الصحابي الأغر : مصعب بن عمير
الحمد لله القائل في محكم التنزيل : ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار, وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما {29} ) الفتح .
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( دعوا لي أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم كل يوم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) .
الإخوة الأكارم : نحدثكم اليوم عن صحابي جليل عاش الإسلام في مكة , وهاجر مع من هاجر إلى الحبشة , وعاد إلى مكة , وكان مبعوثاً للرسول محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قبل الهجرة إليها , ليُعلم من آمن من أهل المدينة ويُعدَّها ليوم الهجرة العظيم .
نعم , إنه مصعب بن عمير رضي الله تعالى عنه وأرضاه
نعم , إنه - مصعب الخير- غـُرة فتيان مكة , وزينة شبابها , وصف حاله رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم بقوله : لقد رأيتك بمكة , وما بها من أرق حلة , ولا أحسن لمَّة منك .
شخصية إسلامية , تم بناؤها علي يدي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم , وأعدَّت لمهمة عظيمة , فقد ألقيت عليه مهمة حمل الدعوة الإسلامية في المدينة ومصير الإسلام بالمدينة التي ستكون دار الهجرة وعاصمة الدولة الإسلامية , ومنطلق الدعوة والفتوحات .
لقد حمل مصعب الخير هذه الأمانة مستعيناً بالله , وبما وعاه وأدركه من هذا الدين , بأن على المسلم أن يدور مع الإسلام حيث دار , وأن عليه أن يتخلى عن زينة الحياة الدنيا وزخرفها , وعن الأهل والعشيرة , إن كان هؤلاء عائقاً أمام حمل الدعوة وخدمتها .
وسافر مصعب الخير إلى المدينة, وجاءها وليس فيها سوى اثنا عشر مسلماً هم الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم من قبل بيعة العقبة الأولى .
لقد عُرف مصعب أنه داعية إلى الله , ومبشراً بدينه الذي يدعو الناس إلى الهدى , وإلى صراط مستقيم , وأنه ليس عليه إلاَّ البلاغ .
وهناك في المدينة نهض في ضيافة أسعد بن زرارة ابن خالة سعد بن معاذ , وقصد مصعب الخير الإلتقاء بالناس من أهل المدينة يدعوهم إلى الإسلام , ويشرح لهم تعاليمه , ويبين لهم ألتبعات الملقاة على عاتقهم , إن هم دخلوا في الإسلام واستجابوا لدعوة الحق والعقل .
ولم تكن طريق الدعوة الإسلامية مفروشة بالورود , ولم تكن سهلة ميسورة في جميع أحوالها , ولن تكن كذلك , فهذا هو حال دعوات الأنبياء جميعهم على مرِّ التاريخ , فلم يسلم أياً منهم من المعارضة أو الإستهزاء أو التعذيب أو القتل .
وهكذا كان الأمر مع مصعب في المدينة , فالمعارضة قائمة , والأذى قائم , وإن كان أقل حدة مما كان عليه في مكة .
