا؟
ـ في بعض الدول العربية يأخذ النقاب أبعاداً أخرى تتعلق بالعائلة والحسب والنسب والغنى والفقر، أي أنه ممارسة اجتماعية أكثر من كونها دينية، وأرى أن لبسه هنا في بريطانيا مؤشر سلبي لا يعود علينا كمسلمين بأية فائدة إن لم أقل العكس!.
هل ترين أن سترو محق في مقالته؟
ـ نعم، ومن حقه أن يرى الشخص الذي يكلمه، وإذا كنت أنا المرأة المسلمة لا أكاد أميز هذه المرأة عن تلك وتختلط عليّ الأمور ولا أعرف مع من أتحدث، فكيف به وهو الرجل الأوروبي؟ أرى أن النقاب لا يخدم وجودنا في بريطانيا، وإلا فإن قوانين مثل التي أقرت في باريس قد تجد مستقبلاً مَن يشجع صدورها هنا، ولا يعود حتى الحجاب العادي مقبولا في هذه الدولة.
نداء عباس (محجبة وترفض التصوير):
ـ رغم أني لست منقبة، لكني أعرف أن النقاب كان موجوداً في أيام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد بدأ ظهوره في بريطانيا أخيراً كنوع من ردة الفعل. وأظن أن المسألة نفسية، فإذا كنت تهاجمني وتريد إلغائي، فأنا أتشبث بديني إلى أقصى ما تتصوره من حدود.
أنت ضد تصريحات جاك سترو إذن؟
ـ أنا معه لو كان يتحدث عن الجانب الأمني من القضية، أي يريد أن يرى محدثه كي يأمن له، لكنه لم يشر إلى هذا في مقالته، وانتقد النقاب كلباس فقط، وهو غير محق في هذا أبداً، لأن من يسر في شوارع بريطانيا يرَ أشباه العراة والبانكس والهيبيز والذين يرسمون التاتو القبيح ويغرزون الحلقات والسلاسل في أجسامهم ولا أحد يقول شيئاً، لأن هذه حرية شخصية تضمنها قوانين البلد التي تقر بحقك بأن تلبس وتأكل وتفعل ما تشاء ما دمت لا تؤذي أحداً، ولا أظن أن المنقبات يؤذين أحداً.
آلاء الدباغ (سافرة وطبيبة أمراض نفسية في إحدى عيادات لندن):
ـ رغم أني لا أرتدي الحجاب أو النقاب، إلا أني أنتمي إلى جماعة المسلمين وأدافع عنهم ولا أرضى بالظلم إذا لحق بهم. وأرى أن مقالة سترو هي حق يُراد به باطل، فقد اختار الرجل توقيتاً غير مناسب تتعرض فيه بعض الدول الاسلامية كالعراق ولبنان وأفغانستان وفلسطين إلى حروب مدمرة، كما ظهرت علينا الصحف الدانماركية قبل فترة برسوم تسيء إلى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ثم جاءت تصريحات البابا لتؤكد شعور المسلمين بالغبن. ومن هنا، أرى أن مقالة سترو تزيد الطين بلة.
علينا أن نتحاور
في هذه الجولة لا بد أن نتوقف عند المركز الثقافي الاسلامي في لندن أو الجامع الكبير كما يحلو للبعض تسميته، وفي إحدى ردهاته الكثيرة، التقينا المدير أحمد الدبيان:
ماذا تقولون كمركز إسلامي عن هذه التصريحات؟
ـ لقد أزعجت هذه المقالة كثيراً من المسلمين لأسباب عديدة، أولها ما يسود الجو العام في بريطانيا وأوروبا عموماً من الشك وكثير من التحسب، فالتوقيت غير المناسب هو الذي سبّب ردة الفعل هذه. وثانياً أن جاك سترو رجل معروف بعلاقته الطيبة مع الجالية المسلمة، وله بعض المبادرات الطيبة تجاهنا، لذا كانت تصريحاته مفاجئة للكثيرين. وأنا أعتقد أن هذا رأيه الشخصي، وليس رأي الحكومة، وأتمنى أن أكون مصيباً.
