العودة   منتديات الـــود > +:::::[ الأقسام العامة ]:::::+ > ۞ مكتبة الــوٍد الإسلامية ۞
إضافة رد
   
 
أدوات الموضوع تقييم الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 08-05-2014, 03:41 AM   رقم المشاركة : 11
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين‏}‏ يعني عالمي زمانكم، فإنهم كانوا أشرف الناس في زمانهم من اليونان والقبط وسائر أصناف بني آدم كما قال‏:‏ ‏{‏وفضلناهم على العالمين‏}‏ وقال تعالى إخباراً عن موسى‏:‏ ‏{‏قال أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضَّلكم على العالمين‏}‏ والمقصود أنهم كانوا أفضل أمم زمانهم، وإلا فهذه الأمة أشرف منهم، وأفضل عند اللّه، وأكمل شريعة، وأقوم منهاجاً، وأكرم نبياً، وأعظم ملوكاً، وأغزر أرزاقاً، وأكثر أموالاً وأولاداً، وأوسع مملكة وأدوم عزاً‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس‏}‏‏.‏ وقد ذكرنا الأحاديث المتواترة في فضل هذه الأمة وشرفها وكرمها عند الله عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كنتم خير أمة أخرجت للناس‏}‏، وقيل‏:‏ المراد ‏{‏وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين‏}‏ يعني بذلك ما كان تعالى نزله عليهم من المن والسلوى، يظللهم به من الغمام، وغير ذلك مما كان تعالى يخصهم به من خوارق العادات، فالله أعلم‏.‏ ثم قال تعالى مخبراً عن تحريض موسى عليه السلام لبني إسرائيل على الجهاد، والدخول إلى بيت المقدس الذي كان بأيديهم في زمان يعقوب، لما ارتحل هو وبنوه وأهله إلى بلاد مصر أيام يوسف عليه السلام ثم لم يزالوا بها، حتى خرجوا مع موسى، فوجدوا فيها قوماً من العمالقة الجبارين قد استحوذوا عليها وتملكوها، فأمرهم رسول اللّه موسى عليه السلام بالدخول إليها، وبقتال أعدائهم، وبشرهم بالنصر والظفر عليهم، فنكلوا بالذهاب وعصوا وخالفوا أمره، فعوقبوا في التيه، والتمادي في سيرهم حائرين لا يدرون كيف يتوجهون فيه إلى مقصد مدة أربعين سنة، عقوبة لهم على تفريطهم في أمر اللّه تعالى، فقال تعالى مخبراً عن موسى أنه قال‏:‏ ‏{‏يا قوم ادخلو الأرض المقدسة‏}‏ أي المطهرة‏.‏ عن ابن عباس قال‏:‏ هي الطور وما حوله، وكذا قال مجاهد وغير واحد المراد بالأرض المقدسة‏:‏ ببيت المقدس وما حوله، ويقال لها‏:‏ إيليا، وتفسيرها‏:‏ بيت اللّه‏.‏ ويعني بالجبارين‏:‏ قوماً كانوا فيها من العماليق وهم بنو عملاق بن لاوذ
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏التي كتب الله لكم‏}‏ أي التي وعدكموها الله على لسان أبيكم إسرائيل أنه وراثة من آمن منكم، ‏{‏ولا ترتدوا على أدباركم‏}‏ أي تنكلوا عن الجهاد ‏{‏فتنقلبوا خاسرين‏.‏ قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون‏}‏ أي اعتذروا بأن في هذه البلدة التي أمرتنا بدخولها وقتال أهلها قوماً جبارين ذوي خلق هائلة وقوى شديدة، وإنا لا نقدر على مقاومتهم ولا مصاولتهم، ولا يمكننا الدخول إليها ما داموا فيها، فإن يخرجوا منها دخلناها، وإلا فلا طاقة لنا بهم‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما‏}‏ أي فلما نكل بنوا إسائيل عن طاعة الله ومتابعة رسول اللّه موسى حرضهم رجلان، للّه عليهما معمة عظيمة وهما ممن يخاف أمر الله ويخشى عقابه وقرأ بعضهم‏:‏ ‏{‏قال رجلان من الذين يخافون‏}‏ أي ممن لهم مهابة وموضع من الناس، ويقال إنهما يوشع بن نون و كالب بن يوفنا ضبط في سفر العدد‏:‏ يفنه‏:‏ بفتح الياء وضم الفاء، وتشديد النون، وقال السهيلي‏:‏ إنهما يوشع بن نون بن إفرائيم بن يوسف عليه السلام، والآخر‏:‏ كوطت بن يوفنا‏.‏ قال‏:‏ وأحسبه من سبط يهوذا بن يعقوب‏.‏ وقال‏:‏ ويوشع هو الذي حارب الجبارين‏.‏ واختلف‏:‏ أكان موسى معه في تلك الغزاة أم لا‏؟‏ وفيها حبست عليه الشمس حتى دخل المدينة، وفيها أحرق الذي وجد الغلول عنده في مكان يقال له غور عاجر، عرف باسم الرجل الغال‏.‏ كما ذكره الطبري ؛ قاله ابن عباس ومجاهد عكرمة وغير واحد من السلف والخلف رحمهم الله، فقالا‏:‏ ‏{‏ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون * وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين‏}‏ أي إن توكلتم على الله واتبعتم أمره ووافقتم رسوله، نصركم اللّه على أعدائكم، وأيدكم وظفركم بهم، ودخلتم البلد التي كتبها الله لكم؛ فلم ينفع ذلك فيهم شيئاً ‏{‏قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا ههنا قاعدون‏}‏، وهذا نكول منهم عن الجهاد ومخالفة لرسولهم، وتخلف عن مقاتلة الأعداء، ويقال‏:‏ إنهم لما نكلوا على الجهاد، وعزموا على الإنصراف والرجوع إلى مصر، سجد موسى وهرون عليهما السلام قدام ملأ من بني إسرائيل إعظاماً لما هموا به، وشق يوشع بن نون وكالب بن يوفنا ثيابهما، ولاما قومهما على ذلك، فيقال‏:‏ إنهم رجموهما، وجرى أمر عظيم وخطر جليل‏.‏

وما أحسن ما أجاب به الصحابة رضي اللّه عنهم يوم بدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين استشارهم في قتال النفير فتكلم أبو بكر رضي الله عنه فأحسن، ثم تكلم من تكلم من الصحابة من المهاجرين ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏أشيروا علي أيها المسلمون‏)‏ وما يقول ذلك إلا ليستعلم ما عند الأنصار لأنهم كانوا جمهور الناس يومئذ، فقال سعد بن معاذ‏:‏ كأنك تعرض بنا يا رسول اللّه فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلَّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصُبرٌ في الحرب، صُدق صبر وصدق بضمتين فيها جمع صبور وصدوق في اللقاء لعل اللّه أن يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله‏.‏ فسُرَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه ذلك‏.‏ وممن أجاب يومئذ المقداد بن عمرو الكندي رضي اللّه عنه، كما قال عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه‏:‏ لقد شهدت من المقداد مشهداً، لأن أكون أنا صاحبه أحب إليّ مما عدل به، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين فقال‏:‏ والله يا رسول الله لا نقول كما قالت بنوا إسرائيل لموسى ‏{‏اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون‏}‏ ولكنا نقاتل عن يمينك وعن يسارك ومن بين يديك ومن خلفك، فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرق لذلك وسره ذلك، وهكذا رواه البخاري في المغازي، ولفظه في كتاب التفسير عن عبد اللّه قال، قال المقداد يوم بدر، يا رسول اللّه لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى ‏{‏اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون‏}‏ ولكن امض ونحن معك‏.‏ فكأنه سري عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين‏} يعني لما نكل بنو إسرائيل عن القتال غضب عليهم موسى عليه السلام، وقال داعياً عليهم‏:‏ ‏{‏رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي‏}‏ أي ليس أحد يطيعني منهم فيمتثل أمر اللّه ويجيب إلى ما دعوت إليه إلا أنا وأخي هرون ‏{‏فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني اقض بيني وبينهم، وكذا قال الضحاك‏:‏ اقض بيننا وبينهم، وافتح بيننا وبينهم، وقال غيره‏:‏ افرق افصل بيننا وبينهم، كما قال الشاعر‏:‏
يا رب فافرق بينه وبيني * أشد ما فرَّقت بين اثنين
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض‏}‏ الآية، لما دعا عليهم موسى عليه السلام حين نكلوا عن الجهاد حكم الله بتحريم دخولها عليهم قدر مدة أربعين سنة، فوقعوا في التيه يسيرون دائماً لا يهتدون للخروج منه‏.‏ وفيه كانت أمور عجيبة وخوارق كثيرة‏:‏ من تظليلهم بالغمام، وإنزال المن والسلوى عليهم، ومن إخراج الماء الجاري من صخرة صماء تحمل معهم على دابة، فإذا ضربها موسى بعصاه انفجرت من ذلك الحجر اثنتا عشرة عيناً‏:‏ تجري لكل شعب عين، وغير ذلك من المعجزات التي أيد الله بها موسى بن عمران‏.‏ وهناك نزلت التوراة، وشرعت لهم الأحكام‏.‏ عن سعيد بن جبير‏:‏ سألت ابن عباس عن قوله‏:‏ ‏{‏فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض‏{‏الآية‏.‏ قال‏:‏ فتاهوا في الأرض أربعين سنة يصبحون كل يوم يسيرون ليس لهم قرار، ثم ظلل عليهم الغمام في التيه، وأنزل عليهم المن والسلوى‏.‏ وهذا قطعة من حديث الفتون‏.‏ ثم كانت وفاة هرون عليه السلام، ثم بعده بمدة ثلاث سنين وفاة موسى الكليم عليه السلام، وأقام اللّه فيهم يوشع بن نون عليه السلام نبياً خليفة عن موسى بن عمران، ومات أكثر بني إسرائيل هناك في تلك المدة، ويقال‏:‏ إنه لم يبق منهم أحد سوى يوشع وكالب، فلما انقضت المدة خرج بهم يوشع بن نون عليه السلام، أو بمن بقي منهم وبسائر بني إسرائيل من الجيل الثاني، فقصد بهم بيت المقدس فحاصرها، فكان فتحها يوم الجمعة بعد العصر‏.‏ فلما تضيفت الشمس للغروب وخشي دخول السبت عليهم قال‏:‏ إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علي؛ فحبسها اللّه تعالى حتى فتحها وأمر الله يوشع بن نون أن يأمر بني إسرائيل حين يدخلون بيت المقدس أن يدخلوا بابها سجداً، وهم يقولون حطة‏:‏ أي حط عنا ذنوبنا، فبدلوا ما أمروا به، ودخلوا يزحفون على أستاههم، هم يقولون‏:‏ حبة في شعرة، وقد تقدم هذا كله في سورة البقرة‏.‏

وقال ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنه قوله‏:‏ ‏{‏فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض‏}‏ قال‏:‏ فتاهوا أربعين سنة، قال‏:‏ فهلك موسى وهرون في التيه وكل من جاوز الأربعين سنة، فلما مضت الأربعون سنة ناهضهم يوشع بن نون، وهو الذي قام بالأمر بعد موسى، وهو الذي افتتحها، فوجد فيها من الأموال ما لم ير مثله قط، فقربوه إلى النار فلم تأته، فقال‏:‏ فيكم الغلول، قدعا رؤوس الأسباط، وهم اثنا عشر رجلاً، فبايعهم، والتصقت يد رجل منهم بيده، فقال‏:‏ الغلول عندك، فأخرجه، فأخرج رأس بقرة من ذهب فوضعه مع القربان فأتت النار فأكلته‏.‏ وهذا السياق له شاهد في الصحيح‏.‏ وقد اختار ابن جرير أن قوله‏:‏ ‏{‏فإنها محرمة عليهم‏}‏ هو العامل في اربعين سنة، وأنهم مكثوا لا يدخلونها أربعين سنة، وهم تائهون في البرية لا يهتدون لمقصد، قال‏:‏ خرجوا مع موسى عليه السلام ففتح بهم بيت المقدس، ثم احتج على ذلك بإجماع علماء أخبار الأولين أن عوج ابن عنق قتله موسى عليه السلام قال‏:‏ فلو كان قتله إياه قبل التيه لما رهبت بنو إسرائيل من العماليق، فدل على أنه كان بعد التيه قال‏:‏ وأجمعوا على أن بلعام بن باعورا أعان الجبارين بالدعاء على موسى، قال‏:‏ وما ذالك إلا بعد التيه، لأنهم كانوا قبل التيه لا يخافون من موسى وقومه‏
.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تأس على القوم الفاسقين‏}
تسلية لموسى عليه السلام عنهم، أي لا تأسف ولا تحزن عليهم فيما حكمت عليهم به فإنهم مستحقون ذلك، وهذه القصة تضمنت تقريع اليهود بينا فضائحم ومخالفتهم للّه ولرسوله، ونكولهم عن طاعتهما فيما أمرهم به من الجهاد فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء ومجالدتهم ومقاتلتهم؛ مع أن بين أظهرهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وكليمه وصفيه من خلقه في ذلك الزمان، وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم، هذا مع ما شهدوا من فعل الله بعدوهم فرعون من العذاب والنكال والغرق له ولجنوده في اليم، وهم ينظرون لتقر به أعينهم وما بالعهد من قدم، ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر لا توازي عشر المعشار في عدة أهلها وعددهم فظهرت قبائح صنيعهم للخاص والعام، وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل، ولا يسترها الذيل، هذا وهم في جهلهم يعمهون، وفي غيهم يترددون، وهم البغضاء إلى الله وأعداؤه، ويقولون مع ذلك نحن أبناء اللّه وأحباؤه، فقبح اللّه وجوههم التي مسخ منها الخنازير والقرود، وألزمهم لعنة تصحبهم إلى النار ذات الوقود، ويقضى لهم فيه بتأبيد الخلود، وقد فعل، وله الحمد من جميع الوجود‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏27 ‏:‏ 31‏)‏
‏{‏ واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين ‏.‏ لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين ‏.‏ إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين ‏.‏ فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين ‏.‏ فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين ‏}‏
يقول تعالى مبينا وخيم عاقبة البغي والحسد والظلم في خبر ابني آدم وهما قابيل وهابيل ، كيف عدا أحدهما على الآخر، فقتله بغياً عليه وحسداً له، فيما وهبه الله من النعمة وتقبل القربان الذي أخلص فيه لله عزَّ وجلَّ ففاز المقتول بوضع الآثان والدخول إلى الجنة، وخاب القاتل ورجع بالصفقة الخاسرة في الدارين، فقال تعالى‏: ‏{‏واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق‏}‏ أي اقصص على هؤلاء البغاة الحسدة أخوان الخنازير والقردة من اليهود وأمثالهم وأشباههم خبر ابني آدم وهما هابيل وقابيل فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف‏.‏ وقوله‏:‏{‏بالحق‏}‏ أي على الجلية والأمر الذي لا لبس فيه ولا كذب، ولا وهم ولا تبديل، ولا زيادة ولا نقصان؛ كقوله تعالى‏: ‏{‏إن هذا لهو القصص الحق‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏نحن نقص عليك نبأهم بالحق‏} كان من خبرهما فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف، أن اللّه تعالى شرع لآدم عليه السلام أن يزوج بناته من بنيه لضرورة الحال، ولكن قالوا‏:‏ كان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى، فكان يزوج أنثى هذا البطن لذكر البطن الآخر، وكانت أخت هابيل دميمة وأخت قابيل وضيئة، فارد أن يستأثر بها على أخيه، فأبى آدم ذلك إلا أن يقربا قرباناً، فمن تقبل منه فهي له، فتقبل من هابيل، ولم يتقبل من قابيل، فكان من أمرهما ما قصه الله في كتابه‏.‏

قال السدي عن ابن عباس وعن ابن مسعود‏:‏ أنه كان لا يولد لآدم مولود إلا ومعه جارية، فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر، ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر، حتى ولد له ابنان يقال لهما هابيل وقابيل، كان قابيل صاحب زرع، وكان هابيل صاحب ضرع، وكان قابيل أكبرهما، وكان له أخت أحسن من أخت هابيل، وأن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل، فأبى عليه، وقال هي أختي ولدت معي، وهي أحسن من أختك، وأنا أحق أن أتزوج بها، وأنهما قربا قرباناً إلى اللّه عزَّ وجلَّ أيهما أحق بالجارية، قرب هابيل جذعة سمينة، وقرب قابيل حزمة سنبل، فوجد فيها سنبلة عظيمة ففركها وأكلها، فنزلت النار فأكلت قربانا هابيل، وتركت قربان قابيل، فغضب، وقال لأقتلنك حتى لا تنكح أختي، فقال هابيل ‏{‏إنما يتقبل الله من المتقين‏}‏ ‏"‏رواه ابن جرير‏"‏وقال ابن جرير
عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ إن ابني آدم اللذين قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، كان أحدهما صاحب حرث، والآخر صاحب غنم، وإنهما أمرا أن يقرباً قرباناً، وإن صاحب الغنم قرب أكرم غنمه وأسمنها وأحسنها طيبة بها نفسه، وأن صاحب الحرث قرَّب أشر حرثه الكوزن والزوان غير طيبة بها نفسه وإن اللّه عزَّ وجلَّ تقبل قربان صاحب الغنم، ولم يتقبل قربان صاحب الحرث، وكان من قصتهما ما قص الله في كتابه، قال‏:‏ وايم الله إن كان المقتول لأشد الرجلين، ولكن منعه التحرج أن يبسط يده إلى أخيه‏.‏ وروى محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول‏:‏ أن آدم أمر بانه قابيل أن ينكح أخته توأمة هابيل، وأمر هابيل أن ينكح أخته توأمة قابيل، فسلم لذلك هابيل ورضي، وأبى ذلك قابيل وكره تكرماً عن هابيل، ورغب بأخته عن هابيل، وقال‏:‏ نحن من ولادة الجنة، وهما من ولادة الأرض، وأنا أحق بأختي‏.‏ ويقول بعض أهل العلم بالكتاب الأول‏:‏ كانت أخت قابيل من أحسن الناس، فضن بها على أخيه وأرادها لنفسه فقال له أبوه‏:‏ يا بني إنها لا تحل لك، فأبى قابيل أن يقبل ذلك من قول أبيه، قال له أبوه‏:‏ يا بني قرب قرباناً ويقرب أخوك هابيل قرباناً فأيكما تقبل قربانه فهو أحق بها، وكان قابيل على بذر الأرض، وكان هابيل على رعاية الماشية، فقرب قابيل قمحاً، وقرب هابيل أبكاراً من أبكار غنمه، وبعضهم يقول‏:‏ قرب بقرة؛ فأرسل اللّه ناراً بيضاء فأكلت قربان هابيل، وتركت قربان قابيل، وبذلك كان يقبل القربان إذا قبله‏.‏‏"‏رواه ابن جرير‏"‏، ثم المشهور عند الجمهور أن الذي قرب الشاة هو هابيل، وأن الذي قرب الطعام هو قابيل، وأنه تقبل من هابيل شاته، حتى قال ابن عباس وغيره‏:‏ إنها الكبش الذي فدي به الذبيح وهو مناسب، واللّه أعلم‏.‏ ولم يتقبل من قابيل، كذلك نص عليه غير واحد من السلف والخلف وهو المشهور عن مجاهد أيضاً‏.‏