ويكفينا في هذا المقام الإشارة إلى موقف واحد من المواقف الصعبة التي مرَّ بها مصعب الخير , ذاك الموقف الذي بدأ بالتهديد والوعيد , وانتهى بأن كان فاتحة خير للدعوة الإسلامية في المدينة, بإسلام سيدين من كبار سادتها : أسيد بن حضير, وسعد بن معاذ رضي الله عنهما . فذات يوم خرج مصعب بن عمير بصحبة مضيفه أسعد بن زرارة يريدان دار بني عبد الأشهل , ودار بني ظفر فدخلا حائطاً من حوائط بني ظفر على بئر يقال له بئر مرق , فجلسا في الحائط واجتمع إليهما رجال ممن أسلم , فسمع بذلك سعد بن معاذ وأسيد بن حضير , وكلاهما مشرك على دين قومه , فلم يرق لهما ما يحدث من دعوة للإسلام على رؤوس الأشهاد , وفي حيٍّ من أحياء المدينة , وهي على دين الشرك , وهما الآمران الناهيان فيها . فقال سعد بن معاذ لأسيد : انطلق إلى هذين الرجلين الذين قد أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا , فازجرهما وانههما , فإنه لولا سعد بن زرارة مني حيث قد علمت , كفيتك الأمر, هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدماً . فأخذ أسيد حربته ثم أقبل إليهما , وما أن رأى المسلمون الذين كانوا يجالسون مصعباً , مقدم أسيد متوحشاً غضبه المتلظي , وثورته المتحفزة , حتى وجلوا , لكن مصعب الخير ظلَّ ثابتاً متهللاً , فقال أسعد بن زرارة لمصعب : هذا سيد قومه , وقد جاءك فاصدق الله فيه , قال مصعب : إن يجلس أكلمه , فوقف أسيد مهتاجاً وقال مخاطباً ــ مصعب وأسعد ــ : ما جاء بكما إلى حيِّنا تسفهان ضعفاءنا اعتزلانا إذا كنتما لا تريدان الخروج من الحياة , فقال له مصعب : أو تجلس فتسمع , فإن رضيت أمراً قبلته , وإن كرهته كففنا عنك ما تكره , فأجابه أسيد : أنصفت , فألقى حربته إلى الأرض وجلس يصغي . فكلمه مصعب بالإسلام , وقرأ عليه القرآن , ويفسر له الدعوة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم , فأخذت أسارير أسيد تبرق وتشرق , وتتغير مع مواقع الكلام وتكتسي بجماله , فقال القوم : والله لعرفنا في وجه أسيد الإسلام قبل أن يتكلم . هتف أسيد : ما أحسن هذا القول وأصدقه , كيف يصنع من يريد أن يدخل في هذا الدين ؟ فقال له مصعب : تطهر ثوبك وبدنك , وتشهد أن لا إله إلاَّ الله , فقام أسيد فاغتسل وطهر ثوبه وشهد شهادة الحق , ثم قام فركع ركعتين , ثم قال لهما : إن ورائي رجلاً إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه , وسأرسله لكم الآن , إنه سعد بن معاذ رضي الله عنه .
وعاد أسيد بن حضير إلى سعد بن معاذ وأرسله إلى مجلس مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة , فلما أقبل قال لأسعد بن زرارة : والله يا أبا أمامة لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني , أتغشانا في دارنا بما نكره ؟! فقال له مصعب : أو تقعد فتسمع , فإن رضيت أمراً رغبت فيه قبلته , وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره , قال سعد : أنصفت . فعرض عليه مصعب الإسلام وقرأ عليه القرآن ــ أول سورة الزخرف ــ وشرح الله صدره للإسلام , وقال مثل ما قال صاحبه : كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ؟ ودخلتم في هذا الدين ؟ قالا : تغتسل فتتطهر وتطهر ثوبك , ثم تشهد شهادة الحق , ثم تصلي ركعتين ففعل .
ثم أخذ حربته فأقبل عائداً إلى قومه ومعه أسيد بن حضير , فلما رآه قومه مقبلاً قالوا : نحلف بالله لقد رجع إليكم سعداً بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم !! فلما وقف عليهم قال : يا بني عبد الأشهل : كيف تعلمون أمري فيكم ؟ قالوا : سيدنا وأفضلنا رأياً , ....... وأيمننا نقيبة , قال : فإن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله . قال : فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلاَّ مسلم أو مسلمة .
هذا موقف يشهد لمصعب الخير ولأسعد بن زرارة بأنهما رجلا دعوة , ويشهد لأسيد بن حضير وسعد بن معاذ بأنهما عرفا الحق بإنصاف , واستجابوا لنداء العقل المستنير, ولم تأخذهم العزة بالإثم , ولم يستكبرا استكباراً .
وهكذا يجب على كل إنسان حكيم إذا عرف الحق فما يسعه إلاَّ اتباعه والإخلاص في دعوته .
هذه شخصيات إسلامية أبلت بلاءً حسناً في مواقف عديدة , سجلت في صفحات التاريخ بصحائف من نور, ولا زلنا نرددها جيلاً بعد جيل , لأنها تستحق ذلك .
رضي الله عنهم ورضوا عنه .
جزاهم الله عنا خير الجزاء وأسكنهم فسيح جنانه .
اللهم لا تحرمنا أجرهم , ولا تفتنا بعدهم , واغفر اللهم لنا ولهم .
واجمعنا اللهم وإيَّاهم في جنات الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .