الحلقةالخامسةوالعشرون
******** على الرمال الناعمة بمحاذاة الشارع جلست بين الفتاتين بعدما أعيانا طول الوقوف و الانتظار.. و من حولنا أناس كثر متفرقون .. نسمع بكاء النساء و الأطفال .. أرى رغد تفرك يديها ببعضهما البعض بقوة و باستمرار و تهف عليهما طالبة شيئا من الدفء . لقد كانت ترتجف بردا.. أكاد أسمع اصطكاك أسنانها بعضها ببعض.. أما دانة فكان وجهها مغمورا تحت ثنايا القميص و مستسلمة لصمت موحش.. لم تكن الشمس قد أشرقت بعد.. و كان التعب قد أخذ منا ما أخذ و نرى رجال الشرطة يجولون ذهابا و جيئة و أعيننا متشبثة بهم.. التفت ناحية رغد و سألتها: " أتشعرين بالبرد؟" الصغيرة أجابت بقشعريرة سرت في جسدها.. أنا أيضا كنت أشعر بالبرد لا يدفئ جدعي سوى سترتي الداخلية الخفيفة.. لكن إن تحمّلت أنا ذلك ، فأنا لفتاة صغيرة تحمّله ؟؟ ألقيت نظرة على مجموعة من رجال الشرطة المتمركزين قرب السيارات ثم قلت: " دعانا نذهب إلى السيارة " و وقفت فوقفت الفتاتان من بعدي و سرت فسارتا خلفي تمسك كل منهما بالأخرى حتى صرت قرب رجال الشرطة.. نظروا إلى بتشكك.. و سألني أحدهم عما أريد " أود البقاء في سيارتي فقد قرصنا البرد" " عد من حيث أتيت يا هذا " " لكن الجو بارد ٌ جدا لا تتحمل قسوته الفتاتان " الشرطي نظر إلى الفتاتين و لم يعلّق. فقال آخر : " ابقوا حيث الآخرين" قلت بإصرار: " ستموتان بردا! " ثم أضفت : " هل تعتقدون أننا سنهرب ؟ سأعطيك مفتاح السيارة لتتأكد" و أدخلت يدي في جيبي و استخرجت مفاتيحي و مددتها إليه... الشرطي تبادل النظرة مع زملائه ثم همّ بأخذ المفاتيح بما احتواها. لقد كانت المفاتيح مضمومة في ميدالية أهدتني إياها رغد ليلة العيد.. انتزعت مفتاح السيارة من بينها و قدّمته إلى الشرطي و احتفظت بالميدالية و بقية المفاتيح. حين أعطيته المفتاح ، سمح لنا بالتوجه إلى السيارة. عندما فتحت الباب الأمامي الأيمن وقفت الفتاتان عنده تنظران إلى بعضهما البعض، ثم تنحت رغد جانبا سامحة لدانة بالدخول .. و فتحت هي الباب الخلفي . حينما جلسنا في السيارة ، أخذنا الصمت فترة طويلة.. و بدأت أجسادنا تسترد شيئا من دفئها المفقود... لم يكن أحدنا يعرف كيف يفكر ، كنا فقط في حالة ذهول و عدم تصديق .. منتظرين ما يخبئه لنا القدر خلف ظلام الليل.. أسندنا رؤوسنا إلى المقاعد علّها تمتص شيئا من الشحنات المتعاركة في داخلها.. و من حين لآخر ، ألقي نظرة على الفتاتين أطمئن عليهما.. رغد اضطجعت على المقاعد الخلفية و ربما غلبها النوم... أطل من خلال النافذة على السماء فأرى خيوط الفجر تتسلل خلسة.. فيلقي الله في نفسي ذكره.. " الصلاة " قلت ذلك و التفت إلى دانة التي تجلس إلى جواري ملقية بثقل رأسها على مسند المقعد. نظرت إلي، ثم أغمضت عينيها. أما رغد فلم تتحرك. نظرت إلى الناس فوجدت بعضهم يركعون و يسجدون..على الرمال قلت : " سأذهب لأصلي " فتحت عينيها مجددا ثم أغمضتهما. " توخيا الحذر ، دقائق و أعود" و مددت يدي إلى مقبض الباب ففتحته و خرجت.. أغلقت الباب و مشيت بضع خطى مبتعدا قبل أن أسمع صوب باب ينفتح بسرعة و أسمع من يناديني.. " وليــــد " التفت إليها فرأيتها تخرج من السيارة مسرعة، تقصدني أتيت إليها فأبصرت في وجهها الفزع المهول " إلى أين تذهب ؟ " قالت لاهثة ، فأجبت مطمئنا : " سأصلّي مع الناس " و أشرت إلى الطرف الآخر من الشارع حيث المصلين.. رغد هتفت بسرعة : " لا تذهب " قلت : " سأصلي و أعود مباشرة " " لا تذهب ! لا تتركني وحدي " قلت مطمئنا : " دانة معك ، لحظة فقط " رغد حركت رأسها اعتراضا و إصرارا و هي تقول : " لا تذهب .. ألا يكفي ما نحن فيه ؟ لا تبتعد وليد أرجوك " لم أستطع إلا أن أعود أدراجي ، و أتيمم و أؤدي الصلاة ملتصقا بالسيارة. ما أن فرغت ُ من ذلك ، حتى سمعنا ضجيجا يقتحم السماء.. نظرنا جميعنا إلى الأعلى فأبصرنا طائرة تخترق سكون الفجر... صرخ بعض الموجودين : " قنابل ! " و هنا .. بدأ الناس يتصايحون و يصرخون و يركضون فارين .. محدثين ضجة و جلبة شديدين.. رأيتهم جميعا يجرون على الشارع مبتعدين.. فتحت بابي السيارة بسرعة و هتفت " هيا بنا " و أمسكت بيدي الفتاتين و جررتهما ليركضا معي بأسرع ما أوتينا من قوّة.. " أركضا.. أركضا بسرعة " اقتحمنا أفواج الهاربين الصارخين المستصرخين .. هذا يدفع هذا و هذا يسحب هذا و ذاك يصطدم بالآخر .. و آخر يدوس على غيره.. و الحابل مختلط بالنابل.. نحن نركض و نركض دون التعقيب.. دون أي التفات إلي الوراء.. و دوي الطائرة يعلو سماءنا.. و يجلجل أرضنا المهتزة تحت أقدامنا الراكضة..الحافية.. أسمع صراخا من كل ناحية.. أسمع صراخ دانة و رغد.. و صراخي أنا أيضا.. و أشد قبضي عليهما و أطلق ساقي ّ للريح.. يتعثر من يتعثر.. ينزلق من ينزلق.. يتدحرج من يتدحرج.. يقع من يقع و ينكسر ما ينكسر و يداس ما يداس.. لا شيء يستدعيني لأوقف انجراف رجليّ .. أسابق الزمن.. و أكاد أسبقه .. كان ذلك من أشد الأوقات هولا و فظاعة.. لن يفوقهما شدة إلا هول يوم الحشر... سيارات الشرطة و سيارات أخرى رأيناها تشق الطريق فرارا سابقة إيانا.. و سمعنا أصوات رشق ناري زادنا رعبا على رعب و صراخا فوق صراخ.. قطعت مسافة لا علم لي بطولها، أسحب الفتاتين خلفي و هما عاجزتان عن مجاراة خطواتي الواسعة ، تقفزان قفزا بل تطيران طيرانا.. فجأة وقعت رغد أرضا فصرت أسحبها سحبا إلى أن تمكنت من إيقاف اندفاعي الشديد في الركض.. و أقبل الناس من خلفنا يرتطمون بنا و داسها أحدهم في طريقه.. صرخت : " قومي رغد " ألا أنها كانت تمسك بقدمها و تتلوى ألما و تصرخ : " قدمي .. قدمي .. " جثوت نحوها و أمسكت بقدمها الحافية فإذا بقطعة من الزجاج مغروسة فيها و الدماء تتدفق من الجرح.. لابد أنها داست عنوة على كسرة الزجاج هذه أثناء جرينا المبهم.. أمسكت بقطعة الزجاج بين إصبعي و انتزعتها بعنف و رغد تصرخ بشدة.. بعد ذلك سحبتها من يدها لنستوي واقفين و طرت راكضا ممسكا بالفتاتين.. عنوة.. رغد كانت تصرخ ألما و تركض على أطراف أصابع قدمها المصابة فيما الدماء تقطر منها و تهتف : " لا أستطيع .. آي .. لا أستطيع " ما أبطأ سرعة انطلاقنا .. ثم عادت و هوت أرضا من جديد.. و ضغطت على قدمها المصابة بيدها الحرة .. " انهضي رغد بسرعة " " لا أستطيع .. قدمي تؤلمي .. آي.. تؤلمني بشدة .. لا أستطيع " " هيا يا رغد لننج بأنفسنا " " لا أستطيع ..كلا " لأن أفكر، لا مجال .. ، لأن أتردد .. لا مجال ..، لكي أنجو بحياتي و حياة شقيقتي و حبيبتي .. سأقدم على أي شيء.. انتشلت صغيرتي من على الأرض بذراعي و حملتها على كتفي.. وجهها إلى ظهري و قدماها إلى أمامي .. منكبة على رأسها.. هتفت : " تشبثي بي جيدا " و أنا أطبق عليها بقوة بإحدى يدي ّ خشية أن تنزلق، فيما أمسك بشقيقتي باليد الأخرى ، ثم أسابق الريح... تارة أزيد و تارة أخفف السرعة.. ألتقط بعض الأنفاس و أسمح لشقيقتي بتنفس الصعداء.. كان الإعياء قد أصابنا و نال منا ما نال حين رفعت بصري إلى السماء فلم أبصر أية طائرة و أصغيت أذني فلم أسمع أي ضجيج... و تفلت من حولي فوجدت الناس متهالكين على الشارع و معظمهم مضطجعين هنا أو هناك.. من فرط التعب و نفاذ الطاقة.. انحرفت يسارا و خرجت عن الشارع إلى الرمال على حافته.. و هويت جاثيا على الأرض.. حررت رغد و دانة من بين يدي و ارتميت على الرمال منكبا على وجهي و أخذت أتنفس بقوّة .. تجعل ذرات الرمل و الغبار المتطايرة من حولي تقتحم فمي مع تيارات الهواء... أخذت أسعل و أتحشرج.. و قد أغلقت عيني لأحميهما من الغبار.. لزمت وضعي هذا لدقيقتين دون حراك.. فجسدي كان منهكا جدا و بحاجة إلى كمية أكبر من الأوكسجين ليطرد غازاته الضارة خارجا.. عندما فتحت عيني ّ و نظرت يمنة و يسرة رأيت الفتاتين مرتميتين على الرمال مثلي.. دانة متمددة على ظهرتها تتنفس بسرعة ، و رغد جالسة تمسّد قدمها المصابة و تئن ألما.. لم أجد في جسدي من الطاقة ما يمكنني الآن من النهوض.. الشمس كانت قد أرسلت أول جيوش أشعتها الذهبية الباهتة لتغزو السماء و تطرد الظلام .. و شيئا فشيئا بدأت تحتل السماء.. وتنير الكون.. وتكشف ما كان خافيا و تفضح ما كان مستورا.. جلست بعدما استرددت بعض قواي.. وأنا أراقب رغد المتألمة.. المكشوفة الرأس.. كان الجرح لا يزال ينزف.. و الدماء سقت الرمال.. كما لطخت ملابس رغد بل و وجدت بقعا منها على ملابسي أنا أيضا.. فقد كانت تقطر و أنا أحملها.. " دعيني أرى " قلت ذلك و قرّبت وجهي من قدمها أتأمل الجرح العميق.. و ما علق به من الرمال و الشظايا و الأتربة.. مسحت ما حولي بنظرة سريعة فلم أجد ما أغطي به هذا الجرح النازف.. نفس القميص الذي كانت دانة تختمر به ، نزعت أحد كمّيه و لففته حول قدم رغد .. كما لففت خمارها حول رأسها بنفسي... دانة قالت بعد ذلك بانهيار: " ماذا يحدث برب السماء ؟؟ فليخبرني أحد.. هل هذه حقيقة؟؟ لماذا فعلوا هذا بنا؟؟ ما حلّ بنوّار؟؟ و سامر ؟؟ " و أجهشت بكاء و نواحا.. فضممتها إلى صدري أحاول تهدئتها .. و أبقيتها بين ذراعي مقدارا من الزمن.. بينما رغد تراقبنا.. بعد ذلك رأينا الناس ينهضون و يسيرون في نفس الاتجاه.. فوجا بعد فوج.. و جماعة بعد أخرى.. قلت : " هيا بنا " قالت دانة : " إلى أين ؟؟ " " لا أعرف.. سنسير مع الآخرين" قالت : " سنموت في الطريق.. " قلت : " لو لم توقفنا الشرطة و تخرجنا من سياراتنا لربما كنا الآن قد بلغنا مكانا آمنا.. لا أريد العودة للوراء و لا التخلف عن الآخرين.. كما أنهم أخذوا مفتاح سيارتي.. أظننا على مقربة من إحدى المدن " فقد كانت اللافتة على جانب الطريق تشير إلى ذلك.. نهضت معهما و سرنا على مهل، و رغد تعرج و تستند إلى دانة... و تتوقف من حين لآخر.. قطعنا مسافة طويلة بلا هدف ... نسير زمنا و نرتاح فترة .. و تعامدت الشمس فوق رؤوسنا و نحن تائهون في البر.. كنا نشعر بتعب شديد.. و مهما نسير نجد الطريق طويلا .. و لا تعبره أية سيارات.. توقفنا بعد مدة لنيل قسطا من الراحة.. و أي راحة ؟؟ قالت رغد : " أنا عطشى..." و نظرت إلي باستغاثة.. ماذا بيدي يا رغد ؟؟ لو كانت عيني عينا لسقيتك منها و إن شربتها كلها و أبقيتني جافا .. أو أعمى.. لكنني مثلك ، يكاد العطش يقتلني و ما تبقى من طاقتي لا يكفي لقطع المزيد من الطريق.. إننا سنموت حتما إذا بقينا هنا.. أنا أرى الناس ينهارون من حولي من التعب و العطش و الجوع..و يتخلّف من يتخلّف منهم بعد مسيرتنا.. يجب أن نسرع و إلا هلكنا.. " هيا بنا " قالت دانة : " أنا متعبة ، دعنا نرتاح قليلا بعد " قلت بإصرار : " كلا .. يجب أن نسرع بالفرار قبل أن يدركنا حتفنا " و أجبرت الفتاتين على النهوض و السير مجددا و بأسرع ما أمكنهما .. قوى رغد يبدو أنها انتهت.. إنها تترنح في السير.. تمشي ببطء.. تجر قدميها جرا.. تئن و تلهث.. تسير مغمضة العينين متدلية الذراعين.. ثم أخيرا تقع أرضا.. أسرعت إليها و أمسكت بكتفيها و هززتها و أنا أقول : " رغد .. رغد تماسكي .." رغد تدور بعينيها الغائرتين النصف مغلقتين و تنطلق حروف من فيها الفاغر مع أنفاسها الضعيفة السطحية : " ماء.. عطشى.. سأموت.. وليد.. لا تتركني " ثم تغيب عن الوعي.. أخذت أهزها بقوة أكبر و أصرخ : " رغد .. أفيقي.. أفيقي .. هيا يا رغد تشجعي.. " فتفتح عينيها لثوان ، ثم تغمضهما باستسلام... ثم أسمع صوت ارتطام فالتفت ، فأرى شقيقتي تهوي أرضا هي الأخرى.. أسرع إليها و أوقظها : " دانة انهضي... هيا قومي سنصل قريبا " " متعبة.. دعني أرتاح.. قليلا " و انظر إلى الشمس فأراها تقترب من الأفق.. و تنذر بقرب الرحيل..و ختم النهار.. تركتهما ترتاحان فترة بسيطة ، ثم جعلتهما تنهضان .. دانة تسحب قدميها سحبا .. و رغد مستندة إلي.. أجرها معي .. وصلنا بعد ذلك إلى محطة وقود .. و صار من بقي من الناس يركضون باتجاهها و يقتحمون البقالة الصغيرة التابعة لها كالمجانين بحثا عن الماء.. أسرعت أنا أيضا بدوري إلى هناك .. أسحب الفتاتين و حين اقتربت من الباب و رأيت الناس تتعارك يرصّ بعضهم بعضا قلت للفتاتين : " انتظراني هنا " و حررتهما من يدي وأنا أقول : " لا تتحركا خطوة واحدة " و هممت بالذهاب لمزاحمة الآخرين.. رغد صرخت صرخة حنجرة ميتة : " لا تذهب " قلت : " سأجلب الماء .. انتظريني " و حين سرت خطوة مدت هي يدها و أمسكت بذراعي تسحبني تجاهها و تقول في ذعر : " لا تذهب وليد .. كلا ..كلا .. " حررت ذراعي من يدها و زمجرت : " دعيني أدرك الماء قبل أن يدركنا الموت.. ستموتين إن لم ألحق " " سأموت إن ذهبت " لا أعرف كيف أصف الشعور الذي انتابني لحظتها.. في قعر الضعف و اليأس و الاستسلام.. أرى صغيرتي متشبثة بي في خشية من أن الوحدة.. بينما الموت أولى بأن تخشاه و تهرب منه.. قلت موجها كلامي لدانة : " أمسكي بها " و دفعت بيدها بعيدا عني و أسرعت إلى البقالة..