الجزء التاسع والأخير :
وبناء على ذلك فللمسلم أن يحمل أي رأي وأن يقول أي رأي وأن يدعو إلى أي رأي مادامت الأدلة الشرعية تجيزه. وأما أن كانت الأدلة الشرعية تمنعه فلا يجوز للمسلم حمله أو قوله أو الدعوة أليه، فإذا قام بذلك عوقب. فالمسلم مقيد في الرأي حملا وقولا ودعوة بالأحكام الشرعية، وليس حرا في ذلك.
والإسلام أوجب قول الحق في كل زمان، وكل مكان، ففي حديث عبادة بن الصامت في البيعة ((..وأن نقول بالحق حيثما كنا، لانخاف في الله لومة لائم )).كما أن الإسلام أوجب على المسلمين مجابهة الحكام بالرأي ومحاسبتهم على أعمالهم.
فعن أم عطية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر))
وعن أبي إمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاب السائل الذي سأله عند العقبة: أي الجهاد أفضل يارسول الله؟ بقوله: ( كلمة حق تقال عند ذي سلطان جائر))
وقال عليه الصلاة والسلام: ( سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى امام سلطان جائر فنصحه فقتله ).
وهذا ليس حرية رأي، بل هو تقيد بأحكام الشرع، وهو إباحة قول الرأي في حالات، ووجوبه في حالات أخرى.
أما حرية التملك- وهي الحرية التي أنتجت النظام الرأسمالي في الاقتصاد، وبالتالي أوجدت فكرة استعمار الشعوب، ونهب خيراتها، وسلب ثرواتها، فأنها تعني إباحة أن يتملك الإنسان المال ابتداء، وأن ينميه بأية وسيلة، وبأية كيفية كانت، فله أن يملك المال، وأن ينميه بأسلوب الاستعمار، ونهب الثروات، وسرقة الخيرات للشعوب المستعمرة، وبالاحتكار والمضاربة، وبالربا، وبالتدليس والغش والخداع والغبن الفاحش، وبالقمار والزنا واللواطة واستخدام أنوثة المرأة، وبصناعة الخمر وبيعها وبالرشوة وبغير ذلك من الأساليب.
أما الأسلام فإنه نقيض هذه الحرية في أحكام تملك المال، فهو يحارب فكرة استعمار الشعوب، وفكرة نهب خيراتها، والاستيلاء على ثرواتها كما يحارب فكرة الربا سواء أكان بفوائد مركبة أم بفوائد بسيطة، فالربا كله ممنوع.
وقد حدد الأسلام أسباب تملك المال، وأسباب تنميته، وكيفية التصرف فيه، وحرم ماعداها، وأوجب على المسلم أن يتقيد بها في تملكه للمال، وفي تنميته لهذا المال، وفي كيفية تصرفه بهذا المال. ولم يتركه حرا يتصرف في ذلك كيف يشاء. بل قيده بما شرع له من أحكام وحرم عليه أن يتملك المال، وأن ينميه بالسلب والنهب والسرقة والرشوة، وبالربا والقمار والزنا واللواطة، وبالتدليس والغش والخداع والغبن الفاحش، وبصناعة الخمر وبيعها، وباستخدام أنوثة المرأة وبغيرها من الأسباب التي حرم تملك المال وتنميته بها.
فكلها أسباب ممنوعة لتملك المال وتنميته، وكل مال يملك بواسطتها يحرم على المسلم تملكه، ويعاقب فاعله.
وبهذا يظهر أنه لا توجد حرية تملك للمال في الإسلام بل المسلم مقيد في تملكه للمال وفي تصرفه بالمال بالأحكام الشرعية التي جاء الشرع بها، ولا يجوز له أن يتعداها.
أما الحرية الشخصية، فهي حرية الانفلات من كل قيد، حرية التحلل من كل القيم الروحية والخلقية و الإنسانية، حرية تحطيم الأسرة، وإفقادها كيانها وتماسكها.
