بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .. أما بعد:
- فما الفرق بين فهمنا لآيات القرآن الكريم ، وفهم الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته لها ؟
- وهل فسّر الرسول صلى الله عليه وسلم - آيات القرآن الكريم كاملة ؟
- وكذلك الصحابة - رضي الله عنهم - هل ثبت عنهم تفسير كامل لآيات القرآن الكريم ؟
- ولماذا كان لآيات القرآن الكريم تأثير عليهم أدّى إلى وصولهم إلى ما وصلوا إليه في تحقيق الهدف الذي أنزل القرآن من أجله -وهو الهداية للتي هي أقوم- ، ولم يحصل ذلك لمن أتى بعدهم مع أن القرآن هو القرآن لم يتغير منه شيء ؟!
هذه أسئلة كنت أقف عندها كثيراً ، وأبحث عن إجابة لها . وبعد أن اطلعت على ما أُثر عنهم في تفسير آيات القرآن الكريم من خلال ما جاء في بعض كتب السنة ، وبعد طول تأمل في سيرهم العملية لاحت لي بعض الخواطر والتأملات التي حاولت أن أصيدها وأقيدها في هذه الصفحات . وسأجعل هذه الخواطر والتأملات في ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : نظرة عامة لتفسير النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة .
المبحث الثاني : من روائع تفسير النبي صلى الله عليه وسلم – لبعض الآيات .
المبحث الثالث : من روائع تفسير الصحابة – رضي الله عنهم – لبعض الآيات .
وما هذه التأملات إلا محاولة جادة مني في خدمة هذا النوع من التفسير – وهو التفسير العملي لآيات القرآن الكريم – والتي بذلت فيها ما سمح به الوقت من الجهد سائلاً المولى القدير أن يوفقني للصواب ، وأن يؤتيني من الحكمة ما يلحقني بأولى الألباب الذين يتدبرون آيات الكتاب فيتذكرون ويتعظون ويعملون ، ثم يقولون :(وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)(آل عمران:8).
المبحث الأول : نظرة عامة في تفسير النبي صلى الله عليه وسلم – والصحابة لآيات القرآن
كثيراً ما كنت أقف عندما يذكره العلماء والباحثون في علوم القرآن أثناء بحثهم لتفسير الرسول -صلى الله عليه وسلم- والصحابة للقرآن الكريم ، وما يذكرونه من خلافٍ حول القدر الذي فسّره النبي صلى الله عليه وسلم – هل فسر القرآن كاملاً ؟ أو لم يفسر إلا بعضه ؟
وهل ثبت عن الصحابة – رضي الله عنهم – تفسير كامل للقرآن ؟ أو لم يثبت عنهم إلا تفسيرٌ لبعض آياته ؟ وما مقدار ذلك التفسير الذي أثر عنهم ؟
ولست هنا بصدد ذكر الخلاف في هذه المسائل ، وأقوال العلماء فيها ، وإنما الذي أريد أن أقرره هنا هو أن العلماء عندما بحثوا فيما أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعن الصحابة من تفسير للقرآن اقتصروا على جانب واحد من جوانب التفسير ألا وهو التفسير القولي ، أي ما ثبت عنهم من أقوال في تفسير الآيات ، وبيان مدلولها ومعناها ، وسبب نزولها وما شابه ذلك مما يتعلق بالتفسير من علوم ومباحث .
وهناك جوانب أخرى للتفسير المأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة تتمثل في السلوك والأعمال التي أثرت عنهم . وهذا يعرف من خلال دراسة سيرتهم العملية ، وكيف كانوا يطبقون القرآن في واقعهم ؟ وماذا كان موقفهم من آياته على اختلاف أنواعها من آيات في الأحكام ، وآيات في العقائد وآيات في الوعد والوعيد ، وآيات في القصص ، وآيات في الترغيب والترهيب .
وهذا هو المقصود من قول عائشة – رضي الله عنها – عندما سئلت عن خلق الرسول – صلى الله عليه وسلم – فقالت : كان خلقه القرآن (1).
( فالقرآن الكريم كتاب هداية أنزله الله ليعمل الناس بأحكامه ، فيحلوا حلاله ويحرموا حرامه ، ولما كان الناس بحاجة إلى قدوة حسنة في تطبيق ذلك ، فقد قام رسول الله بذلك خير قيام ، فكان القرآن الكريم مطبقاً في حياة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يراه الناس فيقتدون به ) (2). أي أنه – صلى الله عليه وسلم – كان يفسر القرآن بأقواله وأعماله وتصرفاته ، حتى صار القرآن خلقاً له لا ينفك عنه بحال . فآيات الأحكام فسرها - صلى الله عليه وسلم – لصحابته ولأمته بما ثبت عنه من أقوال وأفعال وتقريرات في بيانها .
وآيات العقائد – ويدخل فيها الأمور الغيبية والمتشابه من القرآن – بينها لأمته وفسرها من خلال بيانه – صلى الله عليه وسلم – للموقف الصحيح الذي يجب عليهم أن يقفوه تجاهها من الإيمان بها على ظاهرها ، وعدم الخوض في تفصيلات لم يكفلوا بها ، وأن يكون موقفهم موقف الراسخين في العلم الذين وصف الله حالهم بقوله عنهم :(وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا)(آل عمران: 7).
وآيات الوعد والوعيد كان تفسير النبي – صلى الله عليه وسلم – وصحابته الكرام لها بتأثرهم بها خوفاً ورهبة عند الوعيد ، ورجاءً ورغبة عند الوعد مع العمل الذي يؤدى إلى الحذر من الوقوع في أسباب الوعيد ، والسعي فيما يوصل إلى الاتصاف بصفات أهل الوعد والتصديق .
وأما آيات القصص ، فتفسيرهم لها حصل بتصديقهم بما جاء فيها ، واتعاظهم بما فيها من عبر وعظات . وآيات الترغيب والترهيب فسروها بأن بادروا وسارعوا إلى فعل كل ما رغب
الله فيه ، وفروا من كل ما جاء فيه أدنى ترهيب ، واجتنبوا الوقوع فيه وفي الأسباب الموصلة إليه . وبذلك جمعوا بين العلم والعمل ، فكانوا بحق كما وصفهم وأخبر عنهم أبو
عبد الرحمن السُّلمي(3) بقوله : ( حدثنا من كان يُقرئنا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – أنهم كانوا يقترئون من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عشر آيات ، فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل ، قالوا : فعلمنا العلم والعمل ) (4).
وبهذه النظرة المتكاملة إلى واقع النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته ، وبهذا الشمول في معنى التفسير نستطيع أن نقرر باطمئنان ، وبدون ارتياب أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وصحابته الكرام فسروا القرآن الكريم كاملاً . وهذا ما يوافق الأدلة التي تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين للناس ما نزل إليهم مثل قوله تعالى :(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ )(النحل: 44) . وغير ذلك من الآيات والأحاديث التي تدل على ذلك . فما كان غير واضح من الآيات ويحتاج إلى بيان بينه – صلى الله عليه وسلم – لأمته بأقواله وأفعاله ، وما كان من المتشابه بين لأمته الموقف الصحيح منه ، وما كان غير ذلك فتفسيره – صلى الله عليه وسلم – لـه يُعرف من خلال معرفة سيرته العملية التي هي عبارة عن تفسير عملي للقرآن الكريم (5). وقل مثل هذا في الصحابة – رضي الله عنهم – أيضاً .
ونظراً لكون العلماء والمفسرين قد اهتموا بما أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته من أقوال في تفسير آيات القرآن الكريم ، فلن أذكر في هذا البحث شيئاً منها ، وإنما اكتفي بذكر بعض المواقف الرائعة التي كانوا يقفونها أمام آيات القرآن الكريم ، والتي تعتبر تفسيراً عملياً لهذه الآيات .
وهذه المواقف تبين بوضوح مدى تأثير القرآن الكريم على ذلك الجيل ، ومدى اهتمامهم بالعمل بما فيه ، وتطبيق أوامره ، واجتناب نواهيه . ويتبين من خلال تأملها وأخذ العبر والعظات منها الفرق بين تلقي ذلك الجيل لآيات القرآن الكريم وتلقي غيرهم لها ، حيث كانوا يهتمون بالتطبيق وبالعمل أكثر من اهتمامهم بالأقوال التي لا فائدة منها ، ويتبين أيضاً أنهم كانوا يتركون الخوض في تفصيلات لا حاجة إليها ولا صلة لها بالواقع العملي الذي كانوا يهتمون به وهذا هو ما يميز علم السلف – أهل الجهاد والعمل – عن علم والخلف – أهل القيل والقال – إلا من رحم ربك وقليلٌ ما هم (6).