أهوال يوم القيامة ( للشيخ ابن عثيمين رحمه الله )
أيها الناس اتقوا الله تعالى و فكروا في دنياكم و آخرتكم ، في حياتكم و موتكم ، في حاضركم
ومستقبلكم ، فكروا في هذه الدنيا فيمن مضى من السابقين الأولين منهم والآخرين ، ففيهم
عبرة لمن اعتبر ، عمروا في هذه الدنيا فعمروها و كانوا أكثر منا أموالا و أولاداً و أشد منا
قوة و تعميراً ، فذهبت بهم الأيام كأن لم يكونوا و أصبحوا خبراً من الأخبار ، و أنتم على ما
ساروا عليه سائرون و إلى ما صاروا إليه صائرون سوف تنتقـلون عن هذه الدنيا إلى القبور
بعد القصور ،
و سوف تنـفردون بها بعد الاجتماع بالأهل و السرور ، سوف تنـفردون بأعمالكم إن خيراً
فخير، وإن شراً فشر ، إلى يوم النشور و حين ذلك ينفخ في الصور فيقوم الناس من قبورهم
لرب العالمين ، حفاة بلا نعال و عراة بلا ثياب و غرلا بلا ختان ، حدَّث النبي صلى الله عليه
و سلم بهذا الحديث فقالت عائشة : يا رسول الله الرجال و النساء جميعا ينظر بعضهم إلى
بعض ، فقال صلى الله عليه وسلم : إن الأمر أشد من أن ينظر الرجل إلى النساء أو النساء
إلى الرجال ، إنه أعظم من أن تسأل الأم عن ولدها و الابن عن أبيه ( فإذا نفخ في الصور فلا
أنساب بينهم يومئذ و لا يتساءلون ) (المؤمنون: ) ، ( إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم
ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت و تضع كل ذات حمل حملها و ترى الناس سكارى و ما
هم بسكارى و لكن عذاب الله شديد ) ( الحج )، هناك قلوب واجفة و أبصار خاشعة ، هناك
نشر الدواوين و هي صحائف الأعمال ، فيأخذ المؤمن كتابه بيمينه ، و يأخذ الكافر كتابه
بشماله، و من وراء ظهره ، فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول فرحاً و مسروراً : ( هاؤم
اقرءا كتابيه ) ( و أما من أوتي كتابه بشماله ) فيقول حزِناُ غماً : ( ياليتني لم أوت كتابيه ) و
يدعو ثبوراً و هناك توضع الموازين فتوزن فيها أعمال العبـاد من خير( فمن يعمل مثقال مثقال
ذرة خيراً يـره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)، قال الله تعالى : ( ونضع الموازين القسط ليوم
القيامة فلا تظلم نفس شيئاً و إن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها و كفى بنا حاسبين)
(الأنبياء)* و في ذلك اليوم يموج الناس بعضهم في بعض ، و يلحقهم من الغم و الكرب مالا
يطيقون فيقول الناس ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم فيأتون آدم ثم نوحا ثم إبراهيم ثم
موسـى عليهم الصلاة و السلام و كلهم يقدمون عذراً ، ثم يأتون إلى عيسى رضي الله عنه
فيقول : لست لها و لكن ائتوا محمداً عبداً غفر الله له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر، فيأتون إلى
النبي صلى الله عليه و سلم فيقول مفتخراً بنعمة الله : أنا لها ، فيستأذن من ربه عز و جل و
يخر له ساجداً و يضع الله غليه من محامده و حسن الثناء عليه ما لم يفتحه على أحد قبله
فيدَعُهُ الله ما شاء الله أن يدعَه ثم يقول يا محمد : ارفع رأسك و قل تسمع و اشفع تشفع و سل
تعطه ، و في ذلك اليوم ينزل الله للقضاء بين عباده و حسابهم ، فيخلو بعبده المؤمن وحده و
يضع عليه ستره و يكلمه ليس بينه و بينه ترجمان ، فيخبره بما عمل من ذنوبه حتى يقر و
يعترف فيظهر الله عليه فضله فيقول : قد سترتها عليك في الدنيا و أنا أغفرها لك اليوم، و في
ذلك اليوم الحوض المورود لمحمد صلى الله عليه وسلم ، ماؤه أشد بياضاً من اللبن و أحلى من
العسل و أطيب من ريح المسك طوله شـهر و عرضه شهر و آنيته كنجوم السماء كثرة و
إضاءة لا يَرِدُه إلا المؤمنون به المتبعون لسنته ، من يشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً ، و
أول الناس وروداً عليه فقراء المهاجرين ، في ذلك اليوم تدنو الشمس من الخلق حتى تكون
فدر ميل ، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون إلى كعبيه ، ومنهم من
يكون إلى ركبتيه ومنهم من يكون إلى حقويه ومنهم من يلجمهم العرق إنجاماً، و يظل الله من
يشاء في ظله يوم لا ظل إلا ظله .
في ذلك اليوم يقول الله ياآدم : فيقول لبيك و سعديك و الخير كله في يديك ، فيقول أخْرج بعثَ
النار من ذريتك ، قال : و ما بعث النار ؟ قال من كل ألف تسعمائة و تسعة و تسعون ، فعند
ذلك يشيب الصغير.
و في ذلك اليوم يوضع الصراط على متن جهنم أدق من الشعرة و أحد من السيف و ترسل
الأمانة والرحم فيقومان جنبتي الصراط يميناً و شمالا ، فيمر الناس عليه على قدر أعمالهم
تجري بهم أعمالهم ، فمنهم من يمر كلمح البصر و منهم من يمر كالبرق ، و منهم من يمر
يزحف ، و منهم ما بين ذلك ، و نبيكم صلى الله عليه و سلم قائم على الصراط يقول : يا رب
سلم سلم ، و في حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة تأخذ من أمِرَتْ به فمخدوش ناج و
مكروس في النار .
في ذلك اليوم يتفرق الناس إلى فريقين ، فريق في الجنة و فريق في السعير ( و يوم تقوم
الساعة يومئذ يتفرقون فأما الذين آمنوا و عملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون و أما
الذين كفروا وكذبوا بآياتنا و لقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون ).
فاتقوا الله عباد الله : و خذوا لهذا اليوم عدته فإنه مصيركم لا محـالة و موعـدكم لا ريب
فيـه، و إنه على عِظمِه و شدته و هوله لَيَكون يسيراً على المؤمنين المتقين لأن الله يقول :
( و كان يوما على الكفرين عسيراً). فآمنوا بالله و اعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم
فاحذروه .
اللهم فاطر السماوات و الأرض عالم الغيب و الشهادة ، نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله لا إله إلا
أنت الأحد الصمد الذي لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفوا أحد ن ياذا الجلال و الإكرام يا حي يا
قيوم خفف عنا أهوال ذلك اليوم و اجعلنا فيه من السعداء و ألحقنا بالصالحين يا رب العلمين .
المصدر : المجلة العربية 0ذو القعدة 1421هـ.