العودة   منتديات الـــود > +:::::[ الأقسام العامة ]:::::+ > ۞ مكتبة الــوٍد الإسلامية ۞
إضافة رد
   
 
أدوات الموضوع تقييم الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 06-05-2014, 02:45 AM   رقم المشاركة : 21
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏92 ‏:‏ 93‏)‏
‏{‏ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما ‏.‏ ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ‏}‏
يقول تعالى‏:‏ ليس لمؤمن أن يقتل أخاه المؤمن بوجه من الوجوه، كما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا اللّه، وأني رسول اللّه، إلا بأحدى ثلاث‏:‏ النفس بالنفس، والثب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة‏)
‏، ثم إذا وقع شي من هذه الثلاث فليس لأحد من آحاد الرعية أن يقتله، وإنما ذلك إلى الإمام أو نائبه، وقوله‏:‏ ‏{‏إلا خطا‏}‏ قالوا‏:‏ هو استثناء منقطع كقول الشاعر‏:‏
من البيض لم تظعن بعيداً ولم تطأ * على الأرض إلا ريط بردٍ مرحّل
واختلف في

سبب نزول هذه، فقال مجاهد‏:‏ نزلت في عياش بن أبي ربيعة وذلك أنه قتل رجلاً يعذبه مع أخيه على الإسلام، وهو الحارث بن يزيد الغامدي فأسلم ذلك الرجل وهاجر، وعياش لا يشعر، فلما كان يوم الفتح رآه فظن أنه على دينه فحمل عليه فقتله فأنزل اللّه هذه الآية‏.‏ قال ابن اسلم‏:‏ نزلت في أبي الدرداء لأنه قتل رجلاُ وقد قال كلمة الإيمان حين رفع عليه السيف فأهوى به إليه، فقال كلمته، فلما ذكر ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم، قال‏:‏ إنما قالها متعوذاً، فقال له‏:‏ هل شققت عن قلبه‏؟‏وهذه القصة في الصحيح لغير أبو الدرداء‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن قتل مؤمناً خطا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله‏}‏، هذان واجبان في قتل الخطأ، أحدهما‏:‏ الكفارة لما ارتكبه من الذنب العظيم وإن كان خطا، ومن شروطها أن تكون عتق ‏{‏رقبة مؤمنة‏}‏ فلا تجزىء الكافرة، وفي موطأ مالك ومسند الشافعي وأحمد
عن عطاء بن يسار عن معاوية بن الحكم‏:‏ أنه لما جاء بتلك الجارية السوداء، قال لها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏‏(‏أين اللّه ‏)‏ قالت‏:‏ في السماء، قال‏:‏ ‏(‏من أنا‏)‏ قالت‏:‏ رسول اللّه قال‏:‏ ‏(‏أعتقها فإنها مؤمنة‏) وقوله‏:‏ ‏{‏ودية مسلمة إلى أهله‏}‏ هو الواجب الثاني فيما بين القاتل وأهل القتيل عوضاً لهم عما فاتهم من قتيلهم، وهذه الدية إنما تجب أخماساً كما رواه أحمد وأهل السنن عن ابن مسعود، قال‏:‏ قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في دية الخطا عشرين بنت مخاض، وعشرين بني مخاض ذكورا وعشرين بنت لبون، وعشرين جذعة، وعشرين حقة وإنما تجب على عاقلة القاتل لا في ماله، قال الشافعي رحمه اللّه ‏:‏ لم أعلم مخالفاً أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة، وهو أكثر من حديث الخاصة، وهذا الذي اشار إليه رحمه اللّه قد ثبت في غير ما حديث، فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال‏:‏ ‏(‏اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت أحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو أمة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها‏)وهذا يقتضي أن حكم عمد الخطا المحض في وجوب الدية، لكن هذا تجب فيه الدية أثلاثاً لشبهة العمد‏.‏
وفي صحيح البخاري
عن عبد اللّه بن عمر، قال‏:‏ بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون‏:‏ صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتلهم، فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فرفع يديه، وقال‏:‏ ‏(‏اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد‏)‏ وبعث عليا فودى قتلاهم، وما أتلف من أمولاهم حتى مليغة الكلب، وهذا الحديث يؤخذ منه أن خطا الإمام أو نائبه يكون في بيت المال، وقوله‏:‏ ‏{‏إلا أن يصدقوا‏}‏ أي فتجب فيه الدية مسلمة إلى أهله إلا أن يتصدقوا بها فلا تجب، وقوله‏:‏ ‏{‏فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة‏}‏ أي إذا كان القتيل مؤمناً، ولكن أولياؤه من الكفار أهل حرب فلا دية لهم على القاتل تحرير رقبة مؤمنة لا غير‏.‏
وقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق‏}‏ الآية أي فإن كان القتيل أولياؤه أهل ذمة أو هدنة فلهم دية قتيلهم، فإن كان مؤمناً فيدة كاملة وكذا إن كان كافراُ أيضاً عند طائفة من العلماء، وقيل‏:‏ يجب في الكافر نصف دية المسلم، وقيل‏:‏ ثلثها كما هو مفصل في كتاب الأحكام، ويجب أيضاً على القاتل تحرير رقبة مؤمنة، ‏{‏فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين‏}‏ أي لا إفطار بينهما، بل يسرد صومهما إلى آخرهما، فإن أفطر من غير عذر من مرض أو حيض أو نفاس استأنف، واختلفوا في السفر هل يقطع أم لا على قولين، وقول‏:‏ ‏{‏توبة من اللّه وكان اللّه عليماً حكيماً‏}‏ أي هذه توبة القاتل خطا إذا لم يجد العتق صام شهرين متتابعين واختلفوا فيمن لا يستطيع الصيام، هل يجب عليه إطعام ستين مسكيناً كما في كفارة الظهار‏؟‏ على قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ نعم، كما هو منصوص عليه في كفارة الظهار، وإنما لم يذكر ههنا لأن هذا مقام تهديد وتخويف وتحذير، فلا يناسب أن يذكر فيه الإطعام لما فيه من التسهيل والترخيص، والقول الثاني‏:‏ لا يعدل إلى الطعام لأنه لو كان واجباً لما أخر بيانه عن وقت الحاجة ‏{‏وكان اللّه عليماً حكيماً‏}‏ قد تقدم تفسيره غير مرة، ثم لما بين تعالى حكم القتل الخطأ شرع في بينا حكم القتل العمد، فقال‏:‏ ‏{‏ومن يقتل مؤمناً متعمداً‏}‏ الآية، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم الذي هو مقرون بالشرك باللّه في غير ما آية في كتاب اللّه، حيث يقول سبحانه في سورة الفرقان‏:‏
{‏والذين لا يدعون من اللّه إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم اللّه إلا بالحق‏}‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا‏}
الآية‏.‏
والآيات والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جداً فمن ذلك ما
ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أول ما يقضي بين الناس يوم القيامة في الدماء‏)‏، وفي حديث آخر‏:‏ ‏(‏لزوال الدنيا أهون عند اللّه من قتل رجل مسلم‏)‏، وفي الحديث الآخر‏: ‏(‏لو اجتمع أهل السموات والأرض على قتل رجل مسلم لأكبهم اللّه في النار‏)‏، وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏من أعان على قتل المسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة اللّه ‏)‏، وقد كان ابن عباس يرى أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمداً، وقال البخاري عن المغيرة بن النعمان قال‏:‏ سمعت بان جبير قال‏:‏ اختلف فيها أهل الكوفة فرحلت إلى ابن عباس فسالته عنها فقال‏:‏ نزلت هذه الآية ‏{‏ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم‏}‏ هي آخر ما نزل وما نسخها شيء‏.‏ وقال في هذه الآية‏:‏ ‏{‏والذين لا يدعون مع اللّه إلهاً آخر‏}‏ إلى آخرها قال‏:‏ نزلت في أهل الشرك‏.‏ وقال ابن جرير عن سعيد بن جبير قال‏:‏ سألت ابن عباس عن قوله‏:‏ ‏{‏ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم‏}‏ قال‏:‏ إن الرجل إذا عرف الإسلام وشرائع الإسلام ثم قتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم لا توبة له فذكرت ذلك لمجاهد فقال‏:‏ إلا من ندم،وروى سالم بن أبي الجعد قال‏:‏ كنا عند ابن عباس بعدما كُفَّ بصره فأتاه رجل فناداه‏:‏ يا عبد اللّه بن عباس ما ترى في رجل قتل مؤمناً متعمداً‏؟‏ فقال‏:‏ جزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب اللّه عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً، قال‏:‏ افرأيت إن تاب وعمل صالحاً ثم اهتدى‏؟‏ قال ابن عباس‏:‏ ثكلته أمه وأنى له التوبة والهدى‏؟‏ والذي نفسي بيده لقد سمعت نبيكم صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ثكلته أمه قاتل مؤمن متعمداً، جاء يوم القيامة أخذه بيمينه أو بشماله تشخب أوداجه من قبل عرش الرحمن، يلزم قاتله بشماله وبيده الأخرى رأسه يقول‏:‏ يا رب سل هذا فيم قتلني‏(‏، وإيم الذي نفس عبد اللّه بيده لقد أنزلت هذه الآية فما نسختها من آية حتى قبض نبيكم صلى اللّه عليه وسلم وما نزل بعدها من برهان
‏"‏أخرجه ابن جرير عن سالم بن أبي الجعد‏"‏
وعن عبد اللّه بن مسعود عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ يجيء المقتول متعلقاً بقاتله يوم القيامة آخذاً راسه بيده الأخرى، فيقول‏:‏ يا رب سل هذا فيم قتلني‏؟‏ قال، فيقول‏:‏ قتلته لتكون العزة لك، فيقول‏:‏ فإنها لي، قال‏:‏ ويجيء آخر متعلقاً بقاتله، فيقول‏:‏ رب سل هذا فيم قتلني‏؟‏ قال، فيقول‏:‏ قتلته لتكون العزة لفلان قال‏:‏ فإنها ليست له بؤ بإثمه، قال فيهوي في النار سبعين خريفاً‏)‏ ‏
"‏رواه أحمد والنسائي‏.‏ ومعنى بؤ أي ارجع بإثمه‏"‏
حديث آخر ‏:‏
قال الإمام أحمد عن أبي إدريس، قال‏:‏ سمعت معاوية رضي الله عنه يقول‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمداً‏)والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها‏:‏ أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله عز وجل، فإن تاب وأناب، وخشع وخضع وعمل عملا صالحا بدل الله سيئاته حسنات، وعوَّض المقتول من ظلامته وأرضاه عن ظلامته‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين لا يدعون مع الله أله آخر - إلى قوله ‏:‏ إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحاً
‏}‏ الآية وهذا خبر لا يجوز نسخه وحمله على المشركين وحمل هذه الآية على المؤمنين خلاف الظاهر ويحتاج حمله إلى دليل، والله أعلم‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللّه‏}‏ الآية، وهذا عام في جميع الذنوب من كفر وشرك وشك ونفاق وقتل وفسق وغير ذلك، كل من تاب تاب اللّه عليه، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إن اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏}‏ فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك وهي مذكورة في هذه السورة الكريمة بعد هذه الآية وقبلها، لتقوية الرجاء واللّه أعلم‏.‏ وثبت في الصحيحين خبر الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس، ثم سأل عالماً هل لي من توبة فقال‏:‏ ومن يحول بينك وبين التوبة‏؟‏ ثم أرشده إلى بلد يعبد اللّه فيه، فهاجر إليه فمات في الطريق، فقبضته ملائكة الرحمة كما ذكرناه غير مرة‏.‏ وإذا كان هذا في بني إسرائيل فلأن يكون في هذه الامة التوبة مقبولة بطريق الأولى والأحرى، لأن اللّه وضع عنا الآصار والأغلال التي كانت عليهم، وبعث نبينا بالحنيفية السمحة، فأما الآية الكريمة وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يقتل مؤمناً متعمداً‏}‏ الآية، فقد قال أبو هريرة وجماعة من السلف، هذا جزاؤه إن جازاه، وكذا كل وعيد على ذنب لكن قد يكون كذلك معارض من أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه على قولي اصحاب الموازنة والإحباط، وهذا أحسن ما يسلك في باب الوعيد، واللّه أعلم بالصواب‏.‏ وبتقدير دخول القاتل في النار، أما على قول ابن عباس ومن وافقه أنه لا توبة له، أو على قول الجمهور حيث لا عمل له صالحاً ينجو به فليس بمخلد فيها أبداً، بل الخلود هو المكث الطويل، وقد تواترت الأحاديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏
‏(‏أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان‏)
‏، وأما حديث معاوية‏:‏ ‏(‏كل ذنب عسى اللّه أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمداً‏)‏ فعسى للترجي، فإذا انتفى الترجي في هاتين الصورتين لانتفى وقوع ذلك في أحدهما وهو القتل، لما ذكرنا من الأدلة‏.‏
وأما من مات كافرا فالنص أن اللّه لا يغفر له البتة، وأما مطالبة المقتول القاتل يوم القيامة فإنه حق من حقوق الآدميين وهي لا تسقط بالتوبة، ولكن لا بد من ردها إليهم ولا فرق بين المقتول والمسروق منه، والمغصوب منه والمقذوف وسائر حقوق الآدميين، فإن الإجماع منعقد على أنها لا تسقط بالتوبة، ولكنه لا بد من ردها إليهم في صحة التوبة فإن تعذر ذلك فلا بد من المطالبة يوم القيامة، لكن لا يلزم من وقوع المطالبة وقوع المجازاة، إذ قد يكون للقاتل أعمال صالحة تصرف إلى المقتول أو بعضها، ثم يفضل له أجر يدخل به الجنة أو يعوض اللّه المقتول بما يشاء من فضله من قصور الجنة ونعيمها، ورفع درجته فيها نحو ذلك واللّه أعلم‏.‏
ثم لقاتل العمد أحكام في الدنيا وأحكام في الآخرة، فأما في الدنيا فتسلط أولياء المقتول عليه، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطانا‏}
الآية، ثم هم مخيرون بين أن يقتلوا، أو يعفوا، أو يأخذوا دية مغلظة - أثلاثاً - ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة، كما هو مقرر في كتاب الأحكام، واختلف الأئمة هل تجب عليه كفارة عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام على أحد القولين كما تقدم في كفارة الخطأ على قولين‏:‏ فالشافعي وأصحابه وطائفة من العلماء يقولون‏:‏ نعم يجب عليه، لأنه إذا وجبت عليه الكفارة في الخطأ فلأن تجب عليه في العمد أولى فطردوا هذا في كفارة اليمن الغموس، وقال أصحاب الإمام أحمد وآخرون‏:‏ قتل العمد أعظم من أن يكفر فلا كفارة فيه وكذا اليمين الغموس، وقد احتج من ذهب إلى وجوب الكفارة في قتل العمد بما رواه الإمام أحمد
عن واثلة بن الأسقع قال‏:‏ أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم نفر من بني سليم فقالوا‏:‏ إن صاحباً لنا قد أوجب، قال‏:‏ ‏(‏فليعتق رقبة يفدي اللّه بكل عضو منها عضواً منه من النار‏)‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏94‏)‏
‏{‏ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا ‏}‏
روى أحمد عن ابن عباس قال‏:‏ مر رجل من بني سليم بنفر من اصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم يرعى غنماً له فسلم عليهم فقالوا‏:‏ لا يسلم علينا إلا ليتعوذ منا، فعمدوا إليه فقتلوه، واتو بغنمه النبي صلى اللّه عليه وسلم، فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ إلى آخرها"‏رواه أحمد والترمذي والحاكم‏"‏وقال البخاري عن عطاء عن ابن عباس ‏{‏ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا‏}‏ قال‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون فقال السلام عليكم فقتلوه وأخذوا غنيمته، فأنزل اللّه في ذلك‏:‏ ‏{‏ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناْ قال ابن عباس‏:‏ عرض الدنيا تلك الغنيمة وقرأ ابن عباس السلام، وقال الحافظ أبو بكر البزار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سرية فيه المقداد بن الاسود فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا وبقي رجل له مال كثير ولم يبرح فقال أشهد أن لا إله إلا اللّه وأهوى إليه المقداد فقتله فقال له رجل من أصحابه‏:‏ أقتلت رجلاً شهد أن لا إله إلا اللّه ‏؟‏ واللّه لأذكرن ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم، فلما قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قالوا يا رسول اللّه إن رجلاً شهد أن لا إله إلا اللّه فقتله المقداد فقال‏:‏ ‏(‏ادعوا لي المقداد، يا مقداد أقتلت رجلاً يقول لا إله إلا اللّه ‏؟‏ فكيف لك بلا إله إلا اللّه غداً‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ فأنزل اللّه ‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين أمنوا إذا ضربتم في سبيل اللّه فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند اللّه مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن اللّه عليكم فتبينوا‏}‏، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للمقداد‏:‏ ‏(‏كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه فقتلته، وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل‏)‏
‏"‏أخرجه الحافظ البزار من حديث ابن عباس‏"‏وقوله‏:‏ ‏{‏فعند اللّه مغانم كثيرة‏}‏ أي خير مما رغبتم فيه من عرض الحياة الدنيا الذي حملكم على قتل مثل هذا الذي ألقى إليكم السلام، وأظهر لكم الإيمان فتغافلتم عنه واتهمتموه بالمصانعة والتقية لتبتغوا عرض الحياة الدنيا فما عند اللّه من الرزق الحلال خير لكم من مال هذا‏.‏
وقوله تعالى ‏{‏كذلك كنتم من قبل فمنّ اللّه عليكم‏}‏ أي قد كنتم من قبل هذه الحال كهذا الذي يسر إيمانه ويخفيه من قومه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض‏}‏ الآية‏.‏ عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏كذلك كنتم من قبل‏}‏ تستخفون بإيمانكم كما استخفى هذا الراعي بإيمانه، وهذا اختيار ابن جرير، وقال ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قوله‏:‏ ‏{‏كذلك كنتم من قبل‏}‏ لم تكونوا مؤمنين، ‏{‏فمنَّ اللّه عليكم‏}‏ أي تاب عليكم فحلف أسامة لا يقتل رجلاً يقول لا إله إلا اللّه بعد ذلك الرجل، وما لقي من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيه، وقوله ‏{‏فتبينوا‏}‏ تأكيد لما تقدم، وقوله‏:‏ ‏{‏إن اللّه كان بما تعملون خبيراً‏}‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ هذا تهديد ووعيد‏.‏






التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس
قديم 06-05-2014, 03:03 AM   رقم المشاركة : 22
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏95 ‏:‏96‏)‏
{‏ لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ‏.‏ درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما‏}‏
قال البخاري عن البراء قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين‏}‏ دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زيداً فكتبها، فجاء ابن أم مكتوم فشكا ضرارته، فأنزل اللّه ‏{‏غير أولي الضرر‏}‏ وقال البخاري أيضاً عن سهل بن سعد الساعدي‏:‏ أنه رأى مروان بن الحكم في المسجد قال‏:‏ فأقبلت حتى جلست إلى جنبه، فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أملي عليَّ‏:‏ ‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل اللّه‏}‏، فجاءه ابن أم مكتوم وهو يمليها عليَّ قال‏:‏ يا رسول اللّه ‏:‏ والله لو استطيع الجهاد لجاهدت وكان أعمى، فأنزل اللّه على رسوله صلى اللّه عليه وسلم وكان فخذه على فخذي فثقلت عليَّ حتى خفت أن تُرضَّ فخذي ثم سري عنه فأنزل اللّه ‏:‏ ‏
{‏غير أولي الضرر‏}‏
وعن ابن عباس قال‏:‏ ‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر‏}‏ عن بدر والخارجون إلى بدر، ولما نزلت غزوة بدر قال عبد اللّه بن جحش وابن أم مكتوم‏:‏ إنا أعميان يا رسول اللّه فهل لنا رخصة‏؟‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر‏}‏ وفضل اللّه المجاهدين على القاعدين درجة فهؤلاء القاعدون غير أولي الضرر ‏{‏وفضل اللّه المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً درجات منه‏}‏ على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر
‏.‏ فقوله ‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين‏}‏ كان مطلقاً فلما نزل بوحي سريع ‏{‏غير أولي الضرر‏}‏ صار ذلك مخرجاً لذوي الأعذار المبيحة لترك الجهاد من العمى والعرج والمرض عن مساواتهم للمجاهدين في سبيل اللّه بأموالهم وأنفسهم‏.‏
ثم أخبر تعالى بفضيلة المجاهدين على القاعدين قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏غير أولي الضرر‏}‏ وكذا ينبغي أن يكون كما ثبت في صحيح البخاري
عن أنس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن بالمدينة أقواماً ما سرتم من مسير وقال قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه قالوا‏:‏ وهم بالمدينة يا رسول اللّه ‏؟‏ قال‏:‏ نعم حبسهم العذر‏)‏ وفي رواية عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لقد تركتم بالمدينة أقواماً ما سرتم من مسير ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه‏)‏ قالوا‏:‏ وكيف يكونون معنا فيه يا رسول اللّه ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم حبسهم العذر‏)‏
قال الشاعر في هذا المعنى‏:‏
يا راحلين إلى البيت العتيق لقد * سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا
إنا أقمنا على عذر وعن قدر * ومن أقام على عذر فقد راحا
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكلاً وعد اللّه الحسنى‏}‏ أي الجنة والجزاء الجزيل، وفيه دلالة على ان الجهاد ليس بفرض عين بل هو فرض على الكفاية، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وفضل اللّه المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً‏}‏ ثم أخبر سبحانه بما فضلهم به من الدرجات، في غرف الجنات العاليات، ومغفرة الذنوب والزلات، وأحوال الرحمة والبركات، إحساناً منه وتكريماً ولهذا قال‏:‏ ‏{‏درجات منه ومغفرة ورحمة وكان اللّه غفوراً رحيماً‏}‏‏.
وقد ثبت في الصحيحين
عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن في الجنة مائة درجة أعدها اللّه للمجاهدين في سبيله، ما بين كل درجتين كما بين السماء والارض‏)‏

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏97 ‏:‏ 100‏)
‏{‏ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ‏.‏ إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ‏.‏ فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا ‏.‏ ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما ‏}‏
عن ابن عباس أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين، يكثرون سوادهم على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يأتي السهم يرمي به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب عنقه فيقتل، فأنزل اللّه ‏:‏ ‏{‏إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم‏} ‏"‏رواه البخاري‏"‏وقال ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم فأصيب بعضهم، قال المسلمون‏:‏ كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم فنزلت ‏{‏إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم‏}‏ الآية، قال‏:‏ فكتب إلى من بقي من المسلمين بهذه الآية لا عذر لهم‏.‏ قال‏:‏ فخرجوا فلقيهم المشركون فأعطوهم التقية فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يقول آمنا باللّه‏}‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم‏"‏الآية، قال الضحاك‏:‏ نزلت في ناس من المنافقين تخلفوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمكة وخرجوا مع المشركين يوم بدر فأصيبوا فيمن أصيب، فنزلت هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكناً من إقامة الدين فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع، وبنص هذه الآية حيث يقول تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم‏}‏ أي بترك الهجرة ‏{‏قالوا فيم كنتم‏}‏ أي لم مكثتم ها هنا وتركتم الهجرة‏؟‏ ‏{‏قالوا كنا مستضعفين في الأرض‏}‏ أي لا نقدر على الخروج من البلد، ولا الذهاب في الأرض ‏{‏قالوا ألم تكن أرض اللّه واسعة‏}‏ الآية، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏)‏من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله‏)‏
"‏أخرجه أبو داود في السنن‏"‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا المستضعفين‏}‏ إلى آخر الآية، هذا عذر من اللّه لهؤلاء في ترك الهجرة وذلك أنهم لا يقدرون على التخلص من أيدي المشركين ولو قدروا ما عرفوا يسلكون الطريق، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً‏}‏ قال مجاهد‏:‏ يعني طريقاً، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأولئك عسى اللّه أن يعفو عنهم‏}‏ أي يتجاوز اللّه عنهم بترك الهجرة، و عسى من اللّه موجبة ‏{‏وكان اللّه عفواً غفوراً‏}‏
قال البخاري عن أبي هريرة قال‏:‏ بينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصلي العشاء إذ قال‏:‏ سمع اللّه لمن حمده؛ ثم قال قبل أن يسجد‏:‏ ‏(‏اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج الوليد بن الوليد اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف‏}‏، وقال البخاري عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏إلا المستضعفين‏}‏ قال‏:‏
كنت أنا وأمي ممن عذر اللّه عزَّ وجلَّ‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يهاجر في سبيل اللّه يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة‏}‏ وهذا تحريض على الهجرة، وترغيب في مفارقة المشركين وأن المؤمن حيثما ذهب وجد عنهم مندوحة وملجأ يتحصن فيه، والمراغم مصدر تقول العرب‏:‏ راغم فلان قومه مراغماً ومراغمة، قال النابغة ابن جعدة‏:‏
كطود يلاذ بأركانه * عزيز المراغم والمهرب
وقال ابن عباس‏:‏ المراغم التحول من أرض إلى أرض، وقال مجاهد ‏{‏مراغماً كثيراً‏}‏ يعني‏:‏ متزحزحاً عما يكره، والظاهر واللّه أعلم أنه المنع الذي يتخلص به ويراغم به الأعداء، قوله‏:‏ ‏{‏وسعة‏}‏ يعني الرزق قاله غير واحد منهم قتادة حيث قال في قوله ‏{‏يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة‏}‏ أي من الضلالة إلى الهدى، ومن القلة إلى الغنى‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى اللّه ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على اللّه‏}‏ أي ومن يخرج من منزله بنية الهجرة فمات في أثناء الطريق فقد حصل له عند اللّه ثواب من هاجر كما
ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إنما الاعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى اللّه ورسوله فهجرته إلى اللّه ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه‏)وهذا عام في الهجرة وفي جميع الأعمال، ومنه الحديث الثابت في الصحيحين في الرجل الذي قتل تسعا وتسعين نفساً، ثم أكمل بذلك العابد المائة ثم سأل عالماً هل له من توبة، فقال له‏:‏ ومن يحول بينك وبين التوبة‏؟‏ ثم أرشده إلى أن يتحول من بلده إلى بلد أخرى يعبد اللّه فيه، فلما ارتحل من بلده مهاجراً إلى البلد الأخرى أدركه الموت في أثناء الطريق فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقال هؤلاء إنه جاء تائباً، وقال هؤلاء‏:‏ إنه لم يصل بعد، فأمروا أن يقيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أقرب فهو منها، فأمر اللّه هذه أن تقترب من هذه، وهذه أن تبعد فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بشبر، فقبضته ملائكة الرحمة‏
.‏
قال الإمام أحمد عن عبد اللّه بن عتيك قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏من خرج من بيته مجاهداً في سبيل اللّه، فخرَّ عن دابته فقد وقع أجره على اللّه، أو لدغته دابة فمات فقد وقع أجره على اللّه، أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على اللّه ‏)‏
وقال ابن ابي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال‏:‏ خرج ضمرة بن جندب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فمات في الطريق قبل أن يصل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزلت الآية، وقال الحافظ أبو يعلى عن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من خرج حاجاً فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة، ومن خرج معتمراً فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة، ومن خرج غازياً في سبيل اللّه فمات كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة‏)


اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏101‏)
‏{‏ وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا‏}‏
يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا ضربتم في الأرض‏}‏ أي سافرتم في البلاد كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وآخرون يضربون في الأرض‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة‏}‏ أي تخففوا فيها إما من كميتها بأن تجعل الرباعية ثنائية كما فهمه الجمهور من هذه الآية، واستدلوا بها على

قصر الصلاة في السفرعلى اختلافهم في ذلك فمن قائل لا بد أن يكون سفر طاعة‏:‏ من جهاد، أو حج أو عمرة، أو طلب علم، أو زيارة، أو غير ذلك‏.‏
ومن قائل لا يشترط سفر القربة، بل لا بد أن كون مباحاً لقوله‏:‏ ‏{‏فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم‏}‏ الآية، كما أباح له تناول الميتة مع الإضطرار بشرط أن لا يكون عاصياً بسفره، وهذا قول الشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة، ومن قائل‏:‏ يكفي مطلق السفر سواء كان مباحاً أو محظوراً حتى لو خرج لقطع الطريق وإخافة السبيل ترخص لوجود مطلق السفر وهذا قول أبي حنيفة والثوري وداود لعموم الآية وخالفهم الجمهور، وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا‏}‏ فقد يكون هذا خرج مخرج الغالب حال نزل هذه الآية، فإن في مبدأ الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة، بل ما كانوا ينهضون إلا إلى غزو عام، أو في سرية خاصة، وسائر الأحيان حرب للإسلام وأهله، والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب أو على حادثة فلا مفهوم له كقوله تعالى‏:‏
{‏ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً‏}وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم‏}‏‏.‏ وقال الإمام أحمد عن يعلى بن أُمية قال‏:‏ سألت عمر بن الخطاب قلت له قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا‏}‏ وقد أمن الناس، فقال لي عمر رضي اللّه عنه‏:‏ عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألت رسول اللّه عن ذلك فقال‏:‏ ‏(‏صدقة تصدق اللّه بها عليكم فاقبلوا صدقته‏)وعن أبي حنظلة الحذاء قال‏:‏ سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال‏:‏ ركعتان، فقلت أين قوله‏:‏ ‏{‏إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا‏}‏ ونحن آمنون، فقال‏:‏ سنّة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم"‏أخرجه ابن أبي شيبة‏"‏وقال ابن مردويه عن أبي الوداك قال‏:‏ سألت ابن عمر عن ركعتين في السفر فقال‏:‏ هي رخصة نزلت من السماء فإن شئتم فردوهما‏.‏ وقال أبو بكر بن أبي شيبة عن ابن عباس قال‏:‏ صلينا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين مكة والمدينة ونحن آمنوا لا نخاف بينهم ركعتين ركعتين‏.‏ وقال البخاري عن أنس يقول خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة، قلت‏:‏ أقمتم بمكة شيئاً قال‏:‏ أقمنا بها عشراً‏.‏ وقال البخاري عن عبد اللّه بن عمر قال‏:‏ صليت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ركعتين وابي بكر وعمر وعثمان صدراً من إمارته ثم أتمها،وحدثنا إبراهيم قال‏:‏ سمعت عبد اللّه بن يزيد يقول‏:‏ صلى بنا عثمان بن عفان رضي اللّه عنه بمنى أربع ركعات فقيل في ذلك لعبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه فاسترجع، ثم قال‏:‏ صليت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين وصليت مع عمر ابن الخطاب بمنى ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان
"‏أخرجه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري‏"‏‏.‏
فهذه الأحاديث دالة صريحاً على أن القصر ليس من شرطه وجود الخوف ولهذا قال من قال من العلماء إن المراد من القصر ههنا إنما هو قصر الكيفية لا الكمية وهو قول مجاهد والضحاك والسدي كما سيأتي بيانه، واعتضدوا أيضاً بما رواه الإمام مالك عن عائشة رضي اللّه عنها أنها قالت‏:‏ فرضت ركعتين ركعتين في السفر والحضر فأقرت صلاة السفر؛ وزيد في صلاة الحضر، قالوا‏:‏ فإذا كان أصل الصلاة في السفر اثنتين فكيف يكون المراد بالقصر ههنا قصر الكمية لأن ما هو الأصل لا يقال فيه‏:‏ ‏{‏فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة‏}‏ وأصرح من ذلك دلالة على هذا ما رواه الإمام أحمد عن عمر رضي اللّه عنه قال‏:‏ صلاة السفر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى اللّه عليه وسلم، زاد مسلم والنسائي عن عبد اللّه بن عابس قال‏:‏ فرض اللّه الصلاة على لسان نبيكم محمد صلى اللّه عليه وسلم في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة، فكما يصلي في الحضر قبلها وبعدها فكذلك يصلي في السفر‏.‏ فهذا ثابت عن ابن عباس رضي اللّه عنهما، ولا ينافي ما تقدم عن عائشة رضي اللّه عنها لأنها أخبرت أن اصل الصلاة ركعتان ولكن زيد في صلاة الحضر، فلما استقر ذلك صح أن يقال‏:‏ إن فرض صلاة الحضر أربع كما قاله ابن عباس واللّه أعلم لكن اتفق حديث ابن عباس وعائشة على أن صلاة السفر ركعتان وأنها تامة غير مقصورة كما هو مصرح به في حديث عمر رضي اللّه عنه، وإذا كان كذلك فيكون المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة‏}‏ قصر الكيفية كما في صلاة الخوف، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا‏}‏ الآية، ولهذا قال بعدها‏:‏ ‏{‏وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة‏}‏ الآية، فبين المقصود من القصر ههنا وذكر صفته وكيفيته ولهذا لما عقد البخاري كتاب صلاة الخوف صدَّره بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا ضربتم في الارض فليس علكيم جناح أن تقصروا من الصلاة‏}‏، وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة‏}‏ يوم كان النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه بعسفان والمشركون بضجنان فتوافقوا فصلى النبي صلى اللّه عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر أربع ركعات بركوعهم، وسجودهم، وقيامهم معاً جميعاً، فهمَّ بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم واثقالهم‏.‏
وقال ابن جرير عن أمية بن عبد اللّه بن خالد بن أسيد قال لعبد اللّه بن عمر‏:‏ إنا نجد في كتاب اللّه قصر صلاة الخوف ولا نجد قصر صلاة المسافر فقال عبد اللّه‏:‏ إنا وجدنا نبينا صلى اللّه عليه وسلم يعمل عملاً عملنا به، فقد سمى صلاة الخوف مقصورة وحمل الآية عليها لا على قصر صلاة المسافر، وأقره ابن عمر على ذلك واحتج على قصر الصلاة بفعل الشارع لا بنص القرآن، واصرح من هذا ما رواه ابن جرير أيضاً عن سماك الحنفي قال‏:‏ سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال‏:‏ ركعتان تمام غير قصر إنما القصر في صلاة المخافة فقلت‏:‏ وما صلاة المخافة‏؟‏ فقال‏:‏ يصلي الإمام بطائفة ركعة ثم يجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء ويجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء فيصلي بهم ركعة فيكون للإمام ركعتان ولكل طائفة ركعة ركعة‏.‏






التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس
قديم 06-05-2014, 03:50 AM   رقم المشاركة : 23
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
آية رقم ‏(‏102‏)‏
{‏ وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا ‏}‏
صلاة الخوف أنواع كثيرة فإن العدو تارة يكون تجاه القبلة، وتارة يكون في غير صوبها، والصلاة تارة تكون رباعية، وتارة تكون ثلاثة كالمغرب، وتارة تكون ثنائية كالصبح وصلاة السفر، ثم تارة يصلون جماعة وتارة يلتحم الحرب فلا يقدرون على الجماعة، بل يصلون فرادى مستقبلي القبلة غير مستقبليها ورجالاً وركباناً، ولهم أن يمشوا والحالة هذه ويضربوا الضرب المتتابع في متن الصلاة‏.‏ ومن العلماء من قال‏:‏ يصلون والحالة هذه ركعة واحدة لحديث ابن عباس المتقدم وبه قال أحمد بن حنبل، وقال إسحاق بن راهويه‏:‏ أما عند المسايفة فيجزيك ركعة واحدى تومىء بها إيماء‏.‏ فإن لم تقدر فسجدة واحدة لأنها ذكر اللّه‏.‏ ومن العلماء من أباح تأخير الصلاة لعذر القتال والمناجزة كما أخر النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم الأحزاب الظهر والعصر فصلاهما بعد الغروب، ثم صلى بعدهما المغرب ثم العشاء، وكما قال بعدها يوم بني قريظة حين جهز إليهم الجيش لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بين قريظة فأدركتهم الصلاة في أثناء الطريق، فقال منهم قائلون‏:‏ لم يرد منا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلا تعجيل المسير ولم يرد منا تأخير الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها في الطريق، وأخر آخرون منهم صلاة العصر فصلوها في بني قريظة بعد الغروب ولم يعنف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أحداً من الفريقين‏.‏ وأما الجمهور فقالوا‏:‏ هذا كله منسوخ بصلاة الخوف فإنها لم تكن نزلت بعد، فلما نزلت نسخ تأخير الصلاة لذلك‏.‏ فقوله تعالى‏:‏
‏{‏وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة‏}‏ أي إذا صليت بهم إماما في صلاة الخوف وهذه حالة غير الأولى، فإن تلك قصرها إلى ركعتة - كما دل عليه الحديث - فرادى ورجالا وركباناً مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، ثم ذكر حال الإجتماع والائتمام بإمام واحد وما أحسن ما استدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الآية الكريمة حيث اغتفرت أفعال كثيرة لأجل الجماعة فلولا أنها واجبة ما ساغ ذلك وأما من استدل بهذه الآية على أن صلاة الخوف منسوخة بعد النبي صلى اللّه عليه وسلم لقوله ‏{‏وإذا كنت فيهم‏}‏ فبعده تفوت هذه الصفة فإنه استدلال ضعيف، ويرد عليه مثل قول مانعي الزكاة الذين احتجوا بقوله‏:‏ ‏{‏خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم‏}‏ قالوا‏:‏ فنحن لا ندفع زكاتنا بعده صلى اللّه عليه وسلم إلى أحد، بل نخرجها نحن بأيديدنا معلى من نراه، ولا ندفعها إلى إلى صلاته أي دعاؤه سكن لنا، ومع هذا رد عليهم الصحابة وابوا عليهم هذا الاستدلال وأجبروهم على أداء الزكاة وقاتلوا من منعها منهم‏.‏
ولنذكر سبب نزل هذه الآية الكريمة
أولاً قبل ذكر صفتها قال ابن جرير عن علي رضي اللّه عنه قال‏:‏ سال قوم من بني النجار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا رسول اللّه إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي‏؟‏ فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ ‏{‏وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة‏}‏ ثم انقطع الوحي، فلما كان كذلك بحول غزا النبي صلى اللّه عليه وسلم فصلى الظهر، فقال المشركون لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلاَّ شددتم عليهم‏؟‏ فقال قائل منهم‏:‏ إن لهم أخرى مثلها في أثرها قال‏:‏ فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ بين الصلاتين ‏{‏إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا‏}‏ الآيتين فنزلت صلاة الخوف‏.وعن أبي عياش الزرقي قال‏:‏ منا مع رسول الله
ّ صلى اللّه عليه وسلم بعسفان فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة فصلى بنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الظهر فقالوا‏:‏ لقد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم، ثم قالوا‏:‏ يأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم، قال‏:‏ فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر العصر ‏{‏وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة‏}‏ قال‏:‏ فحضرت فأمرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخذوا السلاح قال‏:‏ فصفنا خلفه صفين قال‏:‏ ثم ركع فركعنا جميعاً، ثم رفع فرفعنا جميعاً ثم سجد النبي صلى اللّه عليه وسلم بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم، فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم، ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء ثم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء ثم ركع فركعوا جميعاً ثم رفع فرفعوا جميعاً، ثم سجد النبي صلى اللّه عليه وسلم والصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم، فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا، ثم سلم عليهم، ثم انصرف قال‏:‏ فصلاها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مرتين مرة بعسفان ومرة بأرض بني سليم
‏"‏رواه أحمد وأصحاب السنن‏"
وروى الإمام أحمد عن جابر بن عبد اللّه قال‏ :‏ قاتل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم محارب خصفة، فجاء رجل منهم يقال له غورث بن الحارث حتى قام على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالسيف فقال‏:‏ من يمنعك مني‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الله‏)‏ فسقط السيف من يده فأخذه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏ومن يمنعك مني‏)‏ قال‏:‏ كن خير آخذ قال‏:‏ ‏(‏أتشهد أن لا إله إلا اللّه وأني رسول اللّه‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ لا، وكن أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك فخلى سبيله، فقال‏:‏ جئتكم من عند خير الناس، فلما حضرت الصلاة صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلاة الخوف فكان الناس طائفتين، طائفة بإزاء العدو‏.‏ وطائفة صلوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فصلى بالطائفة الذين معه ركعتين وانصرفوا فكانوا مكان الطائفة الذين كانوا بإزاء العدو ثم انصرف الذين كانوا بإزاء العدو فصلوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ركعتين فكان لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتين ركعتين ‏"‏تفرد به الإمام أحمد‏"‏وأما الأمر بحمل السلاح في صلاة الخوف فمحمول عند طائفة من العلماء على الوجوب لظاهر الآية وهو أحد قولي الشافعي ويدل عليه قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعو أسلحتكم وخذوا حذركم‏}‏ أي بحيث تكونون على أهبة إذا احتجتم إليها لبستموها بلا كلفة ‏{‏إن اللّه أعد للكافرين عذاباً مهينا‏}‏‏.
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
‏ الآية رقم ‏(‏103 ‏:‏104‏)‏ ‏
{‏ فإذا قضي تم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ‏.‏ ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما ‏}‏
يأمر اللّه تعالى بكثرة الذكر عقيب صلاة الخ وف وإن كان مشروعاً مرغباً فيه أيضاً بعد غيرها ولكن ها هنا آكد، لما وقع فيها من التخفيف في اركانها، ومن الرخصة في الذهاب فيها والإياب، وغير ذلك مما ليس يوجد في غيرها كما قال تعالى في الأشهر الحرام‏:‏ ‏{‏فلا تظلموا فيهن أنفسكم‏}‏ وإن كان منهياًعنه في غيرها، ولكن فيه آكد لشدة حرمتها وعظمها، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا اللّه قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم‏}‏ أي في سائر أحوالكم، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة‏}‏ أي فإذا أمنتم وذهب الخوف، وحصلت الطمأنينة ‏{‏فأقيموا الصلاة‏}‏ أي فأتموها وأقيموها كما أمرتم بحدودها، وخشوعها، وركعوعها، وسجودها، وجميع شؤونها وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي مفروضاً، وقال ابن مسعود‏:‏ إن للصلاة وقتاً كوقت الحج، وقال زيد بن أسلم‏:‏ منجماً كلما مضى نجم جاء نجم، يعني كلما مضى وقت جاء وقت‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تهنوا في ابتغاء القوم‏}‏ أي لا تضعفوا في طلب عدوكم، بل جدّوا فيهم، وقاتلوهم، واقعدوا لهم كل مرصد ‏{‏إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون‏}‏ أي كما يصيبكم الجراح والقتل كذلك يحصل لهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله‏}‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وترجون من اللّه ما لا يرجون‏}‏ أي أنتم وإياهم سواء فيما يصيبكم من الجراح والآلام، ولكن أنتم ترجون من اللّه المثوبة والنصر والتأييد كما وعدكم إياه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى اللّه عليه وسلم وهو وعد حق، وخبر صدق، وهم لا يرجون شيئاً من ذلك، فأنتم أولى بالجهاد منهم وأشد رغبة فيه، وفي إقامة كلمة اللّه وإعلائها ‏{‏وكان اللّه عليماً حكيما‏}‏ أي هو أعلم وأحكم فيما يقدره ويقضيه وينفذه ويمضيه من أحكامه الكونية والشرعية وهو المحمود على كل حال‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏105 ‏:‏ 109‏)‏ ‏
{‏ إنا أنزل نا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ‏.‏ واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ‏.‏ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما ‏.‏ يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا ‏.‏ ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا ‏}
يقول تعالى مخاطباً لرسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏{‏إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق‏}‏ أي هو حق من اللّه وهو يتضمن الحق في خبره وطلبه، وقوله‏:‏ ‏{‏لتحكم بين الناس بما اراك اللّه‏}‏ احتج به من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان صلى اللّه عليه وسلم له أن يحكم بالإجتهاد بهذه الآية وبما ثبت في الصحيحين عن أم سلمة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سمع جلبة خصم بباب حجرته فخرج إليهم فقال‏:‏ ‏(‏ألا إنما أنا بشر وإنما أقضي بنحو مما أسمع ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو ليذرها‏)‏ وقال الإمام أحمد عن أم سلمة قالت‏:‏ جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في مواريث بينهما قد درست ليس عندهما بيِّنه، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ إنكم تختصمون إليّ وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها انتظاماً في عنقه يوم القيامة‏)‏ فبكى الرجلان وقال كل منهما‏:‏ حقي لأخي، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏(‏أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما، ثم توخيا الحق بينكما ثم استهما، ثم ليحلل كل منكما صاحبه‏) وقد روى ابن مردويه عن ابن عباس‏:‏ أن نفراً
من الأنصار غزوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بعض غزواته فسرقت درع لأحدهم فأظن بها رجل من الأنصار فأتى صاحب الدرع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ‏{‏إن طعمة بن أبيرق سرق درعي، فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء وقال لنفر من عشيرته‏:‏ إني غيَّبتُ الدرع وألقيتها في بيت فلان وستوجد عنده، فانطلقوا إلى نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليلاً فقالوا‏:‏ يا نبي اللّه إن صاحبنا بريء وإن صاحب الدرع فلان وقد أحطنا بذلك علماً فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه، فإنه إن لم يعصمه اللّه بك يهلك، فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فبرأه وعذره على رؤوس الناس فأنزل اللّه ‏:‏ ‏{‏إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك اللّه ولا تكن للخائنين خصيماً‏}‏‏.‏ ثم قال تعالى للذين أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مستخفين بالكذب‏:‏ ‏{‏يستخفون من الناس ولا يستخفون من اللّه‏}‏ يعني الذين أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مستخفين يجادلون عن الخائنين ثم قال عزَّ وجل‏:‏ ‏{‏ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه‏}‏ الآية يعني الذين أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مستخفين بالكذب، ثم قال‏:‏ ‏{‏ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً‏}‏ يعني السارق والذين جادلوا عن السارق‏.
وقد روى هذه القصة الترمذي وابن جرير عن قتادة
بن النعمان رضي اللّه عنه قال‏:‏ كان أهل بيت منا يقال لهم بنوا أبيرق بشر وبشير ومبشر، وكان بشير رجلاً منافقاً يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ثم يمحله لبعض العرب، ثم يقول‏:‏ قال فلان كذا وكذا، وقال فلان كذا وكذا، فإذا سمع أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذلك الشعر قالوا‏:‏ واللّه ما يقول هذا الشعر إلا هذا الرجل الخبيث - أو كما قال الرجل - وقالوا‏:‏ ابن الأبيرق قالها، قالوا‏:‏ وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة المكارون الذين ينقلون التجارة من بلد إلى بلد من الشام من الدرمك الدقيق الابيض ابتاع الرجل منها فخص بها نفسه، أما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير فقدمت ضافطة من الشام فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملاً من الدرمك فجعله في مشربة له، وفي المشربة سلاح ودرع وسيف، فعدي عليه من تحت البيت فنقبت المشربة وأخذ الطعام والسلاح‏.‏ فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال‏:‏ يا ابن أخي إنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنان فذهب بطعامنا وسلاحنا، قال فتحسسنا في الدار وسألنا فقيل لنا‏:‏ قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم قال‏:‏ وكان بنوا أبيرق قالوا - ونحن نسأل في الدار - واللّه ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل رجلاً منا له صلاح وإسلام، فلما سمع لبيد اخترط سيفه، وقال‏:‏ أنا أسرق‏!‏‏؟‏ واللّه ليخالطنكم هذا السيف، أو لتبينُنَّ هذه السرقة، قالو‏:‏ إليك عنا أيها الرجل فما أنت بصاحبها، فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال لي عمي‏:‏ يا ابن أخي لو أتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذكرت ذلك له قال قتادة‏:‏ فأتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقلت‏:‏ إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد فنقبوا مشربة له، أخذوا سلاحه وطعامه، فليردوا علينا سلاحنا، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏(‏ سآمر في ذلك‏)‏ فلما سمع بذلك بنوا ابيرق أتو رجلاً منها يقال له اسيد بن عروة فكلموه في ذلك، فاجتمع في ذلك أناس من أهل الدار، فقالوا‏:‏ يا رسول اللّه إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينه ولا ثبت، قال قتادة‏:‏ فأتيت النبي صلى اللّه عليه وسلم فلكلمته فقال‏:‏ ‏(‏عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير ثبت ولا بينة‏)‏، قال‏:‏ فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ذلك، فأتاني عمي رفاعة فقال‏:‏ يا ابن أخي ما صنعت‏؟‏ فأخبرته بما قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال‏:‏ اللّه المستعان، فلم نلبث أن نزل القرآن‏:‏ ‏{‏إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك اللّه ولا تكن للخائنين خصيماً‏}‏ يعني بين أبيرق ‏{‏واستغفر اللّه‏}‏ أي مما قلت لقتادة ‏{‏إن اللّه كان غفوراً رحيماً، ولا تجادل الذين يختانون أنفسهم - إلى قوله - رحيماً‏}‏ أي لو استغفروا اللّه لغفر لهم ‏{‏ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه - إلى قوله - إثماً مبيناً‏}‏ قوله للبيد‏:‏ ‏{‏ولولا فضل اللّه عليك ورحمته - إلى قوله - فسوف نؤتيه أجراً عظيماً‏}‏ فلما نزل القرآن أتى رسول اللّه صلى اللّه
عليه وسلم بالسلاح فرده إلى رفاعة، فقال قتادة‏:‏ لما أتيت عمي بالسلاح وكان شيخاً قد عمي أو عشي في الجاهلية وكنت أرى إسلامه مدخولاً فلما أتيته بالسلاح قال‏:‏ يا ابن أخي هي في سبيل اللّه فعرفت أن إسلامه كان صحيحاً، فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد بن سمية فأنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً، إن اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك باللّه فقد ضل ضلالاً بعيداً‏}‏ فلما نزل على سلافة بنت سعد هجاها حسان بن ثابت بأبيات من شعر فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثم خرجت به فرمته في الأبطح، ثم قالت‏:‏ أهديت لي شعر حسان ما كنت تأتيني بخير
‏"‏رواه الترمذي وابن جرير من حديث قتادة بن النعمان‏"‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يستخفون من الناس ولا يستخفون من اللّه‏}‏ الآية، هذا إنكار على المنافقين في كونهم يستخفون بقبائحهم من الناس لئلا ينكروا عليهم، ويجاهرون اللّه بها مع أنه مطلع على سرائرهم وعالم بما في ضمائرهم ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان اللّه بما يعملون محيطاً‏}‏ تهديد لهم ووعيد، ثم قال تعالى‏:‏ وها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا‏}‏ الآية، أي هب أن هؤلاء انتصروا في الدنيا بما أبدوه أو أبدى لهم عند الحكام الذين يحكمون بالظاهر وهم متعبدون بذلك، فماذا يكون صنيعهم يوم القيامة بين يدي اللّه تعالى الذي يعلم السر وأخفى‏؟‏ ومن ذا الذي يتوكل لهم يومئذ يوم القيامة في ترويج دعواهم‏؟‏ أي لا أحد يومئذ يكون لهم وكيلاً، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أم من يكون عليهم وكيلاً‏}






التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس
قديم 06-05-2014, 04:18 AM   رقم المشاركة : 24
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
.‏ الآية رقم ‏(‏110 ‏:‏ 113‏)‏
‏{‏ ومن يعمل سوء أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ‏.‏ ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما ‏.‏ ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا ‏.‏ ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما‏}
‏ يخبر تعالى عن كرمه وجوده أن كل من تاب إليه تاب عليه من أي ذنب كان ‏{‏ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر اللّه يجد اللّه غفوراً رحيماً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أخبر اللّه عباده بعفوه وحلمه وكرمه، وسعة رحمته، ومغفرته، فمن أذنب ذنباً صغيراً كان أو كبيراً ‏{‏ثم يستغفر اللّه يجد اللّه غفوراً رحيماً‏}‏ ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال ‏"‏أخرجه ابن جري عن ابن عباس‏"‏وقال ابن جرير قال عبد اللّه‏:‏ كان بنوا إسرائيل إذا أصاب أحدهم ذنباً أصبح قد كتب كفارة ذلك الذنب على بابه، وإذا أصاب البول منه شيئا قرضه بالمقراض، فقال رجل‏:‏ لقد آتى اللّه بني إسرائيل خيراً، فقال عبد اللّه رضي اللّه عنه‏:‏ ما آتاكم اللّه خير مما آتاهم جعل الماء لكم طهوراً، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا اللّه فاستغفروا لذنوبهم‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر اللّه يجد اللّه غفوراً رحيماً‏}‏ وقال علي رضي اللّه عنه‏:‏ كنت إذا سمعت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شيئاً نفعني اللّه فيه بما شاء أن ينفعني منه، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ما من مسلم يذنب ذنباً ثم يتوضأ ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر اللّه لذلك الذنب إلاغفر له ‏)‏وقرأ هاتين الآيتين‏:‏ ‏{‏ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه‏}‏ الآية، ‏{‏والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم‏}‏ ‏
"‏رواه أحمد‏"‏الآية‏.
‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه‏}‏ الآية، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تزرو وازرة وزر أخرى‏}‏ الآية، يعني أنه لا يغني أحد عن أحد، وإنما على كل نفس ما عملت لا يحمل عنها غيرها، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكان اللّه عليماً حكيماً‏}‏ أي من علمه وحكمته، وعدله ورحمته كان ذلك، ثم قال‏:‏ ‏{‏ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً‏}‏ الآية يعني كما اتهم بنو أبيرق‏:‏ بصنيعهم القبيح ذلك الرجل الصالح وهو لبيد بن سهل كما تقدم في الحديث، أو زيد بن السمين اليهودي على ما قاله الآخرون وقد كان بريئاً وهم الظلمة الخونة كما أطلع اللّه على ذلك رسوله صلى اللّه عليه وسلم ؛ ثم هذا التقريع وهذا التوبيخ عام فيهم وفي غيرهم ممن اتصف بصفتهم فارتكب مثل خطيئتهم فعليه مثل عقوبتهم، وقوله‏:‏ ‏{‏ولولا فضل اللّه عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء‏}‏ وقال الإمام ابن أبي حاتم عن قتادة بن النعمان وذكر قصة بني أبيرق فأنزل اللّه ‏:‏ ‏{‏لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء‏}‏ يعني أسيد بن عروة وأصحابه يعني بذلك لما أثنوا على بني أبيرق ولاموا قتادة بن النعمان في كونه اتهمهم وهم صلحاء برآء ولم يكن الأمر كما أنهوه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ولهذا أنزل اللّه فصل القضية وجلاءها لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم امتن عليه بتأييده إياه في جميع الأحوال؛ وعصمته له؛ وما أنزل عليه من الكتاب وهو القرآن والحكمة؛ وهي السنة ‏{‏وعلمك ما لم تكن تعلم‏}‏ أي قبل نزول ذلك عليك كقوله‏:‏ ‏{‏وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب‏}‏ إلى آخر السورة؛ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك‏}‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وكان فضل اللّه عليك عظيماً‏}‏‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏114 ‏:‏ 115‏)‏
‏{‏ لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ‏.‏ ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ‏}‏
يقول تعالى‏:‏ ‏{‏لا خير في كثير من نجواهم ‏}‏
يعني كلام الناس‏ ‏{‏إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس‏ } أي إلا نجوى من قال ذلك كما جاء في الحديث الذي رواه ابن مردويه عن أم حبيبة قالت‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ذكر اللّه عزَّ وجلَّ؛ أو أمر بمعروف؛ أو نهي عن منكر‏)‏، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً؛ أو يقول خيراً‏)‏، وقال الإمام أحمد عن أبي الدرداء قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏الا أخبركم بأفضل من درجة الصيام، والصلاة، والصدقة‏)‏ قالوا بلى يا رسول اللّه قال‏:‏ ‏(‏إصلاح ذات البين‏)‏ قال‏:‏ ‏(‏وفساد ذات البين هي الحالقة‏)‏ ورواه أبو داود والترمذي،
‏{‏ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات اللّه‏}‏ أي مخلصاً في ذلك محتسباً ثواب ذلك عند اللّه عزّ وجلَّ ‏{‏فسوف نؤتيه أجراً عظيماً‏}‏ أي ثواباً جزيلاً كثيراً واسعاً‏.‏ وقوله تعالى‏:‏
{‏ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى‏}‏ أي ومن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول صلى اللّه عليه وسلم فصار في شق، والشرع في شق وذلك عن عمد منه، بعدما ظهر له الحق وتبين له واتضح له، وقوله‏:‏ ‏{‏ويتبع غير سبيل المؤمنين‏}‏ هذا ملازم للصفة الأولى، ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع وقد تكون لما اجتمعت عليه الأمة المحمدية، فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقاً، فإنه قد ضمنت لهم العصمة في اجتماعهم من الخطأ، تشريفاً لهم وتعظيماً لنبيهم، وقد وردت أحاديث صحيحة كثيرة في ذلك‏.‏ ومن العلماء من ادعى تواتر معناها، والذي عول عليه الشافعي رحمه اللّه في الإحتجاج على كون الإجماع حجة تحرم مخالفته هذه الآية الكريمة بعد التروي والفكر الطويل، وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك فاستبعد الدلالة منها على ذلك ولهذا توعد تعالى على ذلك بقول‏:‏ ‏{‏نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً‏}‏ أي إذا سلك هذه الطريق جازيناه علىذلك بأن نحسنها في صدره ونزينها له استدراجاً له كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فلما زاغوا أزاغ اللّه قلوبهم‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ونذرهم في طغيانهم يعمهون‏}‏ وجعل النار مصيره في الآخرة لأن من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا إلى النار يوم القيامة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏احشروا الذين ظلموا وأزواجهم‏}‏ الآية وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفاً‏}‏‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏116 ‏:‏ 122‏)‏
{‏ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا ‏.‏ إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا ‏.‏ لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ‏.‏ ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا ‏.‏ يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ‏.‏ أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا ‏.‏ والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا ‏}‏
قد تقدم الكلام على هذه الآية الكريمة وهي قوله‏:‏ ‏{‏إن اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك‏}‏ الآية، وذكرنا ما يتعلق بها من الأحاديث في صدر هذه السورة وقد روي الترمذي عن علي رضي اللّه عنه أنه قال‏:‏ ما في القرآن آية أحب إليّ من هذه الآية‏:‏ ‏{‏إن اللّه لا يغفر أن يشرك به‏}‏ الآية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ومن يشرك باللّه فقد ضل ضلالا بعيداً‏}‏ أي فقد سلك غير الطريق الحق وضل عن الهدى وبعد عن الصواب وأهلك نفسه، وخسرها في الدنيا والآخرة، فاتته سعادة الدنيا والآخرة وقوله‏:‏ ‏{‏إن يدعون من دونه إلا إناثاً‏}‏، عن عائشة قالت‏:‏ أوثاناً، وقال ابن جرير عن الضحاك في الآية قال المشركون للملائكة‏:‏ بنات اللّه، وإنما نعبدهم ليقربونا إلى اللّه زلفى، قال‏:‏ فاتخذوهن أبابا وصوروهن جواري فحكموا وقلدوا، وقالوا‏:‏ هؤلاء يشبهن بنات اللّه الذي نعبده يعنون الملائكة وهذا التفسير شبيه بقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏أفرأيتم اللات والعزى‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً‏}‏ وقال ابن عباس ‏{‏إن يدعون من دونه إلا إناثا‏}‏ قال‏:‏ عني موتى، وقال الحسن‏:‏ الإناث كل شيء ميت ليس فيه روح، إما خشبة يابسة، وإما حجر يابس، وقوله‏:‏ ‏{‏وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً‏}‏ أي هو الذي أمرهم بذلك وحسنه وزينه لهم وهم إنما يعبدون إبليس في نفسه الأمر كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألم أعهد إليك يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان‏}‏ الآية، وقال تعالى إخباراً عن الملائكة أنهم يقولون يوم القيامة عن المشركني الذي ادعوا عبادتهم في الدنيا ‏{‏بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون‏}‏ وقول‏:‏
‏{‏لعنه اللّه‏}‏ أي طرده وأبعده من رحمته، وأخرجه من جواره وقال‏:‏ ‏{‏لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً‏}‏ أي معيناً مقدراً معلوماً، قال قتادة من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة ‏{‏ولأضلنهم‏}‏ أي عن الحق ‏{‏ولأمنينهم‏}‏ أي أزين لهم ترك التوبة، وأعدهم الأماني، وآمرهم بالتسويف والتأخير، وأغرهم من أنفسهم‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏ولآمرنهم فلّيبتكنَّ آذان الأنعام‏}‏ قال قتادة يعني تشقيقها وجعلها سمة، وعلامة للبحيرة والسائبة والوصيلة ‏{‏ولآمرنهم فليغيرن خلق اللّه‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني بذللك خصي الدواب، وقال الحسن البصري‏:‏ يعني بذلك الوشم، وفي صحيح مسلم النهي عن الوشم في الوجه، وفي لفظ، لعن اللّه من فعل ذلك‏.‏ وفي الصحيح عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ لعن اللّه الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات النامصات‏:‏ ناتفات الزغب والشعر من الوجه، والمتنمصات‏:‏ اللواتي ينتف الشعر من وجوههن والمتفلجات المتفلجات‏:‏ اللواتي يبردن أطراف أسنانهن للتجميل للحسن المغيرات خلق اللّه عزَّ وجلَّ، ثم قال ألا ألعن من لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو في كتاب اللّه عزَّ وجلَّ يعني قوله‏:‏ ‏{‏وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا‏}‏ وقال ابن عباس في رواية عنه ومجاهد والضحاك
في قوله‏:‏ ‏{‏ولآمرنهم فليغيرن خلق اللّه‏}‏ يعني دين اللّه عزَّ وجلَّ وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت اللّه التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق اللّه‏}‏ على قول من جعل ذلك أمراً أي لا تبدلوا فطرة اللّه ودعوا النا على فطرتهم كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏‏(‏كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تجدون بها من جدعاء‏)‏‏؟‏ وفي صحيح مسلم عن عياض بن حماد قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏قال اللّه عزّ وجلَّ‏:‏ إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم صرفتهم عن الهدى عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم‏)‏ ثم قال تعالى‏:‏{‏ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون اللّه فقد خسر خسراناً مبيناً‏}‏ أي فقد خسر الدنيا والآخرة وتلك خسارة لا جبر لها ولا استدراك لفائتها‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً‏}‏ وهذا إخبار عن الواقع فإن الشيطان يعد أولياءه ويمنيهم بأنهم هم الفائزون في الدنيا والآخرة، وقد كذب وافترى في ذلك، ولهذا قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وما يعدهم الشيطان إلاغروراً‏}‏، كما قال تعالى مخبراً عن إبليس يوم المعاد‏:‏ ‏{‏وقال الشيطان لما قضي الأمر إن اللّه وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان - إلى قوله - وإن الظالمين لهم عذاب أليم‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي المستحسنون له فيما وعدهم ومنَّاهم ‏{‏مأواهم جهنم‏}‏ أي مصيرهم ومآلهم يوم القيامة ‏{‏ولا يجدون عنها محيصاً‏}‏ أي ليس لهم عنها مندوحة ولا مصرف، ولا خلاص، ولا مناص، ثم ذكر تعالى حال السعداء والأتقياء وما لهم من الكرامة التامة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏ أي صدقت قلوبهم وعملت جوارحهم بما أمروا به من الخيرات، وتركوا ما نهو عنها من المنكرات ‏{‏سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار‏}‏ أي يصرفونها حيث شاءوا وأين شاءوا ‏{‏خالدين فيها أبداً‏}‏ أي بلا زوال ولا انتقال ‏{‏وعد اللّه حقاً‏}‏ أي هذا وعد من اللّه ووعد اللّه معلوم حقيقة أنه واقع لا محالة، ولهذا أكده بالمصدر الدال على تحقيق الخبر وهو قوله ‏{‏حقاً‏}‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أصدق من اللّه قيلاً‏}‏‏؟‏ أي لا أحد أصدق منه قولاً أي خبراً لا إله إلا هو ولا رب سواه وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول في خطبته‏:‏ ‏(‏إن أصدق الحديث كلام اللّه، وخير الهدي هديُ محمد صلى اللّه عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، كل ضلالة في النار‏)
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
‏ الآية رقم ‏(‏123 ‏:‏ 126‏)‏ ‏
{‏ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ‏.‏ ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ‏.‏ ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا ‏.‏ ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا ‏}‏ قال قتادة‏:‏ ذكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا، فقال أهل الكتاب‏:‏ نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم فنحن أولى باللّه منكم، وقال المسلمون‏:‏ نحن أولى باللّه منكم ونبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يُجْزّ بِهِ‏}‏ ‏{‏ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه للّه وهو محسن‏}
الآية، ثم أفلج اللّه حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان‏.‏ وكذا روي عن ابن عباس رضي اللّه عنه أنه قال‏:‏ في هذه الآية تخاصم أهل الأديان، فقال أهل التوراة‏:‏ كتابنا خير الكتب، ونبينا خير الأنبياء، وقال أهل الإنجيل‏:‏ مثل ذلك، وقال أهل الإسلام‏:‏ لا دين إلا الإسلام، وكتابنا نسخ كل كتاب؛ ونبينا خاتم النبيين، وأمرتهم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم ونعمل بكتابنا فقضى اللّه بينهم وقال‏:‏ ‏{‏ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به‏}‏ الآية؛ وخيِّر بين الأديان فقال‏:‏{‏ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه للّه وهو محسن‏}‏ إلى قوله‏:‏{‏واتخذ اللّه إبراهيم خليلاً‏}‏ وقال مجاهد‏:‏ قالت العرب لن نُبعث ولن نُعذب؛ وقالت اليهود والنصارى‏:‏ {‏لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى‏}‏ وقالوا‏:‏ ‏{‏لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات‏}والمعنى في هذه الآية أن الدين ليس بالتحلي ولا بالتمني؛ ولكن ما قر في القلوب وصدقته الأعمال، وليس كل من ادعى شيئاً حصل له بمجرد دعواه، ولا كل من قال إنه هو على الحق سمع قوله بمجرد ذلك حتى يكون له من اللّه برهان؛ ولهذا قال تعالى‏:‏{‏ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به‏}‏ أي ليس لكم ولا لهم النجاة بمجرد التمني‏؟‏ بل العبرة بطاعة اللّه سبحانه واتباع ما شرعه على ألسنة الرسل الكرام، ولهذا قال بعده‏:‏ ‏{‏من يعمل سوءاً يجز به‏}‏، كقوله‏:‏ ‏{‏فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره؛ ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره‏}‏‏.‏ وقد روي أن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على كثير
من الصحابة، قال الإمام أحمد بسنده أخبرت أن أبا بكر رضي اللّه عنه قال‏:‏ يا رسول اللّه كيف الفلاح بعد هذه الآية‏:‏ ‏{‏ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجزبه‏}‏ فكل سوء عملناه جُزيناه به‏!‏ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏غفر اللّه لك يا ابا بكر ألست تمرض‏؟‏ ألست تنصب‏؟‏ ألست تصيبك اللأواء‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ بلى، قال‏:‏ ‏(‏فهو مما تجزون به‏)
وروى أبو بكر بن مردويه عن أبي بكر الصديق قال‏:‏ كنت عند النبي صلى اللّه عليه وسلم فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون اللّه ولياً ولا نصيراً‏}‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏(‏يا ابا بكر ألا أقرئك آية أنزلت عليّ‏)‏ قلت‏:‏ بلى يا رسول اللّه قال‏:‏ فأقرأنيها فلا أعلم أني قد وجدت انفصاماً في ظهري حتى تمطيت لها، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏مالك يا أبا بكر‏)‏‏؟‏ قلت‏:‏ بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه، وأينا لم يعلم السوء، وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه‏؟‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أما أنت يا أبا بكر واصحابك المؤمنون فإنكم تجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا اللّه ليس لكم ذنوب، وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة‏)‏ وقال ابن جرير‏:‏ لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر‏:‏ جاءت قاصمة الظهر فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إنما هي المصيبات في الدنيا‏)‏ حديث آخر قال سعيد بن منصور عن عائشة‏:‏ أن رجلا تلى هذه الآية‏:‏ ‏{‏من يعمل سوءاً يجز به‏}‏ فقال‏:‏ إنا لنجزي بكل ما عملناه هلكنا إذاً فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏نعم يجزى به المؤمن في الدنيا في نفسه في جسده فيما يؤذيه‏)‏ طريق أخرى قال ابن أبي حاتم عن عائشة قالت،






التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس
قديم 06-05-2014, 04:43 AM   رقم المشاركة : 25
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور


قلت يا رسول اللّه إني لأعلم أشد آية في القرآن فقال‏:‏ ‏(‏ما هي يا عائشة‏؟‏ قتل‏:‏ ‏{‏من يعمل سوءاً يجز به‏}‏ فقال‏:‏ ‏(‏هو ما يصيب العبد المؤمن حتى النكبة ينكبها‏)‏ وعن علي بن زيد عن ابنته أنها سألت عائشة عن هذه الآية‏:‏ ‏{‏من يعلم سوءاً يجز به‏}‏ فقالت‏:‏ ما سألني أحد عن هذه الآية منه سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏يا عائشة هذه مبايعة اللّه للعبد مما يصيبه من الحمى والنكبة والشوكة حتى البضاعة فيضعها في كمه فيفزع لها فيجدها في جيبه حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما أن الذهب يخرج من الكير‏)‏ ‏"‏رواه أبو داود والطيالسي‏"‏ حديث آخر ‏:‏ قال سعد بن منصور عن محمد بن قيس بن مخرمة‏:‏
أن أبا هريرة رضي اللّه عنه قال لما نزلت{‏من يعمل سوءاً يجز به‏}‏ شق ذلك على المسلمين فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏سددوا وقاربوا فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها‏)‏ وهكذا رواه أحمد ورواه ابن جرير عن عبد اللّه بن إبراهيم سمعت أبا هريرة يقول‏:‏ لما نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به‏}‏ بكينا وحزنا وقلنا يا رسول اللّه ‏:‏ ما أبقت هذه الآمة من شيء قال‏:‏ ‏(‏أما والذي نفسي بيده إنها لكما أنزلت ولكن أبشروا وقاربوا وسددوا فإنه لا يصيب أحداً منكم مصيبة في الدنيا إلا كفر اللّه بها من خطيئته حتى الشوكة يشاكها أحدكم في قدمه‏)‏ حديث آخر ‏:‏ روى ابن مردويه عن ابن عباس
قال ‏:‏ قيل يا رسول اللّه ‏{‏من يعمل سوءاً يجز به‏}‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم ومن يعمل حسنة يجز بها عشراً‏)‏ فهلك من غلب واحدته عشراته‏.‏ وقال ابن جرير عن الحسن {‏من يعمل سوءاً يجزبه‏}‏ قال‏:‏ الكافر ثم قرأ‏:‏{‏وهل نجازي إلا الكفور‏}‏، وقوله ‏{‏ولا يجد له من دون اللّه ولياً ولا نصيراً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ إلا أن يتوب فيتوب اللّه عليه رواه ابن ابي حاتم‏.‏ والصحيح أن ذلك عام في جميع الأعمال لما تقدم من الأحاديث وهذا اختيار ابن جرير واللّه أعلم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن‏}‏ الآية، لما ذكر الجزاء على السيئات ولأنه لا بد أن يأخذ مستحقها من العبد إما في الدنيا وهو أجود له، وإما في الآخرة والعياذ باللّه من ذلك؛ ونسأله العافية في الدنيا والآخرة، والصفح والعفو والمسامحة، شرع في بيان إحسانه وكرمه ورحمته في قبول الأعمال الصلاحة من عباده، ذكرانهم وإناثهم بشرط الإيمان، وأنه سيدخلهم الجنة ولا يظلمهم من حسناتهم ولا مقدار النقير، وهو النقرة التي في ظهر نواة التمرة، وقد تقدم الكلام على الفتيل، وهو الخيط الذي في شق النواة، وهذا النقير وهما في نواة التمرة والقطمير وهو اللفاقة التي على نوات التمرة، والثلاثة في القرآن‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وم أحسن ديناً ممن أسلم وجهه للّه‏}‏‏؟‏ ايأخلص العمل لربه عز وجلَّ فعمل إيماناً واحتسابًا ‏{‏وهو محسن‏}‏ أي اتبع في عمله ما شرعه اللّه له وما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق، وهذان الشرطان لا يصح عمل عامل بدونهما أي يكون خالصاً صواباً والخالص أن يكون لّه، والصواب أن يكون متابعاً للشرعة فيصح ظاهره بالمتابعة، وباطنه بالإخلاص فمتى فقد العمل أحد هذين الشرطين فسد، فمن فقد الإخلاص كان منافقاً وهم الذين يراؤون الناس، ومن فقد المتابعة كان ضالاً جاهلاً ومتى جمعهما كان عمل المؤمنين ‏{‏الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم‏}‏، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏واتبع ملة إبراهيم حنيفاً‏}‏ وهم محمد وأتباعه إلى يوم القيامة، كما قال تعالى‏:‏‏{‏إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي‏}‏ الآية‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين‏}‏ والحنيف هو المائل عن الشرك قصداً أي تاركاً له عن بصيرة ومقبل على الحق بكليته لا يصده عنه صاد، ولا يرده عنه راد‏.‏ وقوله تعالى‏:‏
‏{‏واتخذ اللّه إبراهم خليلا ً‏}‏ وهذا من باب الترغيب في اتباعه، لأنه إمام يقتدى به حيث وصل إلى غاية ما يتقرب به العباد فإنه انتهى إلى درجة الخلة التي أرفع مقامات المحبة، وما ذاك إلا لكثرة طاعته لربه كما وصفه به في قوله‏:‏ ‏{‏وإبراهيم الذي وفَّى‏}‏ قال كثير من علماء السلف‏:‏ أي قام بجميع ما أمر به، وفّى كل مقام من مقامات العبادة، فكان لا يشغله أمر جليل عن حقير، ولا كبير عن صغير، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُه بكلمات فأتمهن‏}‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن أبراهيم كان أمة قانتاً للّه حنيفاً ولم يك من المشركين‏}‏ الآية، وقال البخاري عن عمرو بن ميمون قال‏:‏ إن معاذاً لما قدم اليمن صلى بهم الصبح فقرأ‏:‏ ‏{‏وأتخذ اللّه إبراهيم خليلاً‏}‏ فقال رجل من القوم‏:‏ لقد قرت عين أم إبراهيم، وإنما سمي خليل اللّه لشدة محبته لربه عزّض وجلَّ لما قام به من الطاعة التي يحبها ويرضاها، ولهذا ثبت في الصحيحين أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما خطبهم في آخر خطبة خطبها قال‏:‏ ‏(‏أما بعد أيها الناس فلو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر بن أبي قحافة خليلاً ولكن صاحبكم خليل اللّه ‏)‏ وروى أبو بكر بن مردويه عن عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ جلس ناس من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ينتظرونه فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم وإذا بعضهم يقول‏:‏ عجب إن اللّه اتخذ من خلقه خليلاً فإبراهيم خليله، وقال آخر‏:‏ ماذا بأعجب من أن اللّه كلم موسى تكليماً، وقال آخر‏:‏ فعيسى روح اللّه وكلمته، وقال آخر‏:‏ آدم اصطفاه اللّه، فخرج عليهم فسلم وقال‏:‏ ‏(‏قد سمعت كلامكم وتعجبكم إن إبراهيم خليل اللّه وهو كذلك، وموسى كليمه، وعيسى روحه وكلمته، وآدم اصطفاه اللّه، وهو كذلك، وكذلك محمد صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ألا وإني حبيب اللّه ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلقة الجنة فيفتح اللّه ويدخلنيها، ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة ولا فخر‏)‏ وهذا حديث غريب ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها وعن إسحاق بن يسار قال‏:‏ لما اتخذ ابراهيم خليلاً ألقى في قلبه الوجل حتى أن خفقان قلبه ليسمع من بعيد كما يسمع خفقان الطير في الهواء، وهكذا جاء في صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه كان يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل إذا اشتد غليانها من البكاء وقوله‏:‏ ‏{‏وللّه ما في السموات وما في الأرض‏}‏ أي الجميع ملكه وعبيده وخلقه، وهو المتصرف في جميع ذلك، لا راد لما قضى، ولا معقب لما حكم، ولا يسال عما يفعل لعظمته وقدرته وعدله وحكمته ولطفه ورحمته وقوله‏:‏ ‏{‏وكان اللّه بكل شيء محيطاً‏}‏ أي علمه نافذ في جميع ذلك لا تخفى عليه خافية من عباده، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ولا اصغر من ذلك ولا أكبر، ولا تخفى عليه ذرة لما تراءى للناظرين وما توارى‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏127‏)‏ ‏
{‏ ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما ‏}‏
روى البخاري عن عائشة رضي اللّه عنها‏:‏ ‏{‏ ويستفتونك في النساء قل اللّه يفتيكم فيهن - إلى قوله - وترغبون أن تنكحوهن‏}‏ قالت عائشة‏:‏ هو الرجل تكون عنده اليتيمه هو وليها ووارثها فأشركته في ماله حتى في العذق، فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلاً فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها، فنزلت هذه الآية، وقال ابن أبي حاتم عن ابن شهاب أخبرني عروة بن الزبير قالت عائشة‏:‏ ثم إن الناس استفتوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هذه الآية فيهن، فأنزل اللّه ‏:‏ ‏{‏ويستفتونك في النساء قل اللّه يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب‏}‏ الآية، قالت‏:‏ والذي ذكر اللّه أنه يتلى عليه في الكتاب، الآية الأولى التي قال اللّه ‏:‏ ‏{‏وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ماطاب لكم من النساء‏}‏ وبهذا الإسناد عن عائشة قالت‏:‏ وقول اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏وترغبون أن تنكحوهن‏}‏ رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره، حين تكون قليلة المال والجمال، فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط، من أجل رغبتهم عنهن‏.‏ والمقصود أن الرجل إذا كان في حجره يتيمة يحل له تزويجها فتارة يرغب في أن يتزوجها فأمره اللّه أن يمهرها أسوة أمثالها من النساء، إن لم يفعل فليعدل إلى غيرها من النساء فقد وسع اللّه عزَّ وجلَّ، وهذا المعنى في الآية الأولى التي في أول السورة، وتارة لا يكون له فيها رغبة لدمامتها عنده أو في نفس الأمر فنهاه اللّه عزَّ وجلَّ أن يعضلها عن الأزواج، خشية أن يشركوه في ماله الذي بينه وبينها، كما قال علي بن ابي طلحة عن ابن عباس في الآية، وهي قوله‏:‏ ‏{‏في يتامى النساء‏}‏ كان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبه، فإذا فعل ذلك لم يقدر أن يتزوجها أبداً، فإن كانت جميلة وهويها تزوجها وأكل مالها، وإن كانت دميمة منعها الرجال أبداً حتى تموت، فإذا ماتت ورثها، فحرم اللّه ذلك ونهى عنه‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏والمستضعفين من الولدان‏}‏ وكانوا في الجاهلية لا يورثون الصغار ولا البنات، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏لا تؤتونهنَّ ما كتب لهن‏}‏ فنهى اللّه عن ذلك وبين لكل ذي سهم سهمه فقال‏:‏ ‏{‏للذكر مثل حظ الأنثيين‏}‏ صغيراً أو كبيراً، وقال سعيد بن جبير‏:‏ ‏{‏وأن تقوموا لليتامى بالقسط‏}‏ كما إذا كانت ذات جمال ومال نكحتها واستأثرت بها، كذلك إذا لم تكن ذات مال ولا جمال فأنكحها وستأثر بها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وما تفعلوا من خير فإن اللّه كان به عليماً‏}‏ تهييجاً على فعل الخيرات وامتثالاً للأوامر، وأن اللّه عزَّ وجلَّ عالم بجميع ذلك، وسيجزي عليه أوفر الجزاء وأتمه‏.
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏128 ‏:‏ 130‏)‏ ‏
{‏ وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ‏.‏ ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما ‏.‏ وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما ‏}‏
يقول تعالى مخبراً ومشرعاً من حال الزوجين تارة في حال نفور الرجل عن المرأة، وتارة في حال اتفاقه معها، وتارة في حال فراقه لها، فالحالة الأولى‏:‏ ما إذا خافت المرأة من زوجها أن ينفر عنها أو يعرض عنها، فلها أن تسقط عنه حقها أو بعضه من نفقة أو كسوة أو مبيت أو غير ذلك من حقوقها عليه، وله أن يقبل ذلك منها فلا حرج عليها في بذلها ذلك له، ولا عليه في قبوله منها، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏والصلح خير‏}‏ أي من الفراق، وقوله‏:‏ ‏{‏وأحضرت الأنفس الشح‏}‏ أي الصلح عند المشاحة خير من الفراق، ولهذا لما كبرت سودة بنت زمعة عزم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على فراقها، فصالحته على أن يمسكها وتترك يومها لعائشة، فقبل ذلك منها أبقاها على ذلك ذكر الرواية بذلك‏:‏ عن عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ خشيت سودة أن يطلقها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت يا رسول اللّه‏:‏ لا تطلقني واجعل يومي لعائشة، ففعل ونزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما‏}‏ الآية‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز ‏"‏أخرجه الطيالسي والترمذي وقال‏:‏ حسن غريب‏"‏وفي الصحيحين عن عائشة قالت‏:‏ لما كبرت سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة فكان النبي صلى اللّه عليه وسلم يقسم لها بيوم سودة‏.‏ وعن عروة عن عائشة، أنها قالت لها يا ابن أختي‏:‏ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يفضل بعضاً على بعض في مكثه عندنا، وكان قلَّ يوم إلا وهو يطوف علينا فيدنوا من كل امرأة من غير مسيس، حتى يبلغ إلى من هو يومها فيبيت عندها، ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنت، وفرقت أن يفارقها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا رسول اللّه يومي هذا لعائشة، فقبل ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قالت عائشة، ففي ذلك أنزل اللّه ‏{‏وإن امراة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً‏}‏ ‏"‏ورواه الحاكم وقال‏:‏ صحيح الإسناد ولم يخرجاه‏"‏ وروى ابن جرير عن عائشة‏:‏ ‏{‏وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير‏}‏ قالت‏:‏ هذا في المرأة تكون عند الرجل، فلعله لا يكون بمستكثر منها، ولا يكون لها ولد، ويكون لها صحبة فتقول‏:‏ لا تطلقني وأنت في حل من شأني، وفي رواية أخرى عن عائشة‏:‏ هو الرجل لها المرأتان إحداهما قد كبرت والآخرى دميمة وهو لا يستكثر منها فتقول‏:‏ لا تطلقني وأنت في حل من شأني‏.‏ وعن ابن سيرين قال‏:‏ جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فسأله عن آية فكرهه فضربه بالدرة، فسأله آخر عن هذه الآية‏:‏ ‏{‏وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً‏}‏ ثم قال مثل هذا فاسألوا، ثم قال‏:‏ هذه المرأة تكون عند الرجل قد خلا من سنها فيتزوج المرأة الشابة يلتمس ولدها، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز‏.‏ وقال ابن أبي حاتم عن خالد بن عرعرة قال‏:‏ جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فسأله عن قوله اللّه عزَّ وجلَّ ‏{‏وإن امرأة خافت من بعلها شوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما‏}‏ قال علي‏:‏ يكون الرجل عنده المرأة فتنبوا عيناه عنها من دمامته، أو كبرها، أو سوء خلقها، أو قذذها فتكره فراقه، فإن وضعت له من مهرها شيئاً حل له، وإن جعلت له من أيامها فلا حرج‏.‏ وقال الحافظ أبو بكر البيهقي عن الزهري أخبر






التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس
قديم 06-05-2014, 05:11 AM   رقم المشاركة : 26
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور

ني سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار‏:‏ أن السنّة في هاتين الآيتين اللتين ذكر اللّه فيهما نشوز الرجل وإعراضه عن امرأته في قوله‏:‏ ‏{‏وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً‏}‏ إلى تمام الآيتين، أن المرء إذا نشز عن امرأته وآثر عليها، فإن من الحق أن يعرض عليها أن يطلقها أو تستقر عنده على ما كانت من أثرة في القسم من ماله ونفسه، صلح له ذلك وكان صلحها عليه، كذلك ذكر سعيد بن المسيب و سليمان الصلحَ الذي قاله اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير‏}‏ وقد ذكر لي أن رافع بن خديج الأنصاري - وكان من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم - كانت عنده امرأة حتى إذا كبرت تزوج عليها فتاة شابة وآثر عليها الشابة، فناشدته الطلاق فطلقها تطليقة، ثم أمهلها حتى إذا كادت تحل راجعها، ثم عاد فآثر عليها الشابة فناشدته الطلاق، فقال لها‏:‏ ما شئت إنما بقيت لك تطليقة واحدة، فإن شئت استقررت على ما ترين من الاثرة وإن شئت فارقتك، فقالت‏:‏ لا بل استقر على الأثرة، فأمسكها على ذلك فكان ذلك صلحهما، ولم ير رافع عليه إثماً حين رضيت أن تستقر عنده على الأثرة فيما آثر به عليها
"‏أخرجه البهيقي وابن أبي حاتم‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والصلح خير‏} قال ابن عباس‏:‏ يعني التخيير، وهذه هي الحالة الثانية‏:‏ أن يخير الزوج لها بين الإقامة والفراق خير من تمادي الزوج على أثرة غيرها عليها، والظاهر من الآية أن صلحهما على ترك بعض حقها للزوج وقبول الزوج ذلك خير من المفارقة بالكلية، كما أمسك النبي صلى اللّه عليه وسلم سودة بنت زمعة على أن تركت يومها لعائشة رضي اللّه عنها، ولم يفارقها بل تركها من جملة نسائه، وفعله ذلك لتتأسى به أمته في مشروعية ذلك وجوازه، فهو أفضل في حقه عليه الصلاة والسلام، ولما كان الوفاق أحب إلى اللّه من الفراق قال‏:‏ ‏{‏والصلح خير‏}‏، بل الطلاق بغيض إليه سبحانه وتعالى، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجة
عن عبد اللّه بن عمر قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ابغض الحلال إلى الله الطلاق‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تحسنوا وتتقوا فإن اللّه كان بما تعملون خبيراً‏}‏، وإن تتجشموا مشقة الصبر على ما تكرهون منهن، وتقسموا لهن أسوة أمثالهن فإن الله عالم بذلك وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم‏}‏ أي لن تستطيعوا أيها الناس أن تساووا بين النساء من جميع الوجوه، فإنه وإن وقع القسم الصوري ليلة وليلة فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة والجماع كما قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك‏.‏ وجاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن عبد اللّه بن يزيد عن عائشة، قالت‏:‏ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول‏:‏ ‏(‏اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك‏)‏، يعني القلب‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فلا تميلوا كل الميل‏}‏ أي فإذا ملتم إلى واحدة منهن فلا تبالغوا في اميل بالكلية ‏{‏فتذروها كالمعلقة‏}‏ أي فتبقى هذه الأخرى معلقة، قال ابن عباس وآخرون‏:‏ معناه لا ذات زوج ولا مطلقة؛ وعن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من كانت له امرأتان فمال إلى أحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط‏)‏ ‏"‏رواه أحمد وأصحاب السنن‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تصلحوا وتتقوا فإن اللّه كان غفوراً رحيماً‏}‏ أي وإن أصلحتم في أموركم، وقسمتم بالعدل فيما تملكون، وأتقيتم اللّه في جميع الأحوال غفر اللّه لكم ما كان من ميل إلى بعض النساء دون بعض، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يتفرقا يغن اللّه كلاً من سعته وكان اللّه واسعاً حكيما‏}‏ وهذه هي الحالة الثالثة‏:‏ وهي حالة الفراق‏:‏ وقد أخبر اللّه تعالى أنهما إذا تفرقا فإن اللّه يغنيه عنها ويغنيها عنه، بأن يعوضه اللّه من هو خير له منها ويعوضها عنه بمن هو خير لها منه، ‏{‏وكان اللّه واسعاً حكيما‏}‏ أي واسع الفضل عظيم المن حكيماً في جميع أفعاله وأقداره وشرعه‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏131 ‏:‏ 134‏)‏ ‏
{‏ ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا ‏.‏ ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ‏.‏ إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا ‏.‏ من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا ‏}‏
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض وأنه الحاكم فيهما ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم‏}‏ أي وصيناكم بما وصيناهم به من تقوى اللّه عزّض وجلَّ بعبادته وحده لا شريك له، ثم قال‏:‏ ‏{‏وإن تكفروا فإن للّه ما في السموات وما في الأرض‏}‏ الآية، كما قال تعالى إخباراً عن موسى أنه قال لقومه‏:‏ ‏{‏إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن اللّه لغني حميد‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏فكفروا وتولوا واستغنى اللّه واللّه غني حميد‏}‏ أي غني عن عباده، ‏{‏حميد أي محمود في جميع ما يقدره ويشرعه، وقوله‏:‏ ‏{‏وللّه ما في السموات وما في الأرض الأرض وكفى بالله وكيلاً‏}‏ أي هو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب الشهيد على كل شيء، وقوله‏:‏ ‏{‏إن يشا يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان اللّه على ذلك قديراً‏}‏ أي هو قادر على إذهابكم وتبديلكم بغيركم إذا عصيتموه، كما قال‏:‏ ‏{‏وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم‏}‏ قال بعض السلف‏:‏ ما أهون العباد على اللّه إذا أضاعوا أمره‏!‏‏!‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد* وما ذلك على اللّه بعزيز‏}‏ أي وما هو عليه بممتنع‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من كان يريد ثواب الدنيا فعند اللّه ثواب الدينا والآخرة‏}‏ أي يا من ليس له همة إلا الدنيا اعلم أن عند اللّه ثواب الدنيا والآخرة وإذا سألته من هذه وهذه أعطاك وأغناك وأقناك كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه‏}‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد‏}‏ الآية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فعند اللّه ثواب الدنيا والآخرة‏}‏ ظاهر في حصول الخير في الدنيا والآخرة، أي بيده هذا وهذا، فلا يقتصران قاصر الهمة على السعي للدنيا فقط، بل لتكن همته سامية إلى نيل المطالب العالية في الدنيا والآخرة، فإن مرجع ذلك كله إلى الذي بيده الضر والنفع، وهو اللّه الذي لا إله إلا هو، الذي قد قسم السعادة والشقاوة بين الناس في الدنيا والآخرة، وعدل بينهم فيما علمه فيهم ممن يستحق هذا، وممن يستحق هذا، ولهذا قال‏:‏
‏{‏وكان اللّه سميعاً بصيراً‏}‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏135‏)‏
‏{‏ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ‏}‏
يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط أي بالعدل فلا يعدلوا عنه يميناً ولا شمالاً، ولا تأخذهم في اللّه لومة لائم، ولا يصرفهم عنه صارف، وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين فيه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏شهداء للّه‏}‏ كما قال‏:‏ ‏{‏وأقيموا الشهادة للّه‏}‏ أي أدوها ابتغاء وجه اللّه، فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقاً، خالية من التحريف والتبديل والكتمان، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ولو على أنفسكم‏}‏ أي أشهد الحق ولو عاد ضررها عليك، وإذا سئلت عن الأمر فقل الحق فيه لو عادت مضرته عليك، فإن اللّه سيجعل لمن أطاعه فرجاً ومخرجاً من كل أمر يضيق عليه، وقوله‏:‏ ‏{‏أو الوالدين والأقربين‏}‏ أي وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك فلا تراعهم فيها، بل اشهد الحق وإن عاد ضررها عليهم فإن الحق حاكم على كل أحد، وقوله‏:‏ ‏{‏وإن يكن غنياً أو فقيراً فاللّه أولى بهما‏}‏ أي لا ترعاه لغناه ولا تشفق عليه لفقره، اللّه يتولاهما، بل هو أولى بهما منك وأعلم بما فيه صلاحهما وقوله‏:‏ ‏{‏فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا‏}‏ أي فلا يحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس إليكم على ترك العدل في أموركم وشؤونكم، بل الزموا العدل على أي حال كان، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى‏}‏ ومن هذا قول عبد اللّه بن رواحة لما بعثه النبي صلى اللّه عليه وسلم يحرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهمم، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم فقال‏:‏ والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إليّ ولأنتم أبغض إلي من أعدادكم من القردة والخنازير وما يحملني حبي إياه، وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم، فقالوا‏:‏ بهذا قامت السموات والأرض‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تلووا أو تعرضوا‏}‏ قال مجاهد‏:‏ تلووا أن تحرفوا الشهادة وتغيروها، واللّي‏:‏ هو التحريف وتعمد الكذب‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب‏}‏ الآية، والإعراض‏:‏ هو كتمان الشهادة وتركها‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ون يكتمها فإنه آثم قلبه‏}‏، وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يُسألها‏)‏، ولهذا توعدهم اللّه بقوله‏:‏ ‏{‏فإن اللّه كان بما تعملون خبيراً‏}‏ أي وسيجازيكم بذلك‏.‏ 136 ‏{‏ يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا ‏}‏ يأمر تعالى عباده المؤمنين بالدخول في جميع شرائع الإيمان وشعبه وأركانه ودعائمه، وليس هذا من باب تحصيل الحاصل، بل هو من باب تكميل الكامل وتقريره وتثبيته الاستمرار عليه، كما يقول المؤمن في كل صلاة ‏{‏إهدنا الصراط المستقيم‏}‏ أي بصّرنا وزدنا هدى، وثبتنا عليه، فأمرهم بالإيمان به وبرسوله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وآمنوا برسوله‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏والكتاب الذي نزل على رسوله‏}‏ يعني القرآن ‏{‏والكتاب الذي أنزل من قبل‏}‏ وهذا جنس يشمل جميع الكتب المتقدمة، وقال في القرآن ‏{‏نزّل‏}‏ لأنه نزل مفرقاً منجماً على الوقائع بحسب ما يحتج إليه العباد في معاشهم ومعادهم، وأما الكتب المتقدمة فكانت تنزل جملة واحدة، لهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏والكتاب الذي أنزل من قبل‏}‏، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يكفر باللّه وملائكته وكتبه ورسله اليوم الآخر فقد ضل صلالاً بعيداً‏}‏ أي فقد خرج عن طريق الهدى، وبعد عن القصد كل البعد‏.
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏137 ‏:‏ 140‏)‏ ‏
{‏ إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا ‏.‏ بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما ‏.‏ الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا ‏.‏ وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا ‏}
يخبر تعالى عمن دخل في الإيمان ثم رجع عنه، ثم عاد فيه، ثم رجع واستمر على ضلالة وازداد حتى مات، فإنه لا توبة بعد موته، ولا يغفر اللّه له، ولا يجعل له مما هو فيه فرجاً ولا مخرجاً ولا طريقاً إلى الهدى، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لم يكن اللّه ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً‏}‏ قال ابن أبي حاتم عن ابن عباس، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم ازدادوا كفراً‏}‏ قال‏:‏ تمادوا على كفرهم حتى ماتوا‏.‏ وعن علي رضي اللّه عنه أنه قال‏:‏ يستتاب المرتد ثلاثاً، ثم تلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن اللّه ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً‏}‏ يعني أن المنافقين من هذه الصفة فإنهم آمنوا ثم كفروا، فطبع على قلوبهم، ثم وصفهم بأنهم يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، بمعنى أنهم معهم في الحقيقة يوالونهم ويسرون إليهم بالمودة، ويقولون لهم إذا خلوا بهم ‏{‏إنما نحن معكم إنما نحن مستهزءون‏}‏ أي بالمؤمنين في إظهارنا لهم الموافقة، قال اللّه تعالى منكراً عليهم فيما سلكوه من موالاة الكافرين ‏{‏أيبتغون عندهم العزة‏}‏ ثم أخبر اللّه تعالى بأن العزة كلها له وحده لا شريك له ولمن جعلها له كما قال تعالى في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وللّه العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون‏}‏، والمقصود من هذا التهييج على طلب العزة من جناب اللّه، والإقبال على عبوديته والانتظام في جملة عباده المؤمنين، الذين لهم النصرة في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ وقد نزَّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات اللّه يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم‏}‏، أي إنكم إذا ارتكبتم النهي بعد وصوله إليكم، ورضيتم بالجلوس معهم في المكان الذي يكفر فيه بآيات اللّه ويستهزأ وينتقص بها، وأقررتموهم على ذلك فقد شاركتموهم في الذي هم في فلهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنكم إذا مثلهم‏}‏ في المأثم كما جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر‏)‏ والذي أحيل عليه في هذه الآية من النهي في ذلك، هو قوله تعالى في سورة الأنعام وهي مكية‏:‏ ‏{‏وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم‏}‏ الآية‏.‏ قال مقاتل بن حيان‏:‏ نَسَختْ هذه الآية التي في سورة الأنعام، يعني نسخ قوله‏:‏ ‏{‏إنكم إذا مثلهم‏}‏، لقوله‏:‏ ‏{‏وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن اللّه جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً‏}‏، أي كما أشركوهم في الكفر، كذلك يشارك اللّه بينهم في الخلود في نار جهنم أبداً، ويجمع بينهم في دار العقوبة والنكال والقيود والأغلال وشراب الحميم والغسلين‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏141‏)‏
‏{‏ الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ‏}
يخبر تعالى عن المنافقين أنهم يتربصون بالمؤمنين دوائر السوء، بمعنى ينتظرون زوال دولتهم وظهور الكفرة عليهم وذهاب ملتهم، ‏{‏فإن كان لكم فتح من اللّه‏}‏ أي نصر وتأييد وظفر وغنيمة‏:‏ ‏{‏قالوا ألم نكن معكم‏}‏‏؟‏ أي يتوددون إلى المؤمنين بهذه المقالة، ‏{‏وإن كان للكافرين نصيب‏}‏‏:‏ أي إدالة على المؤمنين في بعض الأحيان كما وقع يوم أُحد، فإن الرسل تبتلي ثم يكون لها العاقبة، ‏{‏قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين‏}‏‏؟‏ أي ساعدناكم في الباطن وما ألوناهم خبالاً وتخذيلاً حتى انتصرتم عليهم، وقال السدي‏:‏ نستحوذ عليكم‏:‏ نغلب عليكم، كقوله‏:‏ ‏{‏استحوذ عليهم الشيطان‏}‏ وهذا أيضاً تودد منهم إليهم، فإنهم كانوا يصانعون هؤلاء وهؤلاء ليحظوا عندهم ويأمنوا كيدهم، وما ذاك إلا لضعف إيمانهم وقلة إيقانهم‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فاللّه يحكم بينكم يوم القيامة‏}‏ أي بما يعلمه منكم أيها المنافقون من البواطن الرديئة، فلا تغتروا بجريان الأحكام الشرعية عليكم ظاهراً في الحياة الدنيا، لما له في ذلك من الحكمة، فيوم القيامة لا تنفعكم ظواهركم، بل هو يوم تبلى فيه السرائر ويحصل ما في الصدور‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلاًؤ جاء رجل إلى علي بن ابي طالب فقال‏:‏ كيف هذه الآية ‏{‏ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلاً‏}‏‏؟‏ فقال علي رضي اللّه عنه‏:‏ ادنه ادنه ‏{‏فاللّه يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلاً‏}‏ قال ذاك يوم القيامة، وكذا روى السدي‏:‏ يعني يوم القيامة، وقال السدي ‏{‏سبيلاً‏}‏ أي حجة، ويحتمل أن يكون المعنى‏:‏ ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلاً أي في الدنيا، بأن يسلطوا عليهم استيلاء استئصال بالكلية، وإن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان على بعض الناس، فإن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا‏}‏ الآية، وعلى هذا يكون رداً على المافقين فيما أمَّلوه ورجوه وانتظروه من زوال دولة المؤمنين، وفيما سلكوه من مصانعتهم الكافرين خوفاً على أنفسهم منهم، إذا هم ظهروا على المؤمنين فاستأصلوهم، كا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم - إلى قوله - نادمين‏}‏، وقد استدل كثير من العلاماء بهذه الآية الكريمة على أصح قولي العلماء وهو المنع من بيع العبد المسلم للكافرين لما في صحة ابتياعه من التسليط له عليه والإذلال، ومن قال منهم بالصحة يأمره بإزالة ملكه عنه في الحال، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلا‏}






التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس
قديم 06-05-2014, 05:14 AM   رقم المشاركة : 27
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور

ني سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار‏:‏ أن السنّة في هاتين الآيتين اللتين ذكر اللّه فيهما نشوز الرجل وإعراضه عن امرأته في قوله‏:‏ ‏{‏وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً‏}‏ إلى تمام الآيتين، أن المرء إذا نشز عن امرأته وآثر عليها، فإن من الحق أن يعرض عليها أن يطلقها أو تستقر عنده على ما كانت من أثرة في القسم من ماله ونفسه، صلح له ذلك وكان صلحها عليه، كذلك ذكر سعيد بن المسيب و سليمان الصلحَ الذي قاله اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير‏}‏ وقد ذكر لي أن رافع بن خديج الأنصاري - وكان من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم - كانت عنده امرأة حتى إذا كبرت تزوج عليها فتاة شابة وآثر عليها الشابة، فناشدته الطلاق فطلقها تطليقة، ثم أمهلها حتى إذا كادت تحل راجعها، ثم عاد فآثر عليها الشابة فناشدته الطلاق، فقال لها‏:‏ ما شئت إنما بقيت لك تطليقة واحدة، فإن شئت استقررت على ما ترين من الاثرة وإن شئت فارقتك، فقالت‏:‏ لا بل استقر على الأثرة، فأمسكها على ذلك فكان ذلك صلحهما، ولم ير رافع عليه إثماً حين رضيت أن تستقر عنده على الأثرة فيما آثر به عليها
"‏أخرجه البهيقي وابن أبي حاتم‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والصلح خير‏} قال ابن عباس‏:‏ يعني التخيير، وهذه هي الحالة الثانية‏:‏ أن يخير الزوج لها بين الإقامة والفراق خير من تمادي الزوج على أثرة غيرها عليها، والظاهر من الآية أن صلحهما على ترك بعض حقها للزوج وقبول الزوج ذلك خير من المفارقة بالكلية، كما أمسك النبي صلى اللّه عليه وسلم سودة بنت زمعة على أن تركت يومها لعائشة رضي اللّه عنها، ولم يفارقها بل تركها من جملة نسائه، وفعله ذلك لتتأسى به أمته في مشروعية ذلك وجوازه، فهو أفضل في حقه عليه الصلاة والسلام، ولما كان الوفاق أحب إلى اللّه من الفراق قال‏:‏ ‏{‏والصلح خير‏}‏، بل الطلاق بغيض إليه سبحانه وتعالى، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجة
عن عبد اللّه بن عمر قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ابغض الحلال إلى الله الطلاق‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تحسنوا وتتقوا فإن اللّه كان بما تعملون خبيراً‏}‏، وإن تتجشموا مشقة الصبر على ما تكرهون منهن، وتقسموا لهن أسوة أمثالهن فإن الله عالم بذلك وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم‏}‏ أي لن تستطيعوا أيها الناس أن تساووا بين النساء من جميع الوجوه، فإنه وإن وقع القسم الصوري ليلة وليلة فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة والجماع كما قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك‏.‏ وجاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن عبد اللّه بن يزيد عن عائشة، قالت‏:‏ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول‏:‏ ‏(‏اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك‏)‏، يعني القلب‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فلا تميلوا كل الميل‏}‏ أي فإذا ملتم إلى واحدة منهن فلا تبالغوا في اميل بالكلية ‏{‏فتذروها كالمعلقة‏}‏ أي فتبقى هذه الأخرى معلقة، قال ابن عباس وآخرون‏:‏ معناه لا ذات زوج ولا مطلقة؛ وعن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من كانت له امرأتان فمال إلى أحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط‏)‏ ‏"‏رواه أحمد وأصحاب السنن‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تصلحوا وتتقوا فإن اللّه كان غفوراً رحيماً‏}‏ أي وإن أصلحتم في أموركم، وقسمتم بالعدل فيما تملكون، وأتقيتم اللّه في جميع الأحوال غفر اللّه لكم ما كان من ميل إلى بعض النساء دون بعض، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يتفرقا يغن اللّه كلاً من سعته وكان اللّه واسعاً حكيما‏}‏ وهذه هي الحالة الثالثة‏:‏ وهي حالة الفراق‏:‏ وقد أخبر اللّه تعالى أنهما إذا تفرقا فإن اللّه يغنيه عنها ويغنيها عنه، بأن يعوضه اللّه من هو خير له منها ويعوضها عنه بمن هو خير لها منه، ‏{‏وكان اللّه واسعاً حكيما‏}‏ أي واسع الفضل عظيم المن حكيماً في جميع أفعاله وأقداره وشرعه‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏131 ‏:‏ 134‏)‏ ‏
{‏ ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا ‏.‏ ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ‏.‏ إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا ‏.‏ من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا ‏}‏
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض وأنه الحاكم فيهما ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم‏}‏ أي وصيناكم بما وصيناهم به من تقوى اللّه عزّض وجلَّ بعبادته وحده لا شريك له، ثم قال‏:‏ ‏{‏وإن تكفروا فإن للّه ما في السموات وما في الأرض‏}‏ الآية، كما قال تعالى إخباراً عن موسى أنه قال لقومه‏:‏ ‏{‏إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن اللّه لغني حميد‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏فكفروا وتولوا واستغنى اللّه واللّه غني حميد‏}‏ أي غني عن عباده، ‏{‏حميد أي محمود في جميع ما يقدره ويشرعه، وقوله‏:‏ ‏{‏وللّه ما في السموات وما في الأرض الأرض وكفى بالله وكيلاً‏}‏ أي هو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب الشهيد على كل شيء، وقوله‏:‏ ‏{‏إن يشا يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان اللّه على ذلك قديراً‏}‏ أي هو قادر على إذهابكم وتبديلكم بغيركم إذا عصيتموه، كما قال‏:‏ ‏{‏وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم‏}‏ قال بعض السلف‏:‏ ما أهون العباد على اللّه إذا أضاعوا أمره‏!‏‏!‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد* وما ذلك على اللّه بعزيز‏}‏ أي وما هو عليه بممتنع‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من كان يريد ثواب الدنيا فعند اللّه ثواب الدينا والآخرة‏}‏ أي يا من ليس له همة إلا الدنيا اعلم أن عند اللّه ثواب الدنيا والآخرة وإذا سألته من هذه وهذه أعطاك وأغناك وأقناك كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه‏}‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد‏}‏ الآية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فعند اللّه ثواب الدنيا والآخرة‏}‏ ظاهر في حصول الخير في الدنيا والآخرة، أي بيده هذا وهذا، فلا يقتصران قاصر الهمة على السعي للدنيا فقط، بل لتكن همته سامية إلى نيل المطالب العالية في الدنيا والآخرة، فإن مرجع ذلك كله إلى الذي بيده الضر والنفع، وهو اللّه الذي لا إله إلا هو، الذي قد قسم السعادة والشقاوة بين الناس في الدنيا والآخرة، وعدل بينهم فيما علمه فيهم ممن يستحق هذا، وممن يستحق هذا، ولهذا قال‏:‏
‏{‏وكان اللّه سميعاً بصيراً‏}‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏135‏)‏
‏{‏ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ‏}‏
يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط أي بالعدل فلا يعدلوا عنه يميناً ولا شمالاً، ولا تأخذهم في اللّه لومة لائم، ولا يصرفهم عنه صارف، وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين فيه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏شهداء للّه‏}‏ كما قال‏:‏ ‏{‏وأقيموا الشهادة للّه‏}‏ أي أدوها ابتغاء وجه اللّه، فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقاً، خالية من التحريف والتبديل والكتمان، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ولو على أنفسكم‏}‏ أي أشهد الحق ولو عاد ضررها عليك، وإذا سئلت عن الأمر فقل الحق فيه لو عادت مضرته عليك، فإن اللّه سيجعل لمن أطاعه فرجاً ومخرجاً من كل أمر يضيق عليه، وقوله‏:‏ ‏{‏أو الوالدين والأقربين‏}‏ أي وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك فلا تراعهم فيها، بل اشهد الحق وإن عاد ضررها عليهم فإن الحق حاكم على كل أحد، وقوله‏:‏ ‏{‏وإن يكن غنياً أو فقيراً فاللّه أولى بهما‏}‏ أي لا ترعاه لغناه ولا تشفق عليه لفقره، اللّه يتولاهما، بل هو أولى بهما منك وأعلم بما فيه صلاحهما وقوله‏:‏ ‏{‏فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا‏}‏ أي فلا يحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس إليكم على ترك العدل في أموركم وشؤونكم، بل الزموا العدل على أي حال كان، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى‏}‏ ومن هذا قول عبد اللّه بن رواحة لما بعثه النبي صلى اللّه عليه وسلم يحرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهمم، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم فقال‏:‏ والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إليّ ولأنتم أبغض إلي من أعدادكم من القردة والخنازير وما يحملني حبي إياه، وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم، فقالوا‏:‏ بهذا قامت السموات والأرض‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تلووا أو تعرضوا‏}‏ قال مجاهد‏:‏ تلووا أن تحرفوا الشهادة وتغيروها، واللّي‏:‏ هو التحريف وتعمد الكذب‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب‏}‏ الآية، والإعراض‏:‏ هو كتمان الشهادة وتركها‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ون يكتمها فإنه آثم قلبه‏}‏، وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يُسألها‏)‏، ولهذا توعدهم اللّه بقوله‏:‏ ‏{‏فإن اللّه كان بما تعملون خبيراً‏}‏ أي وسيجازيكم بذلك‏.‏ 136 ‏{‏ يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا ‏}‏ يأمر تعالى عباده المؤمنين بالدخول في جميع شرائع الإيمان وشعبه وأركانه ودعائمه، وليس هذا من باب تحصيل الحاصل، بل هو من باب تكميل الكامل وتقريره وتثبيته الاستمرار عليه، كما يقول المؤمن في كل صلاة ‏{‏إهدنا الصراط المستقيم‏}‏ أي بصّرنا وزدنا هدى، وثبتنا عليه، فأمرهم بالإيمان به وبرسوله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وآمنوا برسوله‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏والكتاب الذي نزل على رسوله‏}‏ يعني القرآن ‏{‏والكتاب الذي أنزل من قبل‏}‏ وهذا جنس يشمل جميع الكتب المتقدمة، وقال في القرآن ‏{‏نزّل‏}‏ لأنه نزل مفرقاً منجماً على الوقائع بحسب ما يحتج إليه العباد في معاشهم ومعادهم، وأما الكتب المتقدمة فكانت تنزل جملة واحدة، لهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏والكتاب الذي أنزل من قبل‏}‏، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يكفر باللّه وملائكته وكتبه ورسله اليوم الآخر فقد ضل صلالاً بعيداً‏}‏ أي فقد خرج عن طريق الهدى، وبعد عن القصد كل البعد‏.
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏137 ‏:‏ 140‏)‏ ‏
{‏ إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا ‏.‏ بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما ‏.‏ الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا ‏.‏ وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا ‏}
يخبر تعالى عمن دخل في الإيمان ثم رجع عنه، ثم عاد فيه، ثم رجع واستمر على ضلالة وازداد حتى مات، فإنه لا توبة بعد موته، ولا يغفر اللّه له، ولا يجعل له مما هو فيه فرجاً ولا مخرجاً ولا طريقاً إلى الهدى، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لم يكن اللّه ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً‏}‏ قال ابن أبي حاتم عن ابن عباس، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم ازدادوا كفراً‏}‏ قال‏:‏ تمادوا على كفرهم حتى ماتوا‏.‏ وعن علي رضي اللّه عنه أنه قال‏:‏ يستتاب المرتد ثلاثاً، ثم تلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن اللّه ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً‏}‏ يعني أن المنافقين من هذه الصفة فإنهم آمنوا ثم كفروا، فطبع على قلوبهم، ثم وصفهم بأنهم يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، بمعنى أنهم معهم في الحقيقة يوالونهم ويسرون إليهم بالمودة، ويقولون لهم إذا خلوا بهم ‏{‏إنما نحن معكم إنما نحن مستهزءون‏}‏ أي بالمؤمنين في إظهارنا لهم الموافقة، قال اللّه تعالى منكراً عليهم فيما سلكوه من موالاة الكافرين ‏{‏أيبتغون عندهم العزة‏}‏ ثم أخبر اللّه تعالى بأن العزة كلها له وحده لا شريك له ولمن جعلها له كما قال تعالى في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وللّه العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون‏}‏، والمقصود من هذا التهييج على طلب العزة من جناب اللّه، والإقبال على عبوديته والانتظام في جملة عباده المؤمنين، الذين لهم النصرة في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ وقد نزَّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات اللّه يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم‏}‏، أي إنكم إذا ارتكبتم النهي بعد وصوله إليكم، ورضيتم بالجلوس معهم في المكان الذي يكفر فيه بآيات اللّه ويستهزأ وينتقص بها، وأقررتموهم على ذلك فقد شاركتموهم في الذي هم في فلهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنكم إذا مثلهم‏}‏ في المأثم كما جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر‏)‏ والذي أحيل عليه في هذه الآية من النهي في ذلك، هو قوله تعالى في سورة الأنعام وهي مكية‏:‏ ‏{‏وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم‏}‏ الآية‏.‏ قال مقاتل بن حيان‏:‏ نَسَختْ هذه الآية التي في سورة الأنعام، يعني نسخ قوله‏:‏ ‏{‏إنكم إذا مثلهم‏}‏، لقوله‏:‏ ‏{‏وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن اللّه جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً‏}‏، أي كما أشركوهم في الكفر، كذلك يشارك اللّه بينهم في الخلود في نار جهنم أبداً، ويجمع بينهم في دار العقوبة والنكال والقيود والأغلال وشراب الحميم والغسلين‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏141‏)‏
‏{‏ الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ‏}
يخبر تعالى عن المنافقين أنهم يتربصون بالمؤمنين دوائر السوء، بمعنى ينتظرون زوال دولتهم وظهور الكفرة عليهم وذهاب ملتهم، ‏{‏فإن كان لكم فتح من اللّه‏}‏ أي نصر وتأييد وظفر وغنيمة‏:‏ ‏{‏قالوا ألم نكن معكم‏}‏‏؟‏ أي يتوددون إلى المؤمنين بهذه المقالة، ‏{‏وإن كان للكافرين نصيب‏}‏‏:‏ أي إدالة على المؤمنين في بعض الأحيان كما وقع يوم أُحد، فإن الرسل تبتلي ثم يكون لها العاقبة، ‏{‏قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين‏}‏‏؟‏ أي ساعدناكم في الباطن وما ألوناهم خبالاً وتخذيلاً حتى انتصرتم عليهم، وقال السدي‏:‏ نستحوذ عليكم‏:‏ نغلب عليكم، كقوله‏:‏ ‏{‏استحوذ عليهم الشيطان‏}‏ وهذا أيضاً تودد منهم إليهم، فإنهم كانوا يصانعون هؤلاء وهؤلاء ليحظوا عندهم ويأمنوا كيدهم، وما ذاك إلا لضعف إيمانهم وقلة إيقانهم‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فاللّه يحكم بينكم يوم القيامة‏}‏ أي بما يعلمه منكم أيها المنافقون من البواطن الرديئة، فلا تغتروا بجريان الأحكام الشرعية عليكم ظاهراً في الحياة الدنيا، لما له في ذلك من الحكمة، فيوم القيامة لا تنفعكم ظواهركم، بل هو يوم تبلى فيه السرائر ويحصل ما في الصدور‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلاًؤ جاء رجل إلى علي بن ابي طالب فقال‏:‏ كيف هذه الآية ‏{‏ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلاً‏}‏‏؟‏ فقال علي رضي اللّه عنه‏:‏ ادنه ادنه ‏{‏فاللّه يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلاً‏}‏ قال ذاك يوم القيامة، وكذا روى السدي‏:‏ يعني يوم القيامة، وقال السدي ‏{‏سبيلاً‏}‏ أي حجة، ويحتمل أن يكون المعنى‏:‏ ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلاً أي في الدنيا، بأن يسلطوا عليهم استيلاء استئصال بالكلية، وإن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان على بعض الناس، فإن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا‏}‏ الآية، وعلى هذا يكون رداً على المافقين فيما أمَّلوه ورجوه وانتظروه من زوال دولة المؤمنين، وفيما سلكوه من مصانعتهم الكافرين خوفاً على أنفسهم منهم، إذا هم ظهروا على المؤمنين فاستأصلوهم، كا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم - إلى قوله - نادمين‏}‏، وقد استدل كثير من العلاماء بهذه الآية الكريمة على أصح قولي العلماء وهو المنع من بيع العبد المسلم للكافرين لما في صحة ابتياعه من التسليط له عليه والإذلال، ومن قال منهم بالصحة يأمره بإزالة ملكه عنه في الحال، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلا‏}






التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس
قديم 06-05-2014, 05:24 AM   رقم المشاركة : 28
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
‏ الآية رقم ‏(‏142 ‏:‏ 143‏)‏
‏{‏ إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ‏.‏ مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ‏}‏
قد تقدم في أول سورة البقرة قوله تعالى‏:‏{‏يخادعون اللّه والذين آمنوا‏}‏، وقال ههنا‏:‏ ‏{‏إن المنافقين يخادعون اللّه وهو خادعهم‏}‏ ولا شك أن اللّه لا يخادع، فإنه العالم بالسرائر والضمائر، ولكن المنافقين لجهلهم وقلة علمهم وعقلهم، يعتقدون أن أمرهم - كما راج عند الناس وجرت عليهم أحكام الشريعة ظاهراً - فكذلك يكون حكمهم عند اللّه يوم القيامة، وأن أمرهم يروج عنده، كما أخبر تعالى عنهم أنهم يوم القيامة يحلفون له أنهم كانوا على الاستقامة والسداد، ويعتقدون أن ذلك نافع لهم عنده، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يبعثهم اللّه جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم‏}‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏وهو خادعهم‏}‏ أي هو الذي يستدرجهم في طغيانهم وضلالهم ويخذلهم عن الحق والوصول إليه في الدنيا، وكذلك يوم القيامة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم - إلى قوله - وبئس المصير‏}‏، وقد ورد في الحديث‏:‏ ‏(‏من سمَّع سمع اللّه به، ومن رايا رايا اللّه به‏)‏، وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏إن اللّه يأمر بالعبد إلى الجنة فيما يبدو للناس ويعدل به إلى النار‏)‏ عياذاً باللّه من ذلك‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى‏}‏ الآية، هذه صفة المنافقين في أشرف الأعمال وأفضلها وخيرها، وهي الصلاة إذا قاموا إليها قاموا وهم كسالى عنها، لأنهم لا نية لهم فيها ولا إيمان لهم بها ولا خشية، ولا يعقلون معناها كما روى ابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ يكره أن يقوم الرجل إلى الصلاة وهو كسلان ولكن يقوم إليها طلق الوجه، عظيم الرغبة شديد الفرح، فإنه يناجي اللّه، وإن اللّه تجاهه يغفر له ويجيبه إذا دعاه، ثم يتلو هذه الآية‏:‏ ‏{‏وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى‏}‏، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى‏}‏ هذه صفة ظواهرهم كما قال‏:‏ ‏{‏ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى‏}‏، ثم ذكر تعالى صفة بواطنهم الفاسدة، فقال‏:‏ ‏{‏يراءون الناس‏}‏ أي لا إخلاص لهم ولا معاملة مع اللّه، بل إنما يشهدون الناس تقيَّة لهم ومصانعة، ولهذا يتخلفون كثيراً عن الصلاة التي لا يرون فيها غالباً ك صلاة العشاء في وقت العتمة وصلاة الصبح في وقت الغلس‏.‏ كما ثبت في الصحيحين أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم انطلق معي برجال ومعهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار‏)‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده لو علم أحدهم أنه يجد عِرْقاً سميناً أو مرماتين حسنتين لشهد الصلاة، ولولا ما في البيوت من النساء والذرية لحرقت عليهم بيوتهم بالنار‏)‏ وقال الحافظ أبو يعلى عن عبد اللّه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من أحسن الصلاة حيث يراه الناس، واساءها حيث يخلو، فتلك استهانة استهان بها ربه عزَّ وجلَّ‏)‏؛ وقوله‏:‏ ‏{‏ولا يذكرون اللّه إلا قليلاً‏}‏ أي في صلاتهم لا يخشعون ولا يدرون ما يقولون، بل هم في صلاتهم ساهون لاهون، وعما يراد بهم من الخير معرضون‏.‏ وقد روى الإمام مالك عن أنس بن مالك عن أنس بن مالك قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏تلكَ صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق‏:‏ يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعاً لا يذكر اللّه فيها إلا قليلاً‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء‏}‏ يعني المنافقين محيرين بين الإيمان والكفر فلا هم مع المؤمنين ظاهراً وباطناً ولا مع الكافرين ظاهراً وباطناً، بل ظواهرهم مع المؤمنين وبواطنهم مع الكافرين، ومنهم من يعتريه الشك فتارة يميل إلى هؤلاء وتارة يميل إلى أولئك، ‏{‏كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا‏}‏، وقال مجاهد ‏{‏مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء‏}‏ يعني أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم، ‏{‏ولا إلى هؤلاء‏}‏ يعني اليهود، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏
‏(‏مثل المنافق كمثل الشاة العاثرة بين الغنمين‏)‏
‏"‏رواه أحمد عن ابن عمر مرفوعاً‏"‏ وقال ابن جرير عن قتادة
‏{‏مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء‏}‏ يقول‏:‏ ليسوا بمؤمنين مخلصين، ولا مشركين مصرحين بالشرك قال‏:‏ وذكر لنا أن نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يضرب مثلاً للمؤمن وللمنافق وللكافر كمثل رهط ثلاثة دفعوا إلى نهر فوقع المؤمن فقطع، ثم وقع المنافق حتى إذا كاد يصل إلى المؤمن ناداه الكافر‏:‏ أن هلم إليّ فإني أخشى عليك، وناداه المؤمنين‏:‏ أن هلم إلي فإن عندي وعندي يحصي له ما عنده، فما زال المنافق يتردد بينهما حتى أتى عليه الماء فغرقه، وإن المنافق لم يزل في شك وشبهة حتى أتى عليه الموت وهو كذلك، قال‏:‏ وذكر لنا أن نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقول‏:‏ ‏(‏مثل المنافق كمثل ثاغية بين غنمين رأت غنماً على نشز فأتتها وشامتها فلم تعرف، ثم رأت غنماً على نشز فأتتها فشامتها فلم تعرف‏)‏، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يضلل اللّه فلن تجد له سبيلاً‏}‏ أي ومن صرفه عن طريق الهدى ‏{‏فلن تجد له ولياً مرشداً‏}‏، فإنه ‏{‏من يضلل اللّه فلا هادي له‏}‏، والمنافقون الذين أضلهم عن سبيل النجاة فلا هادي لهم، ولا منقذ لهم مما هم فيه، فإنه تعالى لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون‏.‏






التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس
قديم 06-05-2014, 05:38 AM   رقم المشاركة : 29
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏144 ‏:‏ 147‏)‏
‏{‏- يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا ‏.‏ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا ‏.‏ إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما ‏.‏ ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما‏}‏
ينهى اللّه تعالى عباده المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، يعني مصاحبتهم ومصادقتهم، ومناصحتهم وإسرار المودة إليهم، وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين‏}‏ ولهذا قال ههنا‏:‏ ‏{‏أتريدون أن تجعلوا للّه عليكم سلطاناً مبيناً‏}‏‏؟‏ أي حجة عليكم في عقوبته إياكم، قال ابن أبي حاتم عن ابن عباس قوله‏:‏ ‏{‏سلطاناً مبيناً‏}‏ قال‏:‏ كل سلطان في القرآن حجة، وهذا إسناد صحيح، ثم أخبر تعالى‏:‏ ‏{‏إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار‏}‏ أي يوم القيامة جزاء على كفرهم الغليظ، قال ابن عباس‏:‏ أي في أسفل النار، وقال غيره النار دركات كما أن الجنة درجات وقال سفيان الثوري ‏{‏إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار‏}‏ قال‏:‏ في توابيت تُرْتَج عليهم‏.‏ و
عن أبي هريرة قال ‏{‏الدرك الأسفل‏}‏‏:‏ بيوت لها أبواب تطبق عليهم فتوقد عليهم من تحتهم ومن فوقهم، قال ابن جرير عن عبد اللّه بن مسعود ‏{‏إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار‏}‏ قال‏:‏ في توابيت من نار تطبق عليهم أي مغلقة مقفلة، ‏{‏ولن تجد لهم نصيراً‏}‏ أي ينقذهم مما هم فيه ويخرجهم من أليم العذاب، ثم أخبر تعالى أن من تاب منهم في الدنيا تاب عليه وقبل ندمه إذا أخلص في توبته وأصلح عمله، واعتصم بربه في جميع أمره، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إلا الذين تابوا أصلحوا واعتصموا باللّه وأخلصوا دينهم للّه‏}‏ أي بدلوا الرياء بالإخلاص، فينفعهم العمل الصالح وإن قل‏.‏ قال ابن ابي حاتم عن معاذ بن جبل‏:‏ ان رسول الله صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أخلص دينك يكفك القليل من العمل‏)‏{‏فأولئك مع المؤمنين‏}‏ أي في زمرتهم يوم القيامة ‏{‏وسوف يؤت اللّه المؤمنين أجراً عظيماً‏}‏، ثم قال تعالى مخبراً عن غناه عما سواه وأنه إنما يعذب العباد بذنوبهم ‏{‏ما يفعل اللّه بعذابكم إن شكرتم وآمنتم‏}‏‏؟‏ أي أصلحتم العمل وآمنتم باللّه ورسوله، ‏{‏وكان اللّه شاكراً عليماً‏}‏ أي من شكر شكر له، ومن آمن قلبه به علمه وجازاه على ذلك أوفر الجزاء‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏148 ‏:‏ 149‏)‏
{‏ لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما ‏.‏ إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا ‏}‏
قال ابن عباس في الآية يقول‏:‏ لا يحب اللّه أن يدعوا أحدا على أحد إلا أن يكون مظلوماً، فإنه قد أرخص له يدعوا على من ظلمه، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏إلا من ظلم‏}‏، وإن صبر فهو خير له، وقال الحسن البصري‏:‏ لا يدعُ عليه، وليقل‏:‏ اللهم أعني عليه واستخرج حقي منه، وفي رواية عنه قال‏:‏ قد ارخص له أن يدعو على من ظلمه من غير أن يعتدي عليه، وقال عبد الكريم الجزري في هذه الآية‏:‏ هو الرجل يشتمك فتشتمه، ولكن إن افترى عليك فلا تفتر عليه لقوله‏:‏ ‏{‏ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل‏}‏، وقال أبو داود عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏المستبان ما قالا فعلى البادىء منهما ما لم يعتد المظلوم وعن مجاهد ‏{‏لا يحب اللّه الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم‏}‏ قال، قال‏:‏ هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته فيخرج فيقول‏:‏ أساء ضيافتي ولم يحسن‏.‏ وقد روى الجماعة سوى النسائي والترمذي عن عقبة بن عامر قال، قلنا‏:‏ يا رسول اللّه إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقرونا، فما ترى في ذلك‏؟‏ فقال‏:‏ إذا نزلت بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا منهم، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم ، وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏أيما مسلم ضاف قوماً فاصبح الضيف محروماً فإن حقاً على كل مسلم نصره حتى يأخذ بقرى ليلته من زرعه وماله‏)‏
تفرد به أحمد‏.‏
ومن هذه الأحاديث وأمثالها ذهب أحمد وغيره إلى وجوب الضيافة، ومن هذا القبيل الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار عن أبي هريرة، أن رجلاً أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ إن لي جاراً يؤذيني، فقال له‏:‏ ‏(‏أخرج متاعك فضعه على الطريق‏)‏، فأخذ الرجل متاعه فطرحه على الطريق، فكل من مر به قال‏:‏ مالك‏؟‏ قال جاري يؤذيني، فيقول‏:‏ اللهم العنه، اللهم أخزه قال، فقال الرجل ارجع إلى منزلك واللّه لا أوذيك أبداً‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن اللّه كان عفواً قديراً‏}‏، أي إن أظهرتم أيها الناس خيراً أو أخفيتموه أو عفوتم عمن أساء إليكم، فإن ذلك مما يقربكم عند اللّه ويجزل ثوابكم لديه، فإن من صفاته تعالى أن يعفو عن عباده مع قدرته على عقابهم، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فإن اللّه كان عفواً قديرا‏}‏، ولهذا ورد في الأثر أن حملة العرش يسبحون اللّه فيقول بعضهم‏:‏ سبحانك على حلمك بعد علمك، ويقول بعضهم‏:‏ سبحانك على عفوك بعد قدرتك وفي الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏ما نقص مال من صدقة، ولا زاد اللّه عبداً بعفوا إلا عزاً، ومن تواضع للّه رفعه‏)‏ ‏"‏الحديث رواه مسلم ومالك والترمذي، وقد رواه الحافظ ابن كثير بلفظ ومن تواضع للّه رفعه ولفظه عندهم ولا تواضع عبدٌ للّه إلا رفعه الله
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏150 ‏:‏ 152‏)‏
‏{‏ إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا ‏.‏ أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ‏.‏ والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما ‏}‏
يتوعد تبارك وتعالى الكافرين به وبرسله من اليهود والنصارى، حيث فرقوا بين اللّه ورسله في الإيمان فآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض، بمجرد التشهي والعادة وما ألفوا عليه آباءهم، لا عن دليل قادهم إلى ذلك، فإنه لا سبيل لهم إلى ذلك، بل بمجرد الهوى والعصبية، فاليهود عليهم لعائن اللّه آمنوا بالأنبياء إلا عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، والنصارى آمنوا بالأنبياء وكفروا بخاتمهم واشرفهم محمد صلى اللّه عليه وسلم، والمقصود أن من كفر بنبيّ من الأنبياء فقد كفر بسائر الأنبياء، فإن الإيمان واجب بكل نبيب بعثه اللّه إلى أهل الأرض، فمن رد نبوته للحسد أو العصبية أو التشهي تبيّن أن إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيماناً شرعياً، إنما هو عن غرض وهوى وعصبيه، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين يكفرون باللّه ورسله‏}‏ فوسمهم بأنهم كفار باللّه ورسله ‏{‏ويريدون أن يفرقوا بين اللّه ورسله‏}‏ أي في الإيمان، ‏{‏ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا‏}‏ أي طريقاً ومسلكاً، ثم أخبر تعالى عنهم فقال‏:‏ ‏{‏أولئك هم الكافرون حقاً‏}‏ أي كفرهم محقق لا محالة بمن ادعوا الإيمان به لأنه ليس شرعياً، إذا لو كانوا مؤمنين به لكونه رسول اللّه لآمنوا بنظيره، وبمن هو أوضح دليلاً وأقوى برهاناً منه، أو نظروا حق النظر في نبوته‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً‏}‏ أي كما استهانوا بمن كفروا به إما لعدم نظرهم فيما جاءهم به من اللّه وإعراضهم عنه وإقبالهم على جمع حطام الدنيا مما لا ضرورة إلي، وإما بكفرهم به بعد علمهم بنبوته كما كان يفعله كثير من أحبار اليهود في زمان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حيث حسدوه على ما آتاه اللّه من النبوة العظيمة، وخالفوه وكذبوه وعادوه وقاتلوه، فسلط اللّه عليهم الذل الدنيوي الموصول بالذل الأخروي، ‏{‏ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من اللّه‏}‏ في الدنيا والآخرة، وقوله‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا باللّه ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم‏}‏ يعني بذلك أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم، فإنهم يؤمنون بكل كتاب أنزله اللّه بكل نبيّ بعثه الله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنيون كل آمن بالله‏}‏ الآية، ثم أخبر تعالى بأنه قد أعد لهم الجزاء الجزيل والثواب الجليل والعطاء الجميل، فقال‏:‏ ‏{‏أولئك سوف يؤتيهم أجورهم‏}‏ على ما آمنوا باللّه ورسله، ‏{‏وكان اللّه غفوراً رحيماً‏}‏ أي لذنوبهم، أي إن كان لبعضهم ذنوب‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏153 ‏:‏ 154‏)‏
‏{‏ يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا ‏.‏ ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ‏}‏
قال السدي وقتادة‏:‏ سأل اليهود رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء كما نزلت التوراة على موسى مكتوبة وقال ابن جريج‏:‏ سألوه أن ينزل عليهم صحفاً من اللّه مكتوبة إلى فلان وفلان وفلان بتصديقه فيما جاءهم به، وهذا إنما قالوه على سبيل التعنت والعناد والكفر والإلحاد، كما سأل كفار قريش قبلهم نظير ذلك كما هو مذكور في سورة الإسراء‏:‏ ‏{‏وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً‏}‏ الآيات، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فقد سألوا موسى أكبر من ذلك، فقالوا‏:‏ ارنا اللّه جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم‏}‏، أي بطغيانهم وبغيهم، وعتوهم وعنادهم وهذا مفسر في سورة البقرة حيث يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات‏}‏ أي من بعد ما رأوا من الآيات الباهرة والأدلة القاهرة على يد موسى عليه السلام في بلاد مصر، وما كان من إهلاك عدوهم فرعون وجميع جنوده في اليم، فما جاوزوه إلا يسيراً حتى أتوا على قوم يعكفون على اصنام لهم فقالوا لموسى‏:‏ ‏{‏اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة‏}‏‏.‏
ثم ذكر تعالى قصة اتخاذهم العجل مبسوطة في سورة الأعراف وفي سورة طه بعد ذهاب موسى إلى مناجاة اللّه عزَّ وجلَّ، ثم لما رجع وكان ما كان، جعل اللّه توبتهم من الذي صنعوه وابتدعوه أن يقتل من لم يعبد العجل منهم من عبده فجعل يقتل بعضهم بعضاً، ثم أحياهم اللّه عزَّ وجلَّ، وقال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطاناً مبيناً‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم‏}‏، وذلك حين امتنعوا من الإلتزام باحكام التوراة وظهر منهم إباء عما جاءهم به موسى عليه السلام رفع اللّه على رؤوسهم جبالً، ثم ألزموا فالتزموا وسجدوا وجعلوا ينظرون إلى فوق رؤوسهم خشية أن يسقط عليهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذن نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة‏}‏ الآية، ‏{‏وقلنا لهم ادخلوا الباب سجداً‏}‏ أي فخالفوا ما أمروا به من القول والفعل، فإنهم أمروا أن يدخلوا باب بيت المقدس سجداً وهم يقولون حطة، أي ‏(‏اللهم حط عنا ذنوبنا‏)‏ في تركنا الجهاد ونكولنا عنه حتى تهنا في التيه أربعين سنة، فدخلوا يزحفون على أستاههم، وهم يقولون حنطة في شعرة ‏{‏وقلنا لهم لا تعدوا في السبت‏}‏ أي وصيناهم بحفظ السبت والتزام ما حرم اللّه عليهم ما دام مشروعاً لهم، ‏{‏وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً‏}‏ أي شديداً فخالفوا وعصوا وتحيلوا على ارتكاب ما حرم اللّه عزَّ وجلَّ، كما هو مبسوط في سورة الأعراف عند قوله‏:‏ ‏{‏اسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر‏}‏ الآيات، وسيأتي حديث صفوان بن عسال في سورة سبحان عند قوله‏:‏ ‏{‏ولقد أتينا موسى تسع آيات بينات‏}‏ وفيه‏(‏وعليكم خاصة يهود أن لا تعدوا في السبت‏)‏






التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس
قديم 06-05-2014, 05:48 PM   رقم المشاركة : 30
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏155 ‏:‏ 159‏)‏
{‏ فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ‏.‏ وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما ‏.‏ وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا ‏.‏ بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما ‏.‏ وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا ‏}‏
وهذا من الذنوب التي ارتكبوها مما أوجب لعنتهم ورطدهم وإبعادهم عن الهدى، وهو نقضهم المواثيق والعهود التي أخذت عليهم ‏{‏وكفرهم بآيات اللّه‏}‏ أي حججه وبراهينه، والمعجزات التي شاهدوها على يد الأنبياء عليهم السلام، قوله‏:‏ ‏{‏وقتلهم الأنبياء بغير حق‏}‏ وذلك لكثرة إجرامهم واجترائهم على أنبياء اللّه، فإنهم قتلوا جماً غفيراً من الأنبياء عليهم السلام ‏{‏وقولهم قلوبنا غلف‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي في غطاء، وهذا كقول المشركين‏:‏ ‏{‏وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه‏}‏ الآية، وقيل‏:‏ معناه أنهم ادعوا أن قلوبهم غلف للعلم أي أوعية للعلم قد حوته وحصلته، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏بل طبع اللّه عليها بكفرهم‏}‏، فعلى القول الاول‏:‏ كأنهم يعتذرون إليه بأن قلوبهم لا تعي ما يقول لأنها في غلف وفي أكنة، قال اللّه بل هي مطبوع عليها بكفرهم، وعلى القول الثاني‏:‏ عكس عليهم ما ادعوه من كل وجه، وقد تقدم الكلام على مثل هذا في سورة البقرة‏.‏ ‏{‏فلا يؤمنون إلا قليلا‏}‏ أي تمرنت قلوبهم على الكفر والطغيان، وقلة الإيمان ‏{‏وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني أنهم رموها بالزنا‏.‏ قال السدي‏:‏ والظاهر من الآية أنهم رموها وابنها بالعظائم، فجعلوها زانية وقد حملت بولدها من ذلك‏.‏ زاد بعضهم وهي حائض، فعليهم لعائن اللّه المتتابعة إلى يوم القيامة، وقوله‏:‏ ‏{‏إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول اللّه‏}‏ أي هذا الذي يدعي لنفسه هذا المنصب قتلناه وهذا منهم من باب التهكم والاستهزاء كقول المشركين‏:‏ ‏{‏يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون‏}‏‏.

وكان من خبر اليهود عليهم لعائن اللّه وسخطه وغضبه وعقابه، أنه لما بعث اللّه عيسى بن مريم بالبينات والهدى، حسدوه على ما آتاه اللّه تعالى من النبوة والمعجزات الباهرات، التي كان يبرىء بها الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله ويصور من الطين طائراً ثم ينفخ فيه فيكون طائراً يشاهد طيرانه بإذن اللّه عزَّ وجلَّ إلى غير ذلك من المعجزات التي أكرمه اللّه بها أجراها على يديه ومع هذا كذبوه وخالفوه، وسعوا في اذاه بكل ما أمكنهم، حتى جعل نبي اللّه عيسى عليه السلام لا يساكنهم في بلده، بل يكثر السياحة هو وأمه عليهما السلام، ثم لم يقنعهم ذلك حتى سعوا إلى ملك دمشق في ذلك الزمان وكان رجلاً مشركاً من عبدة الكواكب، وكان يقال لأهل ملته اليونان، وأنهوا إليه أن في بيت المقدس رجلاً يفتن الناس ويضلهم ويفسد على الملك رعاياه، فغضب الملك من هذا وكتب إلى نائبه بالمقدس أن يحتاط على هذا المذكور، وأن يصلبه ويضع الشوك على رأسه ويكف أذاه عن الناس، فلما وصل الكتاب امتثل والي بيت المقدس ذلك وذهب هو طائفة من اليهود إلى المنزل الذي فيه عيسى عليه السلام وهو في جماعة من أصحابه اثني عشر أو ثلاثة عشر وقيل سبعة عشر نفراً - وكان ذلك يوم الجمعة بعد العصر ليلة السبت - فحصروه هنالك، فلما أحس بهم وأنه لامحالة من دخولهم عليه أو خروجه إليهم - قال لأصحابه‏:‏ أيكم يُلقى عليه شبهي وهو رفيقي في الجنة‏؟‏ فانتدب لذلك شاب منهم فكأنه استصغره عن ذلك، فأعادها ثانية وثالثة، وكل ذلك لا ينتدب إلا ذلك الشاب، فقال‏:‏ أنت هو ‏!‏ وألقى اللّه عليه شبه عيسى حتى كأنه هو، وفتحت روزنة من سقف البيت واخذت عيسى عليه السلام سَنَةً من النوم فرفع إلى السماء وهو كذلك كما قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إذ قال اللّه يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي‏}‏ الآية، فلما رفع خرج أولئك النفر، فلما رأى أولئك ذلك الشاب ظنوا أنه عيسى فأخذوه في الليل وصلبوه ووضعوا الشوك على رأسه، وأظهر اليهود أنهم سعوا في صلبه وتبجحوا بذلك، وسلم لهم طوائف من النصارى ذلك، لجهلهم وقلة عقلهم، ما عدا من كان في البيت مع المسيح فإنهم شاهدوا رفعه، وأما الباقون فإنهم ظنوا - كما ظن اليهود - أن المصلوب هو المسيح بن مريم، حتى ذكروا أن مريم جلست تحت ذلك المصلوب وبكت، ويقال إنه خاطبها واللّه أعلم، وهذا كله من امتحان اللّه عباده لما له في ذلك من الحكمة البالغة، وقد أوضح اللّه الأمر وجلاه وبينه وأظهره في القرآن العظيم الذي أنزله على رسوله الكريم، المؤيد المعجزات والبينات والدلائل الواضحات، فقال تعالى وهو أصدق القائلين‏:‏ ‏{‏وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم‏}‏ أي رأوا شهبه فظنوه إياه ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن‏}‏ يعني ذلك من ادعى أنه قتله من اليهود ومن سلّمه إليهم من جهال النصارى كلهم في شك من ذلك وحيرة وضلال‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وما قتلوه يقيناً‏}‏ أي وما قتلوه متيقنين أنه هو، بل شاكين متوهمين ‏{‏بل رفعه اللّه إليه وكان اللّه عزيزاً‏}‏ أي منيع الجناب لا يرام جنابه ولا يضام من لاذ ببابه، ‏{‏حكيماً‏}‏ أي في جميع ما يقدره ويقضيه من الأمور التي يخلقها، وله الحكمة البالغة الحجة الدامغة والسلطان العظيم‏.‏

روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ لما أراد اللّه أن يرفع عيسى إلى السماء خرج على اصحابه وفي البيت اثنا عشر رجلاً من الحواريين، فخرج عليهم ورأسه يقطر ماء، فقال‏:‏ إن منكم من يكفر بي اثني عشرة مرة بعد أن آمن بي، قال، ثم قال‏:‏ أيكم يُلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي‏؟‏ فقام شاب من أحدثم سناً، فقال له‏:‏ اجلس، ثم أعاد عليهم، فقام ذلك الشاب، فقال‏:‏ اجلس، ثم أعاد عليهم، فقام الشاب، فقال‏:‏ أنا، فقال‏:‏ هو أنت ذاك، فأُلقي عليه شبه عيسى ورفع عيسى من روزنة في البيت إلى السماء، قال‏:‏ وجاء الطلب من اليهود، فأخذوا الشبه فقتلوه، ثم صلبوه، فكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به، وافترقوا ثلاث فرق، فقالت فرقة‏:‏ كان اللّه فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء وهؤلاء اليعقوبية وقالت فرقة‏:‏ كان فينا ابن اللّه ما شاء ثم رفعه اللّه إليه، وهؤلاء النسطورية وقالت فرقة‏:‏ كان فينا عبد اللّه ورسوله ما شاء اللّه ثم رفعه اللّه إليه وهؤلاء المسلمون فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامساً حتى يبعث اللّه محمداً صلى اللّه عليه وسلم ‏"‏قال الحافظ ابن كثير‏:‏ هذا إسناد صحيح إلى ابن عباس‏"‏

وروى ابن جرير عن ابن إسحاق، قال‏:‏ كان أسم ملك بني إسرائيل الذي بعث إلى عيسى ليقتله رجلاً منهم يقال له داود ، فلما أجمعوا لذلك منه لم يفظع عبد من عباد اللّه بالموت - فيما ذكر لي - فظعه، ولم يجزع منه جزعه ولم يدع في صرفه عنه دعاءه، حتى إنه ليقول فيما يزعمون‏:‏ اللهم إن كنت صارفاً هذه الكأس عن أحد من خلقك فاصرفها عني، وحتى إن جلده من كرب ذلك ليتفصد دماً، فدخل المدخل الذي أجمعوا أن يدخلوا عليه فيه ليقتلوه هو وأصحابه وهم ثلاثة عشر بعيسى عليه السلام، فلما ايقن أنهم داخلون عليه، قال لأصحابه من الحواريين - وكانوا اثني عشر رجلاً سوى عيسى عليه السلام جحدته النصارى، فجحدوه حين أقروا لليهود بصلب عيسى وكفروا بما جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم من
الخبر‏.‏
قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني رجل كان نصرانياً فأسلم، أن عيسى حين جاءه من اللّه إني رافعك إليّ، قال‏:‏ يا معشر الحواريين أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة حتى يشبه للقوم في صورتي فيقتلوه في مكاني‏؟‏ فقال سرجس ‏:‏ أنا يا روح اللّه، قال‏:‏ فاجلس في مجلسي فجلس فيه، ورفع عيسى عليه السلام، فدخلوا عليه فأخذوه فصلبوه، فكان هو الذي صلبوه وشبه لهم به، وكانت عدتهم حين دخلوا مع عيسى معلومة، قد رأوهم فأحصوا عدتهم، فلما دخلوا عليهم ليأخذوه وجدوا عيسى وأصحابه فيما يرون وفقدوا رجلاً من العدة، فهو الذي اختلفوا فيه، وكانوا لا يعرفون عيسى جعلوا ل ليودس ركريا يوطا ثلاثين درهماً على أن يدلهم عليه ويعرفهم إياه، فقال لهم‏:‏ إذا دخلتم عليه فإني سأقبله، وهو الذي أقبِّل فخذوه، فلما دخلوا وقد رفع عيسى ورأى سرجس في صورة عيسى فلم يشك أنه هو، فأكب عليه فقبله، فأخذوه فصلبوه، ثم أن ليودس ركريا يوطا ندم على ما صنع، فاختنق بحبل حتى قتل نفسه وهو ملعون في النصارى، وقد كان أحد المعدودين من أصحابه، وبعض النصارى يزعم أنه ليودس ركريا يوطا وهو الذي شبه لهم فصلبوه، وهو يقول‏:‏ إني لست بصاحبكم، أنا الذي دللتكم عليه واللّه أعلم أي ذلك كان‏.‏ وقال ابن جرير عن مجاهد‏:‏ صلبوا رجلاً شبه بعيسى ورفع اللّه عزَّ وجلَّ عيسى إلى السماء حياً، واختار ابن جرير أن شبه عيسى ألقي على جميع أصحابه‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً‏}‏ قال ابن جرير‏:‏ اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم معنى ذلك‏:‏ ‏{‏وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته‏}‏ يعني قبل موت عيسى، يوجه ذلك إلى أن جميعهم يصدقون به إذا نزل لقتل الدجال، فتصير الملل كلها واحدة، وهي ملة الإسلام الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام‏.‏ عن ابن عباس ‏{‏وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته‏}‏ قال‏:‏ قبل موت عيسى بن مريم عليه السلام، وقال أبو مالك في قوله‏:‏ ‏{‏إلا ليؤمنن به قبل موته‏}‏ قال‏:‏ ذلك عند نزول عيسى وقبل موت عيسى بن مريم عليه السلام لا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا آمن به وقال‏:‏ الحسن‏:‏ قبل موت عيسى والله إنه لحي الآن عند اللّه ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون‏.‏ قال ابن جرير وقال آخرون يعني بذلك ‏{‏وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به‏}‏ بعيسى قبل موت صاحب الكتاب لأن كل من نزل به الموت لم تخرج نفسه حتى يتبين له الحق من الباطل في دينه‏.‏ قال ابن عباس في الآية‏:‏ لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى وعن مجاهد‏:‏ كل صاحب كتاب يؤمن بعيسى قبل موته؛ قبل موت صاحب الكتاب‏.‏

وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس ‏{‏وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته‏}‏ قال‏:‏ هي في قراءة أبيّ قبل موتهم ليس يهودي يموت أبداً حتى يؤمن بعيسى، قيل لابن عباس‏:‏ أرأيت إن خر من فوق بيت‏؟‏ قال‏:‏ يتكلم به في الهويّ قيل‏:‏ أرأيت إن ضربت عنق أحدهم قال‏:‏ يلجلج بها لسانه، فهذه كلها أسانيد صحيحة إلى ابن عباس، وكذا صح عن مجاهد وعكرمة وابن سيرين وبه يقول الضحاك وقال السدي وحكاه عن ابن عباس، ونقل قراءة أبيّ بن كعب قبل موتهم‏.‏ قال ابن جرير، وقال آخرون معنى ذلك‏:‏ وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بمحمد صلى اللّه عليه وسلم قبل موت الكتاب‏.‏ قال عكرمة‏:‏ لا يموت النصراني ولا اليهودي حتى يؤمن بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ‏.‏






التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)
   


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع تقييم هذا الموضوع
تقييم هذا الموضوع:

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:24 PM.




 


    مجمموعة ترايدنت العربية