تلاحقني صيحاتها.. غصت وسط الزحام و لم استطع نيل أكثر من قارورتي ماء صغيرتين و علبة عصير انتشلتها انتشالا و ركلت من حاول سلبها مني.. خرجت بغنيمتي من المعركة و جريت نحو الموضع الذي تركت الفتاتين فيه فلم أجدهما.. تلفت يمنة و يسرة فلم أجدهما ... جن جنوني و رحت أهتف مناديا : " رغد... دانة ... أين أنتما ؟؟ " ثم سمعت صوت دانة تهتف : " وليد .. هنا " و وجدتها تجلس عند خازنات الوقود و رغد ملقاة أرضا إلى جوارها.. ركضت نحوها فزعا.. " ماذا حدث ؟؟ " " ربما ماتت ؟ لا أعرف إنها لا تستفيق " مسكت رغد و هززتها بقوة و أنا أصرخ : " رغد .. أفيقي..لقد جلبت الماء.. أفيقي هيا .." بالكاد ترمش بعينيها.. فتحت علبة العصير و أدخلت طرف الماصة بداخلها و الطرف الآخر في فم رغد و ضغطت على العلبة حتى يتدفق العصير إلى فم رغد.. رغد حركت شفتيها قليلا.. ثم أخذت تبلع العصير.. ثم تشربه.. " اشربي.. اشربي .." أما دانة فأخذت إحدى قارورتي الماء و شربتها كاملة دفعة واحدة.. و تقاسمت أنا و رغد القارورة الأخرى.. " اشربي المزيد.. اشربه كله.. " الناس كانوا يدخلون و يخرجون من البقالة كل يحمل الطعام و الشراب.. دون مراعاة لأي حقوق.. و أي لياقة.. ففي وضع كالذي كنا عليه.. ينسى المرء نفسه.. استردت رغد وعيها الكامل .. و شيئا من قوتها.. " أأنت بخير الآن رغد ؟؟ أيمكنك النهوض ؟" أومأت برأسها إيجابا فنهضنا نحن الثلاثة و أنا مسندا إياها.. قلت : " سأجلب طعاما يمنحنا القوة لمتابعة السير" رغد قالت : " أنا متعبة.. لا أستطيع السير بعد.. لا أستطيع " و نظرت إلى دانة ، فقالت هي الأخرى : " و لا أنا.. دعنا نرتاح ساعة " و في الواقع ، جميع من كانوا يسيرون جلسوا للراحة و تناول ما امتدت إليه أيدهم من الطعام.. اخترنا نحن بدورنا موضعا لنجلس فيه .. بعيدا بعض الشيء عن الآخرين .. ذاك أني لم أشأ جعل الفتاتين عرضة لأعين الغير.. بعدما استقررنا هناك، أردت العودة إلى البقالة و إحضار أي طعام.. ألا أن رغد منعتني .. فالتزمت مكاني .. كنت أراها تضغط على جرحها من حين لآخر.. و تعبيرات وجهها تتألم و أسمعها تئن.. قلت : " أهو مؤلم جدا ؟ تحمّلي صغيرتي.. قليلا بعد" و لا يزيدها ذلك إلا أنينا.. " أنا متعبة " قالت و هي بالكاد قادرة على حمل رأسها و تكاد تسقطه .. و تدور بعينيها في المكان .. و تفرك يديها من البرد .. تفطّر قلبي لرؤيتها بهذا الشكل.. و لم أعرف ما أفعل؟؟ إن صغيرتي تتألم و على حافة الموت.. ماذا أفعل ؟ هي رأتني أراقب تحركاتها و تململها .. قالت : " أريد أن أنام " قلت : " اضطجعي و نامي صغيرتي.. " حركت رأسها اعتراضا.. بينما عيناها تكادان تنغلقان رغما عنها.. رأفت بحالها البائس.. و قلت بعطف : " اضطجعي رغد.. أنت متعبة جدا .. استرخي هيا.." رغد نظرت إلى دانة.. ثم إلى الناس ، ثم إلي بتردد.. قلت مشجعا : " هيا صغيرتي .. لا تخشي شيئا " و بادرت دانة بالاضطجاع .. بدورها.. فتشجعت رغد.. و همت بالانبطاح.. لكنها قالت قبل ذلك : " لا تذهب إلى أي مكان وليد أرجوك " قلت مطمئنا : " لا تقلقي، أنا باق ٍ هاهنا " ثم تمددت على الرمال.. و أغمضت عينيها .. أنا أيضا استلقيت على الرمال المجردة.. طالبا بعض الراحة .. و سرعان ما رأيت رغد تجلس و هي تنظر إلي و تقول : " هل ستنام ؟ " قلت : " كلا.. سأسترخي قليلا " و بدت مترددة .. قلت : " عودي للنوم رغد .. اطمئني " فعادت و استلقت على الأرض .. و سكنت قليلا .. قم عادت فجلست و ألقت نظرة علي ! قلت : " ماذا ؟؟ " قالت : " لا تنم وليد أرجوك " جلست مستويا ، و قلت : " لن أنام صغيرتي .. نامي أنت و أنا سأبقى أراقب ما حولنا .. اطمئني " و أخيرا اطمأن قلبها أو ربما تغلّب عليها النعاس و التعب ، فاستسلمت للنوم بسرعة.. في العراء.. ننام مفترشين الأرض الجرداء... ملتحفين السماء .. تهب علينا التيارات الباردة تجمّد أطرافنا .. فنرتجف .. و تقشعر أجسادنا و قلوبنا .. ثم لا تجد ما يدفئها و يهدئ روعها.. كان الليل يمر ساعة بعد أخرى.. دون أن نحسب الزمن.. عاد البدر يراقبنا و يشهد تشردنا .. و حال لم يخلق الله مثلها حالا .. أراقب الفتاتين فأجدهما مستغرقتين في النوم .. و أنا شديد الإعياء .. و السكون و الظلام مخيم على الأجواء.. و معظم الناس رقود.. النعاس غلبني أنا أيضا.. فقد نلت ما نلته من الإجهاد.. لكنني كنت أقاومه بتحد ٍ .. كيف لعيني أن تغفوا و فتاتاي نائمتان في العراء.. عرضة لكل شيء .. و أي شيء ؟؟ وقفت كي أطرد سلطان النوم ، و جعلت أحوم حول الفتاتين و أذرع المكان ذهابا و جيئة.. و أقترب منهما كل حين أراقب أنفاسهما.. و أطمئن إلى أنهما نائمتان و على قيد الحياة.. أنا متعب.. متعب.. أكاد أنهار.. رأسي دائخ و الكون يدور من حولي.. و عيناي تزيغان .. يا رب.. إن عينك لا تغيب و لا تغفل.. و لطفك و رحمتك وسعا كل شيء.. فاشملنا تحت حفظك.. أ اغمض عينيّ لحظة واحدة؟ فقط لحظة.. أهدئ من تهيجهما و حرارتهما.. لحظة واحدة يا رب.. و لم تطعني عيناي كما أبى قلبي أن يغفل عنهما طرفة عين... فيما أنا بهذه الحال.. بعد مضي فترة من الزمن.. أبصرت نورا يقترب منا قادما من آخر الشارع.. إنها سيارة ! السيارة الأولى التي تعبر هذا الشارع مذ تشرّدنا فيه .. لم تكن سوى سيارة حوض.. ما أن رآها بعض الناس حتى أسرعوا راكضين إليها طالبين النجدة.. أسرعت إلى الفتاتين و أيقظتهما : " رغد.. دانة .. هيا بنا بسرعة " فتحتا أعينهما مذعورتين ، و مددت يدي و أمسكت بيديهما و سحبتهما لتنهضا جالستين ثم واقفتين في فزع.. قلت : " لنلحق بالسيارة " و ركضت ساحبا إياهما حتى أدركنا السيارة و انضممنا إلى أفواج الناس الذين ركبوا حوضها سائق السيارة كان يهتف : " انتظروا لأعبئ خزانها وقودا " ألا أن الناس تشبثوا بها بجنون .. بعد ذلك انطلقت السيارة بمن حملت تسير بسرعة لا بأس بها.. كان بعضنا جالسا و البعض واقفا ، و كنا نحن الثلاثة ضمن الوقوف . كنا واقفين عند مقدمة الحوض، الفتاتان ملتصقتان برأس السيارة و أنا أكاد ألتصق بهما، فاتحا ذراعيّ حولهما أصد الناس عن ملامستهما.. بعد مسيرة ساعة أو أكثر .. لا أعلم تحديدا.. بلغنا مشارف إحدى المدن.. و أوقف السائق السيارة و قال : " امضوا في سبلكم" هبطنا جميعا و تفرقنا .. هذا هنا و هذا هناك .. باحثين عن ملاجئ لهم.. وقفت أنا حائرا.. إلى أين أذهب في هذا الليل الكئيب.. و معي هاتان الفتاتان المنكوبتان ؟؟ و تلفت من حولي فرأيت لا فتة تدل إلى طريق المدينة الزراعية ، و الكائنة على مقربة.. نجحت بعد جهد في إقناع السائق بإيصالنا إلى هناك ، و تحديدا إلى مزرعة نديم ، فهي الفكرة التي طرأت على رأسي المرهق هذه اللحظة ،.. بمقابل.. و شكرت الله أن جعلني أحمل محفظتي في جيبي مع المفاتيح.. ولم تكن المسافة طويلة ، وصلنا بعد فترة قصيرة إلى هناك.. هبطنا من السيارة و شكرت السائق .. و حثثت الفتاتين على السير معي.. قالت دانة : " إلى أين ؟ " قلت : " تقطن عائلة صديقي هنا، سأسألهم استضافتنا لهذه الليلة.. فنحن متعبون جدا " لقد كان كل ما سبق أشبه بالكابوس .. ألا أنه كان الواقع.. بوابة المزرعة كانت مفتوحة كالعادة ، مشينا متجهين نحو المنزل.. دانة تمسك بقميصي الموضوع حول رأسها، و رغد تجر قدمها المصابة.. و كلاهما تمسكان بيدي من الجانبين.. عند عتبات باب المنزل.. تركتاني لأصعد العتبات ، ثم أقرع الجرس، ثم ينفتح أسمع صوتا يسأل عن الطارق ، فأجيب : " وليد شاكر " ثم أرى الباب ينفتح ، و تظهر من خلفه ... أروى نديم . ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ |
اتسعت حدقتا الفتاة التي أطلت من فتحة الباب ... و ألقت علينا جميعا نظرة مذهولة و قالت :
" سيد وليد ! " وليد قال : " مساء الخير.. هل العم إلياس موجود ؟؟ " ردت الفتاة : " خالي في طريقه إلى هنا .. " ثم عاودت النظر إلينا أنا و دانة ، ثم قالت : " ما الأمر ؟؟ " قال وليد : " فررنا من القصف الجوي... نجونا بأعجوبة " الفتاة وضعت يدها على صدرها و شهقت .. ثم قالت : " أ ... أنت ... تقيم في المدينة الصناعية ؟؟ " أجاب وليد : " نعم ، مع عائلتي .. " و أشار إلينا.. ثم قال : " تدمرت مدينتا.. و الآن.. أصبحنا بلا مأوى.. " سرعان ما فتحت الفتاة الباب على مصراعيه و قالت : " هلموا بالدخول " وليد قال : " سننتظر العم إلياس.. " ألا أن الفتاة أصرت : " تفضلوا رجاء ... " ثم التفتت إلى الداخل و أخذت تنادي : " أمي ... " وليد الآن التفت إلينا و قال : " تعالا" ترددنا قليلا ألا أننا سرنا معه إلى الداخل ... و في النور استطعت أن أرى وجه الفتاة الذي لم يكن جليا قبل قليل... فتاة شديدة البياض و الشقرة... زرقاء العينين حمراء الخدّين.. أجنبية الملامح.. أقبلت سيدة أخرى نحونا و حين رأت وليد تهللت و رحبت به بحرارة.. السيدة كانت شديدة الشبة بالفتاة.. قالت الفتاة : " هربوا من المدينة الصناعية يا أمي ! " امتقع وجه السيدة ثم قالت : " أوه ربّاه ! حمدا لله على سلامتكم " و أخذت الفتاة تكرر ذلك أيضا .. قال وليد : " سلمكما الله ، شكرا لكما و أعتذر على حضوري إلى هنا ..لكننا بحاجة لمكان آمن نبات فيه ليلتنا هذه " السيدة الكبرى أشارت إلى وليد بالتوقف عن الحديث و عادت ترحب من جديد .. و التفتت إلينا أنا و دانة .. وليد قال : " شقيقتي و ابنة عمّي " قالت السيدة : " و أين أبواك ؟ " قلت : " لم يعودا من الحج بعد .. أو .. لا أعرف ما حصل معهما ! " قالت السيدة و هي تشير بيدها نحو المقاعد : " تفضلوا رجاء .. تفضلوا " أنا و دانة كنا ممسكتين بيد بعضنا البعض .. واقفتين بحذر و تردد.. وليد تحدّث إلينا قائلا : " تعالا .. لنجلس هناك " و سرنا معه إلى المقاعد.. و جلست دانة ملتصقة به و أنا ملتصقة بها.. وليد ألقى نظرة علينا ثم قال مخاطبا الفتاة : " هل لنا ببعض الماء من فضلك ؟؟ " " فورا " و ذهبت الفتاة و عادت تحمل قارورة كبيرة من الماء المعدني و كأسين اثنين.. ملأتهما ماءا و قدّمت الأول إلي و الثاني إلى دانة.. فشربنا بنهم شديد... المزيد و المزيد و المزيد... و وليد و الفتاة و السيدة يراقبوننا بشفقة ! ذهبت الفتاة و أحضرت قارورة أخرى و كأسا ثالثا و دفعتهما نحو وليد ... " تفضّل " وليد تناولهما و بدأ يشرب الكأس بعد الآخر حتى أفرغ معظم محتويات القارورة في جوفه.. أيّكم جرّب عطشا كهذا العطش ؟؟ ألا لعنة الله على الظالمين ... قالت السيدة مخاطبة الفتاة : " اذهبي و حضّري بعض الطعام.. حضّري الحساء و الشطائر " و أسرعت الفتاة منصرفة إلى حيث أمرت .. وليد قال : " نحن آسفون يا سيدة ليندا .. إننا" فقاطعته السيدة و قالت : " لا .. لا داعي لقول شيء يا بني .. ألف حمد لله على نجاتكم .. " ثم سمعنا صوت الباب ينفتح ، و يدخل منه رجل عجوز ... ما أن دخل حتى وقف وليد فوقفنا أن و دانة تباعا .. الرجل ذهل ، و قال بتعجب : " وليد ؟؟ " و أقبل وليد نحوه فصافحه ثم أخبره عما حصل معنا ما دعانا للحضور إلى هنا.. و العجوز لم يقل كرما عن السيدة و الفتاة .. بل رحب بوليد و عانقه و حمد الله كثير على سلامته.. حتى هذه الساعة لازلت بين الإدراك و إلا إدراك .. بين الحقيقة و الحلم ، و التصديق و التكذيب... و لازلت أشعر بتعب لا يسمح لي بالوقوف أكثر من ذلك.. خصوصا على قدم جريحة متألمة.. لذا فإنني هويت على المقعد و ألقيت برأسي على مسنده.. دانة جلست إلى جواري و ربتت على كتفي و قالت : " رغد.. أأنت بخير ؟؟ " أنا تنهّدت و أننت .. وليد أقبل هو الآخر نحوي قلقا .. و قال : " أأنت على ما يرام ؟؟ " أشرت إلى قدمي .. أنا أتألم.. وليد قال مخاطبا الرجل العجوز : " أيوجد لديكم مطهرا و ضمادا للجروح ؟؟" السيدة غابت ثوان ثم عادت تحمل ما يلزم .. وليد قال : " يجب غسلها أولا .. " السيدة قالت : " دورة المياه من هنا " ألا أنني هزت رأسي ممانعة.. و لزمت مكاني.. دانة قالت بصوت هامس تكلم وليد : " أنا أريد استخدام دورة المياه " وليد أستأذن أصحاب المنزل ، ثم نهضت دانة واقفة ، تغطي معظم وجهها بالقميص الموضوع على رأسها... اعتقد أن الرجل العجوز انصرف هذه اللحظة .. أما السيدة الأخرى فعادت تشير إلى ناحية الحمام : " من هنا .. " ذهبت دانة إلى دورة المياه ، و السيدة استأذنت و غادرت لدقائق.. و بقيت أنا متهالكة على المقعد و وليد واقف إلى جواري.. قال : " أأنت بخير صغيرتي ؟؟" لا ! كيف لي أن أكون بخير ؟؟ إنني في حال من أسوأ الأحوال التي مرت علي ّ ... بدأت بالبكاء ألا أن دموعا لم تخرج من عيني ... وليد جلس بقربي و قال : " ستكونين بخير.. نجونا من الموت .. الحمد لله " شعرت لحظتها برغبة في الارتماء في حضنه.. و البكاء على صدره.. و الاسترخاء بين ذراعيه.. أنا متعبة و أتألم.. أريد من يواسيني و يشجعني.. أريد حضنا يشملني و يدا تربت علي.. أريد أمي.. أريد أبي.. أريد وليد.. و لم أنل منه غير نظرات مشجعة.. أقبلت السيدة تحمل معها وشاحين.. قدّمتهما إلي.. نزعت ُ عن رأسي ما كنت أتحجّب به، و لففت أحد الوشاحين حول رأسي ، على مرأى من وليد ... و عندما عادت دانة ، و قد غسلت وجهها و قدميها الحافيتين أعطيتها الوشاح الآخر... قالت : " تعالي لأغسل جرحك رغد..." و أيضا لم أتحرّك .. ففوق تعبي و إعيائي و الدوار الذي أشعر به.. أنا خائفة.. نعم خائفة.. السيدة قامت بنفسها بإحضار وعاء يحوي ماء .. و وضعته عند قدمي ّ و قالت : " هل أساعدك ؟ " دانة قالت : " شكرا لك ، سأفعل ذلك " ثم أخذت تحل الضماد ـ و الذي هو عبارة عن كم قميص وليد ـ من حول قدمي .. و غمرتها بعد ذلك في الماء النظيف الدافئ.. بدأت الأوجاع تتفاقم و تتزايد..و أخذت أئن و أصيح .. لكنني لم أقاوم.. و استسلمت لما فعلته دانة بقدمي.. و أنا مغمضة العينين.. عندما فتحتهما كانت قد انتهت من لف قدمي بالضماد ... كما أن السيدة أحضرت ماءا نظيفا لأغسل قدمي الأخرى... كل هذا و أنا ملتزمة الصمت و السكون إلا عن أنات و صياح ألم.. و الآن، جاءت الفتاة تحمل صينية ملآى بالشطائر بينما يتبعها العجوز حاملا صينية أخرى رُصّت علب العصير الورقية فوقها... و وضعا الطعام و الشراب أمامنا و الفتاة تقول : " تفضلوا هذا لحين نضج الحساء " لم يمد أحدنا يده.. ما الذي يجعلنا نفكّر بالطعام في وقت كهذا ؟؟ فراح أصحاب المنزل يحثوننا على الطعام.. وليد تناول اثنتين من علب العصير و قدمهما لي و لدانة، فأخذت علبتي و شربت ما بها ببطء... أصحاب المنزل الثلاثة استأذنوا منصرفين عنا، ربما لنتصرف بحرية أكبر.. وليد أيضا وزع الشطائر علينا ألا أنني رفضت تناولها.. " خذي يا رغد.. لابد أنك جائعة جدا.. كلي واحدة على الأقل" " لا أريد " " هيا أرجوك .. ستموتين إن بقيت بلا طعام ساعة بعد " و لم يفلح في إقناعي.. لكنه و دانة تناولا شيئا من الطعام بصمت.. لحظات و إذا بالفتاة تقبل بأقداح الحساء الساخن.. و تقدمها إلينا ثم تنصرف.. أجبرت نفسي على رشف ملعقتين من الحساء.. ثم أسندت رأسي إلى المقعد و أغمضت عيني.. كنت أسمع أصوات الملاعق .. و حركة الأواني .. و ربما حتى صوت بلعهما للطعام و هضم معدتيهما له ! و أسمع كذلك صوت نبضي يطن في أذني.. و أنفاسي تنحشر في أنفي.. و الآن .. صوت وليد يناديني .. " رغد " فتحت عيني فوجدته ينظر إلي بقلق.. و يعيد السؤال : " أأنت بخير ؟؟ " قلت : " أنا متعبة " قال : " سأتحدّث معهم .. " ثم نهض و نادى : " أيها العم الطيب .. " ظهر الثلاثة من حيث كانوا يختبئون عنا .. قال وليد : " اعذرونا رجاء ً.. إننا في غاية التعب فقد قضينا ساعات طويلة نسير في الخلاء.. أين يمكننا المبيت بعد إذنكم ؟؟ " قالت السيدة : " ستنام ابنتي معي في غرفتي و يمكن للفتاتين المبيت في غرفتها.. سنعد فراشا أرضيا إضافيا " و قال العجوز مخاطبا وليد : " و أنت غرفتك كما هي " قال وليد : " هذا جيّد ... " ثم أضاف : " أشكركم جميعا جزيل الشكر.. إنني " و مرة أخرى قاطعته السيدة و قالت : " لا داعي لكل ذلك يا سيد وليد، ألم نكن كالعائلة؟ جميعكم أبنائي.. " ثم أضافت مخاطبة الفتاة : " خذي الفتاتين إلى غرفتك " الفتاة أقبلت نحونا و هي تبتسم و تقول : " تفضلا معي .. " كلانا نظرت إلى وليد بتردد.. فقال الأخير : " هيا عزيزتاي " و هز رأسه مطمئنا.. يبدو أنه على علاقة وطيدة بهم.. و يثق بهم كثيرا.. وقفت دانة و وقفت معها .. ثم قلت لوليد : " و أنت ؟ " قال : " سأبات في غرفة في الخارج تابعة للمنزل " هززت رأسي اعتراضا شديدا ... مستحيل ! و عوضا عن مرافقة الفتاة اقتربت منه هو ، و قلت : " لن تذهب و تتركنا " قال : " إنها غرفة خارجية اعتدت المبيت فيها.. ملاصقة للمنزل تماما " هززت رأسي بإصرار أشد : " لا .. لا " وليد نظر إلي بضيق و تعب و أسى .. كأنه يرجوني أن أطلق سراحه و أدعه يرتاح قليلا.. قال : " ستكونين بخير.. هذه عائلتي " ألا أنني ازددت إصرارا و رفضا و قلت : " سأذهب معك " وليد و دانة تبادلا النظرات .. و لم يعرف أي منهما ما يقول.. مددت يدي فأمسكت بيده مؤكدة أكثر و أكثر بأنني لن أسمح له بالابتعاد عني.. أخيرا تكلّم وليد مخاطبا أصحاب المنزل : " إن لم يكن في ذلك ما يزعجكم .. فسنبيت في الغرفة الخارجية نحن الثلاثة.. و نحن آسفون لكل ما سببناه لكم من إزعاج .. " العجوز تكلّم و قال : " كما تشاءون يا بني.. سأجلب المزيد من الفرش و البطانيات لكم " و تحرك الثلاثة ، و أحضروا البطانيات و حملوها سائرين نحو الباب، و سرنا معهم إلى خارج المنزل .. كانت الغرفة المقصودة هي غرفة تابعة للمنزل مفصولة عنه بجدار مشترك.. و كانت صغيرة نسبيا و بداخلها سرير صغير و أثاث بسيط ، و تتبعها دورة مياه صغيرة قريبة من الباب.. الثلاثة و معهم وليد تعاونوا في تحضير فراشين أرضيين على المساحة الحرة من الغرفة.. و حالما انتهوا ، قال العجوز .. " أتمنى لكم نوما هانئا " و عقّبت السيدة : " تصبحون على خير" أما الفتاة فقد أسرعت بالذهاب ثم العودة بصينية الشطائر و بعض العصائر .. و وضعتها على المنضدة الصغيرة التابعة لأثاث الغرفة و هي تقول : " فيم لو احتجتم أي شيء فلا تترددوا في طلبه ! " وليد قال : " شكرا جزيلا..هل نستطيع استخدام الهاتف ؟ " قال العجوز : " بكل تأكيد.. " فشكرهم كثيرا و كذلك فعلت دانة ، ثم انصرفوا ... و فور خروجهم أقفل وليد الباب و أقبل إلى الهاتف .. و اتصل بأحد الأرقام .. و كان أول ما نطق به بعدها و بلهفة شديدة : " سامر يا عزيزي .. أأنت بخير ؟؟ " ]]]يتبع]]] |
الحلقةالسادسةوالعشرون
********* مضطجعة على السرير.. في غرفة أناس غرباء.. مكان مظلم و بارد.. ألتحف لحافا و بطانية خفيفين.. لا يكادان يدفئان أطرافي كما ينبغي.. أتقلب يمينا و يسارا.. محاولة ضبط جسدي في وضع يريحه و يخفف آلام قدمي الممتدة لكامل الرجل و الظهر أيضا.. و كلما لففت يمنة .. وقع نظري على تلك الكومة من اللحم و الشحم البشري المتمددة على فراش أرضي.. و المدثرة بلحاف و بطانية شبيهين باللذين يغطياني، يخفيان الرأس و لا يكادان يغطيان القدمين اللتين تبرزان من تحتهما.. بحجميهما الكبيرين و شكليهما الأشبه بالسفينة ! مسكين وليد ! لابد أن عدد الخلايا الحسية في قدمه هو أكثر بكثير من قدمي أنا.. و لابد أنه تألم كثيرا و هو يركض و يمشي حافيا عليها ! أوه و لكن لم علي التفكير بقدم وليد في ساعة كهذه و حال كهذه ؟؟ أم أن الآلام التي أشعر بها في قدمي أنا جعلتني مهووسة بالأقدام؟؟ أكثر شيء أراحني ، و جعلني أستلقي بطمأنينة على هذا السرير هو تحدّثي إلى والدي ّ و اطمئناني عليهما ، و كذلك على سامر و خالتي و عائلتها.. الحمد لله أنهم جميعا بخير ... و رغم التعب الذي كنت أعانيه، لم أنم مباشرة مثلما نام وليد و دانة على فراشيهما الأرضيين.. لقد كنت أشعر بالبرد... رغم أن جسدي متعرق.. جلست.. و أخذت أنظر نحوهما.. كانا مستغرقين في نوم عميق .. لا تصدر عن أي منهما أي حركة... نهضت عن سريري و توجهت نحو الخزانة الصغيرة الموجودة في الغرفة، و أنا أعرج .. بحثا عن بطانية أخرى... فتحت الخزانة و ألقيت نظرة على ما بداخلها، لم أجد أي بطانية أو لحاف .. أثناء إغلاقي لها أصدرت صوتا ... فالتفت مباشرة إلى النائمين أستوثق من عدم استيقاظهم بسبب الصوت.. دانة لم تتحرك البتة ، أما كومة الشحم و اللحم البشرية تلك فقد تحركت .. و أُزيحت البطانية قليلا.. فظهر الرأس .. و العينان.. و الأنف المعقوف .. و الشفتان.. و الذقن الملتحي أيضا ! وليد نظر إلي برهة نظرة ساذجة، ربما كان نصف نائم.. ثم بدأ تركيزه يحتد و يشتد .. ثم حملق بي في قلق و استوى جالسا " ما الأمر ؟ " سألني ذلك ، فقلت : " آسفة.. كنت أبحث عن بطانية أو ما شابه" نظر وليد نحو السرير ليتأكد من وجود بطانية معدة لي ، ثم إلي .. فقلت موضحة : " إنها خفيفة .. " قال : " أتشعرين بالبرد ؟ " " نعم.. " ثم رأيته ينهض، و يحمل بطانيته و يضعها فوق بطانيتي... قال : " ستدفئين هكذا " شعرت بالخجل من تصرفه و الحرج .. قلت بسرعة : " أوه كلا وليد.. " قال : " إنني لا أشعر بالبرد على أية حال.. اللحاف هذا يكفيني " طأطأت رأسي خجلا و أنا أنطق بحروف الشكر ... وليد عاد إلى فراشه الأرضي و غطى جسده كاملا باللحاف ! رجعت أعرج نحو السرير و تدثرت بالبطانيتين مع اللحاف... و استمد جسمي الحرارة ، لا من الأغطية المنشورة فوقي ، بل من المدفئة الملتهبة التي تبعث حرارة و تقدح لهيبا في الغرفة ... مكومة هناك.. على ذلك المفرش الأرضي، ملفوفة باللحاف كالشرنقة ! يا إلهي ما أجمله من شعور ! و لأنه لم يعد باستطاعتي رؤية أية أقدام كلما تلفت ، فإن هوس التفكير بها غاب عنّي .. و سمح لدماغي بالصفاء.. و بالتالي بالاستسلام للنوم... نومتي لم تكن بالنومة الطبيعية على الإطلاق.. رأيت كوابيس مزعجة جدا و استيقظت عدّة مرات فزعة.. أرى نفسي في العراء.. و الناس تركض... و النار تحيط بنا .. أسمع صراخ الناس.. و دوي الانفجارات.. و أرى جنودا يركضون نحوي.. أحاول الوقوف لأهرب، لكن قدمي المصابة تعيقني... أصرخ و أصرخ ... و أرى وليد يركض مع دانة مبتعدين .. فأمد يدي طالبة العون.. و ما من معين.. ثم تقترب النيران مني و تلسعني ألسنتها... فأصرخ بأعلى صوتي.. ثم يظهر سامر لا أعلم من أي مكان.. و وجهه يحترق.. و يقول : " لماذا فعلت ِ هذا بي ؟؟ " استيقظ من النوم فزعة مرعوبة ، أتلفت إلى ما حولي ، فأجد نفسي في غرفة صغيرة مظلمة ... مضطجعة على سرير .. و أرى وليد و دانة نائمين على مقربة مني... أنهض عن سريري و اقترب منهما لأتأكد .. أهما وليد و دانة ؟؟ أأنا في حلم ؟؟ فأرى وجه دانة الغارق في النوم .. و شعرها المبعثر على الوسادة... نعم هي دانة.. و هي حية .. و تتنفس.. ثم التفت ناحية وليد.. المغطى باللحاف كليا ، فلا أجد ما يثبت أنه وليد.. و أنه حي .. و يتنفس ! أبقى أراقبه بتركيز حتى ألحظ حركة طفيفة يصدرها صدره .. فيطمئن قلبي إلى أنه حي .. و يتنفس .. لكن .. هل هذا وليد ؟؟ أمد يدي بحذر و بطء.. و جنون.. نحو طرف اللحاف فأزيحه قليلا عن قدمه.. كبيرة كالسفينة ! لا شيء يدعو للشك ! إنه وليد حتما ! يطمئن قلبي و أعود أدراجي إلى سريري الدافىء... نعم أنا بخير.. نعم لقد نجونا.. نعم كان كابوسا.. نعم أنا متعبة.. و بالتأكيد سأنام ... في المرة الأخيرة التي نهضت فيها..كانت حالتي سيئة جدا ... ~ ~ ~ ~ ~ كنت غارق في النوم لأبعد الحدود ، بعد العناء الذي مررنا به .. توقعت ألا أنهض قبل مضي 20 ساعة على الأقل ! ألا أنني نهضت على صوت ما ... فتحت عيني و بقيت لحظة في سكون ، إلى أن أفاقت جميع خلايا الوعي النائمة في دماغي ، ثم بدأت حواسي تعمل بشكل جيد ، و تميز الصوت و معناه ... كان صوت رغد.. و كانت تناديني .. التفت ناحية السرير الذي كانت رغد تنام فوقه فرأيتها تجلس على حافته في إعياء شديد ، بالكاد تسند جدعها كانت عيناها شديدتي الاحمرار .. و وجهها شديد الشحوب .. تعبيراتها تنم عن التألم و الإرهاق اجتاحني القلق بغتة ، وقفت بسرعة و قلت : " رغد .. ما بك ؟؟ " نبست شفتاها عن أنة .. تلتها تنهيدة وجع ... ثم قالت بوهن : " متعبة.. دوار.. " ثم رأيت القشعريرة تسري في جسدها ... اقتربت منها قلقا .. و أبصرت زخات من العرق تبلل وجهها قلت : " سلامتك " قالت : " أظن أنني محمومة .. أريد مسكنا " ثم ارتمت على السرير بضعف ... رغد تبدو مريضة جدا.. قلت : " أ نذهب إلى الطبيب ؟ " رغد أنت.. أنين مريض مرهق. قلت : " استعدي للذهاب . سأعود في الحال " و توجهت نحو الباب ، فنادتني بوهن : " وليد " التفت إليها فوجدتها عاجزة عن رفع رأسها عن السرير .. قلت : " سأطلب من العم إعارتنا سيارته " و قبل خروجي نظرت إلى دانة ، و ناديتها عدة مرات ألا أنها كانت في نوم عميق.. عندما خرجت من الغرفة و سرت باتجاه باب المنزل لمحت العم إلياس على مقربة.. و كان يزيل بعض الأوراق و الأغصان المتساقطة من على الأرض.. إنه الصباح الباكر و هذا الرجل معتاد على النهوض باكرا من أجل العمل ... اقتربت منه و أنا أقول : " صباح الخير أيها العم الطيب " التفت إلي و ابتسم ابتسامة جميلة و رحب بي بكل بشاشة و بشر ... قال : " نهضت باكرا ! هل اكتفيت من النوم بهذه السرعة ؟؟ " قلت : " لازلت متعبا أيها العم ، بصعوبة أديت صلاتي قبل فوات وقتها.. " " إذن لم قمت باكرا هكذا ؟ " قلت : " ابنة عمّي متعبة.. أريد أخذها إلى المستوصف القريب.. فهل تسمح بإعارتي سيارتك؟؟" العم قال بسرعة : " أيعقل أن تسأل هذا يا وليد؟ بل أنا من سيوصلكما إلى هناك.. أنسيت يوم اصطحبتنا نحن إلى هناك؟ جاء وقت رد الجميل ! " قلت : " لا أريد إزعاجك أيها العم " " عن أي إزعاج تتحدّث ؟ كما و أن لي حاجة من مكان قريب من المستوصف ، أنا ذاهب لجلب السيارة أمام المنزل " و ولى مسرعا ... لم يكن لدى العائلة سوى سيارة حوض .. زرقاء اللون ، يستخدمونها رئيسيا لنقل الثمار إلى سوق الخضار.. و هي سيارة لا تتسع لأكثر من ثلاثة أشخاص... قبل أن أعود إلى الغرفة ، ظهرت الآنسة أروى خارجة من المنزل ، تحمل طبقا مسطحا كبيرا حاويا كمية من حبوب الأرز... أروى حالما رأتني بادرت بالتحية : " صباح الخير يا سيد وليد " قلت ببعض الحرج : " صباح الخير سيدتي " قالت : " أنتمتم بشكل جيد ؟ " " الحمد لله " " هل نهضت الفتاتان ؟ " " كلا ، أعني نعم.. أقصد واحدة نعم و واحدة لا " قالت : " الباب مفتوح لكم لدخول المنزل أنى شئتم.. سأعد لكم طعام الفطور بعد قليل " " شكرا لكم. غمرتمونا بكرمكم " " إنه واجبنا بل من دواعي سرورنا .. " و هنا أقبل العم يقود سيارته... و أوقفها على مقربة .. سألت الفتاة : " إلى أين يا خالي ؟؟ " قال : " إلى المستوصف " " المستوصف ؟؟ " قلت موضحا : " لأخذ ابنة عمّي فهي متعبة " قالت : " سلامتها " " سلمكم الله " شكرتها و استأذنت و عدت إلى الغرفة.. كانت رغد لا تزال على نفس الوضع الذي تركتها عليه... و مغمضة العينين حين أحسّت باقترابي فتحتهما بإعياء ... " صغيرتي .. هيا بنا " بصعوبة بالغة تحركت.. و مشت خطواتها العرجاء فلما صارت قربي التفتت إلى دانة .. حرت في أمري... فمن جهة ، لا أريد ترك دانة وحدها هنا.. و من جهة أخرى لا أريد إفساد نومها العميق ، كما و أنا السيارة لا تتسع لها .. في النهاية قلت : " سندعها نائمة .. " و لولا التعب لنطقت رغد بكلمات الاعتراض المرسومة على وجهها ، ألا أنها سارت باستسلام و عجز... أغلقت الباب تاركا المفتاح في الداخل.. و حين أصبحنا قرب السيارة قلت مخاطبا الآنسة أروى : " من فضلك سيدتي.. هللا تفقدّت شقيقتي بين حين و آخر ؟ إنها لا تزال نائمة هناك .. و لا تعرف عن خروجنا " أروى قالت : " اطمئن .. لسوف أذهب و ألازم الغرفة لحين عودتكما ! " قلت : " شكرا لك ، أخبريها أننا ذهبنا للمستوصف القريب و سنعود قريبا " التفتت بدورها إلى رغد و قالت : " سلامتك " رغد لم تجب و اكتفت بنظرة كئيبة نحو الآنسة أروى. قلت أنا : " شيء آخر يا سيدتي و استميحك عذرا على ثقل ظلّنا... " " تفضّل دون حرج يا سيد وليد " نظرت إلى رغد في خجل و قلت : " عباءة .. إذا أمكن " الآنسة أروى قالت : " بالتأكيد " و أسرعت إلى داخل المنزل ، و عادت تحمل عباءة .. و زوجين من الأحذية المطاطية ، التي يرتدونها عادة أثناء العمل ... انتبهت حينها فقط إلى أنني و رغد كنا لا نزال حافيين أيضا ! بعدما ارتدينا الأحذية المطاطية تلك ، و ارتدت رغد العباءة ، تقدمنا نحو السيارة فصعدت أنا أولا ثم رغد من بعدي... و قد كادت تتعثر .. إن من شدة التعب و الدوار ، أو من علو عتبة السيارة ، أو من طول العباءة التي ترتديها ! حينما بلغنا المستوصف، دخلته و رغد فيما ذهب العم لقضاء حاجاته على اتفاق بالعودة فور فراغه منها.. هناك، استلقت رغد على سرير الفحص و أقبلت الممرضة لقياس العلامات الحيوية لها، ثم قالت : " حرارتها مرتفعة جدا! أربعون درجة و نصف !" و أحضرت كيسا يحوي مجروش الثلج و وضعته على رأس رغد، بينما قامت ممرضة أخرى باستدعاء الطبيب المسؤول. ثوان و إذا بالطبيب يحضر.. و هو رجل في نحو الثلاثين من العمر.. ما أن أقبل حتى استوت رغد جالسة.. اتخذ الطبيب مجلسه على مقعده الوثير خلف المكتب، و أمسك بالقلم و إحدى الأوراق بين يديه و بدأ يسأل : " مم تشكو الفتاة ؟ " توليت أنا شرح حالتها مجملا .. و أخبرته عن الجرح العميق في قدمها. الآن .. يقف الطبيب و يقبل نحو سرير الفحص و يقول : " بعد إذنك " وقفت أنا دون حراك ، بينما حاولت الممرضة إغلاق الستارة حول السرير.. لتحول بيني و بينه.. و بادرت الممرضة الأخرى بفتح الضماد من حول قدم رغد المصابة... في هذه اللحظة هتفت رغد : " وليد " لم أتحرك من مكاني، لا للأمام و لا للخلف.. و الممرضة تنظر إلي منتظره ابتعادي.. قال الطبيب : " أنت شقيقها ؟ " قلت : " تقريبا...، ابن عمّها " و نظرت إلى رغد فقرأت على وجهها الفزع المهول... قال الطبيب : " استلقي يا آنسة " و الذي فعلته رغد هو أنها همت بالنهوض فجأة... اقتربت أنا منها فأمسكت بذراعي ...لأساعدها على النهوض... قلت : " رغد .. " رغد هزت رأسها نهيا بإصرار... قال الطبيب : " ألا تريدين مني أن أفحصك ؟ " رغد قفزت من السرير واقفة على قدميها ، ثم صرخت تألما ... قلت : " رغد اصعدي .. دعيهم يرون الجرح على الأقل " لكنها عوضا عن ذلك تشبثت بي أكثر و قالت : " لا " التفت إلى الطبيب الواقف جوارنا ينظر باستغراب و قلت : " إنها خجولة جدا " ثم أضفت : " ألا يوجد طبيبة امرأة ؟ " قال : " للأسف لا " ثم تنحى جانبا .. و ابتعد.. تحدّثت إلى رغد الواقفة على قدمها بألم و قلت : " أرجوك صغيرتي ، لندع الممرضة تعقم الجرح " و لم تقتنع بسهولة.. بعدما صعدت على السرير ، و هي لا تزال متشبثة بي، و كشفت الممرضة عن الجرح.. تأملته ثم قالت موجهة الحديث إلى الطبيب : " دكتور.. إنه ملتهب جدا " الطبيب أقبل من جديد يريد إلقاء نظرة على الجرح فرفضت رغد ذلك و دلّت رجليها أسفلا.. قال الطبيب يحدث الممرضة : " خرّاج ؟ " " نعم يا دكتور.. ملوث جدا " الكلمات أقلقتني.. قلت مخاطبا رغد : " دعيه يلقي نظرة " لكنها أصرت على موقفها بل و همّت بالنهوض... " هيا رغد فنحن جئنا للعلاج .. " و خاطبت الطبيب : " أرجوكم طهروه و اعتنوا به كما يجب " بصعوبة بالغة سمحت رغد للطبيب فقط بإلقاء نظرة عن كثب على الجرح.. و ما أن رآه حتى قال : " بحاجة إلى تنظيف جراحي " قلت قلقا : " تنظيف جراحي ؟؟ " " نعم ، في غرفة العمليات الصغرى.. و لابد من أدوية قوية لأن الجرح ملتهب للغاية " الخوف تملكني أنا ربما أكثر من رغد المذعورة بين يدي... رغد .. جرح .. التهاب.. عملية .. أدوية .. ؟؟ ألطف يا رب.. ألطف يا رب.. قلت : " ماذا علينا فعله ؟؟ " " ننقلها إلى غرفة العمليات الصغرى الآن ، و تحت المخدر الموضعي يقوم الجراح بتنظيف الجرح و تعقيمه.. " نظرت إلى رغد .. و الذعر المخيم على وجهها .. و الرفض الصارخ من عينيها.. فقلت : " رغد " و لم أتم ، إذ أنها هتفت فجأة مقاطعة : " لا " واجهت وقتا عصيبا مع هذه الفتاة حتى وصلنا إلى غرفة العمليات المعنية ، و خرقت القوانين بدخولي رغم عدم السماح بذلك.. أنى لي أن أترك صغيرتي وحدها هكذا !؟ مستحيل و رغم المخدر الموضعي الذي حقنت به ، ألا أنها تألمت بشدة و صرخت بعنف و هي تستنجد : " وليد.. وليد .. " كانت تمسك بي بقوة، تغرس أظافرها في ذراعي.. و كلّما لُمِست قدمها ، صرخت و أو عضت على أسنانها .. و كلما فعلت ذلك صرخت أنا بهم : " على مهلكم إنها تتألم .. أي مخدّر هذا ؟؟ " أنظر إليها و أهدىء و أشجع ، و أنظر إليهم و أصرخ و أعنّف .. و أنظر إلى نفسي فأرى النار تكاد تندلع من أعصابي و تشب في جسدي من صراخ رغد... كم تمنيت.. لو أن الجرح كان في قدمي أنا.. في قدمي ّ الاثنتين .. في كل جسدي .. يقطعني و يحرقني و يكويني .. و لا أن يصيب خدش واحد حتى أحد أظافر قدمها.. كم كنت قاسيا يوم جعلتها تركض حافية القدمين و عرضتها لكل هذا... أما كان باستطاعتي حملها طوال المشوار ؟؟ أأعجز عن رفع صغيرتي عن أذى الأرض.. و هي التي تربت متعلقة بعنقي ؟؟ ما ينفعني الندم الآن .. و قد سمحت للآه بالانطلاق من صدر فتاتي .. و للدموع بالانسكاب من محجريها .. و للألم باعتصار قدمها و تعذيبها كل هذا الوقت.. يا رغد.. إنك إن تصرخين مرة تصرخ شرايين قلبي ألف مرّة ... و إن تبكين دمعة يبكي قلبي بحرا من الدم ... و إن تتلوين ألما فإن أحشائي في داخلي تتمزق إربا إربا .. و إن تغرسين أظافرك في بدني فأنا مغروس في حبك بعمق طبقات الأرض كلها... في نهاية الأمر اضطر الطبيب لحقنها بمخدر منوم... ثوان ٍ و إذا بي أشعر بأظافرها تخرج من جسدي.. و قبضتها تخف الضغط علي .. و عضلاتها ترتخي .. و شيئا فشيئا تسقط يديها على جانبيها و يترنح رأسها للأسفل ... فزعت، رفعت رأسها و ناديت : " رغد ؟؟ " لكنها كانت غائبة عن الوعي.. التفت إلى الطبيب الجرّاح و الممرضات و قلت : " ماذا حدث لها ؟؟ " قال إحداهن : " نامت تحت تأثير المخدّر " لم أشعر بالطمأنينة ، قلت موجها كلامي إلى الطبيب : " أهي بخير يا دكتور ؟؟ " قال : " نعم ، إنه مجرد مخدّر .. ستنام لساعة أو أكثر... أسندت رأس صغيرتي إلى الوسادة.. و تأملت وجهها ببقايا من القلق.. كانت هناك دمعتان معلقتان على خديها .. آخر السيل ... و ببساطة ...مددت يدي و مسحتهما ... بعد ذلك ظللت أراقب الطبيب و من معه و هم يعقمون الجرح ... و حالما فرغوا قال الجرّاح : " أنصح بنقلها إلى مستشفى حيث يتم إدخالها و إعطائها الجرعات اللازمة من الأدوية الضرورية لفترة من الزمن " ذهلت و تملكني الهلع ، فقلت : " لم يا دكتور ؟ ما بها ؟؟ " قال : " الجرح ملتهب بشكل سيء .. نحن نظفناه و عقمناه جيدا و حقناها بمضادات السموم و لكنها بحاجة إلى أدوية أخرى لإتمام العلاج " زاد قلقي " هل هناك خطر عليها ؟ أخبرني رجاء ؟ " " الخشية من أن ينتشر الالتهاب أعمق من ذلك . جرح عميق .. قدم حافية .. شارع طويل .. خطورة أكبر " فيما بعد ، نقلت رغد إلى غرفة للملاحظة.. فإضافة إلى جرحها الملتهب ، هي مصابة بجفاف و انخفاض في سكر الدم .. كانت غرفة صغيرة حاوية على سريرين تفصل بينهما ستارة قماشية لم تحس رغد بالدنيا من حولها مذ حقنت بالمخدر.. وضعناها على السرير و استبدلت الممرضة قارورة السائل الوريدي الفارغة بقارورة أخرى أكبر حجما.. ثم انصرف الجميع تاركينها نائمة و أنا جالس على مقعد إلى جوارها... كانت هادئة جدا.. و غارقة في النوم لأبعد الحدود.. كطفل بريء.. رؤيتها هكذا قلبت في رأسي ذكريات الماضي... كم و كم من المرات... كنت أتسلل خلسة إلى غرفة طفلتي ألقي عليها نظرة و هي نائمة بسلام... و أحيانا أجلس بقربها .. و أداعب خصلات شعرها الأمس... و في أحيان أخرى.. كنت أطبع قبلة خفيفة على جبينها و أهمس في أذنها : " أحلاما سعيدة صغيرتي " لم أحتمل ألم هذه الذكرى ... انطلقت دموعي رغما عني .. شاقة طريقها النهائي إلى الموت.. لو كان الزمان يعود للوراء تسع سنين فقط.. تسع سنين فقط.. لكنت اقتربت من صغيرتي أكثر.. و أخذتها بين ذراعي .. و ضممتها إلى صدري بقوة .. بقوة.. أواسيها .. أشجعها.. أشعرها بالأمان و الطمأنينة.. و الحنان و الحب.. بالدفء و الحرارة.. آه لو يرجع الزمان للوراء ... آه لو يرجع ... و فيما أنا أبكي في نوبة الذكرى الجنونية هذه ، طرق الباب ثم أقبلت إحدى الممرضات تقول : " معذرة هل اسمك السيد وليد شاكر ؟؟ " مسحت دموعي بسرعة و هببت واقفا مجيبا : " نعم " قالت و هي تنظر إلى بشيء من الاستغراب : " هناك رجل عجوز يسأل عنك في الخارج " و تذكرت لحظتها إلياس و اتفاقي معه ! خرجت معها فرأيت العم إلياس يقف عند الممر .. ما أن رآني حتى بادر بسؤالي عن حال قريبتي .. " الحمد لله.. ستتحسن " قال : " هل تحتاج للبقاء هنا ؟ " " أنا آسف لأنني عطّلت مشاغلك يا عمي ، إنها تتلقى سائلا وريديا الآن.. و قد يطول هذا لساعة أو ربما أكثر ... " قال : " لا بأس عليكم . أ هناك ما تود مني فعله يا بني ؟؟ " " شكرا لك عمّاه ، فعلت الكثير .. أرجوك انه مشاغلك و أنا سأبقى معها لحين تحسنها.. سأستقل سيارة أجرة أو أتصل بكم حين فراغنا " و على هذا افترقنا . عمدت إلى هاتف وجدته أمامي فاتصلت بمنزل نديم و اطمأننت على دانة، و التي كما أخبرت كانت لا تزال نائمة ! عدت من ثم إلى صغيرتي فوجدتها كما تركتها ، نائمة كالملاك... غير أنها رفعت ذراعها فوق الوسادة ، في وضع اعتقدت أنه يعيق جريان السائل الوريدي إلى عروقها.. لذا اقتربت منها و ببطء و هدوء و حذر شديد حرّكت يدها و مددت ذراعها إلى جنبها .. في هذه اللحظة فتحت رغد عينها نصف فتحة .. فوقعت في أمري و تسارعت ضربات قلبي فجأة... دافعة الدماء إلى وجهي بعنف و غزارة ! تركت يدها تنزلق من بين أصابعي خجلا .. رغد قالت بصوت خفيف غير طبيعي : " وليد.. أنت لم تُضِع الميدالية أليس كذلك ؟؟ " اضطربت .. و لم استوعب ما قالت ... قلت : " ماذا ؟ " لكن رغد أغمضت عينيها و بدت غارقة في النوم ! " رغد ..؟؟ " لم تجبني .. ما جعلني استنتج أنها ربما كانت تحلم .. و أنها لم تكن واعية .. و أنها لن تتذكر هذا ! الحمد لله ! ضبطت البطانية لتشمل ذراعها تحتها .. و عدت إلى مقعدي المجاور .. مرت الدقيقة بعد الأخرى.. شعرت بالإعياء و عاودتني الأوجاع الجسدية التي تجاهلتها منذ نهوضي على صوت رغد هذا الصباح .. و غزاني النعاس... و النوم سلطان على من لا سلطان عليه ! ~ ~~~~~~~ |
كأنني أحلّق في عالم جميل... أطير فوق السحاب.. في قمة الراحة و الاسترخاء.. لا ألم .. لا ضيق .. لا شيء سوى شعور بالدغدغة في داخلي !