ما سبب تزايد المنقبات في شوارع لندن برأيك؟
ـ عدد المنقبات ليس كبيراً، ومنظر المنقبات نادر في الشارع، ولا أظن أنه في ازدياد، وأغلب المسلمات يلبسن الحجاب العادي.
ما هو الرأي الشرعي بالنقاب؟
ـ هنالك رأيان، أحدهما يرى أن وجه المرأة عورة، والثاني يرى أنه ليس عورة، والرأي الأخير هو السائد حتى الآن.
ما رأيك بردود الفعل التي أثيرت حول هذا التصريح؟
ـ أتمنى ألاّ يكون لنا كجالية مسلمة في بريطانيا ردود فعل قوية وانفعالية ضد كل شخص لا يشاطرنا الرأي أو أي تصريح ينتقدنا، أعتقد أن بعض الأمور تتطلب الحِكمة والروية وعدم الانفعال ويمكن أن نناقش الآراء المطروحة ونفندها بالحجة، لكن بهدوء وعقلانية لأن تكرار الشكوى سيظهرنا وكأننا غير مندمجين ولا نقبل الاندماج، وليس لنا القدرة على النقاش والحوار والمراجعة أو قبول النقد أو الرأي الآخر، وهذا شعور لا نريد له أن ينمو كثيراً لدى الطرف الآخر.
يحترمون.. يتفهمون.. يخافون
استطلعنا آراء عدد من البريطانيين في أماكن مختلفة من لندن وطلبنا وجهة نظرهم بالنقاب، لكن ببضع كلمات سريعة فقط:
يقول دانييل (32 عاماً):
ـ أنا لا أحبه أبداً وأتحاشى المرأة التي تلبسه ولا أفكر يوماً بالعمل في مكان فيه منقبات، لكني بالمقابل أحترم خيارها لأن هذا جزء من حريتها الشخصية.
تقول روبن (20 عاماً):
ـ أنا لا أفهم لِمَ تخفي المرأة وجهها؟ وهل ثمّة ما تخجل منه؟
يقول جيسن (47 عاماً):
ـ هل تريد هذه المرأة الملثمة أن تقول إنها أكثر إنسانية ومبدأية وحباً للخير من الأخريات اللائي يظهرن وجوههن، لا أظن ذلك، لأن الابتسامة والكلمة الجميلة هي عمل خير في دينكم الاسلامي، هذا ما قاله لي زميلي المسلم في العمل، وأنا أثق في ما يقوله.
زوي (45عاماً):
ـ أنا لا أكترث لوجود نساء منقبات في الطريق ما دمن لا يؤثرن في الآخرين.
سارة (61 عاماً):
ـ أنا أحترم هؤلاء النسوة لأنهن يفعلن ما يؤمنّ به، وإن كنت لا اتفق معهن أبداً.
جون (31 عاماً):
شيء عن تداعيات أزمة النقاب
< قال رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، إن النقاب هو رمز للفصل، إلاّ أن للمسلمات الحق في ارتدائه.
< كتب صحافي في جريدة «صانداي مرور»، واسعة الانتشار: «للنساء المسلمات كل الحق في ارتداء النقاب، لكن عليهن إدراك أن الأشخاص الذين لا يفهمون ثقافتهن يجدون ذلك مخيفاً».
< دافعت معلمة بريطانية مسلمة اسمها عائشة عزمي (24 عاماً) عن حقها في ارتداء النقاب بعد صدور قرار بإيقافها عن العمل، وأحيلت القضية إلى محكمة متخصصة بقضايا العمل والعاملين، وفي النهاية خسرت القضية!.
منقــــــــــــــــــــــ للفائده ــــــــــــــــــــول
العرض العادي