ومعنى قوله‏:‏{‏إنما يتقبل اللّه من المتقين‏}‏
أي ممن اتقى الله في فعله ذلك‏.‏ وفي الحديث عن معاذ بن جبل، قال‏:‏ يحبس الناس في بقيع واحد ينادي مناد، أي المتقون‏؟‏ فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر، قلت‏:‏ من المتقون‏؟‏ قال‏:‏ قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان، وأخلصوا العبادة فيمرون إلى الجنة‏.‏






التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس
قديم 08-05-2014, 03:55 AM   رقم المشاركة : 12
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف اللّه رب العالمين‏}‏ يقول له أخوه الرجل الصالح الذي تقبل اللّه قربانه لتقواه، حين توعده أخوه بالقتل عن غير ما ذنب منه إليه ‏{‏لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك‏}‏ أي لا أقابلك على صنيعك الفاسد بمثله، فأكون أنا وأنت سواء في الخطيئة ‏{‏إني أخاف اللّه رب العالمين‏}‏ أي من أن أصنع كما تريد أن تصنع بل أصبر وأحتسب، قال عبد الله بن عمرو‏:‏ وايم الله إن كان لأشد الرجلين ولكن منعه التحرج يعني الورع؛ ولهذا ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار‏)‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏إنه كان حريصاً على قتل صاحبه‏)‏ وقال الإمام أحمد عن بشر بن سعيد أن سعد بن أبي وقاص قال، عند فتنة عثمان‏:‏ أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالك ‏(‏إنها ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي‏)‏ قال‏:‏ افرايت إن دخل على بيتي فبسط يده إليَّ ليقتلني‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏كن كابن آدم‏)‏، قال أيوب السختياني‏:‏ إن أول من أخذ بهذه الآية من هذه الامة ‏{‏لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين‏}‏ لعثمان بن عفان رضي الله عنه، رواه ابن أبي حاتم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إني اريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار ورذلك جزاء الظالمين‏}‏ قال ابن عباس ومجاهد‏:‏ أي بإثم قتلي وإثمك الذي عليك قبل ذلك، وقال آخرون‏:‏ يعني بذلك إني اريد أن تبوء بخطيئتي فتتحمل وزرها وإثمك في قتلك إياي‏.‏ عن مجاهد ‏{‏إني أريد أن تبوء بإثمي وأثمك‏}‏ يقول‏:‏ إني اريد أن يكون عليك خطيئتي ودمي فتبوء بهما جميعاً‏.‏ قلت ‏:‏ وقد يتوهم كثير من الناس هذا القول ويذكرون في ذلك حديثاً لا أصل له ‏(‏ما ترك القاتل على المقتول من ذنب‏)‏ وقد روى الحافط أبو بكر البزار حديثا يشبه هذا ولكن ليس به فقال عن عائشة، قالت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏قتل الصبر لا يمر بذنب إلا محاه‏)‏، وهذا بهذا لا يصح، ولو صح فمعناه أن اللّه يكفر عن المقتول بألم القتل ذنوبه، فأما أن تحمل على القاتل فلا، ولكن قد يتفق هذا في بعض الأشخاص وهو الغالب، فإن المقتول يطالب القاتل في العرصات، فيؤخذ له من حسناته بقدر مظلمته، فإن نفدت ولم يستوف حقه أخذ من سيئات المقتول فطرحت على القاتل، فربما لا يبقى على المقتول خطيئة إلا وضعت على القاتل‏.‏ وقد صح الحديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المظالم كلها، والقتل من أعظمها وأشدها والله أعلم‏.‏ فإن قيل‏:‏ كيف أرد هابيل أن يكون على أخيه قابيل إثم قتله‏؟‏ والجواب أن هابيل أخبر عن نفسه بأنه لا يقاتل أخاه إن قاتله بل عنه يده طالباً إن وقع قتل أن يكون من أخيه لا منه‏.‏ وهذا الكلام متضمن موعظة له لو اتعظ وزجراً لو انزجر، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك‏}‏ أي تتحمل إثمي وإثمك ‏{‏فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين‏}‏ وقال ابن عباس‏:‏ خوَّفه بالنار فلم ينته ولم ينزجر‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين‏}‏ أي فحسنت وسولت له نفسه وشجعته على قتل أخيه فقتله أي بعد هذه الموعظة، وهذا الزجر‏.‏ وقد تقدم أنه قتله بحديدة في يده؛ وقال السدي‏:‏ ‏{‏فطوعت له نفسه قتل أخيه‏}‏ فطلبه ليقتله فراغ الغلام منه في رؤوس الجبال، فأتاه يوماً من الايام، وهن يرعى غنماً له، وهو نائم، فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات، فتركه بالعراء‏.‏ رواه ابن جرير‏.‏ وعن بعض أهل الكتاب أنه قتله خنقاً وعضاً كما تقتل السباع‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ لما أراد أن يقتله جعل يلوي عنقه، فأخذ إبليس دابة ووضع رأسها على حجر ثم أخذ حجراً آخر فضرب به رأسها حتى قتلها، وابن آدم ينظر، ففعل بأخيه مثل ذلك‏.‏ وقال عبد اللّه ابن وهب‏:‏ أخذ براسه ليقتله فاضطجع له وجعل يغمز رأسه وعظامه ولا يدري كيف يقتله، فجاءه إبليس فقال‏:‏ أتريد أن تقتله، قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فخذ هذه الصخرة فاطرحها على رأسه، قال‏:‏ فأخذها فألقاها عليه فشدخ راسه، ثم جاء إبليس إلى حواء مسرعاً، فقال‏:‏ يا حواء إن قابيل قتل هابيل، فقالت له‏:‏ ويحك وأي شيء يكون القتل‏؟‏ قال‏:‏ لا يأكل ولا يشرب ولا يتحرك، قالت‏:‏ ذلك الموت‏؟‏ قال‏:‏ فهو الموت، فجعلت تصيح حتى دخل عليها آدم وهي تصيح، فقال‏:‏ مالك‏؟‏ فلم تكلمه فرجع إليها مرتين فلم تكلمه، فقال‏:‏ عليك الصيحة وعلى بناتك، وأنا وبني منها براء‏.‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فأصبح من الخاسرين‏}‏ أي في الدنيا والآخرة، واي خسارة أعظم من هذه‏.‏ عن عبد اللّه بن مسعود قال، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل‏)‏، وقد أخرجه الجماعة سوى أبي داود‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبعث اللّه غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين‏}‏ قال السدي‏:‏ لما مات الغلام تركه بالعراء ولا يعلم كيف يدفن فبعث اللّه غرابين أخوين، فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه، فحفر له، ثم حثى عليه، فلما رآه قال‏:‏ ‏{‏يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي‏}‏‏؟‏ وقال ابن عباس‏:‏ جاء غراب إلى غراب ميت فبحث عليه من التراب حتى وراه، فقال الذي قتل أخاه ‏{‏يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأوراي سوأة أخي‏}‏، وقال الضحاك عن ابن عباس‏:‏ مكث يحمل أخاه في جراب على عاتقه سنة حتى بعث اللّه الغرابين فرآهما يبحثان فقال‏:‏ ‏{‏أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب‏}‏
فدفن أخاه وزعم أهل التوراة أن قابيل لما قتل أخاه هابيل قال له اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ يا قابيل اين أخوك هابيل‏؟‏ قال‏:‏ ما أدري ما كنت عليه رقيباً، فقال اللّه‏:‏ إن صوت دم أخيك ليناديني من الارض الآن، أنت ملعون من الأرض التي فتحت فاها، فتلقت دم أخيك من يدك، فإن أنت عملت في الارض فإنها لا تعود تعطيك حرثها، حتى تكون فزعاً تائهاً في الارض‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأصبح من النادمين‏}‏ قال الحسن البصري‏:‏ علاه الله بندامة بعد خسران‏.‏ فهذه أقوال المفسرين في هذه القصة، وكلهم متفقون على أن هذين ابنا آدم لصلبه كما هو ظاهر القرآن، وكما نطق به الحديث في قوله‏:‏
‏(‏إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل‏)‏، وهذا ظاهر جلي‏.‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏ إن اللّه ضرب لكم ابني آدم مثلاً فخذوا من خيرهم ودعوا شرهم‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن جرير عن الحسن البصري مرفوعاً‏"‏والظاهر أن قابيل عوجل بالعقوبة، كما ذكره مجاهد وابن جبير‏:‏ أنه علقت ساقه بفخذه يوم قتله وجعل اللّه وجهه إلى الشمس حيث دارت عقوبة له وتنكيلاً به‏.‏ وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم‏)‏ وقد اجتمع في فعل قابيل هذا وهذا، فإنا للّه وإنا إليه راجعون‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏32 ‏:‏ 34‏)‏
{‏ من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون ‏.‏ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم ‏.‏ إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ‏}‏
يقول تعالى من أجل قتل ابن آدم أخاه ظلماً وعدوانا ‏{‏كتبنا على بني إسرائيل‏}‏ أي شرعنا لهم وأعلمناهم ‏{‏أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا‏}‏ أي من قتل نفساً بغير سبب من قصاص أو فساد في الأرض، واستحل قتلها بلا سبب ولا جناية، فكأنما قتل الناس جميعاً، لأنه لا فرق عنده بين نفس ونفس، ومن أحياها أي حرم قتلها واعتقد ذلك فقد سلم الناس كلهم منه بهذا الاعتبار، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فكأنهما أحيا الناس جميعاً‏}‏ وقال الأعمش عن أبي هريرة قال‏:‏
دخلت على عثمان يوم الدار فقلت‏:‏ جئت لأنصرك، وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين، فقال‏:‏ يا أبا هريرة أيسرك أن تقتل الناس جميعاً وإياي معهم‏؟‏ قلت‏:‏ لا، قال‏:‏ فإنك إن قتلت رجلاً واحداً فكأنهما قتلت الناس جميعاً، فانصرف مأذوناً لك، فأجوراً غير مأزور، قال‏:‏ فانصرفت ولم أقاتل‏.‏ وقال ابن عباس هو كما قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏من قتل نفساً بغير نفس فكأنهما قتل الناس جميعاً ومن أحياهال فكأنما أحيا الناس جميعاً‏}‏ وإحياؤها ألا يقتل نفساً حرمها الله فذلك الذي أحيا الناس جميعاً، يعني أنه من حرم قتلها إلا بحق حيي الناس منه؛ وهكذا قال مجاهد، ومن أحياها أي كف عن قتلها‏.‏ وقال العوفي عن ابن عباس في قوله ‏{‏فكأنما قتل الناس جميعاً‏}‏ يقول‏:‏ من قتل نفساً واحدة حرمها الله فهو مثل من قتل الناس جميعاً‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ من استحل دم مسلم فكأنما استحل دماء الناس جميعاً، ومن حرم دم مسلم فكأنما حرم دماء الناس جميعاً، هذا قول وهو الأظهر، وقال مجاهد في رواية أخرى عنه‏:‏ من قتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعاً وذلك لأن من قتل النفس فله النار فهو كما لو قتل الناس كلهم‏.‏ وقال مجاهد في رواية ‏{‏ومن أحياها‏}‏ أي أنجاها من غرق أو حرق أو هلكة‏.‏ وقال الحسن وقتادة في قوله‏:‏ أنه ‏{‏من قتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعاً‏}‏ هذا تعظيم لتعاطي القتل‏.‏ قال قتادة عظيم واللّه وزرها، وعظيم واللّه أجرها‏.‏ وقال ابن المبارك عن سليمان الربعي قال، قلت للحسن‏:‏ هذه الآية لنا يا أبا سعيد كما كانت لبني إسرائيل‏؟‏ فقال‏:‏ أي والذي لا إله غيره كما كانت لبني إسرائيل، وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم على اللّه من دمائنا‏.‏ وقال ألإمام أحمد‏:‏ جاء حمزة بن عبد المطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ فقال‏:‏ يا رسول اللّه اجعلني على شيء أعيش به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏يا حمزة نفس تحييها أحب إليك أم نفس تميتها‏)‏ قال‏:‏ بل نفس أحييها، قال‏:‏ ‏(‏عليك بنفسك‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات‏}‏ أي بالحجيج والبراهين والدلائل الواضحة ‏{‏ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون‏}‏ وهذا تقريع لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها، كما كانت بنو قريظة و النضر يقاتلون مع الأوس والخزرج إذا وقعت بينهم الحروب في الجاهلية، ثم إذا وضعت الحروب أوزارها فدوا من أسروه وودوا من قتلوه، وقد أنكر الله عليهم ذلك في سورة البقرة حيث قول‏:‏ ‏{‏ثم أنتم هؤلاء تقلتون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض‏}‏ الآية‏.‏ المحاربة هي المضادة والمخالفة، وهي صادقة على الكفر وعلى قطع الطريق وإخافة السبيل، وكذا الإفساد في الأرض يطلق على أنواع من الشر، حتى قال كثير من السلف منهم سعيد بن المسيب‏:‏ إن قبض الدراهم والدنانير من الإفساد في الارض، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل واللّه لا يحب الفساد‏}‏، ثم قال بعضهم‏:‏ نزلت هذه الآية الكريمة في المشركين، كما قال ابن جرير عن عكرمة والحسن البصري قالا‏:‏ ‏{‏إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله إلى - إن اللّه غفور رحيم‏}‏ نزلت هذه الآية في المشركين فمن تاب منهم من قبل أن تقدروا عليه لم يكن عليه سبيل، وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب اللّه ورسوله ثم لحق بالكفار قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصاب‏.‏ ورواه ابو داود والنسائي من طريق عكرمة عن ابن عباس‏:‏ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً‏:‏ نزلت في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي اصابه‏.‏ وقال ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إنما جزاء الذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فساداً‏}‏ الآية‏.‏ قال‏:‏ كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض، فخيّر اللّه رسوله إن شاء أن يقتل وإن شاء أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف رواه ابن جرير‏.‏

وروي عن مصعب بن سعد عن أبيه قال‏:‏ نزلت في الحرورية ‏{‏إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا‏}‏ رواه ابن مردويه، والصحيح أن هذه الآية عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات كما رواه البخاري ومسلم عن أنس بن مالك‏:‏ أن نفراً من عكل ثمانية قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام فاستوخموا المدينة، وسقمت أجسامهم، فشكوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال‏:‏ ‏(‏الا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبوا من أبوالها وألبانها‏)‏ فقالوا‏:‏ بلى فخرجوا فشربوا من أبوالها وألبانها، فصحوا، فقتلوا الراعي وطردوا الإبل، فبلغ ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فبعث في آثارهم فأدركوا فجيء بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسمرت أعينهم، ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا، لفظ مسلم‏.‏ وفي لفظ‏:‏ وألقوا في الحرة فجعلوا يستسقون فلا يسقون، وعند البخاري، قال أبو قلابة‏:‏ فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا اللّه ورسوله‏.‏ وقال حماد بن سلمة عن أنس بن مالك‏:‏ أنا ناساً من عرينة قدموا المدينة فاجتووها، فبعثهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في إبل الصدقة، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها، ففعلوا، فصحوا، فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، وساقوا الإبل، فأرسل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في آثارهم، فجيء بهم فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمر أعينهم، وألقاهم في الحرة؛ قال أنس‏:‏ فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشأ حتى ماتوا، ونزلت‏:‏ ‏{‏إنما جزاء الذين يحاربون اللّه ورسوله‏}‏ ‏"‏رواه أبو داود والترمذي والنسائي‏"‏الآية‏.‏ وقد رواه ابن مردويه عن أنس بن مالك قال‏:‏ ما ندمت على حديث سألني عنه الحجاج، قال‏:‏ أخبرني عن أشد عقوبة عاقب بها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ‏؟‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ قدم على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قوم من عرينة من البحرين، فشكوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ما لقوا من بطونهم، وقد اصفرت ألوانهم، وضمرت بطونهم، فأمرهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة، فيشربوا من أبوالها وألبانهما، حتى إذا رجعت إليهم ألوانهم وانخمصت بطونهم، عمدوا إلى الراعي فقتلوه، وساتاقوا الإبل، فأرسل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في آثارهم، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم، ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا، فكان الحجاج إذا صعد المنبر يقول‏:‏ إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قطع أيدي قوم وارجلهم ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا، بحال ذود من الإبل، فكان الحجاج يحتج بهذا الحديث على الناس‏.‏






التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس
قديم 08-05-2014, 04:15 AM   رقم المشاركة : 13
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور

وقد اعتنى الحافظ الجليل أبو بكر بن مردويه بتطريق هذا الحديث من وجوه كثيرة جداً فرحمه اللّه وأثابه‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ كان أناس أتوا رسول للّه صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏:‏ نبايعك على الإسلام، فبايعوه وهم كَذَبة وليس الإسلام يريدون، ثم قالوا‏:‏ إنا نجتوي المدينة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ هذه اللقاح تغدو عليكم وتروح، فاشربوا من أبوالها وألبانها، قال‏:‏ فبينما هم كذلك إذا جاءهم الصريخ، فصرخ إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ قتلوا الراعي، واستاقوا النعم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فنودي في الناس‏:‏ ‏(‏أن يا خيل اللّه اركبي‏)‏، قال‏:‏ فركبوا، لا ينتظر فارس فارساً، قال‏:‏ وركب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على أثرهم، فلم يزالوا يطلبونهم، حتى أدخلوهم مأمنهم، فرجع صحابة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقد أسروا منهم، فأتوا بهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏إنما جزاء الذين يحاربون اللّه ورسوله‏}‏ الآية، قال‏:‏ فكان نفيهم أن نفوهم حتى أدخلوهم مأمنهم وأرضهم ونفوهم من أرض المسلمين، وقتل نبي الله صلى الله عليه وسلم منهم، وصلب، وقطع، وسمر الأعين، قال‏:‏ فما مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ولا بعد، قال‏:‏ ونهى عن المثلة، وقال‏:‏ ‏(‏ولا تمثلوا بشيء‏)‏ وقد اختلف الأئمة في حكم هؤلاء العرنيين هل هو منسوخ أو محكم‏؟‏ فقال بعضهم‏:‏ هو منسوخ بهذه الآية، وزعموا أن فيها عتاباً للنبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من قال‏:‏ هو منسوخ بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة، وهذا القول فيه نظر‏.‏ ثم قائله مطالب ببيان تأخر الناسخ الذي ادعاه عن المنسوخ، وقا بعضهم‏:‏ كان هذا قبل أن تنزل الحدود، وفيه نظر، فإن قصته متأخرة‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ لم يسمر النبي أعينهم، وإنما عزم على ذلك حتى نزل القرآن فبين حكم المحاربين، وهذا القول أيضاً فيه نظر‏.‏ فإنه قد تقدم في الحديث المتفق عليه أنه سمل، وفي رواية سمر أعينهم‏.‏

