فقال والله لقد اشتريت النصيحة ببعير ولن أنام في قاع هذا الوادي
فقرر أن يبيت على مكان مرتفع فأخذ جاعِدَهُ(4) ونام على مكان مرتفع بجانب الوادي ..
وفي أواخر الليل جاء السيل يهدر كالرعد فأخذ البيوت والعربان
ولم يُبقِ سوى بعض المواشي . وساق الرجل ما تبقى من المواشي
وأضافها إلى مواشيه ، وأنعق(5) لها فتبعته وسار في طريقه
عدة أيام أخر حتى وصل في أحد الأيام إلى بيت في الصحراء
فرحب به صاحب البيت وكان رجلاً نحيفاً خفيف الحركة
وأخذ يزيد في الترحيب به والتذبذب إليه حتى أوجس منه خيفة
فنظر إليه وإذا به " ذو عيون بُرْق وأسنان فُرْق " فقال : آه هذا الذي أوصاني منه الشيخ ..
إن به نفس المواصفات لا ينقص منها شي
وفي الليل تظاهر الرجل بأنه يريد أن يبيت خارج البيت قريباً من مواشيه وأغنامـه
وأخذ فراشه وجَرَّه في ناحية ، ولكنه وضع حجارة تحت اللحاف ..
وانتحى مكاناً غير بعيد يراقب منه حركات مضيفه
وبعد أن أيقن المضيف أن ضيفه قد نام ،خاصة بعد أن لم يرَ له حراكاً
أخذ يقترب منه على رؤوس أصابعه حتى وصله
ولما لم يسمع منه أية حركة تأكد له أنه نائم بالفعل
فعاد وأخذ سيفه وتقدم منه ببطء ثم هوى عليه بسيفه بضربه شديدة
ولكن الضيف كان يقف وراءه فقال له :
لقد اشتريت والله النصيحة ببعير ثم ضربه بسيفه فقتلـه وساق ماشيته وغاب في أعماق الصحراء ..
وبعد مسيرة عدة أيام وصل في ساعات الليل إلى منطقة أهله
فوجد مضارب قومه على حالها ، فترك ماشيته خارج الحيّ
وسار ناحية بيته ورفع الرواق(6) ودخل البيت فوجد زوجته نائمة
وبجانبها شاب طويل الشعر , فاغتاظ لذلك ووضع يده على حسامه
وأراد أن يهوى به على رؤوس الأثنين وفجأة تذكر النصيحة الثالثة التي تقول :
" نم على الندم ولا تنم على الدم "
فبردت أعصابه وهدأ قليلاً فتركهم على حالهم وخرج من
البيت وعاد إلى أغنامه ونام عندها حتى الصباح
وبعد شروق الشمس ساق أغنامه واقترب من البيت فعرفه الناس ورحبوا به
واستقبله أهل بيته وقالوا : والله من زمان يا رجل ..
لقد تركتنا منذ فترة طويلة ، انظر كيف كبر خلالها ابنك حتى أصبح رجلاً
ونظر الرجل إلى ابنه وإذا به ذلك الشاب
الذي كان ينام بالأمس بجانب زوجته فحمد الله على سلامتهم
وشكر ربه أن هداه إلى عدم قتلهم وقال بينه وبين نفسه
والله إن كل نصيحة أحسن من بعير
وهكذا فإن النصيحة لا تقدّر بثمن
إذا فهمناها وعملنا بها في الوقت المناسب .
(1) - سُهَيل : نجمٌ يطلع في أواخر القيظ ..
(2) - هو الذي في عينيه بريق يدلّ على الخيانة والغدر ..
(3) - هو الذي بين ثنيتيه الأماميتين فراغ ظاهر ...
(4) - الجاعد : هو جلد الخروف يجفف وينظف بالملح حتى يصبح طرياً
ويعمل من فرائه بطانة للمعاطف ، ويُلبس أحياناً في الصحراء كما هو
ويستعمل كفِراشٍ صغير يجلس عليه ..
(5) - أنْعَقَ : سار أمام الماشية ودعاها فتبعته ...
(6) - الرّواق : الساتر الغربي من الخيمة ..