الحرية التي ترتكب باسمها جميع الموبقات، وتستباح كل المحرمات. وهي الحرية التي أوصلت المجتمعات الغربية إلى مجتمعات بهيمية يندى لها جبين الإنسان، وأوصلت أهلها إلى مستوى أحط من مستوى البهائم والحيوان.
هذه الحرية قررت أن من حق الإنسان أن يتصرف في سلوكه الشخصي، وفي حياته الشخصية بالشكل الذي يروق له، بمنتهى الحرية، دون أن تملك الدولة أو غيرها حق الحيلولة بينه وبين القيام بما يريد أن يقوم به من تصرف أو سلوك. وأباحت له الزنا واللواطة والسحاق والخمر والعري، ومزاولة أي عمل مهما كان خسيسا بمنتهى الحرية دون قيد أو حد، بدون ضغط أو إكراه .
إن أحكام الإسلام تناقض هذه الحرية الشخصية مناقضة تامة. فلا حرية شخصية في الإسلام، والمسلم مقيد بأوامر الله ونواهيه في جميع أفعاله وتصرفاته، ويحرم عليه أن يقوم بفعل حرمه الله، فإن أقدم على فعل محرم من المحرمات أثم، وعوقب عقوبة شديدة.
والإسلام حرم الزنا واللواط والسحاق والخمر والعري وغيرها من الموبقات، وجعل لكل منها عقوبة زاجرة.
وأمر بالتخلق بالأخلاق الفاضلة، والسجايا الحميدة، وجعل المجتمع الإسلامي مجتمع الطهر والعفاف، ومجتمع القيم الرفيعة.
ومن جميع ما تقدم يتبين بمنتهى الوضوح أن الحضارة الغربية، والقيم الغربية، ووجهة النظر الغربية، والديمقراطية الغربية، والحريات العامة كلها تتناقض مع الإسلام وأحكامه تناقضا كليا.
فهي أفكار كفر، وحضارة كفر، وأنظمة كفر، وقوانين كفر.
ومن الجهل أو التضليل أن يقال أن الديمقراطية من الإسلام، وأنها هي الشورى بعينها، وأنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنها محاسبة الحكام.
فالشورى، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومحاسبة الحكام، أحكام شرعية، شرعها الله سبحانه وتعالى، وأمر المسلمين بأخذها والتقيد بها، باعتبارها أحكاما شرعية.
أما الديمقراطية فهي ليست أحكاما شرعية، ولا هي من تشريع الله سبحانه، بل هي من وضع البشر وتشريعهم.
وهي غير الشورى، فالشورى هي إعطاء الرأي، أما الديمقراطية فهي وجهة نظر في الحياة، وهي تشريع للدساتير والأنظمة والقوانين، يضعه البشر من عقولهم، ويشرعونه بناء على المصلحة التي تراها عقولهم، لا بناء على وحي السماء.
لذلك يحرم على المسلمين أخذها، أو الدعوة إليها، أو إقامة أحزاب على أساسها، أو اتخاذها وجهة نظر في الحياة أو تطبيقها، أو جعلها أساسا للدستور والقوانين، أو مصدرا من مصادر الدستور والقوانين، أو جعلها أساسا للتعليم أو لغايته.
ويجب على المسلمين أن ينبذوها نبذا كليا، فهي رجس، وهي حكم طاغوت، وهي كفر، وأفكار كفر، وأنظمة كفر، وقوانين كفر، ولا تمت إلى الإسلام بأية صلة.كما يجب عليهم أن يضعوا الإسلام كاملا موضع التطبيق والتنفيذ في الحياة والدولة والمجتمع.
(( وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً (115)النساء)).
تم بعون الله وفضله يوم الاحد الواقع في الثالث من شهر ذي القعدة سنة 1410 هـ الموافق السابع والعشرين من شهر ايار سنة 1990 م
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نسأل الله العظيم , رب العرش الكريم , أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على إمام المتقين , وسيد المرسلين , المبعوث رحمة للعالمين , وعلى آله وصحبه أجمعين , ومن تبع هداه وسلك خطاه ,
وسار على نهجه إلى يوم يلقاه .