ثم قد احتج بعموم هذه الآية جمهور العلماء في ذهابهم إلى أن حكم المحاربة في الأمصار وفي السبلان على السواء لقوله‏:‏
‏{‏ويسعون في الأرض فساداً‏}‏ وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل، حتى قال مالك في الذي يغتال الرجل فيخدعه حتى يدخله بيتاً فيقتله ويأخذ ما معه‏:‏ إن هذه محاربة ودمه إلى السلطان لا إلى ولي المقتول، ولا اعتبار بعفوه عنه في إسقاط القتل‏.‏ وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ لا تكون المحاربة إلا في الطرقات، فأما في الأمصار فلا، لأنه يلحقه الغوث إذا استغاث، بخلاف الطريق لبعده ممن يغيثه ويعينه‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض‏}‏ قال ابن عباس في الآية‏:‏ من شَهَر السلاح في فئة الإسلام، وأخاف السبيل، ثم ظُفِرَ به وقدر عليه، فإمام المسلمين فيه بالخيار إن شاء قتله وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجله، وكذا قال سعيد بن المسيب ومجاهد والضحاك، ومستند هذا القول أن ظاهر أو للتخيير كما في نظائر ذلك في القرآن، كقوله في كفارة الفدية‏:‏ ‏{‏ففدية من صيام أو صدقة أو نسك‏}
‏ وكقوله في كفارة اليمين‏:‏ ‏{‏إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون به أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة‏}‏ وهذه كلها على التخيير، فكذلك فلتكن هذه الآية‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ هذه الآية منزلة على أحوال، كما قال الشافعي عن ابن عباس في قطاع الطريق‏:‏ إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبو، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا المال نفوا من الأرض‏.‏ وهكذا قال غير واحد من السلف والأئمة‏.‏ واختلفوا، هل يصلب حياً ويترك حتى يموت بمنعه من الطعام والشراب، أو يقتله برمح أو نحوه، أو يقتل أولاً ثم يصلب، تنكيلاً وتشديداً لغيره من المفسدين‏؟‏ في ذلك كله خلاف محرر في موضعه، وباللّه الثقة، وعليه التكلان‏.‏ وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو ينفوا من الأرض‏}‏ قال بعضهم‏:‏ هو أن يطلب حتى يقدر عليه فيقام عليه الحد أو يهرب من دار الإسلام، رواه ابن جرير عن ابن عباس، وقال آخرون‏:‏ هو أن ينفى من بلده إلى بلد آخر، أو يخرجه السلطان أو نائبه من معاملته بالكلية‏.‏ وقال عطاء الخراساني ‏:‏ ينفى من جند إلى جند سنين ولا يخرج من دار الإسلام، وكذا قال سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان‏:‏ أنه ينفى ولا يخرج من أرض الإسلام‏.‏ وقال آخرون‏:‏ المراد بالنفي ههنا السجن، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، واختار ابن جرير‏:‏ أن المراد بالنفي ههنا أن يخرج من بلده إلى بلد آخر فيسجن فيه‏.‏

‏‏ تابع { من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو‏.‏‏.‏‏.‏ ‏.‏‏.‏‏.‏ ‏}‏

وقوه تعالى‏:‏{‏ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم‏}‏ أي هذا الذي ذكرته من قتلهم ومن صلبهم وقطع أديهم وارجلهم من خلاف ونفيهم، خزيٌ لهم بين الناس في هذه الحياة الدنيا، مع ما ادخر الله لهم من العذاب العظيم يوم القيامة، وهذا يؤيد قول من قال‏:‏ إنها نزلت في المشركين، فأما أهل الإسلام ففي صحيح مسلم عن عبادة بن الصامت رضي اللّه عنه قال‏:‏ أخذ علينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء ألا نشرك بالله شيئاً ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا يَعْضَهُ بعضنا بعضاً، يَعْضَهُ‏:‏ يرمي غيره بالإفك والكذب والبهتان فمن وفى منكم فأجره على اللّه تعالى، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب فهو كفارة له، ومن ستره اللّه فأمره إلى اللّه إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه‏.‏ وعن علي قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من أذنب ذنباً في الدنيا فعوقب به فاللّه أعدل من أن يثني عقوبته على عبده، ومن أذنب ذنباً في الدنيا فستره الله عليه وعفا عنه، فاللّه أكرم من أن يعود عليه في شيء قد عفا عنه‏)‏ ‏"‏رواه أحمد والترمذي وابن ماجة ‏"‏ وقال ابن جرير ‏{‏ذلك لهم خزي في الدنيا‏}‏‏:‏ يعني شر وعار ونكال وذلة وعقوبة في عاجل الدنيا فبل الآخرة ‏{‏ولهم في الآخرة عذاب عظيم‏}‏ أي إذا لم يتوبوا من فعلهم ذلك حتى هلكوا فلهم في الآخرة مع الجزاء الذي جازيتهم به في الدنيا والعقوبة التي عاقبتهم بها في الدنيا عذاب عظيم يعني عذاب جهنم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن اللّه غفور رحيم‏}‏ أما على قول من قال‏:‏ إنها في أهل الشرك، فظاهر‏.‏ وأما المحاربون المسلمون فإذا تابوا قبل القدرة عليهم فإنه يسقط عنهم انحتام القتل والصلب وقطع الرجل، وهل يسقط قطع اليد أم لا‏؟‏ فيه قولان للعلماء، وظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع وعليه عمل الصحابة‏.‏

و
روى ابن جرير عن عامر الشعبي قال‏:‏ جاء رجل من مراد إلى ابي موسى، وهو على الكوفة في إمارة عثمان رضي اللّه عنه بعدما صلى المكتوبة، فقال‏:‏ يا أبا موسى هذا مقام العائذ بك، أنا فلان بن فلان المرادي، وإني كنت حاربت اللّه ورسوله وسعيت في الأرض فسادا، وإني تبت من قبل أن تقدروا علي، فقال أبو موسى‏:‏ إن هذا فلان بن فلان، وإنه كان حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فساداً، وإنه تاب من قبل أن نقدر عليه، فمن لقيه فلا يعرض له إلا بخير‏.‏ فإن يك صادقاً فسبيل من صدق، وإن يك كاذباً تدركه ذنوبه، فأقام الرجل ما شاء اللّه، ثم إنه خرج فأدركه الله تعالى بذنوبه فقتله‏.‏ ثم روى ابن جرير أن علياً الأسدي حارب، وأخاف السبيل، وأصاب الدم والمال، فطلبه الأئمة والعامة فامتنع، ولم يقدروا عليه حتى جاء تائباً، وذلك أنه سمع رجلاً يقرأ هذه الآية‏:‏ ‏{‏قل يا عبادي الذين اسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللّه إن اللّه يغفر الذنوب جميعاً أنه هو الغفور الرحيم‏}‏ فوقف عليه، فقال‏:‏ يا عبد الله أعد قراءتها فأعادها عليه، فغمد سيفه، ثم جاء تائباً، حتى قدم المدينة من السحر، فاغتسل، ثم أتى مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فصلى الصبح، ثم قعد إلى ابي هريرة في أغمار أصحابه، فلما أسفروا عرفه الناس، فقاموا إليه، فقال‏:‏ لا سبيل لكم علي، جئت تائباً من قبل أن تقدروا علي، فقال أبو هريرة‏:‏ صدق، وأخذ بيده حتى أتى مروان بن الحكم، وهو أمير على المدينة في زمن معاوية فقال‏:‏ هذا جاء تائباً ولا سبيل لكم عليه، ولا قتل، فترك من ذلك كله، قال‏:‏ وخرج علي تائباً مجاهداً في سبيل اللّه في البحر، فلقوا الروم، فقربوا سفينته إلى سفينة من سفنهم، فاقتحم على الروم في سفينتهم، فهربوا منه إلى شقها الآخر، فمالت به وبهم، فغرقوا جميعاً‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏35 ‏:‏ 37‏)‏
‏{‏ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون ‏.‏ إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم ‏.‏ يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم ‏}‏
يقول تعال آمراً عباده المؤمنين بتقواه، وهي إذا قرنت بطاعته كان المراد بها الإنكفاف من المحارم وترك المنهيات، وقد قال بعدها ‏{‏وابتغوا إليه الوسيلة‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي القربة، وقال قتادة‏:‏ أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه، والوسيلة هي التي يتوصل بها إلى تحصيل المقصود، والوسيلة أيضاً عَلَمٌ على أعلى منزلة في الجنة، وهي منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وداره في الجنة، وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش، وقد ثبت في صحيح البخاري عن جابر ابن عبد اللّه قال، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من قال حين يسمع النداء‏:‏ اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، إلا حلت له الشفاعة يوم القيامة‏)‏

حديث آخر ‏:‏
في صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ فإنه من صلى عليّ صلاة صلى اللّه عليه عشراً، ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وارجوا أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة‏)‏

حديث آخر ‏:
عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا صليتم عليّ فسلوا لي الوسيلة‏)‏، قيل‏:‏ يا رسول اللّه وما الوسيلة‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل واحد، وأرجوا أن أكون أنا هو‏)‏ ‏"‏رواه أحمد والترمذي‏"‏عن ابن عباس قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏)‏سلوا الله لي الوسيلة فإنه لم يسألها لي عبد في الدنيا إلا كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة‏)‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون‏}‏ لما أمرهم بترك المحارم وفعل الطاعات أمرهم بقتال الأعداء، من الكفار والمشركين الخارجين عن الطريق المستقيم‏.‏ والتاركين للدين القويم، ورغبهم في ذلك بالذي أعده للمجاهدين في سبيله يوم القيامة، من الفلاح والسعادة العظيمة الخالدة المستمرة، التي لا تبيد ولا تحول ولا تزول في الغرف العالية الرفيعة، الآمنة الحسنة مناظرها، الطيبة مساكنها، التي من سكنها ينعم لا ييأس، ويحيى لا يموت لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه، ثم أخبر تعالى بما أعد لأعدائه الكفار من العذاب والنكال يوم القيامة فقال‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم‏}‏ أي لو أن أحدهم جاء يوم القيامة بملء الأرض ذهباً وبمثله ليفتدي بذلك من عذاب الله الذي قد أحاط به، وتيقن وصوله إليه ما تقبل ذلك منه بل لا مندوحة عنه ولا محيص ولا مناص ولهذا قال
‏{‏ولهم عذاب أليم‏}‏ أي موجع، ‏{‏يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم‏}كما قال تعالى‏:‏ كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها‏}‏ الآية‏.‏ فلا يزالون يريدوهن الخروج مما هم فيه من شدته وأليم مسه ولا سبيل لهم إلى ذلك، كلما رفعهم اللهب فصاروا في أعلى جهنم ضربتهم الزبانة بالمقامع الحديد فيردوهم إلى أسفلها ‏{‏ولهم عذاب مقيم‏}‏ أي دائم مستمر لا خروج لهم منها، ولا محيد لهم عنها، وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏يؤتى بالرجل من أهل النار، فيقال له يا ابن آدم كيف وجدت مضجعك‏؟‏ فيقول شر مضجع، فيقال له تفتدي بقراب الأرض ذهباً‏؟‏ قال فيقول‏:‏ نعم يا رب، فيقول اللّه تعالى‏:‏ كذبت قد سألتك أقل من ذلك فلم تفعل فيؤمر به إلى النار‏)‏ ‏"‏رواه مسلم والنسائي عن أنَس بن مالك مرفوعاً‏"‏وعن جابر ابن عبد اللّه أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏)‏يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة‏(‏ قال‏:‏ فقلت لجابر بن عبد الله يقول الله ‏{‏يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها‏}‏ قال‏:‏ أتل أول الآية ‏{‏إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به‏}‏ الآية، ألا إنهم الذين كفروا ‏
"‏رواه الحافظ ابن مردويه‏"‏وعن طلق بن حبيب قال‏:‏ كنت من أشد الناس تكذيباً بالشفاعة، حتى لقيت جابر بن عبد اللّه، فقرأت عليه كل آية أقدر عليها يذكر الله فيها خلود أهل النار فقال‏:‏ يا طلق أتراك أقرأ لكتاب اللّه وأعلم بسنّة رسول الله مني‏؟‏ إن الذين قرأت هم أهلها هم المشركون، ولكن هؤلاء قوم أصابوا ذنوباً فعذبوا ثم أخرجوا منها ثم أهوى بيديه إلى أذنيه، فقال‏:‏ صمَّتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏يخرجون من النار بعدما دخلوا‏)‏ ونحن نقرأ كما قرأت‏.‏ رواه ابن مردويه‏.






التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس
قديم 08-05-2014, 04:31 AM   رقم المشاركة : 14
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏38 ‏:‏ 40‏)‏
‏{‏ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم ‏.‏ فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ‏.‏ ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير ‏}‏
يقول تعالى حاكماً وآمراً بقطع يد السارق والسارقة، وقد كان القطع معموراً به في الجاهلية، فقرر في الإسلام وزيدت شروط أخر، كما سنذكره إن شاء اللّه تعالى، كما كانت القسامة والدية والقراض وغير ذلك من الأشياء التي ورد الشرع بتقريرها على ما كانت عليه وزيادات هي من تمام المصارح، وقد ذهب بعض الفقهاء من أهل الظاهر إلى أنه متى سرق السارق شيئاً قطعت يده به، سواء كان قليلاً أو كثيراً لعموم هذه الآية‏:‏ ‏{‏والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما‏}‏ فلم يعتبروا نصاباً ولا حرزاً، بل أخذوا بمجرد السرقة، وتمسكوا بما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لعن الله السارق، يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده‏)‏، وأما الجمهور فاعتبروا النصاب في السرقة، وإن كان قد وقع بينهم الخلاف في قدره، فذهب كل من الأئمة الأربعة إلى قول على حدة، فعند الإمام مالك رحمه الله النصاب ثلاثة دراهم مضروبة خالصة فمتى سرقها أو ما يبلغ ثمنها فما فوقه وجب القطع واحتج في ذلك بما رواه عن نافع عن ابن عمر‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم أخرجاه في الصحيحين، وذهب الشافعي رحمه الله إلى أن الاعتبار في قطع يد السارق بربع دينار أو ما يساويه من الأثمان أو العروض فصاعداً، والحجة في ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً‏)‏، ولمسلم أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً‏)‏ قال أصحابنا‏:‏ فهذا الحديث فاصل في المسألة، ونص في اعتبار ربع الدينار لا ما ساواه‏.‏ قالوا‏:‏ وحديث ثمن المجن، وأنه كان ثلاثة دراهم لا ينافي هذا، لأنه إذ ذاك كان الدينار باثني عشر درهماً فهي ثمن ربع دينار، فأمكن الجمع بهذا الطريق‏.‏

وذهب الإمام أحمد بن حنبل إلى أن كل واحد من ربع الدينار والثلاثة دراهم مرد شرعي،
فمن سرقا واحداً منهما أو ما يساويه قطع، عملاً بحديث ابن عمر وبحديث عائشة رضي اللّه عنها، ووقع في لفظ عند الإمام أحمد عن عائشة أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك‏)‏ وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم اثني عشر درهماً، وفي لفظ للنسائي‏:‏ ‏(‏لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن‏)‏ قيل لعائشة‏:‏ ما ثمن المجن‏؟‏ قالت‏:‏ ربع دينار‏.‏ فهذه كلها نصوص دالة على عدم اشتراط عشرة دراهم، واللّه أعلم‏.‏

وأما الإمام أبو حنيفة وزفر وسفيان الثوري رحمهم اللّه فإنهم ذهبوا إلى أن النصاب به عشرة دراهم مضروبة غير مغشوشة، واحتجوا بأن ثمن المجن الذي قطع فيه السارق على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان ثمنه عشرة دراهم‏.‏ وقد روى أبو بكر بن ابي شيبة عن ابن عباس قال‏:‏ كان ثمن المجن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم‏.‏ ثم قال‏:‏ حدثنا عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعبي عن أبيه عن جده قال، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا تقطع يد السارق في دون ثمن المجن‏)‏ وكان ثمن المجن عشرة دراهم قالوا‏:‏ فهذا ابن عباس وعبد اللّه بن عمرو قد خالفا ابن عمر في ثمن المجن، فالإحتياط الأخذ بالأكثر لأن الحدود تدرأ بالشبهات‏.‏ وذهب بعض السلف إلى أنه تقطع يد السارق في عشرة دراهم أو دينار أو ما يبلغ قيمته واحداً منهما؛ يحكى هذا عن علي وابن مسعود وابراهيم النخعي رحمهم الله تعالى‏.‏

وقال بعض السلف‏:‏
لا تقطع الخمس إلا في خمس أي في خمسة دنانير أو خمسين درهماً، وينقل هذا عن سعيد بن جبير رحمه الله، وقد أجاب الجمهور عما تمسك به الظاهرية من حديث أبي هريرة‏:‏ ‏(‏يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده‏)‏ بأجوبة أحدها ‏:‏ أنه منسوخ بحديث عائشة، والثاني ‏:‏ أنه مؤول ببيضة الحديد وحبل السفن قاله الأعمش فيما حكاه البخاري وغيره عنه، والثالث ‏:‏ أن هذه وسيلة إلى التدرج في السرقة من القليل إلى الكثير الذي تقطع فيه يده، ويحتمل أن يكون هذا خرج مخرج الإخبار عما كان الأمر عليه في الجاهلية، حيث كانوا يقطعون في القليل والكثير، فلعن السارق الذي يبذل يده الثمينة في الأشياء المهينة، وقد ذكروا أن ابا العلاء المعري لما قدم بغداد اشتهر عنه أنه أورد إشكالاً على الفقهاء في جعلهم نصاب السرقة ربع دينار ونظم في ذلك شعراً دل على جهله، وقلة عقله فقال‏:‏
يد بخمس مئين عسجد وديت * ما بالها قطعت في ربع دينار‏؟‏
تناقض مالنا إلا السكوت له * وأن نعوذ بمولانا من النار

ولما قال ذلك واشتهر عنه تطلبه الفقهاء فهرب منهم، وقد أجابه اناس في ذلك، فكان جواب القاضي عبد الوهاب المالكي رحمه الله أن قال‏:‏ لما كانت أمينة كانت ثمينة، ولما خانت هانت
ويروى أنه أجابه شعراً بقوله‏:‏
عز الأمانة أغلاها وأرخصها * ذل الخيانة فافهم حكمة الباري ومنهم من قال‏:‏ هذا من تمام الحكمة والمصلحة وأسرار الشريعة العظيمة، فإن في باب الجنايات ناسب أن تعظم قيمة اليد بخمسمائة دينار لئلا يجنى عليها، وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدر الذي تقطع فيه ربع دينار لئلا يسارع الناس في سرقة الأموال، فهذا هو عين الحكمة عند ذوي الألباب، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏جزاء بما كسبا نكالاً من اللّه واللّه عزيز حكيم‏}‏ أي مجازاة على صنيعها السيء في أخذها أموال الناس بأيديهم فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك ‏{‏نكالاً من اللّه‏}‏ أي تنكيلاً من الله بهما على ارتكاب ذلك، ‏{‏واللّه عزيز‏}‏ أي في انتقامه، ‏{‏حكيم‏}‏ أي في أمره ونهية وشرعه وقدره‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم‏}‏ أي من تاب بعد سرقته وأناب إلى الله، فإن الله يتوب عليه فيما بينه وبينه، فأما أموال الناس فلا بد من ردها إليهم أو بدلها عند الجمهور، وقال أبو حنيفة‏:‏ فمتى قطع، وقد تلفت في يده فإنه لا يرد بدلها‏.‏