فتحت عيني لأرى الجنة التي أحس بنفسي أنعم فيها.. فرأيت جنة مختلفة لا تتفق و الشعور الجميل الذي أحسه .. أنام على سرير أبيض الألحفة.. تحيط بي الستائر البيضاء.. و تتدلى قارورة ما من أعلى عمود ما.. موصولة بأنبوب طويل ينتهي طرفه الثاني داخل وريدي ! جلست بسرعة أتلفت من حولي.. إنني في المستشفى راقدة على سرير المرض ! متى وصلت إلى هنا ؟؟ كيف وصلت إلى هنا؟؟ أين وليد ؟؟ أصابني الروع ، دفعت باللحاف بعيدا عني و قفزت من على السرير .. و طأت الأرض مرتكزة على قدمي المصابة ، فشعرت ببعض الألم .. سحبت ذلك العمود الحديدي ذا العجلات معي و سرت خطوة و أنا حافية ، و فتحت الستارة.. كنت أتوقع رؤية وليد خلفها.. لكنه لم يكن هناك تزايدت خفقات قلبي و تزاحمت أنفاسي و هي تعبر مجرى هوائي... توجهت إلى الباب مسرعة ، أعرج بشدة.. و فتحته باندفاع.. و صار مشرعا أمامي كاشفا ما بعده .. ممر .. غرف.. انعطافات.. أناس يمشون إلى اليمين ، و أناس إلى الشمال.. و ممرضة تقف في الجوار.. تنظر إلي.. و تتحدث إلى طبيب ما .. آخرون يقفون على مبعدة.. أناس كثر..كثر.. ألا أن وليد ليس من بينهم.. كدت أنهار..كدت أصرخ..كدت أهتف..لكن الشهقة التي انحشرت داخل صدري حُبست عن الخروج.. الممرضة و الطبيب الآن يقتربان نحوي.. أنا أتراجع.. داخل الغرفة.. يصلان عند الباب و يوشكان على الدخول .. تبتسم الممرضة و تقول : " هل أنت أفضل حالا الآن ؟؟ " يسأل الطبيب : " كيف تشعرين ؟ " أنا أنظر إليهما بذعر .. يداي ترتعشان.. و رجلاي أيضا.. أفقد توازني و أقع أرضا ... و ينشد الأنبوب الموصل بوريدي خارجا من يدي.. و يترنح في الهواء راشا السائل من حولي .. الممرضة تنحني مادة يدها إلي.. أنا أصدها و أصرخ : " ابتعدا عني " يتبادلان النظرات .. ثم يقولان معا : " أ أنت بخير ؟ " أنا أصرخ مستغيثة : " وليد .. وليد " يتبادلان النظرات ، ثم تقول الممرضة و هي تشير بيدها نحو الستارة : " قريبك هناك ! " التفت نحو ما أشارت إليه ، السرير الثاني في الغرفة و شبه المحجوب بالستارة.. أنظر إليها، ثم أحاول النهوض و جسدي ترتجف.. تحاول هي مساعدتي فأصرخ : " لا " أهب واقفة قافزة نحو الستارة .. أمسك بها و أفتحها باندفاع.. فتقع عيناي على وليد نائما فوق السرير... " وليد ! " اقتربت منه أكثر و أكثر... و هتفت : " وليد .. " وليد لم يفق ، أمسكت بكتفه و هززته و أنا أناديه لأوقظه ... وليد أحس أخيرا ، و فتح عينيه و نظر إلي... الذعر كان محفورا على وجهي مما جعل وليد يجلس بسرعة متوترا و يقول باضطراب : " صغيرتي ماذا جرى ؟ " بجنون التصقت بذراعه و أنا أرتجف خوفا.. كنت خائفة حد الموت.. صرخت بوجهه : " لماذا تركتني وحيدي ؟ " و قفزت دموعي من عيني.. " لماذا وليد ؟ إنهم يريدون إيذائي .. لماذا تتركني وحدي ؟ " وليد أمسك بيدي و حاول تهدئتي : " بسم الله الرحمن الرحيم ، صغيرتي أنا هنا معك " نظرت إليه وسط الدمع و صرخت : " لماذا تركتني وحدي ؟ " " أنا هنا رغد.. معك ! غلبني النعاس فنمت على هذا السرير.. لا تفزعي أرجوك " قلت مجهشة باكية : " أنا أخاف من البقاء وحيدة.. متى تدرك ذلك؟ لماذا تبتعد عني ؟ أتريد أن تقتلني ؟ " وليد جعلني أجلس على السرير .. و وقف هو أمامي يردد عبارات الأسف و التهدئة و الطمأنة ... كل هذا و الطبيب و الممرضة لا يزالان واقفين مندهشين في مكانيهما.. بعدما سكنت روحي من روعها و استرددت طمأنة نفسي .. سألني وليد : " أتشعرين بتحسن ؟ " " نعم " وليد نظر إلى الساعة المعلقة على الحائط المقابل ، و كانت تشير إلى الحادية عشرة و النصف .. ثم وجه خطابه إلى الطبيب قائلا : " أيمكننا الانصراف الآن ؟ " قال الطبيب: " نعم ، سأكتب للمريضة وصفة أدوية ، ألا أنني أفضل نقلها للمستشفى " وليد نظر إلي.. ثم إلى الطبيب و قال : " لا يمكننا ذلك" " أحضرها لتطهير الجرح يوميا إذن " ثم غادرنا المكان.. في الواقع ، لم يكن يفصل بين السريرين في تلك الغرفة سوى ستارة مشتركة ، و بضع أقدام ... عدنا إلى منزل صديق وليد في نفس السيارة التي قدمنا فيها.. العجوز أوصلنا و غادر... حين دخلنا إلى هناك ، و على نفس المقاعد التي كنا نجلس عليها البارحة رأيت دانة جالسة مع السيدة الصغرى ، بينما الأخرى تستقبلنا و ترحب بعودتنا.. وقفت دانة و الفتاة لدى رؤيتنا.. دانة كانت ترتدي عباءة أشبه بالعباءة التي أجرها حول قدمي ّ ! قالت السيدة الكبرى : " تفضلا رجاءا " أقبلنا نحو المقاعد و تبادلنا التحيات، ثم تقدمت دانة مني و هي تقول بقلق : " أأنت بخير ؟ " قلت بهدوء : " نعم " لقد كان القلق الشديد ظاهرا على وجهها.. و هذا ما أدهشني ، فهي المرة الأولى التي أشعر فيها بقلق دانة علي ! تحدثت الفتاة الآن قائلة : " سلامتك يا رغد " ألقيت عليها نظرة حاوية لشيء من الاستغراب... فابتسمت هي و قالت : " اسمك جميل " تأملتها بعمق.. و حدّثت نفسي ... ( بل أنت الجميلة ! ما أشد جمال هذه الفتاة !) قلت : " شكرا لك.. " قال وليد مؤكدا : " شكرا لكم جميعا " قالت السيدة الأخرى : " لا شكر على واجب أيها الأعزة ، تفضلوا جميعا بالجلوس " و جلست قرب دانة.. و التي قالت مخاطبة وليد : " اتصلت بوالدي ّ و بسامر و نوّار قبل قليل ، الجميع بخير.. لن يسمح لأبوي ّ بدخول البلاد لحين من الزمن " وليد قال بارتياح : " هذا أفضل، ليبقيا بعيدا آمنين .. " و كان والداي و جميع المسافرين قد منعوا من دخول البلدة و ألغيت جميع الرحلات القادمة إليها.. أضافت دانة : " لكن سامر في طريقه إلينا " توتر وليد و قال : " مجنون .. أمرته بأن يلزم مكانه لحين استقرار الأمور.. لماذا يعرّض نفسه للخطر الآن ؟؟ " قالت دانة : " فليحفظه الله ... يا رب " حل الصمت علينا برهة ، ثم قالت السيدة الكبرى : " سيكون كل شيء بخير إن شاء الله " ثم التفتت إلى الفتاة و قالت : " أعدي المائدة الآن بنيتي و استدعي خالك " وقفت الفتاة و هي تقول : " في الحال أمي " و همّت بالذهاب ... وليد قال : " اعتقد أن العم إلياس قد ذهب إلى المسجد، فهذا ما قاله و نحن في طريقنا إلى هنا " قالت السيدة : " هل تحب أن تنتظره أم .. ؟ " قال وليد : " نعم ، في الواقع سأذهب لأصلي أنا أيضا " قلت بسرعة : " وليد ؟؟ " أتم جملته : " في الغرفة .. " وقف وليد ، فوقفت معه.. و وقف دانة و السيدة أيضا.. ثم نطق بعبارات الشكر و الاستئذان و هم بالانصراف.. قال الفتاة الجميلة مخاطبة إياي بابتسام : " لقد وضعت بعض الملابس في الخزانة لأجلك " و التفتت إلى وليد بنفس الابتسام و قالت : " خالي أيضا ترك بعضها لك يا سيد وليد " وليد قال : " نحن ممتنون لكم .. شكرا آنسة أروى " ثم التفت إلينا أنا و دانة قائلا : " أتأتيان ؟ " دانة تحركت مباشرة و سارت نحو وليد الذي سار بدوره نحو الباب.. أما أنا فبقيت محدّقة في الفتاة الحسناء برهة ! ( أروى ) ؟؟ أروى ... ألم أسمع بهذا الاسم على لسان وليد قبل أيام !؟ بلى سمعته... إنها الفتاة التي اتصل هاتفيا ليبارك لها يوم العيد ! إذن .. فـ ( أروى ) تلك ليست طفلة كما ظننت.. ! إنها فتاة راشدة تكبرني سنا.. فتاة أقل ما يمكن أن أصفها به هو أنها ... فاتنة الجمال ! ]]]يتبع]]] |
الحلقةالسابعةوالعشرون
*********** جالس على السرير الوحيد في تلك الغرفة الصغيرة، بعدما فرغت من استحمامي و صلاتي ، أمسك بيدي محفظتي و أعد نقودي.. ليس لدي سوى مبلغ ضئيل لا يكفي لتوفير مأوى آخر أو طعام لنا و لفترة لا يعلم بها إلا الله.. أشعر بخجل شديد من نفسي إذ جئت بعائلتي إلى هنا ، و رغم أنها عائلة طيبة كريمة لأبعد الحدود ألا أن وجودنا لا يجب أن يطول.. علي التصرف بشكل من الأشكال... دانة واقفة أمام المرآة ، ثم تلتفت إلي و تراقبني دون أن اهتم لها ، ثم تسألني بقلق : " ماذا سنفعل ؟؟ " أفكر بعمق، و بصمت .. و في عجز عن إيجاد حل مناسب.. فقد احترق بيتنا بما حوى.. و نحن الآن مشردون و حفاة معدمون.. تكرر دانة سؤالها : " وليد ماذا سنفعل ؟؟ " ارفع بصري إليها ، و أرفع حاجبي ّ و أقوّس فمي للأسفل.. ماذا سنفعل ؟؟ رغد كانت في دورة المياه.. اقتربت مني دانة و قالت : " نوّار و عائلته سيغادرون البلدة " و صمتت... و ظلت تراقبيني قليلا ثم قالت : " و يريدون أخذي معهم " تغيرت تعبيرات وجهي و قلت باضطراب : " ماذا ؟؟ " قالت بتردد : " إنه نوّار... يريد أن .. يبعدني عن البلدة و الخطر .. " قلت : " و الزفاف ؟؟ " تنهّدت دانة و قالت : " الزفاف ؟؟ احترق مع فستانه ! " ثم أخذت تبكي... و يحق لها أن تبكي بمرارة.. و هي العروس التي كانت تعد لزفافها المرتقب بعد أيام فقط.. شعرت بقهر و غيظ في داخلي فوقفت و أحطتها بذراعي ّ محاولا مواساتها.. بعد قليل قالت : " دعنا نسافر نحن أيضا " " إلى أين ؟ كيف ؟ الرحلات محظورة " " سيسافرون للمدينة المجاورة بالسيارة ، ثم يطيرون إلى بلد بعيد و آمن.. دعنا ننضم إليهم وليد " " كيف يا دانة كيف ؟؟ إننا حتى لا نملك جوازات سفر أو بطاقات شخصية ! لا أنت و لا رغد على الأقل " و هنا سمعنا صوت المفتاح يدار في باب الحمام .. فأسرعت أنا بالخروج من الغرفة لأدع المجال لرغد للتصرف دون حرج .. في الخارج صادفت الآنسة أروى مقبلة نحو الغرفة .. قالت : " مرحبا " " مرحبا سيدتي " " لقد أعددنا المائدة .. هللا استدعيت الفتاتين ؟ " " شكرا لكما.. " " و خالي ينتظرك أيضا في المجلس " " لا نعرف كيف نفيكم حق الشكر ؟ " " لم عليك تكرير ذلك يا سيد وليد ؟؟ بل نحن من يتوجب علينا شكرك.. لقد قدّمت لنا الكثير من المساعدات طوال عدّة أسابيع ! أنت شخص نبيل الخلق و تستحق التكريم " شعرت بالخجل من كلماتها و كلامها معي.. خفضت بصري حرجا نحو الأرض .. و حرت .. ماذا علي أن أقول ؟؟ هنا فتح باب الغرفة و ظهرت منه رغد .. رغد وقفت تنظر إلي برهة في صمت ، ثم تنظر إلى الآنسة أروى بوجه جامد الآنسة أروى ابتسمت و قالت : " كيف حالك ألان يا رغد ؟؟ " و لم يبد أن الصغيرة عازمة على الإجابة ! لكنها قالت أخيرا : " بخير " قالت أروى : " المائدة جاهزة... أين أختك ؟ " قالت رغد : " دانة أخت وليد.. ابن عمي " و لم أجد الرد مناسبا للسؤال ! قالت أروى : " نعم أعرف ! و لكنها كانت تتحدث عنك بوصف أختي ! " ظهرت دانة الآن من خلف رغد .. فحيتها أروى و كررت دعوتنا إلى المائدة.. ذهبنا إلى المنزل ، أنا و العم إلياس في المجلس ، و النسوة في غرفة المائدة ، و تناولنا وجبة شهية مغذية بعد طول الجوع و العطش .. بعد ذلك تحدثت و إلياس ساردا ما حصل لنا بشيء من التفصيل.. فأبدى تعاطفه الشديد و رحّب ببقائنا في ضيافته إلى أن نجد حلا آخر.. و أنا وعدته بأن أبدأ العمل في المزرعة منذ اليوم ... و رغم اعتراضه ، ألا أنني أصررت على ذلك و نفذته كان ذلك بعد الغذاء بثلاث ساعات.. تركت الفتاتين نائمتين في الغرفة ، تعوّضان حرمانهما السابق من النوم ، و خرجت إلى ساحة المزرعة و باشرت العمل... كانت هناك شتلات شجيرات صغيرة جديدة مطلوب غرسها في الأرض.. و توليت أنا هذه المهمة .. أحفر الأرض ، و أغرس الشجيرات ، و أسوي التراب ... العم إلياس و كذلك أروى كانا أيضا يعملان من حولي.. كنت أشعر بالتعب و الإعياء فأنا لم أنل قسطي الوافي من النوم و الراحة بعد ، ألا أنني لم أطق تأجيل العمل إلى الغد.. أروى كانت تساعدني .. و تتحدث معي من حين لآخر.. إنها فتاة جريئة بالفعل ! فيما أنا جاثيا على الأرض أغرس إحدى الشجيرات في الأرض و أهيل عليها التراب.. و أروى واقفة قربي و ممسكة بالطرف العلوي لتلك الشجيرة .. سمعتها تقول : " أهلا رغد ! " رفعت رأسي إليها فرأيتها تنظر في إتجاه معين ... التفت إلى ذلك الاتجاه فرأيت رغد واقفة تنظر إلي.. و لم تكن تعبيرات وجهها مريحة... البتة وقفت ببطء .. و نفضت يدي و ثيابي مما علق بها من التراب .. ثم قلت : " أهلا صغيرتي .. " النظرات التي رشقتني بها رغد جعلتني انصهر حرجا .. و أهرب ببصري بعيدا عنها.. كانت مذهولة مصعوقة.. تحدّق بي بدهشة لا تضاهيها دهشة.. آلمتني نظراتها و غرست في صدري ألف خنجر.. لم أجرؤ على إعادة بصري إليها من جديد ... سألت بدهشة : " وليد.. ماذا تفعل ؟؟ " ماذا أفعل ؟؟ ماذا أفعل يا رغد؟؟ ألا ترين ؟؟ أزرع الأرض.. ألوث يدي و ملابسي و جسدي بالأتربة و السماد.. و الوحل أيضا.. نعم .. أجثو على الأرض ضئيلا منخفضا وضيع الشأن.. بسيط الحال .. عوضا عن علو السماء و المركز و المنصب .. احتقرت نفسي لحظتها أيما احتقار.. و تمنيت لو أنني دفنت نفسي عوضا عن الأشجار.. ماذا تظنين يا رغد ؟؟ أنني أصبحت شخصا مرموقا عالي الشأن ؟ هذه هي حقيقتي .. مجرد مزارع بسيط يعمل بجد فقط من أجل وجبة طعام و مأوى ... " وليد .. ماذا تفعل ؟؟ " أجبرت عيني على النظر إليها ، فهالني ما رأيت على وجهها ... أرجوك كفى يا رغد.. أنت تذبحينني .. كفى ... كفى ... اعترفت بخجل : " أفلح الأرض .. فهذا هو عملي منذ زمن " و لن أصف لكم كيف تحوّل وجه رغد إلى غابة ذهول مخيفة ... من منكم جرّب هذا ؟؟ دعوه يصف لكم إذن ما أعجز أنا عن التعبير عنه ... رغد تراجعت للوراء .. ربما لتبتعد عن صفعة الواقع الذي تكتشفه للمرة الأولى.. سارت إلى الوراء بعرج.. و عيناها المفتوحتان أوسعهما لا تزالان ترميان سهام الذبح نحو جسدي... من أعلاه إلى أسفله... و فيما هي تسير إلى الوراء بهذا الذهول و أنا ساكن في مكاني ، رأيت العم إلياس يقبل من ناحيتها و يشير إلي بيده مخاطبا الرجل الذي معه : " هذا هو شقيقك ! " ~ ~ ~ ~ ~ ~ لدى سماعي صوت الرجل العجوز قادم من خلفي ، التفت إلى الوراء بسرعة ، فرأيت سامر يقف أمام عيني ... شهقت : " سامر ! " قال : " رغد ! " و أسرع نحوي و جذبني إلى صدره بقوة و عانقني بحرارة شديدة ... " أوه رغد يا حبيبتي... لا أصدق عيني .. الحمد لله .. الحمد لله .. أنت حية ؟؟ شكرا لك يا رب .. شكرا لك يا رب " و صار يبكي و أنا أبكي معه .. و أخذ يقبّل يدي ّ و جبيني بلهفة .. لم أعهدها عليه من ذي قبل .. " لقد نجونا يا سامر ! كدنا نموت لكننا نجونا بأعجوبة ! " أقول ذلك و أتذكر ما مررنا به ، فأدفن رأسي في صدره و أغلق حصار ذراعي حول جدعه... بعدما فرغ من نوبة الشوق هذه ، التفت إلى وليد ... " وليد .. " أقبل وليد إليه و فتح كل منهما ذراعيه للآخر و تعانقا بحمية ... سامر بملابسه الأنيقة و هندامه المرتب النظيف ، و وليد بلباسه الملوث و يديه المتسختين بحبيبات الرمال ... الناظر إليهما يجد فرقا كبيرا ... و أنا وجدت ذك الفرق أيضا ... كان لقاء دانة بسامر دراميا ... دانة تحب سامر أكثر من وليد.. السبب في ذلك أن وليد غاب عنا لسنين.. سنين لا أعرف أين كان فيها و لا ما عمل ؟؟ إذا كانت الحقيقة التي أراها أمام عيني .. هي حقيقة رجل يعمل في فلاحة الأرض ! بعد فترة ، كنا نحن الأربعة في تلك الغرفة... وليد لم يتحدّث إلي بل لم ينظر إلي مذ رأيته يغرس الشجرة قبل ساعات... و أنا بدوري تحاشيته .. و ركزت اهتمامي على سامر و ما يقوله .. " سنذهب إلى شقتي ، سأستأجر شقة أكبر حجما تسعنا و والدي ّ جميعا " كانت هذه فكرته ، و دانة رحبت بها بشدة : " إذن هيا بنا الآن " قالت ذلك ، ألا أن وليد قال : " اصبروا قليلا .. إنه المساء و لا يصلح للسفر.. كما أن المسافة ليست قصيرة و لابد أنك متعب ألآن يا سامر " قال سامر : " مطلقا ، رؤيتكم أزالت عني أي أثر للتعب ... " ثم نظر نحوي و قال : " ألف حمد لله على نجاتكم أيها الأحبة " قال وليد مؤكدا : " كما أن الطريق غير آمن.. و لم يكن يجدر بك الحضور يا سامر و تعريض نفسك للخطر " قال سامر : " و هل تعتقد أنه كان باستطاعتي البقاء هكذا ؟؟ " قال وليد : " على كل ٍ .. سنبقى هنا الليلة " قال سامر ، بعدما جال ببصره في أنحاء الغرفة بشيء من الأستهانة و أشار إلى الأرض : " هنا ؟؟ " قال وليد : " معذرة فأنا لم أملك من النقود ما يكفي لاستئجار شقة " قال سامر بثقة : " لا تقلق بهذا الشأن.. " قالت دانة : " إذن لم لا نعجّل الخروج ؟ هيا سامر دعنا نبحث عن شقة مناسبة " جميعنا ننظر إلى وليد و الذي يظهر استياء في غير محله ! أليس من الطبيعي أن نغادر هذا المكان شاكرين للعائلة كرم ضيافتهم ؟؟ قال وليد أخيرا : " كما تشاءون " و من ثم ّ غادر الغرفة ... أخذنا نحن الثلاثة نتحدّث عما مررنا به .. و عما نحن مقبلون عليه.. في الحقيقة ، التزمت أنا جانب الصمت و الاستماع معظم الوقت... فتفكيري كان قد خرج مع وليد لحظة خروجه.. رؤيته بالشكل الذي رأيته عليه صدمتني كثيرا ... وليد .. ذلك العملاق الضخم .. الذي أرفع رأسي عاليا إذا نظرت إليه.. الذي أشعر به سمائي .. و نجمتي.. و شمسي .. و جبلي أيضا.. أراه جاثيا على التراب يحفر الأرض.. و يغرس الشجر.. و يلوث يديه بالطين !؟ وليد ؟؟ لطالما كنت أراه عظيما عاليا.. شيئا معلقا في السماء.. أما أن تغوص يداه في الأرض.. فهذا أشبه بالكابوس الذي مررت به يوم القصف.. فيما نحن كذلك رن هاتف سامر المحمول ، فتحدث إلى الطرف الآخر .. و من حديثه معه استنتجت انه صديق وليد ( سيف ) أراد سامر أخذ الهاتف إلى وليد، فلما غادر الغرفة غادرت من بعده.. كان الظلام قد حل .. و ما أن فتحنا الباب حتى تدفقت أنسام عطرة منعشة قادمة من بين الأشجار و الزهور الفواحة .. لحظتها فقط التفت إلى جمال المكان الذي كنا فيه ... تماما كجمال أصحابا ... شكلا على الأقل ! في الخارج ، في الساحة الواسعة أمام المنزل ، رأينا أفراد العائلة المضيفة يجلسون جميعا على بساط أرضي ، و وليد معهم ... الإنارة كانت خفيفة صفراء منبعثة من مصباح المنزل الخارجي.. كان الرجل العجوز يجلس إلى جانبه و يمسك في يده سلة سعفية نصف مكتملة الصنع ، و يظهر أنه يشرح لوليد كيف يصنع مثلها.. و إلى الجانب الآخر من وليد تجلس أروى الحسناء .. تصنع سلة أخرى هي بدورها.. و تلقي بالملاحظات على الاثنين ، أما أم أروى فكانت منشغلة بتكسير بعض الثمار الصلبة ، و استخراج بذورها.. تنحنح سامر فالتفتوا نحونا.. وقف وليد و أقبل إلينا.. مد سامر الهاتف نحوه و قال : " صديقك الحميم يود الاطمئنان عليك " " سيف ؟ " " نعم ! اتصل عدة مرات ... " أخذ وليد الهاتف و تحدث معه محادثة استمرت عدة دقائق .. و حالما انتهى و أعاد الهاتف إلي سامر قال الأخير : " فلنذهب الآن يا وليد ... " وليد التفت ناحية العائلة و قال : " سأشكرهم و أودعهم ... " نحن الثلاثة أقبلنا إلى إليهم فوقفوا... و بدأ وليد يكرر عبارات الشكر و الامتنان ، و هم يعبرون عن سرورهم باستضافتنا بل و يصرون على بقائنا بعد.. قال أروى : " إذن لن تبقى معنا ؟؟ أ لن تعود إلينا ؟ " و كان ظاهرا على وجهها الأسف... وليد قال : " بلى.. سأعود حالما اطمئن على سير الأمور كما يجب.. " ثم أضاف : " أنتم عائلتي و هنا عملي " أروى ابتسمت بسرور... أما أنا فشعرت بغصة في حلقي ... قالت : " مكانك محجوز لك و غرفتك جاهزة فأهلا بك في أي وقت " شكرها وليد .. ثم استدار نحونا و قال : " أ ننطلق ؟ " قال أروى : " لحظة " و ذهبت إلى المنزل و عادت تحمل كيسا قدمته إلى وليد و قالت : " ملابسكم .. نظيفة و مطوية " فتناول وليد الكيس من يدها و كرر شكرها .. كل هذا أمام عيني .. و يشعرني بالغضب ! واضح أنها معتادة على وليد و تخاطبه و كأنه أحد أقاربها ، لا رجلا غريبا... لا يعجبني ذلك أبدا ... بعد وداع العائلة ، ذهبنا إلى شقة قريبة قضينا فيها ليلتنا تلك ، و من الصباح الباكر غادرنا المدينة متجهين إلى مقر سامر... طول تلك الفترة و أنا في حالة من الذهول... لم استفق منها بعد.. و وليد لم يكن يكلمني.. بل أنه كان يتحاشاني عن عمد.. و كأن شيئا لم يكن... استأجر سامر شقة متوسطة الحجم في نفس المبنى الذي كان يقطنه .. شقة جمعتنا نحن الأربعة تحت سقف واحد .. والداي كانا يتصلان مرة أو مرتين في اليوم بنا ليطمئنا على أحوالنا، و الحظر عن دخول المسافرين الى البلد استمر عدة أسابيع... شفي الجرح الذي في قدمي شيئا فشيئا.. و قد كان سامر يصطحبني كل يوم إلى المستشفى من أجل تطهيره.. كنت على اتصال مستمر بعائلة خالتي ، و التي بقيت في المدينة تعيش على ما تبقى من حطامها.. في أحد الأيام ، جاءنا نوّار خطيب دانة، يطلب أخذ دانة معه إلى الخارج.. حيث سيستقر هو و عائلته عدة أشهر إلى أن تهدأ الأوضاع .. نوار كان قد تحدّث بهذا الشأن إلى والدي و الذي يبدو أنه أيد الفكرة من باب إبعاد دانة عن البلدة .. كما أيدها سامر و تحمّست لها دانة كثيرا ، ألا أن وليد كان معارضا " كيف يا دانة ؟ دون زفاف ؟ دون عرس ؟؟ دون وجود والدي ّ ؟؟ " " و هل تعتقد أنني سأعيد شراء كل ما احترق من جديد ؟ دعونا نقيم حفلة بسيطة خاصة بنا.. أنا أريد أن أغادر هذه البلدة و التعاسة المخيمة عليها " " و والداي ؟؟ " " إنهما يؤيدان الفكرة .. و سوف نذهب إليهما أولا ثم نغادر " " كلا.. سننتظر حتى يسمح لهما بالعودة ، ثم نقيم حفلة عرس متواضعة.. لن ننقص من قدرك أمام ذلك المغرور " حينما قال وليد ذلك، اغتاظت دانة و قالت بحدة : " من هو المغرور ؟ " لزم وليد الصمت ، فقالت : " لا أسمح لك بإهانة خطيبي ! أي قدْر هذا الذي تتحدّث عنه ؟؟ أ بعْد حطّتي في القدر باكتشاف حقيقة مخجلة مخزية عنك ، تجرؤ على الحديث عن القدر ! " نشبت مشاحنة حادة بين الاثنين ، و أنا و سامر نتفرج بصمت.. قال وليد في معرضها : " لن تفعلي ما يحلو لك .. و أنا المسؤول عنك في غياب والدي شئت أم أبيت " دانة ردت بحدّة : " و من قال أنني أنتظر الإذن منك أو أتشرف بمسؤوليتك هذه ؟؟سأسافر مع نوار يعني سأسافر معه.. و أنت عد من حيث أتيت فذلك أنسب لحالك و مثلك " وليد رفع يده و كاد يصفعها ، ألا أنه توقف في منتصف الطريق.. و كتم غيظه.. لم أتمالك أنا نفسي ، فقلت غاضبة : " ألا تحترمين شقيقك الأكبر ؟ ! " قالت : " اخرسي أنت..إنه شخص لا يستحق الاحترام " جميعنا ننظر إلى دانة بغضب .. و هي تدور ببصرها حولنا .. سامر نطق أخيرا و قال غاضبا : " دانة ! يكفي " " اجدر بك ألا تخشى على مشاعره ! أنسيت ما فعل بك ؟ " هتف وليد : " دانة " صرخت هي : " اضربني ! أليس هذا ما يتعلمه المجرمون في السجون ؟؟ " وليد أمسك بكتفي دانة و هزّها بعنف و هو يصرخ : " يكفي.. إياك و قول المزيد.. أتفهمين ؟؟ إن نطقت بحرف بعد فسأقطع لسانك .. أنا خارج من حياتك فاهنئي بمن تريدين " و حررها من بين يده و قال مخاطبا سامر : " افعلوا ما تشاءون .. فأنا لم يعد يهمني من أمركم شيئا " ثم التفت إلي ففزعت من نظرته المرعبة ... و زمجر هو : " و هذه أيضا.. تزوجها بالمرة و خلصوني منكم جميعا.. " و أسرع خارجا من الشقة ... مرت الساعات و لم يعد.. و انتصف الليل و لم يعد.. قلقت كثيرا عليه.. خرجت من غرفتي في قلق فإذا بي أرى سامر يجلس في الصالة أيضا ... " ألم تنم ؟ " " أشعر بالأرق " " هل عاد وليد ؟ " " كلا " " إلى أين ذهب ؟ " " لا علم لي ... " " ربما عاد للمزرعة ! " قلتها و أنا أضع يدي على صدري خوفا من أن تكون حقيقة ... سامر نهض واقفا .. و اقترب مني و قال : " ما رأيك بما قال ؟ " " ما ذا تعني ؟؟ " أمسك بيدي و قال : " بأن .. نتزوج نحن أيضا .. " هنا احتقنت الدماء في وجهي و اضطربت تعبيراته... رأى سامر الرفض على وجهي و قال : " أرجوك .. رغد .. " هويت بنظري أرضا ... لماذا يعود لفتح الموضوع الآن ؟ لماذا يا سامر لا تعتقني .. سامر رفع وجهي بيديه كلتيهما و قال بصوت شديد الدفء و الحنان : " كدت أجن .. لما حصل معك ..لا أريد أن تفترقي عني لحظة واحدة .. أحبك بجنون " أبعدت وجهي عنه و استدرت و أنا أقول : " كفى .. أرجوك ... " و انهمرت دموعي ... حاصرني سامر .. حاولت الفرار ألا أنه لم يدع لي المجال .. " رغد .. لماذا ؟ بالله عليك أخبريني بصدق .. لماذا ؟ " أردت أن أعود إلى غرفتي ألا أنه منعني ... كان مصرا على مواجهتي ... قرع الجرس الآن... لابد أنه وليد... فتح سامر الباب فإذا به وليد بالفعل... كان وجهه حزينا كئيبا مهموما.. منظره يثير القلق و الحيرة .. لم يتكلم.. نظر إلينا قليلا ، ثم ذهب إلى غرفته.. ثوان و إذا به يخرج ثانية ، ممسكا بمحفظته و مفاتيحه.. و سار نحو الباب .. سامر استوقفه سائلا : " إلى أين ... وليد ؟ " استدار وليد إلى سامر و قال بنبرة نامة عن الحزن و الاستسلام : " إلى المزرعة " دهشنا و اشرأبت أعناقنا عجبا .. قال سامر : " ماذا ؟؟ " قال وليد : " فقد انتهى دوري " و فتح الباب و همّ بالخروج ... أسرع سامر إليه و أوقفه : " وليد ! هل تعني ما تقول ؟؟ إلى المزرعة في هذا الوقت ؟؟ " استدار إليه و قال : " نعم ، فهي المكان الذي يناسب أمثالي " و خرج ... و رغم نداءات سامر و محاولاته المستميتة لإيقافه ألا أن وليد أبعده ، واستمر في طريقه ... الجنون أصابني أنا لحظتها... ركضت نحو الباب و صرخت : " وليد .. لا تذهب " ألا أن وليد لم يلتفت إلي .. و تظاهر بعدم سماعه لي .. " وليد ... وليد عد .. " هتفت و هتفت ، ألا انه ابتعد... و اختفى عن أنظاري ... سامر أغلق الباب.. و تنهّد بأسف ... قلت بعصبية : " ماذا تنتظر؟ الحق به ! امنعه ! " ألا أن سامر هزّ رأسه بقلة حيلة .. تفجرت دموعي و أغرقت وجهي كما الطوفان ، و زمجرت : " الحق به يا سامر دعه يعود " " لن يفعل يا رغد.. لن يفعل " رفعت يدي و أمسكت بذراعي سامر و صحت : " كيف تتركه يذهب ؟ ماذا إن أصابه مكروه ؟ الحق به سامر أرجوك " سامر قال بضيق : " ألم أفعل ؟ لا جدوى من ذلك .. أنا أعرفه " هززت رأسي باعتراض شديد و صرخت : " كلا .. كلا كلا ... " نظر إلي باستغراب ... قال : " رغد ! ؟ " قلت بانفعال : " سأذهب معه " ذهل سامر ، و قال : " ماذا ؟؟ " صحت : " سأذهب معه ... لا أريد البقاء هنا .. لا أريد البقاء هنا.. لماذا ذهب و تركني .. لماذا ؟ " سامر أمسك بذراعي بقوة و بذهول قال و هو يحدّق بي : " تذهبين معه .. و تتركيني ؟؟ " ابتلعت لساني و لم أنطق بأي كلمة ... سامر كان يحملق بي بحدة .. نظرات فاحصة مدققة مدركة مستنتجة .. قارئة لما اعترى وجهي من تعبيرات صارخة ... " رغد ... تتركيني من أجله ؟؟ أليس كذلك ؟؟ " صعقت .. و توقف قلبي عن الخفقان ... و لم أشعر بالدنيا من حولي سوى عيني سامر اللاسعتين .. و يديه القابضتين علي بعنف .. قال : " تكلمي يا رغد ؟؟ أهذا هو السبب ؟؟ " لم أجبه .. بدأ يهزني بقوة .. و آلمني كثيرا ... " رغد تكلّمي ... قولي ما تخفينه .. اعترفي هيا " " دعني سامر " لكنه هزني بعنف أقوى و بحدة صاح بوجهي : " تكلمي يا رغد هيا..ماذا لديك؟ انطقي بسرعة..لماذا قررت التخلص مني؟ قولي هيا؟ " فقد ت السيطرة على نفسي و صرخت : " لأنني لا أحبك .. لا أحبك يا سامر .. هل ارتحت الآن ؟ " سامر دار بي حتى رطمني بالباب .. و هتف صارخا : " .. وليد ؟؟ " تفجّرت لحظتها و صرخت بأعلى صوتي مطلقة سراح ما حبسته في صدري عنوة : " نعم أحبه.. أحبه هو .. أحبه هو .. أحبه هو .. هو .. هو " بعد هذا الانفجار .. و الذي خرج من صدري دون شعور و إدراك .. و وعي ، وعيت على الواقع بصفعتين قويتين تلقيتهما من كف سامر الثائر.. أفقت فجأة فرأيت نفسي أقف مسنودة إلى الباب .. و دموعي تجري كشلال ضخم.. و سامر يقف أمامي كأسد ثائر ... يكاد يفترسني ... لم أدرك أنني أفصحت عمّا في قلبي إلا بعد حين ... توقفت أنفاسي .. في حالة من الذهول مما أنا فيه ... كالجمرة المتقدة كان وجه سامر محمرا متوهجا .. و كانت يداه توشكان على الانقضاض علي ... قال : " لقد كنت أحمق إذ لم أعر شكوكي اهتماما يومها ... كم كنت غبيا ... لقد كنت تحبينه كل ذلك الوقت و تستغفلينني ؟ " لم أستطع النطق بأي كلمة .. تابع هو : " نعم .. فأنت ركضت نحوه هو يوم كنا عند الشاطئ.. و تركتني أنا واقفا كالأبله جواره تماما.. " ثم أطبق علي بيديه و قال : " لهذا تريدين التخلص مني ؟؟ لن تفعلي هذا بي يا رغد.. لن أسمح لك بهذا أبدا " و سحبني بعنف .. و سار يجرني إلى غرفتي ، و دفع بي بقوة نحو السرير ... فارتطمت به بآهة ... زمجر : " لن أسمح لكما بذلك .. أتفهمين ؟؟ أبدا يا رغد " و خرج من الغرفة و هو يصفع بالباب ... ~ ~ ~ ~ ~ ~ |
حينما وصلت إلى المزرعة.. كان ذلك قبيل أذان الفجر...
