تعلمنا الفيزياء أن مجالا واسع المدى من الجاذبية يحيط بالأرض ويأسر من عليها من البشر .. وما عليها من أجسام وأجرام .. ومجال الجاذبية الأرضية ذو اتجاه واحد .. فاتجاهه دائما نحو مركز الأرض .. وكل الأجسام والأجرام تسقط حتما إلى الأرض .. مهما تسابقت وتعالت طالما ظلت في حيز ذلك المجال وضمن منطقة نفوذه .
وقديماً قالوا : " ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع " وتعلمنا في الفيزياء أن أدنى الأجسام طاقة هو ذلك الجسم الملامس لسطح الأرض ساكناً .
مصادر الطاقة :
وتعلمنا الفيزياء أنه لكي نرفع أجسامنا من سطح الأرض فنتحرك أو نقفز .. فاننا نحتاج إلى طاقة تدفعنا إلى الأمام أو ترفعنا إلى أعلى . أما مصادر الطاقة فقد تكون ذاتية كما هو الحال في أجسام الكائنات الحية .. فتنتج طاقة عن تفاعلات كميائية بين العناصر التي يتزود بها الكائن الحي من الوسط المحيط به .. وكما هو الحال في السيارات والطائرات التي تحملنا وتنتقل بنا من مكان إلى آخر .. عندما تتولد الطاقة في آلات الاحتراق المختلفة في تلك الهياكل وقد يكون مصدر الطاقة خارجياً كقذف لاعب الكرة كرته إلى أعلى أو رمي السهام أو انطلاق الرصاصة من مدفعها .
وتعلمنا الفيزياء أننا لكي نتحرر تماماً من أسر جاذبية الكرة الأرضية ومحدودياتها إلى آفاق الكون الشاسعة .. فاننا نحتاج إلى طاقة إفلات تدفع بنا إلى أعلى في مقاومة مستمرة وحثيثة لاتجاه الجاذبية .. ومع الابتعاد عن مركز الجاذبية يضعف تأثيرها حتى تتلاشى .. ونتحرر من قبضتها .. وتنطلق الى آفاق رحبة في كون فسيح مترامي الآطراف .
نوازع الدنيا :
ما أشبه هذه الصورة الفيزيائية بالواقع الروحي للانسان وحياته الفكرية على الآرض ؟
هذا الانسان تتدافعه النوازع الدنيوية وتتجاذبه الشهوات الأرضية .. ولأن الوقوع في أسرها أمر سهل هين .. فإنه يحدث تلقائياً ولا يتطلب مقاومة أو صراعاً .. فالاقبال على الدنيا وملذاتها لا يحتاج إلى عزيمة ولا يستدعي تضحية .. ولذلك جاء الحديث النبوي الشريف :" حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات "
إننا نجد أن القرآن الكريم يستخدم في بيان وإيجاز وإعجاز كلمة ( الأرض ) للتعبير عن ذلك الوضع الذي يسقط فيه الانسان أسير الهوى وضحية الرغبات ويصبح شبيهاً بالحيوان بل هو أضل سبيلا فيقول عز من قائل :
( ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ) .
فيربط الخطاب الإلهي بين الخلود الى الأرض والاستكانة اليها .. وبين اتباع الهوى والانجراف وراء الرغبات الدنيوية والملذات الأرضية .
الاستسلام للهوى :
إن ذلك الهبوط التلقائي نحو الأرض لا يحتاج إلى جهد ولا يتطلب طاقة فهو أمر يسير تنزع اليه النفس .. ويكفي أن يستسلم المرء لهواه ليبدأ فعل الجاذبية الآرضية بمعانيها الفيزيائية والمادية والمعنوية لتهوى به الى قاع الوجود وحضيض الحياة . أما عملية الصعود فتتطلب استثارة لمكامن الطاقة في المادة وتحفيزا لمصادر القوة فيها .. فالجاذبية الأرضية بالمرصاد وحال توقف أي من تلك المصادر تقوم الجاذبية بفعلها ويسقط الجسم في شباكها .. وكذلك الروح البشرية فانها لكي تسمو في آفاق رحبة من الادراك الحقيقي لأبعاد الوجود ولكي تحلق في أرجاء شاسعة من التآلق والاتصال بجوهر الحياة وكنة الامتداد في ما بعد الحياة الدنيا .. فانها تحتاج الى عزم متين لا يكل ولا يمل وإرادة صلبة لا تهن ولا تلين ويقظة دائمة واحتراس مستمر من مزالق الهوى واغراءات الجاذبية الدنيا وزاد من الطاقة لا ينفذ قال تعالى :
( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) .
وكل ذلك مطلب أساسي لا غنى عنه للتغلب على الهوة الى ملذات الأرض ونزغ الشيطان الذي يجري في الانسان مجرى الدم .
فعندما تستكين وتركن الى الدعة والراحة وتضعف الإرادة فإن الجاذبية الدنيوية تقوم بعلمها .. فتغلب على القوم الشهوات وتثقلهم الأهواء ويسود بينهم حب الدنيا ويصيبهم الوهن ونجد الخطاب القرآني يبرر ذلك الحال في وصف بديع متآلق ودقة علمية وإعجاز وبيان فيقول الخالق عز وجل :
( يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتكم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الدنيا في الآخرة إلا قليل )
طاقة الإيمان :
ولكي تتحرر الروح من الجاذبية الأرضية وأسر الهوى الدنيوي فانها تحتاج إلى طاقة تتمثل في إيمان متوقد .. وضمير حي .. ومحاسبة للنفس صارمة .. وعزيمة ثابتة .. وتضحية صادقة .
ومثل هذه الطاقة المنبعثة من داخل الانسان وفكره هي التي تدفع بالكيان البشري ليفلت من دائرة الأرض المحدودة كما يفلت الصاروخ المنطلق بالوقود من نطاق الجاذبية وهكذا تنطلق الروح في آفاق رحبة من العطاء والانجاز والابداع وتضمحل أمامها نزوات الدنيا وتتلاشي ملذات الأرض ويأتي الخطاب القرآني العظيم ليبين الأمر بجلاء داعياً النفس البرية الى ما فيه صلاح الدنيا والآخرة ... حتى نتخلص من الجُبن الحقيقي ونعلم أن غير هذا وهم فيقول الله عز وجل :
( انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون . لو كان عرضاً قريبا وسفراً قاصداً لاتبعوك ولكن بَعُدتْ عليهم الشُّقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم ...... )
شاهد إثبات :
إن النفرة تتطلب طاقة وجهدا والجهاد يحتاج الى عزيمة وتضحية وحركة دائبة ولابد من المعاناة والمكابدة لكي تتحقق الإرادة الإلهية .. وتتميز قوق عن قوم .. ويتسامي أناس ويهبط آخرون فيقول عز وجل :
( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين )
وهكذا تلتقي قوانين الخالق في المادة وسننه في الروح لتكون شاهد إثبات على وحدانية الخالق ووحدة التركيب وتجانس السنن والقوانين .
وهكذا يجب أن نكون وهكذا لابد أن نعيش بين المتناقضات وتستمر الحياة إلى موعدها المحدد وتتوقف حياتنا عند حد معين لا يمكن تخطيه بل هو العبور من حياة الدنيا إلى بداية لا يعلم مصيرها إلا الله ولن يصحبنا فيها إلا أعمالنا المخزونة في الكتاب
منقوووووووول
العرض العادي