وقد
روى الإمام أحمد عن عبد اللّه بن عمرو‏:‏ أن امرأة سرقت على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فجاء بها الذين سرقتهم، فقالوا‏:‏ يا رسول اللّه إن هذه المرأة سرقتنا، قال قومها‏:‏ فنحن نفديها، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏اقطعوا يدها‏)‏، قالوا‏:‏ نحن نفديها بخمسمائة دينار، فقال‏:‏ ‏(‏اقطعوا يدها‏)‏ فقطعت يدها اليمنى، فقالت المرأة هل لي من توبة يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك‏)‏، فأنزل الله في سورة المائدة‏:‏ ‏{‏فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم‏}‏ وهذه المرأة المخزومية التي سرقت، وحديثها ثابت في الصحيحين‏.‏ وعن ابن عمر قال‏:‏ كانت امرأة مخزومية تستعير متاعاً على ألسنة جارتها وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها‏.‏ رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي‏.‏ وقد ورد في أحكام السرقة أحاديث كثيرة مذكورة في كتاب الأحكام، وللّه الحمد والمنة‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض‏}‏ أي هو المالك لجميع ذلك الحاكم فيه الذي لا معقب لحكمه وهو الفعال لما يريد، ‏{‏يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء واللّه على كل شيء قدير‏}‏‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏41 ‏:‏ 44‏)‏
‏{‏ يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ‏.‏ وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين ‏.‏ إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ‏}‏

نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر، الخارجين عن طاعة اللّه ورسوله، المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع اللّه عزَّ وجلَّ{‏من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم‏}
‏، أي أظهروا بألسنتهم وقلوبهم خراب خاوية منه وهؤلاء هم المنافقون، ‏{‏ومن الذين هادوا‏}‏ أعداء الإسلام وأهله وأهله وهؤلاء كلهم ‏{‏سماعون للكذب‏}‏ أي مستجيبون له منفعلون عنه،‏{‏سماعون لقوم آخرين لم يأتوك‏}‏ أي يستجيبون لأقوام آخرين لا يأتون مجلسك يا محمد، وقيل‏:‏ المراد أنهم يتسمعون الكلام وينهونه إلى قوم آخرين ممن لا يحضر عندك من أعدائك،‏{‏يحرفون الكلم من بعد مواضعه‏}‏ أي يتأولونه على غير تأويله ويبدلونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون، ‏{‏يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا‏}‏ قيل‏:‏ نزلت في قوم من اليهود قتلوا قتيلاً، وقالوا‏:‏ تعالوا حتى نتحاكم إلى محمد، فإن حكم بالدية فاقبلوه، وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه‏.‏ والصحيح أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا، وكانوا قد بدلوا كتاب اللّه الذي بأيديهم، من الأمر برجم من أحصن منهم، فحرفوه، واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة والتحميم التحميم‏:‏ صبغ الوجه بالسواد والإركاب على حمار مقلوبين، فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة قالوا فيما بينهم‏:‏ تعالوا حتى نتحاكم إليه، فإن حكم بالجلد والتحميم، فخذوا عنه، واجعلوه حجة بينكم وبين اللّه، يكون نبي من أنبياء اللّه قد حكم بينكم بذلك، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك‏.‏

وقد وردت الأحاديث بذلك، فقال مالك عن نافع عن عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما‏:‏ أن اليهود جاءوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذكروا له أن رجلاً منهم وأمرأة زنيا، فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ما تجدون في التوراة في شأن الرجم‏:‏ فقالو‏:‏ نفضحهم ويجلدون، قال عبد اللّه بن سلام‏:‏ كذبتم إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد اللّه بن سلام‏:‏ ارفع يدك، فرفع يده، فإذا آية الرجم، فقالوا‏:‏ صدق يا محمد، فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فرجما، فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة‏.‏ أخرجاه، وهذا لفظ البخاري، وعند مسلم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أتي بيهودي ويهودية قد زنيا، فانطلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى جاء يهود فقال‏:‏ ‏(‏ما تجدون في التوراة على من زنى‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ نسود وجوههما ونحممها ونحملهما، ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما قال‏:‏ ‏{‏فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين‏}‏ قال فجاءوا بها فقرأوها، حتى إذا مر بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم، وقرأ ما بين يديها وما وراءها‏.‏ فقال له عبد اللّه بن سلام وهو مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ مره فليرفع يده فرفع يده فإذا تحتها آية الرجم، فأمر بهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فرجما‏.‏ قال عبد اللّه بن عمر‏:‏ كنت فيمن رجمهما، فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه‏.‏ عن البراء بن عازب قال‏:‏ مر على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يهودي محمّم مجلود، فدعاهم، فقال‏:‏ ‏(‏أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم‏؟‏‏)‏ فقالوا‏:‏ نعم، فدعا رجلاً من علمائهم، فقال‏:‏ ‏(‏أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى‏!‏ أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم‏؟‏‏)‏ فقال‏:‏ لا واللّه، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا‏:‏ الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا‏:‏ تعالوا حتى نجعل شيئاً نقيمه على الشريف والوضيع فاجتمعنا على التحميم والجلد، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه‏)‏، قال‏:‏ فأمر به فرجم، قال‏:‏ فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر‏}‏ إلى قوله ‏{‏يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه‏}‏ أي يقولون‏:‏ ائتوا محمداً فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذورا إلى قوله ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون‏}‏ قال في اليهود، إلى قوله ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الظالمون‏}‏ قال في اليهود، ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الفاسقون‏}‏ قال‏:‏ في الكفار كلها،
انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري‏.‏

فهذه الأحاديث دالة على
أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حكم بموافقة حكم التوراة، وليس هذا من باب الإكرام لهم بما يعتقدون صحته، لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لا محالة، ولكن هذا بوحي خاص من اللّه عزَّ وجّل إليه بذلك وسؤاله إياهم عن ذلك ليقررهم على ما بأيديهم مما تواطأوا على كتمانه وجحده، وعدم العمل به تلك الدهور الطويلة‏.‏ فلما اعترفوا به مع عملهم على خلافه، بان زيغهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم، وعدولهم إلى تحكيم الرسول صلى اللّه عليه وسلم، إنما كان عن هوى منهم وشهوة لموافقة آرائهم لا لإعتقادهم صحة ما يحكم به، ولهذا قالوا‏:‏ ‏{‏إن أوتيتم هذا‏}‏ أي الجلد والتحميم فخذوه أي اقبلوه ‏{‏وإن لم تؤتوه فاحذروا‏}‏ أي من قبوله واتباعه‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏‏{‏ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم سماعون للكذب‏}‏ أي الباطل ‏{‏أكالون للسحت‏}‏ أي الحرام وهو الرشوة كما قاله ابن مسعود وغير واحد، أي ومن كانت هذه صفته كيف يطهر اللّه قلبه وأنى يستجيب له‏؟‏ ثم قال لنبيه‏:‏ ‏{‏فإن جاؤوك‏}‏ أي يتحاكمون إليك ‏{‏فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا‏}‏ أي فلا عليك أن لا تحكم بينهم، لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق بل ما يوافق أهواءهم‏.‏ قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وغير واحد هي منسوخة بقوله‏:‏ ‏{‏وإن احكم بينهم بما أنزل اللّه‏}‏، ‏{‏وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط‏}‏ أي بالحق والعدل، وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل ‏{‏إن الله يحب المقسطين‏}‏‏.






التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس
قديم 08-05-2014, 04:46 AM   رقم المشاركة : 15
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور

ثم قال تعالى منكراً عليهم في آرائهم الفاسدة ومقاصدهم الزائغة، في تركهم ما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم، الذي يزعمون أنهم مأمورون بالتمسك به أبداً، ثم خرجوا عن حكمه وعدلوا إلى غيره مما يعتقدون في نفس الأمر بطلانه وعدم لزومه لهم، فقال‏:‏ ‏{‏وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم اللّه ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين‏}‏ ثم مدح التوراة التي أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران فقال‏:‏ ‏{‏إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلمو للذين هادوا‏}‏ أي لا يخرجون عن حكمها ولا يبدلونها ولا يحرفونها، ‏{‏والربانيون والأحبار‏}‏ أي وكذلك الربانيون منهم وهم العلماء والعبّاد، والأحبار وهم العلماء ‏{‏بما استحفظوا من كتاب اللّه‏}‏ أي بما استودعوا من كتاب اللّه الذي أمروا أن يظهروه ويعملوا به ‏{‏وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشوني‏}‏ أي لا تخافوا منهم وخافوا مني ‏{‏ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون‏}‏ فيه قولان سيأت بيانهما‏.‏

سبب آخر في نزول هذه الآيات الكريمات
قال أبو جعفر بن جرير، عن عكرمة عن ابن عباس‏:‏ إن الآيات التي في المائدة قوله‏:‏{‏فاحكم بينهم أو أعرض عنهم - إلى المقسطين‏}إنما أنزلت في الدية في بني النضير و بني قريظة وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف تؤدي الدية كاملة، وأن قريظة كانوا يؤدى لهم نصف الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأنزل اللّه ذلك فيهم، فحملهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على الحق في ذلك، فجعل الدية في ذلك سواء، واللّه أعلم أي ذلك كان، ورواه أحمد وأبو داود والنسائي، ثم قال ابن جرير، عن ابن عباس قال‏:‏ كانت قريظة والنضير، وكانت النضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل القريظي رجلاً من النضير قتل به، وإذا قتل النضيري رجلاً من قريظة ودي بمائة وسق من تمر، فلما بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قتل رجل من النضير رجلاً من قريظة فقالوا‏:‏ ادفعوه إليه فقالوا‏:‏ بيننا وبينكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فنزلت‏:‏ ‏{‏وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط‏}‏ ورواه أبو داود والنسائي، وابن حبان، والحاكم في المستدرك‏.‏ وقد روى العوفي عن ابن عباس‏:‏ أن هذه الآيات نزلت في اليهوديين اللذين زنيا، كما تقدمت الأحاديث بذلك‏.‏ وقد يكون اجتمع هذان السببان في وقت واحد فنزتل هذه الآيات، في ذلك كله، واللّه أعلم‏.‏ ولهذا قال بعد ذلك‏:‏ ‏{‏وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين‏}
إلى آخرها، وهذا يقوي أن سبب النزول قضية القصاص، واللّه سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏
{‏ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون‏} قال البراء عازب، وابن عباس، والحسن البصري، وغيرهم‏:‏ نزلت في أهل الكتاب‏.‏ زاد الحسن البصري‏:
وهي علينا واجبة، وقال عبد الرزاق عن إبراهيم، قال‏:‏ نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل ورضي اللّه لهذه الأمة بها، وقال السدي ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون‏}‏ يقول‏:‏ من لم يحكم بما أنزلت فتركه عمداً، أو جار وهو يعلم، فهو من الكافرين‏.‏ وقال ابن عباس قوله ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون‏}‏ قال‏:‏ من جحد ما أنزل اللّه فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق‏.‏ رواه ابن جرير، ثم اختار أن الآية المراد بها أهل الكتاب، أو من جحد حكم اللّه المنزل في الكتاب‏.‏ وقال ابن جرير عن الشعبي ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون‏}‏ قال‏:‏ هذا في المسلمين، ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الظالمون‏}‏ قال‏:‏ هذا في اليهود ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الفاسقون‏}‏ قال‏:‏ هذا في النصارى، وقال الثوري عن عطاء أنه قال‏:‏ كفر دون كفر وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق وقال وكيع عن طاووس ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون‏}‏ قال‏:‏ ليس بكفر ينقل عن الملة‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏45‏)‏
‏{‏ وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ‏}‏
وهذا أيضاً مما وبخت به اليهود وقرعوا عليه، فإن عندهم في نص التوراة أن النفس بالنفس، وهم يخالفون حكم ذلك عمداً وعناداً، ويقيدون النضري من القرظي، ولا يقيدون القرظي من النضري، بل يعدلون إلى الدية، كما خالفوا حكم التوارة المنصوص عندهم في رجم الزاني المحصن، وعدلوا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والإشهار، ولهذا قال هناك‏:‏ ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون‏}‏ لأنهم جحدوا حكم اللّه قصداً منهم وعناداً وعمداً، وقال ههنا ‏{‏فأولئك هم الظالمون‏}‏ لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر اللّه بالعدل والتسوية بين الجميع فيه، فخالفوا وظلمو وتعدوا بعضهم على بعض‏.‏ وقد استدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا، إذا حكي مقرراً ولم ينسخ كما هو المشهور عند الجمهور، والحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة‏.‏ وقال الحسن البصري‏:‏ هي عليهم على الناس عامة، وقد احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل بالمرأة بعموم هذه الآية الكريمة، وكذا ورد في الحديث الذي رواه النسائي وغيره أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم‏:‏ ‏(‏أن الرجل يقتل بالمرأة‏)‏، وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏المسلمون تتكافأ دماؤهم‏)‏ ‏"‏هذا بعض حديث رواه أبو داود وابن ماجة عن ابن عمرو‏"‏وهذا قول جمهور العلماء، وعن أمير المؤمنين علي بن ابي طالب أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها إلا أن يدفع وليها إلى أوليائه نصف الدية، لأن ديتها على النصف من دية الرجل، وإليه ذهب أحمد في رواية واحتج أبو حنيفة رحمه اللّه تعالى بعموم هذه الآية على أنه يقتل المسلم بالكافر الذمي، وعلى قتل الحر بالعبد، وقد خالفه الجمهور فيهما‏.‏ ففي الصحيحين قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا يقتل مسلم بكافر‏)‏، وأما العبد ففيه عن السلف آثار متعددة أنهم لم يكونوا يقيدون العبد من الحر، ولا يقتلون حراً بعبد، وجاء في ذلك أحاديث لا تصح، وحكى الشافعي بالإجماع على خلاف قول الحنفية في ذلك، ولكن لا يلزم من ذلك بطلان قولهم إلا بدليل مخصص إلى الآية الكريمة‏.‏

ويؤيد الإحتجاج بهذه الآية الكريمة الحديث الثابت عن أنس بن مالك،
أن الربيع عمة أنس كسرت ثنية جارية، فطلبوا إلى القوم العفو، فأتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏القصاص‏)‏، فقال أخوها أنس بن النضر‏:‏ يا رسول اللّه تكسر ثنية فلانة‏؟‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏يا أنس كتاب اللّه القصاص‏)‏ قال، فقال‏:‏ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنية فلانة، قال‏:‏ فرضي القوم، فعفوا، وتركوا القصاص‏.‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إن من عباد اللّه من لو أقسم على اللّه لأبره‏)‏ أخرجاه في الصحيحين‏.‏ وروى أبو داود عن عمران بن حصين‏:‏ أن غلاماً لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء، فأتى أهله النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا رسول اللّه إنا أناس فقراء فلم يجعل عليه شيئاً‏.‏ وهو حديث مشكل، اللّهم إلا أن يقال‏:‏ إن الجاني كان قبل البلوغ فلا قصاص عليه، ولعله تحمل أرش ما نقص من غلام الأغنياء عن الفقراء أو استعفاهم عنه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والجروح قصاص‏} قال ابن عباس‏:تقتل النفس بالنفس، وتفقأ العين بالعين، ويقطع الأنف بالأنف، وتنزع السن بالسن، وتقتص الجراح بالجراح، فهذا يستوي فيه أحرار المسلمين فيما بينه رجالهم ونساؤهم إذا كان عمداً في النفس وما دون النفس، ويستوي فيه العبيد رجالهم ونساؤهم فيما بينهم إذا كان عمداً في النفس وما دون النفس، رواه ابن جرير‏.‏

قاعدة مهمة
الجراح تارة تكون في مفصل، فيجب فيه القصاص بالإجماع كقطع اليد والرجل والكف والقدم ونحو ذلك؛ وأما إذا لم تكن الجراح في مفصل بل في عظم، فقال مالك رحمه اللّه ‏:‏ فيه القصاص إلا في الفخذ وشبهها لأنه مخوف خطر، وقال أبو حنيفة وصاحباه‏:‏ لا يجب القصاص في شيء من العظام إلا في السن، وقال الشافعي‏:‏ لا يجب القاص في شيء من العظام مطلقاً، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وابن عباس، وهو المشهور من مذهب أحمد وقد احتج أبو حنيفة رحمه اللّه بحديث الربيع بنت النضرعلى مذهبه أنه لا قصاص في عظم إلا في السن‏.‏ وحديث الربيع لا حجة فيه لأنه ورد بلفظ كسرت ثنية جارية، وجائز أن تكون سقطت من غير كسر فيجب القصاص والحالة هذه بالإجماع، وتمموا الدلالة بما رواه ابن ماجة عن جارية بن ظفر الحنفي أن رجلاً ضرب رجلاً على ساعده بالسيف من غير المفصل، فقطعها، فاستعدى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فأمر له بالدية، فقال‏:‏ يا رسول اللّه اريد القصاص فقال‏:‏ خذ الدية بارك اللّه لك فيها‏.‏ ولم يقض بالقصاص، ثم قالوا‏:‏ لا يجوز أن يقتص من الجراحة حتى تندمل جراحة المجنى عليه، فإن اقتص منه قبل الإندمال ثم عاد جرحه فلا شيء له‏.‏ والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده‏:‏ أن رجلاً طعن رجلاً بقرن في ركبته فجاء إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ أقدني، فقال‏:‏ ‏(‏حتى تبرأ‏)‏، ثم جاء إليه، فقال‏:‏ أقدني فأقاده، فقال‏:‏ يا رسول اللّه عرجت، فقال‏:‏ ‏(‏قد نهيتك فعصيتني فأبعدك اللّه وبطل عرجك‏)‏ ثم نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه، تفرد به أحمد‏.‏

مسالة ‏:
فلو اقتص المجنى عليه من الجاني فمات من القصاص فلا شيء عليه عند مالك والشافعي وأحمد ابن حنبل، وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين وغيرهم‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ تجب الدية في مال المقتص‏.‏ وقال عطاء‏:‏ تجب الدية على عاقلة المقتص له‏.‏ وقال ابن مسعود والنخعي‏:‏ يسقط عن المقتص له قدر تلك الجراحة، ويجب الباقي في ماله‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن تصدق به فهو كفارة له‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي فمن عفا عنه وتصدق عليه فهو كفارة للمطلوب وأجر للطالب‏.‏ وقال سفيان الثوري‏:‏ فمن تصدق به فهو كفارة التجارح، وأجر المجروح على اللّه عزَّ وجلَّ الوجه الثاني ‏:‏ قال ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد اللّه في قول اللّه عزَّ وجل‏:‏ ‏{‏فمن تصدق به فهو كفارة له‏}‏ قال‏:‏ للمجروح‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تصدق به‏.‏ وروى الإمام أحمد عن أبي السفر قال‏:‏ كسر رجل من قريش سن رجل من الأنصار فاستعدى عليه معاوية فقال معاوية‏:‏ إنا سنرضيه فألح الأنصاري، فقال معاوية‏:‏ شأنك بصاحبك، وابو الدرداء جالس، فقال أبو الدرداء‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيتصدق به إلا رفعه اللّه به درجة وحط به عنه خطيئة، فقال الأنصاري‏:‏ فإني قد عفوت، وهكذا رواه الترمذي‏.‏ وعن عبادة بن الصامت قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏ما من رجل يجرح من جسده جراحه فيتصدق بها إلا كفر اللّه عنه مثل ما تصدق به‏)‏، رواه النسائي‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الظالمون‏}‏، قد تقدم عن طاووس وعطاء أنهما قالا‏:‏ كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏46 ‏:‏ 47‏)‏
‏{‏ وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين ‏.‏ وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ‏}‏
‏{‏وقفينا‏}‏
أي اتبعنا على آثارهم يعني أنبياء بني إسرائيل ‏{‏بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة‏}‏ أي مؤمنا بها حاكماً بما فيها، ‏{‏وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور‏}‏ أي هدى إلى الحق ونور يستضاء به في إزالة الشبهات وحل المشكلات ‏{‏ومصدقا لما بين يديه من التوراة‏}‏ أي متبعاً لها غير مخالف لما فيها إلا في القليل مما بين لبني إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون فيه، كما قال تعالى إخباراً عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل‏:‏ ‏{‏ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم‏}‏، ولهذا كان المشهور من قولي العلماء أن الإنجيل نسخ بعض أحكام التوراة وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهدى وموعظة للمتقين‏}‏ أي وجعلنا الإنجيل هدى يهتدى به، وموعظة أي زاجراً عن ارتكاب المحارم والمآثم للمتقين، أي لمن اتقى اللّه وخاف وعيده وعقابه‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل اللّه فيه‏}‏ قرىء ‏{‏وليَحكُم‏}‏ أهل الإنجيل بالنصب على أن اللام لام كي أي وآتيناه الإنجيل ليحكم أهل ملته به في زمانهم، وقرىء ‏{‏وليحكم‏}‏ بالجزم على أن اللام لام الأمر، أي ليؤمنوا بجميع ما فيه وليقيموا ما أمروا به فيه وبما فيه البشارة ببعثة محمد والأمر باتباعه وتصديقه إذا وجد، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم‏}‏ الآية‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏المفلحون‏}‏ ولهذا قال ههنا‏:‏ ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الفاسقون‏}‏ أي الخارجون عن طاعة ربهم، الماثلون إلى الباطل، والتاركون للحق، وقد تقدم أن هذه الآية نزلت في النصارى وهو ظاهر من السياق‏.‏






التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس
قديم 08-05-2014, 05:02 AM   رقم المشاركة : 16
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏48 ‏:‏ 50‏)‏
{‏ وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ‏.‏ أن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون ‏.‏ أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ‏}‏

لما ذكر تعالى التوراة التي أنزلها على موسى كليمه ومدحها وأثنى عليها وأمر باتبعاها حيث كانت سائغة الإتباع، وذكر الإنجيل ومدحه وأمر أهله بإقامته واتباع ما فيه كما تقدم بيانه، شرع في ذكر القرآن العظيم الذي أنزله على عبده ورسوله الكريم، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وأنزلنا إليك الكتاب بالحق‏}‏ أي بالصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند اللّه ‏{‏مصدقا لما بين يديه من الكتاب‏}‏ أي من الكتب المتقدمة المتضمنة ذكره ومدحه، وأنه سينزل من عند اللّه على عبده ورسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم، فكان نزوله كما أخبرت به مما زادها صدقاً عند حامليها من ذوي البصائر، الذين انقادوا لأمر اللّه واتبعوا شرائع اللّه، وصدقوا رسل اللّه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً‏}‏ أي إن كان ما وعدنا اللّه على ألسنة رسله المتقدمة من مجيء محمد عليه السلام لمفعولاً أي لكائناً لا محالة ولا بد‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومهيمنا عليه‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي مؤتمناً عليه، وعنه أيضاً المهيمن‏:‏ الأمين، قال‏:‏ القرآن أمين على كل كتاب قبله‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ القرآن أمين على الكتب المتقدمة قبله، فما وافقه منها فهو حق، وما خالفه منها فهو باطل‏.‏ وعن الوالبي عن ابن عباس ‏{‏ومهيمناً‏}‏ أي شهيداً، وكذا قال مجاهد وقتادة والسدي، وقال العوفي عن ابن عباس ‏{‏ومهيمناً‏}‏ أي حاكماً على ما قبله من الكتب‏.‏ وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى فإن اسم المهيمن يتضمن هذا كله، فهو‏:‏ أمين، وشاهد، وحاكم على كل كتاب قبله، جعل اللّه هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها أشملها وأعظمها وأكملها، حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره، فلهذا جعله شاهداً وأميناً وحاكماً عليها كلها، وتكفل تعالى بحفظه بنفسه الكريمة، فقال تعالى‏:‏
‏{‏إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاحكم بينهم بما أنزل الله‏}‏ أي فاحكم يا محمد بين الناس بما أنزل اللّه إليك في هذا الكتاب العظيم، وبما قرره لك من حكم من كان قبلك من الأنبياء ولم ينسخه في شرعك، ‏{‏وأن احكم بينهم بما أنزل اللّه ولا تتبع أهواءهم‏}‏ فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يحكم بينهم بما في كتابنا، وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تتبع أهواءهم‏}‏ أي آراءهم التي اصطلحوا عليها وتركوا بسببها ما أنزل اللّه على رسله، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق‏}‏ أي لا تنصرف عن الحق الذي أمرك اللّه به إلى أهواء هؤلاء من الجهلة الأشقياء‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً‏}‏ عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏شرعة‏}‏ قال‏:‏ سبيلاً، ‏{‏ومنهاجاً‏}‏ قال‏:‏ وسنة، وعن ابن عباس أيضاً ومجاهد ‏{‏شرعة ومنهاجاً‏}‏‏:‏ أي سنة وسبيلاً والأول أنسب، فإن الشرعة وهي الشريعة أيضاً هي ما يبتدأ فيه إلى الشيء، ومنه يقال شرع في كذا‏:‏ أي ابتدأ فيه، وكذا الشريعة وهي ما يشرع فيها إلى الماء؛ أما المنهاج فهو الطريق الواضح السهل، والسنن الطرائق‏.‏ فتفسير قوله‏:‏ ‏{‏شرعة ومنهاجاً‏}‏ بالسبيل والسنة أظهر في المناسبة من العكس، والله أعلم لم هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بعث اللّه به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام المتفقة في التوحيد، كما ثبت في صحيح البخاري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏نحن معاشر الأنبياء أخوة لعلات ديننا واحد‏)‏، يعني بذلك التوحيد الذي بعث اللّه به كل رسول أرسله وضمنه كل كتاب أنزله كماقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون‏}‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا اللّه واجتنبوا الطاغوت‏}‏ الآية، وأما الشرائع فمختلفة في الأوامر والنواهي، فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حراماً، ثم يحل في الشريعة الأخرى، وبالعكس، وخفيفاً فيزاد في الشدة في هذه دون هذه، وذلك لما له تعالى في ذلك من الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، قال قتادة قوله‏:‏ ‏{‏شرعة ومنهاجاً‏}‏ يقول‏:‏ سبيلاً وسنة، والسنن مختلفة هي في التوراة شريعة، وفي الإنجيل شريعة وفي الفرقان شريعة، يحل اللّه فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، والدين الذي لا يقبل اللّه غيره التوحيد والإخلاص للّه الذي جاءت به جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام، ‏{‏ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة‏}‏ هذا خطاب لجميع الأمم وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة التي لو شاء لجمع الناس كلهم على دين واحد وشريعة واحدة لا ينسخ شيء منها، ولكنه تعالى شرّع لكل رسول شريعة على حدة، ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده، حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمداً صلى اللّه عليه وسلم الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة وجعله خاتم الأنبياء كلهم، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن ليبلوكم فيما آتاكم‏}‏ أي أنه تعالى شرع الشرائع مختلفة ليختبر عباده فيما شرع لهم ويثيبهم أو يعاقبهم على طاعته ومعصيته بما فعلوه أو عزموا عليه من ذلك كله ‏{‏فيما آتاكم‏}‏ يعن من الكتاب، ثم إنه تعالى ندبهم إلى المسارعة إلى الخيرات والمبادرة إليها فقال‏:‏ ‏{‏فاستبقوا الخيرات‏}‏ وهي طاعة اللّه واتباع شرعه الذي جعله ناسخاً لما قبله والتصديق بكتابة القرآن الذي هو آخر كتاب أنزله، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إلى اللّه مرجعكم‏}‏ أي معادكم أيها الناس ومصيركم إليه يوم القيامة ‏{‏فينبئكم بما نتم فيه تختلفون‏}‏ أي فيخبركم بما اختلفتم فيه من الحق فيجزي الصادقين بصدقهم، ويعذب الكافرين الجاحدين المكذبين بالحق العادلين عنه بلا دليل ولا برهان‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن احكم بينهم بما أنزل اللّه ولا تتبع أهوءاهم‏}‏ تأكيد لما تقدم من الأمر بذلك والنهي عن خلافه‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل اللّه إليك‏}‏ أي واحذر أعداءك اليهود أن يدلسوا عليك الحق فيما ينهونه إليك من الأمور، فلا تغتر بهم فإنهم كذبة كفرة خونة، ‏{‏فإن تولوا‏}‏ أي عما تحكم به بينهم من الحق وخالفوا شرع اللّه ‏{‏فاعلم أنما يريد اللّه أن يصيبهم ببعض ذنوبهم‏}‏، أي فاعلم أن ذلك كائن عن قدرة اللّه وحكمته فيهم أن يصرفهم عن الهدى لما لهم من الذنوب السالفة التي اقتضت إضلالهم ونكالهم، ‏{‏وإن كثيراً من الناس لفاسقون‏}‏ أي إن أكثر الناس لخارجون عن طاعة ربهم مخالفون للحق ناكبون عنه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل اللّه‏}‏ الآية‏.‏ وقال محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال‏:‏ قال كعب بن أسد، وعبد اللّه بن صوريا، وشاس بن قيس، بعضهم لبعض‏:‏ اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فأتوه فقالوا‏:‏ يا محمد إنك قد عرفت أنّا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم، وإنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا، وإن بيننا وبين قومنا خصومة، فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم، ونؤمن لك ونصدقك فأبى ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ فيهم‏:‏ ‏{‏أن احكم بينهم بما أنزل اللّه لا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل اللّه إليك‏}‏ إلى قوله ‏{‏لقوم يوقنون‏}‏ رواه ابن جرير

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من اللّه حكماً لقوم يوقنون‏}‏ ينكر تعالى على من خرج عن حكم اللّه المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والإصطلاحات التي وضعها الرجلا بلا مستند من شريعة اللّه، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله، حتى يرجع إلى حكم اللّه ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير‏.‏ قال تعالى‏:‏ أفحكم الجاهلية يبغون‏}‏ أي يبتغون ويريدون، وعن حكم اللّه يعدلون

‏{‏ومن أحسن من اللّه حكماً لقوم يوقنون‏}أي ومن أعدل من اللّه في حكمه، لمن عقل عن اللّه شرعه وآمن به وأيقن، وعلم أن اللّه أحكم الحاكمين وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، عن الحسن قال‏:‏ من حكم اللّه فحكم الجاهلية، وكان طاووس إذا سأله رجل‏:‏ أفضّل بين ولدي في النحل‏؟‏ قرأ‏:‏ ‏{‏أفحكم الجاهلية يبغون‏}‏ الآية، وقال الحافظ الطبراني عن ابن عباس قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أبغض الناس إلى اللّه عزَّ وجلَّ من يبتغي في الإسلام سنة الجاهلية، وطالب دم امرىء بغير حق ليريق دمه‏)‏
وروى البخاري بإسناده نحوه بزيادة‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏51 ‏:‏53‏)‏
‏{‏ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ‏.‏ فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ‏.‏ ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين ‏}
ينهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى الذين هم أعداء الإسلام وأهل قاتلهم اللّه، ثم أخبر أن بعضهم أولياء بعض، ثم تهدد وتوعد من يتعاطى ذلك، فقال‏:‏ ‏{‏ومن يتولهم منكم فإنه منهم‏}‏ الآية‏.‏ قال ابن أبي حاتم، عن سماك بن حرب عن عياض‏:‏ أن عمر أمر أبا موسى الأشعري أن يرفع إليه ما أخذ وما أعطى في أديم واحد، وكان له كاتب نصراني، فرفع إليه ذلك، فعجب عمر، وقال‏:‏ إن هذا لحفيظ، هل أنت قارىء لنا كتاباً في المسجد جاء من الشام‏؟‏ فقال‏:‏ إنه لا يستطيع، فقال عمر‏:‏ أجنب هو‏؟‏ قال‏:‏ لا، بل نصراني، قال‏:‏ فانتهرني وضرب فخذي، ثم قال‏:‏ أخرجوه، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء‏}‏ الآية‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فترى الذين في قلوبهم مرض‏}‏ أي شك وريب ونفاق يسارعون فيهم أي يبادرون إلى موالاتهم ومودتهم في الباطن والظاهر المراد عبد اللّه بن أبي بن مالك، ونسب إلى أمه فقيل ابن سلول ‏{‏يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة‏}‏ أي يتأولون من في مودتهم، وموالاتهم أنهم يخشون أن يقع أمر من ظفر الكافرين بالمسلمين، فتكون لهم أياد عند اليهود والنصارى فينفعهم ذلك عند ذلك قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فعسى اللّه أن يأتي بالفتح‏}‏ يعني فتح مكة، وقيل‏:‏ يعني القضاء والفصل ‏{‏أو أمر من عنده‏}‏ قال السدي‏:‏ يعني ضرب الجزية على اليهود والنصارى ‏{‏فيصبحواْ يعني الذين والوا اليهود والنصارى من المنافقين ‏{‏على ما أسروا في أنفسهم‏}‏ من الموالاة ‏{‏نادمين‏}‏ أي على ما كان منهم مما لم يجد عنهم شيئاً، ولا دفع عنهم محذوراً، بل كان عين المفسدة فإنهم فضحوا وأظهر اللّه أمرهم في الدنيا لعباده المؤمنين، بعد أن كانوا مستورين لا يدري كيف حالهم، فلما انعقدت الأسباب الفاضحة لهم تبين أمرهم لعباد اللّه المؤمنين، فتعجبوا منهم كيف كانوا يظهرون أنهم من المؤمنين ويحلفون على ذلك ويتأولون، فبان كذبهم وافتراؤهم، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا باللّه جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين‏}‏

اختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآيات الكريمات، فذكر السدي‏:‏ أنهانزلت في رجلين قال أحدهما لصاحبه بعد وقعة أحد‏:‏ أما أنا فإن ذاهب إلى ذلك اليهودي فآوي إليه وأتهوّد معه، لعله ينفعني إذا وقع أمر أو حدث حادث، وقال الآخر‏:‏ أما أنا فإني ذاهب إلى فلان النصراني بالشام فآوي إليه واتنصر معه، فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء‏}‏ الآيات‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين بعثه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى بني قريظة فسألوه ماذا هو صانع بنا‏؟‏ فأشار بيده إلى حلقه، أي أنه الذبح‏.‏ قيل‏:‏ نزلت في عبد اللّه بن أبي بن سلول كما قال ابن جرير‏:‏ جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول اللّه إن لي موالي من يهود كثير عددهم، وإني أبرأ إلى اللّه ورسوله من ولاية يهود، وأتولى اللّه ورسوله، فقال عبد اللّه بن أبي‏:‏ إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعبد اللّه بن أبي‏:‏ ‏(‏يا أبا الحباب ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه‏)‏، قال‏:‏ قد قبلت، فأنزل اللّه عزّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء‏}‏ الآيتين‏.‏ وقال محمد ابن اسحاق‏:‏ لما حاربت بنو قينقاع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تشبث بأمرهم عبد اللّه بن أبي وقام دونهم ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وكان أحد بني عوف بن الخزرج له من حلفهم مثل الذي لعبد اللّه بن أبي، فجعلهم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتبرأ إلى اللّه ورسوله من حلفهم، وقال‏:‏ يا رسول اللّه ابرأ إلى اللّه وإلى رسوله من حلفهم، وأتولى اللّه ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم، ففيه وفي عبد اللّه بن أبي نزلت الآيات في المائدة‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ومن يتول اللّه ورسوله والذين آمنوا فإن حزب اللّه هم الغالبون‏}‏‏.‏ وقال الإمام أحمد عن أسامة بن زيد قال‏:‏ دخلت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على عبد اللّه بن ابي نعوده، فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏قد كنت أنهاك عن حب يهود‏)‏، فقال عبد اللّه ‏:‏ فقد أبغضهم أسعد بن زرارة فمات،
وكذا رواه أبو داود‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏54 ‏:‏ 56‏)‏
‏{‏ يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ‏.‏ إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ‏.‏ ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون‏}‏
يقول تعالى مخبراً عن قدرته العظيمة‏:‏ إنه من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته، فإن اللّه سيستبدل به من هو خير لها منه، وأشد منعة وأقوم سبيلاً، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على اللّه بعزيز‏}‏ أي بممتنع ولا صعب‏.‏ وقال تعالى ههنا‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه‏}‏ أي يرجع عن الحق إلى الباطل‏.‏ قال محمد بن كعب‏:‏ نزلت في الولاة من قريش، وقال الحسن البصري‏:‏ نزلت في أهل الردة أيام أبي بكر‏.‏ ‏{‏فسوف يأتي اللّه بقوم يحبهم ويحبونه‏}‏ قال الحسن‏:‏ هو واللّه أبو بكر واصحابه، وقال ابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏فسوف يأتي اللّه بقوم يحبهم ويحبونه‏}‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏هم قوم هذا‏)‏، ورواه ابن جرير بنحوه‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين‏}‏ هذه صفات المؤمنين الكُمَّل، أن يكون أحدهم متواضعاً لأخيه ووليه متعززاً على خصمه وعدوه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏محمد رسول اللّه والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم‏}‏، وفي صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه الضحوك القتال، فهو ضحوك لأوليائه، قتال لأعدائه‏.‏ وقوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏يجاهدون في سبيل اللّه ولا يخافون لومة لائم‏}‏ أي لا يردهم عما هم فيه من طاعة اللّه، وإقامة الحدود، وقتال أعدائه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يردهم عن ذلك رادّ ولا يصدهم عنه صاد‏.‏ قال الإمام أحمد عن عبد اللّه بن الصامت عن أبي ذر قال‏:‏ أمرني خليلي صلى اللّه عليه وسلم بسبع‏:‏ أمرني بحب المساكين والدنو منهم، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني، ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت، وأمرني أن لا أسال أحداً شيئاً، وأمرني أن أقول الحق وإن كان مراً، وأمرني أن لا أخاف في اللّه لومة لائم، وأمرني أن أكثر من قول‏:‏ لا حول ولا قوة إلا باللّه، فإنهن من كنز تحت العرش‏.‏ وقال الإمام أحمد أيضاً عن أبي سعيد الخدري قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ألا لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده، فإنه لا يقرّب من أجل، ولا يباعد من رزق أن يقول بحق أو أن يذكر بعظيم‏)‏ وقال أحمد عن أبي سعيد الخدري قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمراً للّه فيه مقال فلا يقول فيه، فيقال له يوم القيامة‏:‏ ما منعك أن تكون قلت في كذا وكذا‏؟‏ فيقول‏:‏ مخافة الناس‏:‏ فيقول‏:‏ إياي أحق أن تخاف‏)‏، وثبت في الصحيح‏:‏ ‏(‏ما ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه‏)‏ قالوا‏:‏ وكيف يذل نفسه يا رسول اللّه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏يتحمل من البلاء ما لا يطيق‏)‏، ‏{‏ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء‏}‏ أي من اتصف بهذه الصفات فإنما هو من فضل اللّه عليه وتوفيقه له، ‏{‏واللّه واسع عليم‏}‏ أي واسع الفضل عليم بمن يستحق ذلك ممن يحرمه إياه‏.‏






التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس
قديم 08-05-2014, 05:21 AM   رقم المشاركة : 17
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما وليكم اللّه ورسوله والذين آمنوا‏}‏ أي ليس اليهود بأوليائكم، بل ولايتكم راجعة إلى اللّه ورسوله والمؤمنين، وقوله‏:‏ ‏{‏الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة‏}‏ أي المؤمنون المتصفون بهذه الصفات من إقام الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام، وهي له وحده لا شريك له، وإيتاء الزكاة التي هي حق المخلوقين ومساعدة للمحتاجين من الضعفاء والمساكين، وأما قوله‏:‏ ‏{‏وهم راكعون‏}‏ فقد توهم بعض الناس أن هذه الجملة في موضع الحال من قوله‏:‏ ‏{‏ويؤتون الزكاة‏}‏ أي في حال ركوعهم، ولو كان هذا كذلك لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره لأنه ممدوح، وليس الأمر كذلك عند أحد من العلماء‏.‏ قال السدي‏:‏ نزلت هذه الآية في جميع المؤمنين، ولكن عليّ بن ابي طالب مر به سائل وهو راكع في المسجد فأعطاه خاتمه، وقد تقدم في الأحاديث التي أوردناها أن هذه الآيات نزلت في عبادة بن الصامت رضي اللّه عنه حين تبرأ من حلف اليهود، ورضي بولاية اللّه ورسوله والمؤمنين، ولهذا قال تعالى بعد هذا كله‏:‏{‏ومن يتول اللّه ورسوله والذين آمنوا فإن حزب اللّه هم الغالبون‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كتب اللّه لأغلبن أنا ورسلي إن اللّه قوي عزيز‏.‏ لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد اللّه ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم، أولئك كتب في قلوبهم الإيمان‏}‏ الآية‏.‏ فكل من رضي بولاية اللّه ورسوله والمؤمنين فهو مفلح في الدنيا والآخرة ومنصور في الدنيا والآخرة، ولهذا قال تعالى في هذه الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏ومن يتول اللّه ورسوله والذين آمنوا فإن حزب اللّه هم الغالبون‏}‏‏.‏

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏57 ‏:‏ 58‏)‏
‏{‏ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين ‏.‏ وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ‏}‏
هذا تنفير من موالاة أعداء الإسلام الذين يتخذون شرائع الإسلام المطهرة المحكمة، المشتملة على كل خير دنيوي وأخروي، يتخذونها هزواً ويستهزئون بها، ولعباً يعتقدون أنها نوع من اللعب في نظرهم الفاسد، وفكرهم البارد، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار‏}‏ من ههنا لبيان الجنس كقوله‏:‏ ‏{‏فاجتنبوا الرجس من الأوثان‏}‏، والمراد بالكفار ههنا ‏{‏المشركون‏}‏،{‏واتقوا اللّه إن كنتم مؤمنين‏}‏ أي اتقوا اللّه أن تتخذوا هؤلاء الأعداء لكم ولدينكم أولياء، إن كنتم مؤمنين بشرع اللّه الذي اتخذه هؤلاء هزواً ولعباً، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعباً‏}‏ أي وكذلك إذا أذنتم داعين إلى الصلاة التي هي أفضل الأعمال لمن يعقل ويعلم من ذوي الألباب ‏{‏اتخذوها‏}‏ أيضاً ‏{‏هزواً ولعباً ذلك بأنهم قوم لا يعقلون‏}‏ معاني عبادة اللّه وشرائعه، وهذه صفات أتباع الشيطان الذي إذا سمع الأذان أدبر، فإذا قضى التأذين أقبل، فإذا ثوَّب للصلاة أدبر، فإذى قضى التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء وقلبه، فيقول‏:‏ اذكر كذا، اذكر كذا، ما لم يكن يذكر، حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى، فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين قبل السلام‏.‏ كما هو في الصحيحين، وقال الزهري‏:‏ قد ذكر اللّه التأذين في كتابه فقال‏:‏ ‏{‏وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعباً ذلك بأنهم قوم لا يعقلون‏}‏‏.‏

وقال السدي في قوله‏:‏ ‏{‏وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعباً‏}‏ قال‏:‏ كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي‏:‏ أشهد أن محمداً رسول اللّه، قال‏:‏ حرق الكذاب، فدخلت خادمه ليلة من الليالي بنار وهو نائم وأهله نيام فسقطت شرارة، فأحرقت البيت، فاحترق هو وأهله‏.‏ رواه ابن جرير وابن أبي حاتم‏.‏ وذكر محمد بن إسحاق في السيرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دخل الكعبة عام الفتح ومعه بلال، فأمره أن يؤذن وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال عتاب بن أسيد‏:‏ لقد أكرم اللّه أسيداً أن لا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه، وقال الحارث بن هشام‏:‏ أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته، فقال أبو سفيان لا أقول شيئاً لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى، فخرج عليه النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏قد علمت الذي قلتم‏)‏، ثم ذكر ذلك لهم فقال الحارث وعتاب‏:‏ نشهد أنك رسول، ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك‏.‏ وقال الإمام أحمد عن عبد اللّه بن محيريز وكان يتيماً في حجر أبي محذورة قال‏:‏ قلت لأبي محذورة يا عم إني خارج إلى الشام، وأخشى أن أسأل عن تأذينك، فأخبرني أن أبا محذورة قال له‏:‏ نعم، خرجت في نفر وكنا في بعض طريق حنين، مقفل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من حنين، فلقينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ببعض الطريق، فأذن مؤذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسمعنا صوت المؤذن ونحن متنكبون، فصرخنا نحكيه ونستهزىء به، فسمع رسول اللّه فارسل إلينا إلى أن وقفنا بين يديه، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ايكم الذي سمعت صوته قد ارتفع‏)‏‏؟‏ فأشار القوم كلهم إلي، وصدقوا، فأرسل كلهم وحبسني، وقال‏:‏ ‏(‏قم فأذن‏)‏ فقمت ولا شيء أكره إلي من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ولا مما يأمرني به، فقمت بين يدي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فألقى عليّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم التأذين هو بنفسه، قال‏:‏ ‏(‏قل‏:‏ اللّه أكبر، أشهد أن لا إله إلا اللّه، أشهد أن لا إله إلا اللّه، أشهد أن محمداً رسول اللّه أشهد أن محمداً رسول اللّه، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، اللّه أكبر، اللّه أكبر، لا إله إلا اللّه‏)‏، ثم دعاني حين قضيت التأذين، فأعطاني صرة فيها شيء من فضة، ثم وضع يده على ناصية أبي محذورة، ثم أمَرَّها على وجهه، ثم بين ثدييه، ثم على كبده حتى بلغت يد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سرة أبي محذورة ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏‏(‏بارك اللّه فيك وبارك عليك‏)‏ فقلت‏:‏ يا رسول اللّه مرني بالتأذين بمكة، فقال‏:‏ ‏(‏قد أمرتك به‏)‏، وذهب كل شيء كان لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من كراهة، وعاد ذلك كله محبة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقدمت على عتاب بن أسيد عامل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأذنت معه بالصلاة عن أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وأخبرني ذلك من أدركت من أهلي ممن أدرك ابا محذروة على نحو ما أخبرني عبد اللّه بن محيريز‏.‏ هكذا رواه الإمام أحمد، وقد أخرجه مسلم في صحيحه وأهل السنن الأربعة‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏59 ‏:‏ 63‏)‏
‏{‏ قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون ‏.‏ قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل ‏.‏ وإذا جاؤوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون ‏.‏ وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون ‏.‏ لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون‏}‏

يقول تعالى‏:‏ قل يا محمد لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من أهلك الكتاب‏:‏ ‏{‏هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل‏}‏ أي هل لكم علينا مطعن أو عيب إلا هذا‏؟‏ وهذا ليس بعيب ولا مذمة، فيكون الاستثناء منقطعاً كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا باللّه العزيز الحميد‏}‏ وكقوله‏:‏ ‏{‏وما نقموا إلا أن أغناهم اللّه ورسوله من فضله‏}‏‏.‏ وقول‏:‏ ‏{‏وأن أكثركم فاسقون‏}‏ معطوف على ‏{‏أن آمنا باللّه وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل‏}‏ أي وآمنا بأن أكثركم فاسقون أي خارجون عن الطريق المستقيم في اللباب‏:‏ أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم نفر من اليهود فسألوه عمن يؤمن به من الرسل، قال‏:‏ أومن باللّه وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم، فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا‏:‏ لا نؤمن بعيسى ولا بمن آمن به، فنزلت الآية

ثم قال‏:‏ ‏{‏قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند اللّه‏}
أي هل أخبركم بشر جزاء عند اللّه يوم القيامة مما تظنونه بنا‏؟‏ وهم أنتم المتصفون بهذه الصفات المفسرة بقوله‏:‏ ‏{‏من لعنه اللّه‏}‏ أي أبعده من رحمته، ‏{‏وغضب عليه‏}‏ أي غضباً لا يرضى بعده أبداً، ‏{‏وجعل منهم القردة والخنازير‏}‏ كما تقدم بيانه في سورة البقرة، وقد قال سفيان الثوري عن ابن مسعود قال‏:‏ قال‏:‏ سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن القردة والخنازير أهي مما مسخ اللّه ‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏إن اللّه لم يهلك قوماً - أو قال لم يمسخ قوماً - فيجعل لهم نسلاً ولا عقباً، وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك‏)‏، رواه مسلم، وقال أبو داود الطيالسي عن ابن مسعود قال‏:‏ سألنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن القردة والخنازير أهي من نسل اليهود‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏لا، إن اللّه لم يلعن قوماً قط فيمسخهم فكان لهم نسل، ولكن هذا خلق كان، فلما غضب اللّه على اليهود فمسخهم جعلهم مثلهم‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعبد الطاغوت‏}‏ قرىء ‏{‏وعَبَدَ الطاغوت‏}‏ على أنه فعل ماض، والطاغوت منصوب به، أي وجعل منهم من عبد الطاغوت، وقرىء ‏{‏وعَبَدِ الطاغوت‏}‏ بالإضافة، على أن المعنى وجعل منهم خدم الطاغوت أي خدامه وعبيده، والمعنى يا أهل الكتاب الطاعنين في ديننا الذي هو توحيد اللّه وإفراده بالعبادات دون ما سواه، كيف يصدر منكم هذا وأنتم قد وجد منكم جميع ما ذكر‏؟‏ ولهذا قال ‏{‏أولئك شر مكاناً‏}‏ أي مما تظنون بنا ‏{‏وأضل عن سواء السبيل‏}‏
وهذا من باب استعمال أفعال التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر مشاركة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏{‏وإذ جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به‏}
‏ وهذه صفة المنافقين منهم أنهم يصانعون المؤمنين في الظاهر وقلوبهم منطوية على الكفر، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وقد دخلوا‏}‏ أي عندك يا محمد ‏{‏بالكفر‏}‏ أي مستصحبين الكفر في قلوبهم ثم خرجوا وهو كامن فيها لمن ينتفعوا بما قد سمعوا منك من العلم، ولا نجعت فيهم المواعظ ولا الزواجر، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏هم قد خرجوا به‏}‏ فخصهم به دون غيرهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله أعلم بما كانوا يكتمون‏}‏ أي عالم بسائرهم وما تنطوي عليه ضمائرهم وإن أظهروا لخلقه خلاف ذلك وتزينوا بما ليس فيهم، فإن اللّه عالم الغيب والشهادة أعلم بهم منهم، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وترى كثيراً منهم يسارعون في الغثم والعدوان وأكلهم السحت‏}‏ أي يبادرون إلى ذلك من تعاطي المآثم والمحارم والاعتداء على الناس وأكلهم أموالهم بالباطل ‏{‏لبئس ما كانوا يعملون‏}‏ أي لبئس العمل كان عملهم وبئس الاعتداء اعتداؤهم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون‏}‏ يعني‏:‏ هلا كان ينهاهم الربانون والأحبار منهم عن تعاطي ذلك‏؟‏ و ‏{‏الربانيون‏}‏ هم العلماء العمال‏}‏، أرباب الولايات عليهم‏.‏ والأحبار هم العلماء فقط ‏{‏لبئس ما كانوا يصنعون‏}‏ يعني من تركهم ذلك، قاله ابن عباس‏.‏ وقال ابن جرير عن ابن عباس قال‏:‏ ما في القرآن آية أشد توبيخاً من هذه الآية‏:‏ ‏{‏لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون‏}‏، قال‏:‏ كذا قرأ وكذا قال الضحاك‏:‏ ما في القرآن آية أخوف عندي منها إنا لا ننهى‏.‏ وقال بان أبي حاتم عن يحيى بن يعمر قالك خطب لعي بن أبي طالب‏"‏فحمد اللّه وأثنى
عليه ثم قال‏:‏ ‏(‏أيها الناس إنا هلك من كان قبلكم بركوبهم المعاصي، ولم ينههم الربانيون والأحبار، فلما تمادوا في المعاصي أخذتهم العقوبات، فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم، واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقاً ولا يقرب أجلاً‏)‏ وروى أبو داود عن جرير قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليه فلا يغيرون إلا أصابهم اللّه بعقاب قبل أن يموتوا‏)‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏64 ‏:‏ 66‏)‏
‏{‏ وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين ‏.‏ ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ‏.‏ ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون ‏}‏

يخبر تعالى عن اليهود عليهم لعائن اللّه المتتابعة بأنهم وصفوه بأنه بخيل كما وصفوه بأنه فقير، وهم أغنياء وعبروا عن البخل بأن قالوا‏:‏ ‏{‏يد اللّه مغلولة‏}‏، قال ابن عباس ‏{‏مغلولة‏}‏ أي بخيلة‏.‏ لا يعنون بذلك أن يد اللّه موثقة، ولكن يقولون‏:‏ بخيل، يعني أمسك ما عنده بخلاً، تعالى اللّه عن قولهم علواً كبيراً‏.‏ وقد قال عكرمة إنها نزلت في فنحاص اليهودي عليه لعنة اللّه، وقد تقدم أنه الذي قال‏:‏ ‏{‏إن اللّه فقير ونحن أغنياء‏}‏ فضربه أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه‏.‏ وقال محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال، قال رجل من اليهود يقال له شاس بن قيس ‏"‏أخرج الطبراني‏:‏ عن ابن عباس، أن قائل ذلك‏:‏ شاس بن قيس، وأخرج أبو الشيخ أنه فنحاص‏"‏‏:‏ إن ربك بخيل لا ينفق، فأنزل اللّه‏:‏{‏وقالت اليهود يد اللّه مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء‏}‏ وقد رد اللّه عزَّ وجلَّ عليهم ما قالوه وقابلهم فيما اختلقوه وافترواه وائتفكوه فقال‏:‏{‏غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا‏}‏، وهكذا وقع لهم، فإن عندهم من البخل والحسد والجبن والذلة أمر عظيم، كما قال تعالى‏:‏{‏أم يحسدون الناس على ما آتاهم اللّه من فضله‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ضربت عليهم الذلة‏}‏ الآية، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء‏}أي بل هو الواسع الجزيل العطاء الذي ما من شيء إلا عنده خزائنه الذي خلق لنا كل شيء مما نحتاج إليه، كما قال‏:‏{‏وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار‏}‏ والآيات في هذا كثيرة‏.‏ وقد قال أبو هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إن يمين اللّه ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه - قال - وعرشه على الماء وفي يده الأخرى الفيض - أو القبض - يرفع ويخفض، وقال‏:‏ يقول اللّه تعالى‏:‏ ‏(‏أَنفق أُنفق عليك‏)‏ أخرجاه في الصحيحين‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليزيدن كثيراً منها ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً‏}‏ أي يكون ما آتاك اللّه يا محمد من النعمة نقمة في حق أعدائك من اليهود وأشباههم، فكما يزداد به المؤمنون تصديقاً وعملاً صالحاً وعلماً نافعاً، يزداد به الكافرون الحاسدون لك ولأمتك طغياناً وهو المبالغة والمجاوزة للحد في الأشياء ‏{‏وكفراً‏}‏ أي تكذيباً كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولايزيد الظالمين إلا خساراً‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة‏}‏ يعني أنه لا تجتمع قلوبهم، بل العداوة واقعة بين فرقهم بعضهم في بعض دائماً، لأنهم لا يجتمعون على حق وقد خالفوك وكذبوك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها اللّه‏}‏ أي كلما عقدوا أسباباً يكيدونك بها، وكلما أبرموا أموراً يحاربونك بها أبطلها اللّه ورد كيدهم عليهم وحاق مكرهم السيء بهم ‏{‏ويسعون في الأرض فساداً واللّه لا يحب المفسدين‏}‏ أي من سجيتهم أنهم دائماً يسعون في الإفساد في الأرض فساداً، واللّه لا يحب من هذه صفته، ثم قال جلَّ وعلا‏:‏ ‏{‏ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا‏}‏ أي لو أنهم آمنوا باللّه ورسوله، واتقوا ما كانوا يتعاطونه من المآثم والمحارم ‏{‏لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم‏}‏، أي لأزلنا عنهم المحذور وأنلناهم المقصود، ‏{‏ولو أنهم أقاموا التوراة والأنجيل وما أنزل إليهم من ربهم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هو القرآن، ‏{‏لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم‏}‏، أي لو أنهم عملوا بما في الكتب التي بأديهم عن الأنبياء، على ما هي عليه من غير تحريف ولا تبديل ولا تغيير، لقادهم ذلك إلى اتباع الحق والعمل بمقتضى ما بعث اللّه به محمداً صلى اللّه عليه وسلم، فإن كتبهم ناطقة بتصديقه والأمر باتباعه حتماً لا محالة‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم‏}‏ يعني بذلك كثرة الرزق النازل عليهم من السماء، والنابت لهم من الأرض، وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏لأكلوا من فوقهم‏}‏ يعني لأرسل السماء عليهم مدراراً، ‏{‏ومن تحت أرجلهم‏}‏ يعني يخرج من الأرض بركاتها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض‏}‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس‏}‏ الآية‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ معناه ‏{‏لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم‏}‏ يعني من غير كد ولا تعب ولا شقاء ولا عناء‏.






التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس
قديم 08-05-2014, 07:03 PM   رقم المشاركة : 18
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور

وقد ذكر ابن أبي حاتم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يوشك أن يرفع العلم‏)‏، فقال زياد بن لبيد يا رسول اللّه وكيف يرفع العلم وقد قرأنا القرآن وعلمناه أبناءنا فقال‏:‏ ‏(‏ثكلتك أمك يا ابن لبيد إن كنت لأراك من أفقه أهل المدينة أو ليست التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى فما أغنى عنهم حين تركوا أمر اللّه، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون‏}‏ كقوله ‏{‏ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون‏}‏ فجعل أعلى مقاماتهم الاقتصاد وهو أوسط مقامات هذه الأمة، وفوق ذلك رتبة السابقين، كما في قوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن اللّه ذلك هو الفضل الكبير جنات عدن يدخلونها‏}‏ الآية، والصحيح أن الأقسام الثلاثة من هذه الأمة كلهم يدخلون الجنة‏.‏

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏67‏)‏
‏{‏ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين ‏.‏ ‏}‏

يقول تعالى مخاطباً عبده ورسوله محمداً صلى اللّه عليه وسلم باسم الرسالة، وآمراً له بإبلاغ جميع ما أرسله اللّه به، وقد امتثل عليه أفضل الصلاة والسلام ذلك وقام به أتم القيام؛ قال البخاري عند تفسير هذه الآية عن عائشة رضي اللّه عنها قالت‏:‏ من حدثك أن محمداً كتم شيئاً مما أنزل اللّه عليه فقد كذب، وهو يقول‏:‏ ‏{‏يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك‏}‏ الآية، وفي الصحيحين عنها أيضاً أنها قالت‏:‏ لو كان محمداً صلى اللّه عليه وسلم كاتماً شيئاً من قرآن لكتم هذه الآية‏:‏‏{‏وتخفي في نفسك ما اللّه مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه‏}‏ وقال ابن أبي حاتم عن هارون بن عنترة عن أبيه قال‏:‏ كنت عند بن عباس فجاء رجل فقال له‏:‏ إن ناساً يأتونا فيخبرونا أن عندكم شيئاً لم يبده رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للناس، فقال ابن عباس‏:‏ ألم تعلم أن اللّه تعالى قال‏:‏ ‏{‏يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك‏}‏، والله ما ورَّثنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سوداء في بيضاء‏.‏ وهذا إسناد جيد‏.‏ وفي صحيح البخاري عن وهب بن عبد اللّه السوائي قال‏:‏ قلت لعلي بن ابي طالب رضي اللّه عنه‏:‏ هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن‏؟‏ فقال‏:‏ لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهماً يعطيه اللّه رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة‏.‏ قلت‏:‏ وما في هذه الصحيفة‏؟‏ قال‏:‏ العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر‏.‏

وقال البخاري، قال الزهري‏:‏
من اللّه الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم، وقد شهدت له أمته بإبلاغ الرسالة وأداء الأمانة، وأستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع، وقد كان هناك من أصحابه نحو من أربعين ألفاً، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد اللّه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال في خطبته يومئذ‏:‏ ‏(‏ايها الناس إنكم مسؤولون عني، فما أنتم قائلون‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فجعل يرفع إصبعه إلى السماء وينكسها إليهم، ويقول‏:‏ ‏(‏اللهم هل بلغت‏)‏ ‏!‏‏؟‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن لم تفعل فما بلغت رسالته‏}‏ يعني وإن لم تؤد إلى الناس ما أرسلتك به فما بلغت رسالته، قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏وإن لم تفعل فما بلغت رسالته‏}‏‏:‏ يعني إن كتمت آية مما أنزل إليك من ربك لم تبلغ رسالته، وعن مجاهد قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك‏}‏ قال‏:‏ يا رب كيف أصنع وأنا وحدي يجتمعون علي‏؟‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏وإن لم تفعل فما بلغت رسالته‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واللّه يعصمك من الناس‏}‏ أي بلغ أنت رسالتي وأنا حافظك وناصرك ومؤيدك على أعدائك ومظفرك بهم، فلا تخف ولا تحزن، فلن يصل أحد منهم إليك بسوء يؤذيك‏.‏ وقد كان النبي صلى اللّه عليه وسلم قبل نزول هذه الآية يحرس‏.‏ كما قال الإمام أحمد عن عائشة رضي اللّه عنها كانت تحدث أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سهر ذات ليلة وهي إلى جنبه قالت، فقلت‏:‏ ما شأنك يا رسول اللّه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة‏)‏، قالت‏:‏ فبينا أنا على ذلك إذ سمعت صوت السلاح، فقال‏:‏ ‏(‏من هذا‏)‏‏؟‏ فقال‏:‏ أنا سعد بن مالك، فقال‏:‏ ‏(‏ما جاء بك‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ جئت لأحرسك يا رسول اللّه، قالت‏:‏ فسمعت غطيط رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في نومه، أخرجاه في الصحيحين‏.‏ وفي لفظ‏:‏ سهر رسول اللّه ذات ليلة مقدمة المدينة، يعني على أثر هجرته بعد دخوله بعائشة رضي اللّه عنها وكان ذلك في سنة ثنتين منها، وعنها قالت‏:‏ كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يحسر حتى نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏واللّه يعصمك من الناس‏}‏ قالت فأخرج النبي صلى اللّه عليه وسلم راسه من القبة وقال‏:‏ ‏(‏يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمنا اللّه عزَّ وجلَّ‏)‏

ومن عصمة اللّه لرسوله حفظه له من أهل مكة وصناديدها وحسادها ومعانديها ومترفيها، مع شدة العداوة والبغضة ونصب المحاربة له ليلاً ونهاراً، بما يخلقه اللّه من الأسباب العظيمة بقدرته وحكمته العظيمة، فصانه في ابتداء الرسالة بعمه ابي طالب إذ كان رئيساً مطاعاً كبيراً في قريش، وخلق اللّه في قلبه محبة طبيعية لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا شرعية، ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها، ولكن لما كان بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر هابوه واحترموه، فلما مات عمه أبو طالب نال منه المشركون أذى يسيراً، ثم قيض اللّه له الأنصار فبايعوه على الإسلام، وعلى أن يتحول إلى دارهم وهي المدينة، فلما صار إليها منعوه من الأحمر والأسود، وكلما همَّ أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء كاده اللّه ورد كيده عليه، كما كاده اليهود بالسحر، فحماه اللّه منهم، وأنزل عليه سورتين المعوذتين دواء لذلك الداء، ولما سمّه اليهود في ذراع تلك الشاة بخيبر أعلمه اللّه به وحماه منه، ولهذا أشباه كثيرة جداً يطول ذكرها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن اللّه لا يهدي القوم الكافرين‏}‏ أي بلغ أنت واللّه هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ليس عليك هداهم ولكن اللّه يهدي






التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس
قديم 08-05-2014, 07:20 PM   رقم المشاركة : 19
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏68 ‏:‏69‏)‏
‏{‏ قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين ‏.‏ إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ قل يا محمد‏:‏{‏يا أهل الكتاب لستم على شيء‏}‏ أي من الدين حتى تقيموا التوراة والإنجيل، أي حتى تؤمنوا بجميع ما بأيديكم من الكتب المنزلة من اللّه على الأنبياء، وتعملوا بما فيها، ومما فيها الإيمان بمحمد والأمر باتباعه صلى اللّه عليه وسلم والإيمان بمبعثه والاقتداء بشريعته، ولهذا قال ليث بن أبي سليم عن مجاهد في قوله ‏{‏وما أنزل إليكم من ربكم‏}‏‏:‏ يعني القرآن العظيم، وقوله‏:‏ ‏{‏وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً‏}‏ تقدم تفسيره، ‏{‏فلا تأس على القوم الكافرين‏}‏‏:‏ أي فلا تحزن عليهم ولا يهيبنك ذلك ‏"‏روى ابن جرير جاء رافع وسلام بن مشكم ومالك بن الصيف، فقالوا‏:‏ يا محمد، ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه وتؤمن بما عندنا‏؟‏ قال‏:‏ بلى، ولكنكم جحدتم بما فيها، وكتمتم ما أمرتم أن تبينوه للناس، قالوا‏:‏ فإنا نأخذ بما في أيدينا فإنا على الهدى والحق فأنزل الله ‏{‏قل يا أهل الكتاب‏}‏ الآية‏.‏‏"‏منهم، ثم قال‏:‏{‏إن الذين آمنوا‏}‏ وهم المسلمون، ‏{‏والذين هادوا‏}‏ وهم حملة التوراة، ‏{‏والصابئون‏}‏،
لما طال الفصل حسن العطف بالرفع، والصابئون طائفة من النصارى والمجوس، قاله مجاهد، وعنه‏:‏ من اليهود والمجوس‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هم قوم يعبدون الملائكة ويصلون إلى غير القبلة ويقرأون الزبور‏.‏ وقيل‏:‏ غير ذلك‏.‏ وأما النصارى فمعروفون وهم حملة الإنجيل، والمقصود أن كل فرقة آمنت باللّه وباليوم الآخر، وهو الميعاد والجزاء يوم الدين، وعملت عملاً صالحاً، ولا يكون ذلك كذلك حتى يكون موافقاً للشريعة المحمدية بعد إرسال صاحبها المبعوث إلى جميع الثقلين، فمن اتصف بذلك فلا خوف عليهم فيما يستقبلونه، ولا على ما تركوا وراء ظهورهم ولا هم يحزنون‏.‏ وقد تقدم الكلام على نظيرتها في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته ها هنا‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏70 ‏:‏ 71‏)‏
{‏ لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون ‏.‏ وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون ‏}

يذكر تعالى أنه أخذ العهود والمواثيق على بني إسرائيل على السمع والطاعة للّه ولرسوله فنقضوا تلك العهود والمواثيق واتبعوا آراءهم وأهواءهم وقدموها على الشرائع فما وافقهم منها قبلوه وما خالفهم ردوه ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون وحسبوا أن لا تكون فتنة‏}‏ أي وحسبوا أن لا يترتب لهم شر على ما صنعوا، فترتب، وهو أنهم عموا عن الحق وصموا فلا يسمعون حقاً ولا يهتدون إليه، ثم تاب اللّه عليهم أي مما كانوا فيه، ‏{‏ثم عموا وصموا‏}‏ أي بعد ذلك، ‏{‏كثير منهم واللّه بصير بما يعملون‏}‏ أي مطلع عليهم وعليم بمن يستحق الهداءة ممن يستحق الغواية منهم‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏72 ‏:‏ 75‏)‏
‏{‏ لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ‏.‏ لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم ‏.‏ أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ‏.‏ ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون ‏}‏

يقول تعالى حاكماً بتكفير فرق النصارى ممن قال منهم بأن المسيح هو اللّه، - تعالى اللّه عن قولهم وتنزه وتقدس علواً كبيراً - هذا وقد تقدم لهم أن المسيح عبد اللّه ورسوله، وكان أول كلمة نطق بها وهو صغير في المهد أن قال{‏إني عبد اللّه‏}‏، ولم يقل إني أنا اللّه ولا ابن اللّه، بل قال‏:‏ ‏{‏إني عبد الّه آتاني الكتاب وجعلني نبياً‏}‏، وكذلك قال لهم في حلا كهولته ونبوته آمراً لهم بعبادة اللّه ربه وربهم وحده لا شريك له، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا اللّه ربي وربكم إنه من يشرك باللّه‏}‏ أي فيعبد معه غيره ‏{‏فقد حرم اللّه عليه الجنة ومأواه النار‏}‏ أي فقد أوجب له النار وحرم عليه الجنة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏}‏ وفي الصحيح أن النبي صلى اللّه عليه وسلم بعث منادياً ينادي في الناس‏:‏ ‏(‏إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة‏)‏ وفي لفظ ‏(‏مؤمنة‏)‏ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما للظالمين من أنصار‏}‏ أي وماله عند اللّه ناصر ولا معين ولا منقذ مما هو فيه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لقد كفر الذين قالوا إن اللّه ثالث ثلاثة‏}‏ الصحيح أنها أنزلت في النصارى خاصة قاله مجاهد وغير واحد، ثم اختلفوا في ذلك، فقيل‏:‏ المراد بذلك كفارهم في قولهم بالأقانيم الثلاثة، وهو أقنوم الأب، وأقنوم الأبن، وأقنوم الكلمة المنبثقة من الأب إلى الإبن، تعالى اللّه عن قولهم علواً كبيراً‏.‏ قال ابن جرير وغيره‏:‏ والطوائف الثلاثة من الملكية واليعقوبية والنسطورية تقول بهذه الأقانيم، وهم مختلفون فيها اختلافاً متبايناً، ليس هذا موضع بسطه، وكل فرقة منهم تكفر الأخرى، والحق أن الثلاثة كافرة‏.‏ وقال السدي وغيره‏:‏ نزلت في جعلهم المسيح وأمه إلهين مع اللّه، فجعلوا اللّه ثالث ثلاثة بهذا الاعتبار، وهي كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قال اللّه يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون اللّه قال سبحانك‏}‏ الآية، وهذا القول هو الأظهر، واللّه أعلم‏.‏

قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وما من إله إلا إله واحد‏}‏ أي ليس متعدداً بل هو وحده لا شريك له، إله جميع الكائنات وسائر الموجودت، ثم قال تعالى متوعداً لهم ومتهدداً‏:‏ ‏{‏وإن لم ينتهوا عما يقولون‏}‏ أي من هذا الإفتراء والكذب ‏{‏ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم‏}‏ أي في الآخرة من الأغلال والنكال، ثم قال‏:‏ ‏{‏أفلا يتوبون إلى اللّه ويستغفرونه واللّه غفور رحيم‏}‏ وهذا من كرمه تعالى وجوده ولطفه ورحمته بخلقه مع هذا الذنب العظيم، وهذا الإفتراء والكذب والإفك يدعوهم إلى التوبة والمغفرة، فكل من تاب إليه تاب عليه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل‏}‏ أي له أسوة أمثاله من سائر المرسلين المتقدمين عليه وأنه عبد من عباد الله ورسول من رسله الكرام، كما قال‏:‏ ‏{‏إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وأمه صديقة‏}‏ أي مؤمنة به مصدقة له، وهذا أعلى مقاماتها، فدل على أنها ليست بنبية كما زعمه ابن حزم وغيره ممن ذهب إلى نبوة سارة أم إسحاق ونبوة أم موسى ونبوة أم عيسى استدلالاً منهم بخطاب الملائكة لسارة ومريم، وبقوله‏:‏ ‏{‏وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه‏}‏، وهذا معنى النبوة، والذي عليه الجمهور أن اللّه لم يبعث نبياً إلا من الرجال، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى‏}‏، وقد حكى الشيخ أبو الحسن الأشعري رحمه اللّه الإجماع على ذلك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كانا يأكلان الطعام‏}‏ أي يحتاجان إلى التغذية به وإلى خروجه منهما، فهما عبدان كسائر الناس، وليسا بإلهين كما زعمت فرق النصارى الجهلة عليهم لعائن اللّه المتتابعة إلى يوم القيامة، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏انظر كيف نبين لهم الآيات‏}‏ أي نوضحها ونظهرها، ‏{‏ثم انظر أنّى يؤفكون‏}‏ أي ثم انظر بعد هذا البيان والوضوح والجلاء أين يذهبون، وبأي قول يتمسكون، وإلى أي مذهب من الضلال يذهبون‏؟‏‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏76 ‏:‏ 77‏)‏
‏{‏ قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم ‏.‏ قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ‏}‏

يقول تعالى منكراً على من عبد غيره من الأصنام والأنداد والأوثان، ومبيناً له أنها لا تستحق شيئاً من الإلهية، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي يا محمد لهؤلاء العابدين غير اللّه من سائر فرق بني آدم ودخل في ذلك النصارى وغيرهم ‏{‏أتعبدون من دون اللّه ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً‏}‏ أي لا يقدر على دفع ضر عنكم ولا إيصال نفع إليكم، ‏{‏واللّه هو السميع العليم‏}‏ أي السميع لأقوال عباده العليم بكل شيء، فلمَ عدلتم عنه إلى عبادة جماد لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم شيئاً ولا يملك ضراً ولا نفعاً لغيره ولا لنفسه‏؟‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق‏}‏ أي لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق، ولا تطروا من أمرتم بتعظيمه، فتبالغوا فيه حتى تخرجوه عن حيز النبوة إلى مقام الإلهية، كما صنعتم في المسح وهو نبي من الأنبياء، فجعلتموه إلهاً من دون اللّه، وما ذاك إلا لإقتدائكم بشيوخكم شيوخ الضلال الذين هم سلفكم ممن ضل قديماً، ‏{‏وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل‏}‏، أي وخرجوا عن طريق الاستقامة والاعتدال إلى طريق الغواية والضلال‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏78 ‏:‏ 81‏)‏
‏{‏لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ‏.‏ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ‏.‏ ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ‏.‏ ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون‏}

يخبر تعالى أنه لعن الكافرين من بني إسرائيل من دهر طويل فيما أنزله على داود نبيه عليه السلام، وعلى لسان عيسى ابن مريم بسبب عصيانهم للّه واعتداءهم على خلقه‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ لعنوا في التوراة والإنجيل وفي الزبور، وفي الفرقان، ثم بين حالهم فيما كانوا يعتمدونه في زمانهم، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يعملون‏}‏ أي كان لا ينهى أحد منهم أحداً عن ارتكاب المآثم والمحارم، ثم ذمهم على ذلك ليحذر أن يركب مثل الذي ارتكبوه فقال‏:‏ ‏{‏لبئس ما كانوا يفعلون‏}‏، وقال الإمام أحمد عن عبد اللّه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لما وقعت بنوا إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم، وواكلوهم وشاربوهم، فضرب اللّه قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم، ‏{‏ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون‏}‏‏)‏ وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم متكئاً فجلس فقال‏:‏ ‏(‏لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطراً‏)‏ وقال أبو داود عن عبد اللّه بن مسعود قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول‏:‏ ما هذا اتق اللّه ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب اللّه قلوب بعضهم ببعض، ثم قال‏:‏ ‏{‏لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فاسقون‏}‏، ثم قال‏:‏ كلا واللّه لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً، أو تقصرنه على الحق قصراً‏)‏

و الأحاديث في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جداً، ولنذكر منها ما يناسب هذا المقام‏.‏ عن حذيفة ابن اليمان أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليوشكن اللّه أن يبعث عليكم عقاباً من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم‏)‏ ‏"‏رواه أحمد والترمذي‏"‏وعن عائشة قالت‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم‏)‏ ‏"‏رواه ابن ماجة‏"‏وفي الصحيح عن أبي سعيد الخدري قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان‏)‏، رواه مسلم، وقال صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إن اللّه لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه، فلا ينكرونه، فإذا فعلوا ذلك عذب اللّه الخاصة والعامة‏)‏ ‏"‏رواه أحمد‏"‏وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها، كان كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها، كان كمن شهدها‏)‏ ‏"‏رواه أبو داود‏"‏وعن أبي سعيد الخدري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قام خطيباً فكان فيما قال‏:‏ ‏(‏ألا لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول الحق إذا علمه‏)‏، فبكى أبو سعيد، وقال‏:‏ قد واللّه رأينا أشياء فهبنا، وفي الحديث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏افضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر‏)‏ ‏"‏رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة‏"‏وعن أنس بن مالك قال‏:‏ قيل‏:‏ يا رسول اللّه متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏؟‏ قال‏:‏ ‏)‏إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم‏)‏ قلنا يا رسول اللّه وما ظهر في الأمم قبلنا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الملك في صغاركم، والفاحشة في كباركم، والعلم في رذالكم‏)‏ قال زيد‏:‏ تفسير معنى قول النبي صلى اللّه عليه وسلم والعلم في رذالكم‏:‏ إذا كان العلم في الفساق ‏"‏رواه ابن ماجة‏"‏وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا‏}‏ قال مجاهد‏:‏ يعني بذلك المنافقين‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لبئس ما قدمت لهم أنفسهم‏}‏ يعني بذلك موالاتهم للكافرين وتركهم موالاة المؤمنين التي أعقبتهم نفاقاً في قلوبهم وأسخطت اللّه عليهم سخطاً مستمراً إلى يوم معادهم، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أن سخط اللّه عليهم‏}‏ وفسر بذلك ما ذمهم به ثم أخبر عنهم أنهم ‏{‏في العذاب خالدون‏}‏ يعني يوم القيامة‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو كانوا يؤمنون باللّه والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء‏}‏ أي لو آمنوا حق الإيمان باللّه والرسول والقرآن لما ارتكبوا في موالاة الكافرين في الباطن ومعاداة المؤمنين بالله والنبي وما أنزل إليه، ‏{‏ولمن كثيراً منهم فاسقون‏}‏ أي خارجون عن طاعة اللّه ورسوله مخالفون لآيات وحيه وتنزيله‏.‏






التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس
قديم 08-05-2014, 07:35 PM   رقم المشاركة : 20
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏82 ‏:‏ 86‏)‏
‏{‏ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ‏.‏ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ‏.‏ وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ‏.‏ فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين ‏.‏ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ نزلت هذه الآيات في النجاشي وأصحابه، الذين حين تلا عليهم جعفر بن أبي طالب بالحبشة القرآن بكوا، حتى أخضلوا لحاهم‏.‏ وهذا القول فيه نظر، لأن هذه الآية مدنية، وقصة جعفر مع النجاشي قبل الهجرة، وقال سعيد بن جبير والسدي وغيرهما‏:‏ نزلت في وفد بعثهم النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسمعوا كلامه ويروا صفاته، فلما رأوه وقرأ عليهم القرآن أسلموا وبكوا وخشعوا‏.‏ ثم رجعوا إلى النجاشي فأخبروه‏.‏ وقال عطاء بن أبي رباح‏:‏ هم قوم من أهل الحبشة أسلموا حين قدم عليهم مهاجرة الحبشة من المسلمين، وقال قتادة‏:‏ هم قوم كانوا على دين عيسى بن مريم فلما رأوا المسلمين وسمعوا القرآن أسلموا ولم يتلعثموا، واختار ابن جرير أن هذه الآيات نزلت في صفة أقوام بهذه المثابة سواء كانوا من الحبشة أو غيرها‏.‏ فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا‏}‏ ما ذاك إلا لأن كفر اليهود كفر عناد وجحود، ومباهتة للحق، وغمط للناس، وتنقص بحملة العلم، ولهذا قتلوا كثيراً من الأنبياء، حتى هموا بقتل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم غير مرة وسمّوه وسحروه، وألبوا عليه أشباههم من المشركين عليهم لعائن اللّه المتتابعة إلى يوم القيامة‏.‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ما خلا يهودي بمسلم قط إلا هم بقتله‏)‏ ‏
"‏رواه الحافظ ابن مردويه‏"‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولتجدنَّ أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى‏}‏ أي الذين زعموا أنهم نصارى من أتباع المسيح وعلى منهاج إنجيله فيهم مودة للإسلام وأهله في الجملة، وما ذاك إلا لما في قلوبهم إذ كانوا على دين المسيح من الرقة والأرفة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية‏}‏، وفي كتابهم‏:‏ من ضربك على خدك الإيمن فأدر له خدك الأيسر، وليس القتال مشروعاً في ملتهم، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون‏}‏ أي يوجد فيهم القسيسون، وهم خطباؤهم وعلماؤهم، واحدهم فسيس وقس أيضاً، وقد يجمع على قسوس، والرهبان جمع راهب وهو العابد، مشتق من الرهبة وهي الخوف كراكب وركبان وفارس وفرسان‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ وقد يكون الرهبان واحداً وجملة، رهابين، مثل قربان وقرابين، وقد يجمع على رهابنة، ومن الدليل على أنه يكون عند العرب واحداً قول الشاعر‏:‏
لو عاينت رهبان دير في القلل * لانحدر الرهبان يمشي ونزل
وقال ابن أبي حاتم عن جاثمة بن رئاب قال‏:‏ سمعت سلمان، وسئل عن قوله‏:‏ ‏{‏ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً‏}‏ فقال‏:‏ هم الرهبان الذين هم في الصوامع والخرب، فدعوهم فيها، قال سلمان‏:‏ وقرأت على النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏{‏ذلك بأن منهم قسيسين‏}‏، فأقرأني‏:‏ ‏(‏ذلك بأن منهم صدّيقين ورهباناً‏)‏ فقوله‏:‏ ‏{‏ذلك بأن منهم قسيسين وهباناً وأنهم لا يستكبرون‏}‏، تضمن وصفهم بأن فيهم العلم والعبادة والتواضع، ثم وصفهم بالانقياد للحق واتباعه والإنصاف، فقال‏:‏ ‏{‏وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق‏}‏ أي مما عندهم من البشارة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، ‏{‏يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين‏}‏ أي مع من يشهد بصحة هذا ويؤمن به، وقد روى النسائي عن عبد اللّه بن الزبير قال‏:‏ نزلت هذه الآية في النجاشي وفي أصحابه قال السهيلي‏:‏ هم وفد نجران، وكانوا نصارى، فلما سمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم بكوا مما عرفوا من الحق، وآمنوا، وكانوا عشرين رجلاً، وكان قدومهم عليه بمكة، وأما الذين قدموا عليه بالمدينة من النصارى من عند النجاشي فهم آخرون، وفيهم نزل صدر سورة آل عمران، منهم حارثة بن علقمة، وأخوه كرز وأسلم، ولم يسلم حارثة، ومنهم العاقب بن عبد المسيح، وفيهم نزلت‏:‏ ‏{‏فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم‏}‏‏.‏ ‏:‏‏{‏وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين‏}‏‏.‏ عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فاكتبنا مع الشاهدين‏}‏ أي مع محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، هم الشاهدون يشهدون لنبيهم صلى الله عليه وسلم أنه قد بلغ وللرسل أنهم قد بلغوا، وكانوا كرّابين يعني فلاحين قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة، فلما قرأ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عليهم القرآن آمنوا وفاضت أعينهم‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما لنا لا نؤمن باللّه وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين‏}‏، هذا الصنف من النصارى هم المذكورون في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنَّ من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين للّه‏}‏ الآية، وهم الذين قال اللّه فيهم‏:‏ ‏{‏وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين‏}‏، ولهذا قال تعالى ههنا‏:‏ ‏{‏فأثابهم اللّه بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار‏}‏ أي فجازاهم على إيمانهم وتصديقهم واعترافهم بالحق، ‏{‏جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها‏}‏ أي ماكثين فيها أبداً لا يحولون ولا يزولون، ‏{‏وذلك جزاء المحسنين‏}‏ أي في اتباعهم الحق وانقيادهم له حيث كان وأين كان ومع من كان، ثم أخبر عن حال الإشقياء فقال‏:‏ ‏{‏والذين كفروا وكذبوا بآياتنا‏}‏ أي جحدوا بها وخالفوها، ‏{‏أولئك أصحاب الجحيم‏}‏ أي هم أهلها والداخلون فيها‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏87 ‏:‏ 88‏)‏
‏{‏ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ‏.‏ وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ نزلت هذه الآية في رهط من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا‏:‏ نقطع مذاكيرنا، ونترك شهوات الدنيا، ونسيح في الأرض كما يفعل الرهبان، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليهم فذكر لهم ذلك - قالوا‏:‏ نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي فهو مني ومن لمن يأخذ بسنتي فليس مني‏)‏ ‏"‏رواه ابن أبي حاتم، وروى ابن مردويه نحوه‏"‏وفي الصحيحين عن عائشة رضي اللّه عنها من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر، فقال بعضهم‏:‏ لا آكل اللحم، وقال بعضهم‏:‏ لا أتزوج النساء، وقال بعضهم‏:‏ لا أنام على فراش، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا، لكني أصوم وافطر، وأنام واقوم وآكل اللحم وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني‏)‏ وعن ابن عباس‏:‏ أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول اللّه إني إذا أكلت من هذا اللحم انتشرت للنساء، وإني حرمت عليَّ اللحم، فنزلت‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل اللّه لكم‏}‏ وقال سفيان الثوري عن عبد اللّه بن مسعود قال‏:‏ كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم، وليس معنا نساء فقلنا‏:‏ ألا نستخصي، فنهانا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ورخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل، ثم قرأ عبد اللّه‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل اللّه لكم‏}‏ الآية، وهذا كان قبل تحريم نكاح المتعة، واللّه أعلم‏.‏ وعن مسروق قال‏:‏ كنا عند عبد اللّه بن مسعود فجيء بضرع فتنحّى رجل، فقال له عبد اللّه‏:‏ أدن‏.‏ فقال‏:‏ إني حرمت أن آكله، فقال عبد اللّه‏:‏ ادن فأطعم وكفر عن يمينك، وتلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل اللّه لكم‏}الآية‏.‏

وقد ذهب بعض العلماء كالشافعي وغيره إلى أن من حرم مأكلاً أو ملبساً أو شيئاً ما عدا النساء أنه لا يحرم عليه ولا كفارة عليه أيضاً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل اللّه لكم‏}‏، ولأن الذي حرّم اللحم على نفسه لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بكفارة؛ وذهب آخرون منهم الإمام أحمد بن حنبل إلى أن من حرّم مأكلاً أو مشرباً أو ملبساً أو شيئاً من الأشياء فإنه يجب عليه بذلك كفارة يمين كما إذا التزم تركه باليمين، فكذلك يؤاخذ بمجرد تحريمه على نفسه إلزاماً له بما التزمه كما أفتى بذلك ابن عباس، وكما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي لم تحرم ما أحل اللّه لك تبتغي مرضات أزواجك واللّه غفور رحيم‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏قد فرض اللّه لكم تحلة أيمانكم‏}‏ الآية‏.‏ وكذلك ها هنا لما ذكر هذا الحكم عقبة بالآية المبينة لتكفير اليمين، فدل على أن هذا منزل منزلة اليمين في اقتضاء التكفير، واللّه أعلم‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ أراد رجالا منهم عثمان بن مظعون وعبد اللّه بن عمرو أن يتبتلوا ويخصوا أنفسهم ويلبسوا المسوح، فنزلت هذه الآية‏.‏ وقال ابن جرير عن عكرمة‏:‏ إن عثمان بن مظعون، وعلي بن أي طالب، وابن مسعود، والمقداد بن الأسود، وسالماً مولى أبي حذيفة في أصحابه تبتلوا، فجلسوا في البيوت، واعتزلوا النساء، ولبسوا المسوح، وحرموا طيبات الطعام واللباس إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل، وهموا بالاختصاء، وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار، فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن اللّه لا يحب المعتدين‏}‏، يقول‏:‏ لا تسيروا بغير سنّة المسلمين، يريد ما حرموا من النساء والطعام واللباس وما أجمعوا له من قيام الليل وصيام النهار وما هموا به من الاختصاء، فلما نزلت فيهم بعث إليهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏إن لأنفسكم حقاً، وإن لأعينكم حقاً، صوموا وأفطروا، وصلوا وناموا، فليس منا من ترك سنتنا‏)‏ فقالوا‏:‏ اللهم سلمنا واتبعنا ما أنزلت‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تعتدوا‏}‏ يحتمل أن يكون المراد منه‏:‏ لا تبالغوا في التضييق على أنفسكم بتحريم المباحات عليكم كما قاله من قاله من السلف، ويحتمل أن يكون المراد كما لا تحرموا الحلال فلا تعتدوا في تناول الحلال، بل خذوا منه بقدر كفايتكم وحاجتك ولا تجاوزوا الحد فيه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكلوا واشربوا ولا تسرفوا‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏والذين إذا أنفقوا لم يسرقوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً‏}‏ فشرع الله عدل بين الغالي فيه والجافي عنه، لا إفراط ولا تفريط ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن اللّه لا يحب المعتدين‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً‏}‏ أي في حال كونه حلالاً طيباً، ‏{‏واتقوا الله‏}‏ أي في جميع أموركم واتبعوا طاعته ورضوانه واتركوا مخالفته وعصيانه ‏{‏الذي أنتم به مؤمنون‏}‏‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏89‏)‏
‏{‏ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون ‏}‏

قد تقدم الكلام على اللغو في اليمين في سوروة البقرة بما أغنى عن إعادته ههنا وللّه الحمد والمنة؛ وأنه قول الرجل في الكام من غير قصد لا واللّه، وبلى واللّه ‏.‏ وهذا مذهب الشافعي، وقيل‏:‏ هو في الهزل، وقيل‏:‏ في المعصية، وقيل‏:‏ على غلبة الظن، وهو قول أبي حنيفة وأحمد، وقيل‏:‏ في اليمين في الغضب، وقيل‏:‏ في النسيان، وقيل‏:‏ هو الحلف على ترك المأكل والمشرب والملبس ونحو ذلك، واستدلوا بقوله‏:‏ ‏{‏لا تحرموا طيبات ما أحل اللّه لكم‏}‏ والصحيح أنه اليمين من غير قصد، بدليل قوله‏:‏ ‏{‏ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان‏}‏ أي بما صممتم عليه منها وقصدتموها ‏{‏فكفارته إطعام عشرة مساكين‏}‏ يعني محاويج من الفقراء ومن لا يجد ما يكفيه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏من أوسط ما تطعمون من أهليكم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي من أعدل ما تطعمون أهليكم وهو قول سعيد بن جبير وعكرمة ، وقال عطاء‏:‏ من أمثل ما تطعمون أهليكم‏.‏ وقد كان الرجل يقوت بعض أهله قوت دون، وبعضهم قوتاً فيه سعة، فقال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏من أوسط ما تعمون أهليكم‏}‏ أي من الخبز والزيت‏.‏ عن ابن عمر في قوله‏:‏ ‏{‏من أوسط ما تطعمون أهليكم‏}‏ قال‏:‏ الخبز والسمن، والخبز والزيت، والخبز والتمر‏.‏ ومن أفضل ما تطعمون أهليكم‏:‏ الخبز واللحم وهذا قول ابن سيرين والحسن والضحّاك واختار ابن جرير أن المراد بقوله‏:‏ ‏{‏من أوسط ما تطعمون أهليكم‏}‏، أي في القلة والكثرة، ثم اختلف العلماء في مقدار ما يطعمهم، فقال علي‏:‏ يغديهم ويعشيهم، وقال الحسن ومحمد بن سيرين‏:‏ يكفيه أن يطعم عشرة مساكين أكلةً واحدة خبزاً ولحماً فإن لم يجد، فخبزاً وسمناً ولبناً، فإن لم يجد فخبزاً وزيتاً وخلاً حتى يشبعوا‏.‏ وقال آخرون‏:‏ يطعم كل واحد من العشرة نصف صاع من بر أو تمر ونحوهما هذا قول عمر وعلي وعائشة ومجاهد وسعيد بن جبير والنخعي والضحاك وقال أبو حنيفة‏:‏ نصف صاع بر وصاع مما عداه، لما روي عن ابن عباس قال‏:‏ كفّر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر وأمر الناس به ومن لم يجد فنصف صاع من بر؛ وقال الشافعي‏:‏ الواجب في كفارة اليمين مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم لكل مسكين ولم يتعرض للأدم، واحتج بأمر النبي صلى الله عليه وسلم للذي جامع في رمضان بأن يطعم ستين مسكيناً من مكتل يع خمسة عشر صاعاً لكل واحد منهم، وقال أحمد‏:‏ مد من بر أو مدان من غيره والله أعلم ‏"‏رواه ابن مردويه وأخرجه ابن ماجة وفي سنده ضعف‏"‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو كسوتهم‏}قال الشافعي رحمه الله‏:‏ لو دفع إلى كل واحد من العشرة ما يصدق عليه اسم الكسوة من قميص أو سراويل أو إزار أو عمامة أو مقنعة أجزأه ذلك، وقال مالك وأحمد بن حنبل‏:‏ لا بد أن يدفع إلى كل واحد منهم من الكسوة ما يصح أن يصلي فيه إن كان رجلاً أو امرأة كل بحسبه واللّه أعلم، وقال الحسن‏:‏ ثوب ثوب، وقال الثوري‏:‏ عمامة يلف بها رأسه وعباءة يلتحف بها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أو تحرير رقبة‏}‏ أخذ أبو حنيفة بإطلاقها فقال‏:‏ تجزىء الكافرة كما تجزىء المؤمنة، وقال الشافعي وآخرون‏:‏ لا بد أن تكون مؤمنة، وأخذ تقييدها بالإيمان من كفارة القتل لا تحاد الموجب، وإن اختلف السبب، ومن حديث معاوية بن الحكم السلمي أنه ذكر أن عليه عتق رقبة وجاء معه بجارية سوداء، فقال لها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أين اللّه‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏ في السماء، قال‏:‏ ‏(‏من أنا‏)‏ قالت‏:‏ رسول اللّه، قال‏:‏ ‏(‏أعتقها فإنها مؤمنة‏)‏ ‏"‏رواه مسلم ومالك في الموطأ والشافعي في مسنده‏"‏الحديث بطوله، فهذه خصال ثلاث في كفارة اليمنين أيها فعل الحانث أجزأ عنه بالإجماع، وقد بدأ بالأسهل فالأسهل، فالإطعام أسهل، وأيسر من الكسوة، كما أن الكسوة أيسر من العتق، فيرقى فيها من الأدنى إلى الأعلى، فإن لم يقدر الملكف على واحدة من هذه الخصال الثلاث كفّر بصيام ثلاثة أيام، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام‏}‏، وروى ابن جرير عن سعيد بن جبير والحسن البصري أنهما قالا‏:‏ من وجد ثلاثة دراهم لزمه الإطعام وإلا صام، واختلف العلماء هل يجب فيها التتابع أو يستحب ويجزىء التفريق‏؟‏ قولان‏:‏ أحدهما لا يجب، ولهذا منصوص الشافعي في كتاب الأيمان، وهو قول مالك لإطلاف قوله‏:‏ ‏{‏فصيام ثلاثة أيام‏}‏ وهو صادق على المجموعة والمفرقة كما في قضاء رمضان لقوله‏:‏ ‏{‏فعدة من أيام أخر‏}‏ ونص الشافعي في موضع آخر في ‏(‏الأم‏)‏ على وجوب التتابع كما هو قول الحنفية والحنابلة، لأنه قد روي عن أبي بن كعب وغيره أنهم كانوا يقرأونها‏:‏{‏فصيام ثلاثة أيام متتابعات‏}‏ ‏"‏روى مجاهد والشعبي أنها قراءة عبد الله بن مسعود أيضاً‏"‏وهذه إذا لم يثبت كونها قرآنا متواتراً فلا أقل أن يكون خبر واحد، أو تفسيراً من الصحابة، وهو في حكم المرفوع وقوله‏:‏ ‏{‏ذلك كفاة أيمانكم إذا حلفتم‏}‏ أي هذه كفارة اليمين الشرعية ‏{‏واحفظوا أيمانكم‏}‏ قال ابن جرير‏:‏ لا تركوها بغير تكفير، ‏{‏كذلك يبين اللّه لكم آياته‏}‏ أي يوضحها ويفسرها ‏{‏لعلكم تشكرون‏}‏‏.‏






التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)
   


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع تقييم هذا الموضوع
تقييم هذا الموضوع:

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:45 PM.




 


    مجمموعة ترايدنت العربية