دفعت مبلغا كنت أنا الأحوج إليه إلى السائق الذي أوصلني... و أخذت أعد ما تبقى لدي من جديد... لزمت المسجد لحين ارتفاع الشمس في صدر السماء... و ناجيت الله طويلا .. شاكيا له حالي و باثا إليه همومي و سائلا إياه الرحمة و اللطف ... ذهبت إلى المزرعة بعد ذلك و استقبلني العم الطيب و ابنة أخته استقبالا حافلا ... و علمت منهما أن السيدة ليندا عادت إلى المستشفى من جديد ، في نوبة جديدة ... كلما تذكرت أنني كنت السبب في المرض التي اعترى قلب هذه السيدة كرهت نفسي أكثر .. و شعرت بمسؤولية أكبر تجاهها و تجاه المزرعة و من فيها... قمنا بزيارتها مساء ذلك اليوم.. ففرحت هي بزيارتي و طلبت مني مساعدة أخيها و ابنتها في العناية بالمزرعة .. عملت بجد و اجتهاد في الأيام التي تلت .. و لم أتصل بأهلي إلا اليوم .. كان العم و أروى قد ذهبا لزيارة السيدة ليندا ، وأنا بقيت في المنزل وحيدا ... تحدّث سامر إلي و طمأنني على أحوالهم ، و أخبرني أنه و رغد ، كما نوّار و دانة سيحتفلون بزواجهم بعد ليلتين... أقفلت السماعة ، و حاولت منع رأسي من التفكير في أي شيء... فبعد اللقاء الحميم الذي جمعهما في المزرعة أول وصوله ، فقدت أي اهتمام يذكر بشأن عرقلة هذا الزواج .. سواء ً كان برضا من رغد أو باضطرار منها.. أنى لها أن تجد الزوج الأنسب ؟؟ و كيف أسمح لنفسي بالتفكير بها .. و ما أنا إلا رجل فقير معدم .. لا يملك مأوى و لا قوتا ؟ و إن عشت ألف سنة بعد ، لن أنسى نظرة الازدراء التي رمتني بها يوم كنا في المزرعة ... صدقت يا سامر رغد لا تستحق الزواج من مجرم قاتل .. فقير معدم .. وحيد منبوذ مثلي .. عاد العم و أروى من المستشفى فرأياني شاردا سارحا تائها في أفكاري ... كما رأيا الدمعة التي هربت من مقلتي .. رأيت في عينيهما القلق .. و سألاني عما إذا كان شيء ما قد حصل ، فأجبتهما : " لا شيء " الفتاة ذهبت إلى المطبخ أما العجوز فعاد يسألني : " ما بك يا بني ؟ تبدو في غاية الحزن ؟؟ " قلت : " و هل ترى في حالي ما يدعو للسرور أيها العم ؟ إنني في أسوأ حال " " قل الحمد لله يا ولدي.. " " الحمد لله " تنهدت ، ثم قلت بمرارة ... " إلى متى سيظل حالي هكذا ؟؟ لسوف أبحث عن عمل من جديد .. إنني بحاجة للمال .. لتكوين نفسي و بناء مستقبلي " " ماذا عن .. العمل معنا ؟؟ " نظرت إلى الرجل العجوز نظرة امتنان و قلت : " لكن إلى متى ..؟؟ إنني تائه ! بلا بيت و لا أهل ... " " و نحن ؟؟ " " أنتم .. عائلتي حتما و لكن .. " و صمت ... العم قال : " و لكن لا يربطنا نسب أو دم .. " لم أعلّق ، قال : " مشكلة سهلة الحل " نظرت إليه بحيرة ... ابتسم العجوز و قال : " إن كنت تريد لها هذا الحل " قلت : " عفوا ؟؟ " العم إلياس امسك بيدي و ظهر الجد على تعبيرات وجهه و قال : " أزوّجك ابنة أختي ! " تملّكني الذهول و المفاجأة .. رمقته بنظرة بلهاء غير واعية لحقائق الأمور .. " ماذا ؟ " أجاب العم : " إذا كنت ترى ذلك طبعا ... مثلما نراه نحن .. " تلك الليلة لم تسمح لي الفكرة هذه بالنوم.. خرجت من غرفتي أحمل علبة سجائري التي اشتريتها مؤخرا... و التي عدت استهلكها بشراهة .. سرت متجولا في المزرعة في تفكير عميق ... قضيت وقتا في الخارج ، و لما عدت .. لمحت أروى جالسة على عتبات المنزل ... لما رأتني نهضت واقفة ... و ألقت علي التحية .. ارتبكت.. و رددت باضطراب .. قالت و هي تنظر إلى السيجارة في يدي : " ألم تقلع عن التدخين ؟؟ " " أأ .. صعب .. " قالت : " أنت تضر بصحتك ! لا تستحق هذه التافهة الاهتمام ! " تنهّدت .. و نظرت إلى السماء ثم قلت : " لا شيء في حياتي يستحق الاهتمام ... و لا حتى أنا " " أنت مخطئ ! " و ندمت على مقولتي هذه ! و رأيت نظرات الاهتمام في عينيها ... غضضت بصري و قلت : " بعد إذنك .. سأعود إلى غرفتي " و خطوت بضع خطوات مبتعدا ، و أنا أحس بها تراقبني ... التفت للوراء فوجدتها بالفعل تراقبني ... و تبتسم ! لا أعرف من أين استمددت هذه الجرأة و الجنون لأسألها : " آنسة أروى .. " " نعم ؟ " " تتزوجينني ؟؟ " ]]]يتبع]]] |
الحلقةالثامنةوالعشرون
******** " تتزوجيني ؟؟ " أروى حملقت بي لبرهة ، ثم ابتسمت و نظرت إلى الأرض بخجل ! العرق صار يتصبب مني و ملابسي تحترق من حرارة جسدي.. أما لساني فانعقد تماما ! أي جنون هذا ؟؟ ظللنا واقفين فترة هكذا ، أنا لا أجرؤ على قول شيء و لا الانصراف ، و هي لا ترفع عينيها عن الأرض... نفحات الهواء الباردة أخذت تصافح جسدي و تطفئ اشتعاله.. و هبّت على الوشاح الذي تلفه أروى حور رأسها فتطايرت أطرافه.. كاشفة عن خصلات ذهبية ملساء انطلقت تتراقص مع النسيم .. غضضت بصري بسرعة ، و استدرت جانبا و قلت : " أنا آسف " " لم ؟؟ " قالتها بتعجب ، فكساني تعجبها تعجبا ! أعدت النظر نحوها فوجدتها واقفة في مكانها و قد ضبطت الوشاح حول رأسها بإحكام... و لا تزال تبتسم بخجل ! تشجعت حينها و قلت : " ألا تمانعين من الزواج من رجل مثلي ؟ " قالت دون أن تنظر إلي : " مثلك .. يعني ماذا ؟؟ " قلت : " فقير.. مشرد.. خريج سجون.. عاطل ! " قالت : " لكنك .. رجل نبيل يا وليد " ثم ألقت علي ّ نظرة خجولة ... و انصرفت مسرعة ! في صباح اليوم التالي ، كنا أنا و العم إلياس ننظم أغصان بعض الأشجار...و كان الموضوع يلعب برأسي منذ الأمس... و كنت أحاول التقاط أي خيط من الكلام لفتحه أمام العجوز .. و ربما هو لاحظ ارتباكي ألا أنه لم يعلّق.. قلت : " أليس لديكم أقارب آخرون يا عمي ؟ " قال : " هنا ؟ لا يوجد . إنني و أختي كما تعلم من خارج البلدة و لا أهل لنا هنا . نديم رحمه الله كان يقطن المدينة الساحلية هو و عائلته قبل استقراره هنا في هذه المدينة قبل زمن طويل .. و هو الآخر لم يكن لديه أقارب كثر " و المدينة الساحلية هي مدينتي الأم قلت : " و ماذا عنك ؟ ألم يكن لديك زوجة و أبناء ؟ " قال : " زوجة رحمها الله. لم أرزق الأبناء بقضاء من الله. الحمد لله " ثم أضاف : " لذلك أحب ابنة أختي حبا جما .. و أسأل الله أن يرزقها زوجا صالحا أطمئن إلى تركها معه بعد فنائي " قلت بسرعة : " أطال الله في عمرك عمّاه " قال : " فقط إلى أن أزوّجها و أرتاح " و غمز إلي بنظرة ذات معنى ! احمر وجهي خجلا.. فصمت ، أما هو.. فنظر بعيدا مفكرا و قال : " أنا قلق عليها و على مستقبلها .. إنها فتاة بلا سند.. أريد أن أزوجها بسرعة لرجل جدير بالثقة.. أأتمنه عليها.. " و نظر نحوي.... يقصدني ! قلت متلعثما : " أأ أحقا لا تمانع من زواجها من.. من .. " أتم العم الجملة : " منك يا وليد ؟ مطلقا.. فأنت رجل خلوق و مهذّب . بارك الله فيك " قلت مترددا : " لكنني .. كما تعرف " قاطعني : " لا يهم ، فهاهي المزرعة أمامك اعمل بها عملا شريفا نظيفا و إن كان بسيطا.. و إن كنت تود العمل في مكان آخر فاسع يا بني و الله يرزقك " طمأنني قوله كثيرا .. تماما كما كانت كلمات نديم رحمه الله تبعث في نفسي الطمأنينة في سني السجن ... قلت أخيرا : " لكنني.. خرجت من السجن " قال : " نديم كان في السجن أيضا ، و لم أر في حياتي من هو أشرف منه و لا أحسن خلقا " ابتسمت .. للتقدير و الاحترام اللذين يكنهما هذا الرجل لي.. و اللذين رفعا من معنوياتي المحطمة بعد كلمات دانة الجارحة ... العم ابتسم أيضا و قال و هو يصافح يدي : " أ نقول على بركة الله ؟؟ " ~ ~ ~ ~ ~ ~ " ماذا عني أنا ؟؟ تتركيني وحدي ؟؟ " سألت دانة التي تقف أمام المرآة تجرّب ارتداء فستان السهرة الجديد ، الذي اشترته لارتدائه في الحفلة البسيطة ... يوم الغد لم تكن تعيريني أي اهتمام.. و خلال الأيام الماضية عوملت معاملة جافة من قبلها و قبل سامر .. بتهمة الخيانة ! " دانة أحدّثك ! ألا تسمعين ؟؟ " " ماذا تريدين يا رغد ؟ " " لا أريد البقاء وحدي هنا " " سامر معك " قلت باستياء : " لا أريد البقاء مع سامر بمفردنا " الآن التفتت إلي و قالت : " إنه خطيبك .. فإن كنت لا تثقين به فهذه مشكلتك ! " شعرت بضعف شديد و قلة حيلة .. فوليد ، الشخص الذي كان يقف إلى جانبي و يتولى الدفاع عني قد اختفى.. و لابد لي من الرضوخ لقدري أخيرا... خرجت من غرفتها و ذهبت إلى غرفتي، و من هناك اتصلت بوالدي ّ و طلبت منهما أن يعودا بأي وسيلة.. لأنني وحيدة و تعيسة جدا.. و يا ليتني لم أفعل ... بعد ذلك ، جاء سامر إلى غرفتي يحمل علبة هدّية ما ... كان يبتسم .. اقترب مني و حاول التحدث معي بلطف و كرر الاعتذار عما بدر منه تلك الليلة ، ألا أنني صددته بجفاء. " وفر هداياك يا سامر .. فأنا لن أقتنع بفكرة الزواج بهذا الشكل مطلقا.." غضب سامر و تحوّل لطفه إلى خشونة و نعومة حديثه إلى قسوة.. قال : " حين يعود والداي سيتم كل شيء " قلت : " حين يعود والداي سينتهي كل شيء " سامر فقد السيطرة على أعصابه و زمجر بعنف : " كل هذا من أجل وليد ؟؟ " ونظرت إليه نظرة تحدّي لم يستطع تجاهلها.. أطبق علي بقسوة و قال : " و إن تخليت عني ، لن أسمح له بأخذك مطلقا .. أتفهمين ؟؟ " " بل سأطلب منه أن يأتي لأخذي فأنا لن أعيش معك بمفردي " " رغد لا تثيري جنوني.. لا تجعليني أؤذيك .. إنني أحبك .. أتفهمين معنى أحبك ؟ " هتفت : " لكني أحب وليد .. ألم تفهم بعد ؟؟ " سامر دفع بي نحو السرير ، و تناول علبة الهدية و رطمها بالجدار بقوة ... قال : " ماذا تحبين فيه ؟ أخبريني ؟؟ ماذا رأيت منه جعل رأسك يدور هكذا ؟؟ " ثم أقبل نحوي و هزني بعنف و هو يقول : " أ تحبّين رجلا قاتلا ؟ مجرما ؟ سفاحا ؟؟ " صرخت بفزع : " ما الذي تقوله ؟؟ " قال مندفعا : " ألا تعلمين ؟؟ إنها الحقيقة أيتها المغفلة .. كنت ِ تظنين أنه سافر ليدرس في الخارج ..طوال تلك السنين .. أتعلمين أين كان وقتها ؟؟ أتعلمين ؟؟ " كان الشرر يتطاير من عيني سامر .. المرة الأولى في حياتي التي أرى فيها عينيه بهذا الشكل ... أصابني الروع من نظراته و كلماته .. أتم جملته : " لقد كان في السجن " صعقت ، و لم أصدّق ... هززت رأسي تكذيبا ، ألا أن سامر هزني و قال بحدة : " نعم في السجن .. ثمان سنوات قضاها مرميا في السجن مع المجرمين و القتلة.. ألا تصدقين ؟ اسألي والدي ّ .. أو اسأليه هو.. في السجن يا رغد.. السجن.. و قد أخفينا الأمر عنكما أنت و دانة لصغر سنكما " صرخت غير مصدقة .. " كلا .. كلا .. أنت تكذب ! " قال بحدّة : " تأكدّي بنفسك.. و لسوف تندمين على صرف مشاعرك على قاتل متوحّش " دفعت سامر بعيدا عني و ركضت مسرعة نحو غرفة دانة ، التي كانت لا تزال أمام المرآة ... " دانة " هتفت بقوة أجبرتها على الالتفات إلي بشيء من الدهشة و الخوف ... قلت : " وليد .. وليد... " فزعت دانة ، قالت : " ما به ؟؟" قلت : " كان في السجن ؟؟ " دانة تحملق بي في دهشة و عدم استيعاب .. صرخت ُ : " وليد كان في السجن ؟؟ أخبريني ؟؟ " ظهر سامر من خلفي فنظرت إليه دانة قال : " أخبريها فهي لا تصدقني " دانة جالت ببصرها بيننا ثم قالت : " أجل... لثمان سنين .. " صرخت : " لا ! " قالت : " بلى ، و بجريمة قتل " " مستحيل ! " لم أشأ أن أسمع .. أن أفهم .. أن أصدق .. أن أدرك .. دارت بي الدنيا و تراقصت الأرض و تمايلت الجدران.. و أظلمت الأنوار.. و لم أشعر بنفسي إلا و سامر يمسكني بسرعة و يجلسني أرضا ... بدأت الأنوار تضاء.. و بدأت أسمع نداءاتهما و أرى أعينهما القلقة حولي.. و أحس بأيديهما الممسكة بي ... " رغد حبيبتي تماسكي " " رغد ماذا جرى لك ؟؟ " " ابقي مسترخية " " اسم الله يحفظك " حينما وعيت تماما وجدت نفسي ممدة على الأرضة و رأسي في حضن سامر و يدي بين يدي دانة ... و كنت أشعر ببلل الدموع الجارية على وجنتي... قال سامر : " أ أنت بخير ؟ " أغمضت عيني بمرارة و تركت المجال لدموعي بالتدفق كيفما شاءت... قالت دانة : " رغد ... " فتحت عيني و حاولت أن أتكلم، و عجزت إلا عن إصدار أنات متلاحقة... لا معنى لها و لا تفسير.. ساعدني الاثنان على النهوض و التوجه إلى غرفتي حيث استلقيت على سريري.. و جلس الاثنان قربي.. سامر يمسح على رأسي و دانة تشد على يدي... قالت : " لا بأس عليك.. كانت صدمة بالنسبة لي أنا أيضا " تحشرج صوتي في حنجرتي ثم انطلق ناطقا : " لماذا أخفيتم عني ؟؟ " دانة نظرت إلى سامر.. كأنها تنقل السؤال إليه.. نظرت إلى سامر فرأيت وجهه متجهما حزينا... " لماذا ؟ " سامر حار في أمره .. و بعثر أنظاره فيما حولي ثم قال : " كنتما صغيرتين .. ثم .. لم نشأ تقليب المواجع بعد خروجه .. " " لا أصدق .. لا أصدٌق.. لا يمكن.. " و انفجرت في بكاء أبكى دانة.. و كاد يبكي سامر أيضا.. قلت مخاطبة دانة : " لماذا فعل ذلك ؟؟ " و أيضا أحالت السؤال إلى سامر .. قلت مخاطبة سامر : " لماذا ؟؟ " هذه المرّة سامر دقق النظر إلي .. نظرات عميقة غريبة ، ثم قال : " ألا تعرفين ؟؟ " " أنا ؟؟ " سامر قال : " لا نعرف الحقيقة بالضبط، لكن ... " " لكن ماذا ؟؟ " تردد سامر ثم قال : " إنه يخفي سرا .. " صمت ثوان ثم قال : " سر على ما يبدو .. له علاقة بـ ... " و تراجع عن إتمام جملته.. " بماذا ؟؟ " سألت ، فظل ينظر إلي بتمعن .. و كأنه يثير إلي ! " بي أنا ؟؟!! " و لم ينف كلامي ، فسألته دانة باستغراب : " و ما علاقة رغد بالأمر ؟؟ " سامر تردد و من ثم قال بنبرة غير الواثق من كلامه : " لا أدري .. القضية غامضة .. و حزام الزي المدرسي الذي كانت رغد ترتديه ذلك اليوم – وهي نائمة في سيارة وليد - .. وجد للغرابة في مسرح الجريمة قرب القتيل مباشرة ! " ما إن أتم سامر جملته .. حتى تهدّم في رأسي سد الذكريات فجأة .. و تدفقت شلالات الذكرى المفزعة .. و انتفضت و شهقت ثم هتفت بغتة : " عمّار !!؟؟ " الاثنان نظرا إلي بتعجب .. جلست فجأة و وضعت يدي الاثنتين على صدري فاتحة عيني و فاغرة في ّ بذهول ما بعده ذهول ... " رغد ؟؟ " ناداني سامر ، فالتفت إليه .. ثم إلى دانة .. ثم إلى سامر فدانة بشكل تثير الشكوك .. عاد سامر يقول : " رغد ..؟؟ " صرخت : " لا " " رغد .. هل رأيت شيئا ؟؟ " صرخت بفزع : " لا " قال : " أتذكرين شيئا ؟؟ " " لا .. لا كلا .. " و جذبت دانة نحوي و وضعت رأسي في حضنها و لففت ذراعي ّ حولها و أنا أصرخ بجنون : " كلا .. كلا .. وليد.. وليد .. " حتى غشي علي ... ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ في نفس اليوم ، و الذي عادت فيه السيدة ليندا من المستشفى ، عقدنا قراننا أنا و أروى .. العائلة كانت سعيدة و مبتهجة ... و قد صنعت أروى كعكتين لذيذتين و عشاء مميزا، احتفالا بالمناسبة.. لم يشاركنا الحفلة الصغيرة سوى سيدة واحدة هي صديقة للسيدة ليندا ، و ابناها اللذين شهدا على العقد.. بالنسبة لي ، كان حدثا غريبا و أشبه بالوهم..نعم الوهم..لقد كنت هناك ، لكنني لم أكن.. و انتظرت أن أصحو من هذا الحلم الغريب.. ألا أنني لم أصح .. بعد تناولنا العشاء.. أوحت إلينا السيدة ليندا بأن نخرج للتجوّل في المزرعة.. أنا كنت أتتصبب عرقا و في غاية الخجل.. و لا أجرؤ على النظر نحو أروى.. و لا أعرف كيف هي حالتها و تعبيراتها! خرجنا معا إلى المزرعة، و سرنا صامتين لا يلتفت أحدنا إلى الآخر.. قطعنا شوطا طويلا في السير.. و كان الجو باردا فسمعت صوت كفّي أروى يحتكان ببعضهما.. و هنا التفت و نظرت إليها لأول مرّة مذ فارقتها البارحة .. قلت بتلعثم : " أتشعرين بالبرد؟؟ " أروى ابتسمت و نظرت للأسفل و قالت : " قليلا " " أتودين أن .. نعود ؟ " رفعت نظرها إلي و قالت : " لا.. " هربت أنا بنظري إلى الأشجار و أنا أتنحنح و ألمس عنقي بيدي.. و أشعر بالحر ! حقيقة أنا لا أعرف ما أقول و لا كيف أتصرّف ! و لا حتى كيف أفكّر ! و اسمعوا ما قلت : " هذه الأغصان بحاجة إلى ترتيب ! " و أنا أشير إلى الشجرة التي كنت أنظر إليها.. أروى قالت : " نعم " " سوف أقوم بتنظيمها غدا " " نعم " لا أزال أحدق في الشجرة.. كأنني أفتش عن المفردات بين أوراقها ! كيف يجب أن يتصرّف رجل عقد قرانه من فتاة قبل قليل ؟؟ أنا لا أعرف بالضبط، فهي تجربتي الأولى، و لكن بالتأكيد.. ليس التحديق في أغصان الأشجار و أوراقها ! " وليد " نادتني أروى.. فاقشعر جسدي خجلا ، التفت إليها بحرج .. و أنا أمسح قطيرات العرق المتجمعة على جبيني : " نعم ؟ " قال بخجل : " هل أنت .. سعيد بارتباطنا ؟؟ " تسارع نبض قلبي.. توترت كثيرا ألا أنني قلت أخيرا : " نعم، و .. أتمنى أن تكوني أنت سعيدة ! " ابتسمت هي مومئة إيجابا.. ثم قالت و هي تعبث بأصابعها بارتباك : " أنا.. معجبة بك " أنا سكنت تماما عن أي حركة أو كلام.. تماما كسيارة نفذ وقودها كليا ! صامت جامد في مكاني بينما الأشجار تتحرك و الأوراق تتمايل ! الآن رفعت أروى بصرها إلي بابتسامة خجولة لتستشف ردة فعلي... تسللت من بين شفتي هذه الكلمة : " معجبة بي .. أنا ؟؟ " ضحكت أروى ضحكة خفيفة و هي تقول : " نعم أنت ! " قلت متأتئا متلعثما : " أأ لكن .. أنا.. شخص بسيط أعني.. إنني .. خريج سجون و .. " لم أتم ، فقد نفذت الحروف التي كانت مخزنة على لساني فجأة ! أروى قالت : " أعرف، و لا يهمني ذلك .. " تبادلنا الآن نظرات عميقة .. أمددتني بطاقة أحلت عقدة لساني .. قلت : " أروى .. ألا يهمك أن تعرفي .. لم دخلت السجن ؟؟ " أروى هزّت رأسها سلبا.. لكنني قلت : " يجب أن تعرفي... " ثم قلت : " دخلت السجن لأنني ... ... قتلت حيوانا " دهشت أروى و ارتفع حاجباها الأشقرين للأعلى : " ماذا ؟؟ " قلت ، و قد تبدّلت تعبيرات وجهي من الخجل و التوتر ، إلى الجدية و الغضب : " نعم حيوان.. حيوان بشري.. قذر.. كان يجب أن يموت ... " ~ ~ ~ ~ ~ ~ لا أزال مضطجعة على سريري أذرف الدموع الحزينة المريرة... و أعيد في رأسي تقليب الذكريات... و قد مضت ساعات و أنا على هذه الحال كلما دخل سامر أو دانة هتفت : " دعوني وحدي ... دعوني وحدي ... " فالصاعقة لم تكن بالشيء الهيّن ... أعوذ بذاكرتي للوراء.. ذكريات مغبرة غير واضحة ، لا أستطيع سبر غورها و كشف غموضها و فهم أسرارها... مبهمة الملامح .. لا تتضح لي صورتها كما ينبغي ... فأبعدها بسرعة و أجبر رأسي على التفكير بشؤون أخرى ... مساء الغد.. ستغادر دانة مع عريسها بعيدا.. و أظل أنا و سامر.. في الشقة وحدنا.. و مئات من الشحنات المتنافرة تتضارب فيما بيننا... تموت الفكرة في رأسي .. تحت أقدام أفكار أقوى .. في وجه إعصار الذكريات التعيسة المشؤومة التي عشتها قبل تسع سنين ... أتخيل نفسي و أنا في تلك السيارة .. أصرخ .. و أصرخ .. و أهتف و استنجد و أستغيث ... و ما من معين.. ما من شيء .. إلا صفعات متتالية على وجهي.. و كف تمتد إلى وجهي و تكتم أنفي و فمي مانعة إياي من الاستغاثة.. و يد تربط أطرافي الأربعة بذلك الحزام الطويل... ثم ترميني عند المدوسة .. تحت المقعد.. بح صوتي من الصراخ ... كنت وحيدة .. لا أحد من أهلي حولي.. و لا من الناس ... في طريق بري مخيف موحش ...بعيدا عن أدنى معاني الأمان و الطمأنينة و أسمعه يقول : " سيأتي وليد إليك فاخرسي " أحاول أن أتحرر من القيد.. أحاول الركل و الرفس.. و العض.. و كل شيء .. دون جدوى.. فقد كنت أضعف و أوهن من أن أتغلب على ذلك الوحش القذر... حينما ظهر وليد أخيرا .. فتح لي الباب .. قفزت من السيارة راكضة مسرعة نحو وليد.. تعلقّت بعنقه.. أردت أن أحتمي داخل صدره.. أردته أن يبعدني بسرعة عن ذلك المكان.. أن يطير بي عاليا .. إلى حيث لا تصلني يد مؤذ و لا نظراته... وليد... آه وليد... وليد... أخذت أبكي بقوّة.. بكل ما أوتي جسدي المنهك المصعوق من قوة .. سمعتني دانة فوافتني إلى الغرفة قلقة .. اقتربت مني و هي تراني في حالة انهيار لا مثيل لها.. أبكي دما لا دموعا ... " رغد.. أرجوك يكفي ! إلى متى ستظلين هكذا ؟؟ لم لا تنامين فقد انتصف الليل " " لماذا لم تخبروني بالحقيقة ؟ لماذا كذبتم علي ؟ أعيدوا وليد إلي .. أريد وليد .. أريد وليد " دانة أمسكت بوجهي في حيرة و اضطراب ، و قالت : " رغد ! ما الذي تهذين به ؟ أ عاودتك الحمى من جديد ؟؟ " قلت و أنا أنظر إليها بعمق و تشتت في آن معا في تخبط و ضياع و تيه : " لم أعتقد أنه مات .. رأيته يهوي أرضا.. لم أفهم ما حصل .. لكن وليد ضربه بسببي أنا .. أنا .. أنا " و انهرت باكية بحدة على صدرها ... دانة كانت تحاول إبعادي عنها ليتسنى لها النظر إلى وجهي ، و قراءة ما ارتسم عليه، ألا أنني كنت أدفن رأسي في صدرها بإصرار... " رغد .. ما الذي تقولينه ؟؟ " صرّحت : " لم أفهم ذلك .. لم أع ِ شيئا.. لا أذكر ماذا فعل بي .. لكنه ضربني كثيرا .. و ربطني بالحزام .. " " عمّ تتحدثين يا رغد بالله عليك أفصحي ما تقولين ؟؟ " رفعت رأسي أخيرا و نظرت إليها و انفجرت قائلة : " عمار .. الحقير .. الجبان .. اللعين .. القذر .. اختطفني و حبسني في السيارة.. وليد جاء لإنقاذي و ضربه بالصخرة .. أفهمت الآن؟؟ أفهمت ؟؟ أفهمت ؟؟ " لم أزد على ما قلت حرفا واحدا، إذ أنني انهرت كليا .. كما انهارت دانة الجالسة قربي.. و عندما طلبت مني سرد الأحداث ، قلت : " لا أريد أن أتذكر شيئا.. لا أريد أن أتذكر..، وليد .. أريد وليد.. أريد العودة إلى وليد" ~ ~ ~ ~ ~ |
الآن.. و في هذا الصباح الجميل .. و تحت أشعة هذه الشمس الجديدة ، أشعر بأنني شخص آخر .. رجل ولد من جديد...
ابتداء من هذا اليوم، دخلت عالما جديدا.. و ودعت عالمي الماضي .. للأبد أنا اليوم ، وليد .. المزارع البسيط الذي يعمل مع خطيبته و عائلتها في مزرعة صغيرة .. في مدينة بعيدة عن مدينته و أصله و أهله .. الحياة الماضية قد انتهت ، لا رغد و لا حب و لا جنون.. لا ألم و لا عذاب و لا معاناة.. و لا حرب... الليلة ، ستدخل رغد عالم المتزوجين، و تصبح زوجة لأخي ، و أقطع آخر خيط أمل في استعادتها ذات يوم.. الذكرى الحزينة أجبرتها على مغادرة رأسي ،، فأنا لا أريد لدمعة واحدة أن تسيل من عيني على ما فات.. و لأعش حياتي الجديدة كما قدّر الله لها أن تكون ... تخرج أروى من المنزل.. مقبلة نحوي ، تحمل صينية تحوي طعاما... كنت أقف في الساحة أتنفس الصعداء و أشم رائحة الزهور الفواحة ... إنه مكان يستحق أن يضحي المرء بأي شيء من أجل العيش فيه ... " صباح الخير .. وليد " تبتسم لي و يتورد خداها خجلا.. فيجعلها كلوحة طبيعية بديعة من صنع الإله.. أدقق النظر إليها .. فاكتشف أنها آية في الجمال.. جمال لم ألحظه مسبقا و لم أكن لأعره اهتماما .. ملونة مثل الزهور.. و خصلات شعرها الذهبي تتراقص مع تيارات الهواء.. لامعة مثل أشعة الشمس.. سبحان الله .. أحقا ..هذه الحسناء هي زوجة مستقبلي ؟ تقبل إلي و تقول : " أعددت فطورا خاصا بنا " ابتسم ، و أقول : " شكرا .. " ثم نجلس على البساط المفروش في الساحة، و ننعم بفطور شهي لذيذ.. فمخطوبتي هذه ماهرة جدا في الطهو ! ميزة أخرى تجعلني أشعر بالزهو ... إضافة إلى كونها طيبة القلب مثل والديها و خالها.. و أكرر في نفسي : " الحمد لله " لقد لعبت الأقدار دورها الدرامي معي.. و حين ألقت بي في السجن لثمان سنين ، عرّفتني على رجل عظيم، أصبحت في نهاية المطاف زوجا لابنته ! أظن أن على المرء أن يشكر الله في جميع الأحوال و لا يتذمّر من شيء ، فهو لا يعلم ما الحكمة من وراء بعض الأحداث التي يفرضها عليه القدر ... سبحان الله أكثر ما شدّني في الأمر ، هو أنها اعترفت لي البارحة بإعجابها بي ! برغم كل عيوبي و مساوئي، و رغم جهلها بالكثير عن ماضي و أصلي .. ألا أنها ببساطة قالت : " أنا معجبة بك ! " اعتقد أن لهذه الجملة تأثيرها الخاص ... و خصوصا على رجل يسمعها للمرة الأولى في حياته من لسان فتاة ! تحدّثنا عن أمور كثيرة... فوجدتها حلوة المعشر و راقية الأسلوب، و اكتشفت أنها أنهت دراستها الثانوية و درست في أحد المعاهد المحلية أيضا ... قلت : " كان حلمي أن أدرس في الجامعة ! " " أي مجال ؟؟ " " الإدارة و الاقتصاد ، كنت أطمح لامتهان إدارة الأعمال .. تخيّلت نفسي رجل أعمال مرموق ! " و ضحكت ُ بسخرية من نفسي ... قال : " و هل تخلّيت عن هذا الحلم ؟؟ " قلت بأسف : " بل هو من تخلّى عنّي .. " ابتسمت أروى و قالت : " إذن فطارده ! و أثبت له جدارتك ! " " كيف ؟؟ " قالت : " لم لا تلتحق بمعهد إداري محلي ؟ أتعرف.. زوج السيدة التي كانت معنا البارحة يدير أحد المعاهد و قد ييسر أمورك بتوصية من أمي ! " بدت لكي فكرة وهمية ... كالبخار.. ألا أن أروى تحدثت بجد أكبر و جعلتني انظر للفكرة بعين الاعتبار.. و أنميها في رأسي... ~ ~ ~ ~ ~ أتتني دانة و أنا لا أزال على سريري و قالت : " أحضر سامر الفطور... ألن تشاركينا ؟؟ " لم أجب عليها، فانسحبت من الغرفة.. بعد قليل ، طرق الباب مجددا و دخل سامر هذه المرة ، و أغلق الباب من بعده .. أقبل نحوي حتى صار جواري مباشرة ، و قال بصوت حنون أجش : " رغد ... هل ستبقين حبيسة الغرفة هكذا ؟؟ " و لم أجبه ... جلس سامر على السرير و مد يده نحو رأسي، و أخذ يمسح على شعري بحنان... " رغد .. بالله عليك .. " لكنني لم أتفاعل معه .. أدار وجهي نحو وجهه و أجبرني على النظر إليه ... نظراتنا كانت عميقة ذات معنى ... " رغد .. أنا أتعذب برؤيتك هكذا ... أرجوك .. كفى " و لم أجب .. قال : " أ تحبينه لهذا الحد ؟؟ " لما سمعت جملته هذه لم أتمالك نفسي.. و بدأت بالبكاء ... سامر أخذ يمسح الدموع الفائضة من محجري... بلطف و عطف .. ثم قال : " أنا .. لا أرضى عليك بالحزن .. لا أقبل أن أكون سبب تعاسة أحب مخلوقة إلى قلبي ... " اعترى نظراتي الآن بعض الاهتمام .. تابع هو حديثه : " رغد .. سوف .. اتصل به الآن ، و اطلب منه الحضور .. لأخذك معه " ذهلت ، و فتحت جفوني لأقصى حد .. غير مصدقة لما التقطته أذناي ... قال : " لا تقلقي.. فأنا لن أجبرك على الزواج مني.. و بمجرد عودة والدي ّ .. سأطلق سراحك ... " شهقت ... نطقت : " سامر .. !! " سامر ابتسم ابتسامة واهنة حزينة .. ثم قرب رأسي من شفتيه، و قبّل جبيني قبلة دافئة طويلة ... بعد ذلك قال : " سأتصل به في الحال..، هيا.. فدانة تنتظرك على المائدة .. " و قام و غادر الغرفة ... ~ ~ ~ ~ ~ ~ ما كدت أنتهي من وجبة فطوري اللذيذة الطويلة ، حتى أقبلت السيدة ليندا تستدعيني ... " وليد يا بني ، اتصال لك .. " تبادلت و أروى نظرة سريعة ، ثم وقفت و الاضطراب يعتريني... قلت : " من ؟؟ " " شقيقك " و زاد اضطرابي ... أسرعت إلى الهاتف و التقطت السماعة و تحدثت بقلق : " نعم ؟ هنا وليد " " مرحبا يا وليد.. كيف أنت ؟ " " بخير .. " و صمت قليلا.. كنت متوجسا من سماع شيء سيئ ، فقد كان اتصالنا الأخير قبل ليلة فقط ... " ما الأمر سامر ؟؟ " " لا تقلق ! إنني فقط أريد أن أؤكد عليك الحضور الليلة .. " فكرت في نفسي .. و من قال إنني أود الحضور ؟؟؟ لم يكن ينقصني إلا أن أشهد يوم تزف فيه رغد.. حبيبتي الغالية.. معشوقة قلبي الصغيرة إلى أخي .. و أنا واقف أتفرج و أبار ك؟؟ " آسف، لن يمكنني الحضور " " لماذا ؟؟ " " لدي ارتباطات أخرى.. كما أنني متعب و لا طاقة لي بالسفر.." " و دانة ؟؟ ألا تريد رؤيتها قبل رحيلها ؟؟ " لم أجد الجواب المناسب... ثم قلت : " إنها لن تتشرف بوجودي على أية حال " " سأجعلها تحدّثك بنفسها " ثم ناول الهاتف إلى دانة .. فسمعت صوتها يحييني و يسأل عن أحوالي ، ثم تقول : " تعال يا وليد.. يجب أن تحضر عرسي " " آسف ..لا أريد إحراجك أمام زوجك و أهله.. بانتسابك إلى رجل مجرم و خريج سجون " هنا بدأت دانة بالبكاء و هي تقول : " أرجوك وليد.. سامحني.." لم أعقّب .. قالت : " سأكون أتعس عروس ما لم تحضر .. من أجلي " " ستكونين أسعد بدون حضوري " عادت تبكي ثم قالت : " حسنا ، ليس من أجلي .. بل من أجل رغد " و شعرت برغبة مفاجئة في التقيؤ .. أ أحضر من أجل زف حبيبتي إلى عريسها ؟؟ إنني إن حضرت سأرتكب جريمة ثانية ، لا محالة ... زمجرت : " لن أحضر " " و لا من أجلها ؟؟ " " و لا من أجل أي كان ... " " لكنها تريدك أن تحضر .. وليد .. أرجوك " " يكفي يا دانة .. " " وليد.. رغد مريضة " هنا.. تفجر قلبي نابضا بعنف و توترت معدتي و تصلبت عضلاتي و اندفعت أنفاسي بقوة و هتفت : " ما بها رغد ؟؟ " ألا أ دانة لم تجب .. بل أجهشت بكاء.. و يظهر أن سامر تناول السماعة من يدها كنت أهتف : " دانة اخبريني ما بها رغد ؟؟ تكلمي ؟؟ " جاءني صوت سامر قائلا : " لا تقلق ، إنها متوترة بعض الشيء " هتفت بقوة : " سامر اصدقني القول .. ما بها رغد ؟؟ " " لا تخشى شيئا يا وليد.. " " إياكما أن يكون أحدكما قد أذاها في شيء أو أجبرها على شيء ؟؟ " " لا ، شقيقك ليس وغدا ليجبر فتاة على الزواج منه، و هي كارهة " كأن كتلة كبيرة من الثلج وقعت فوق رأسي.. أفقدتني السيطرة على لساني و على أطرافي بل و عيني كذلك... كأنه أغشى علي ... كأني فقدت الوعي و الإدراك .. كأنني سبحت في فضاء رحيب من الوهم و الخيال ... إنني فعلا على وشك إفراغ كل ما ابتلعته على الفطور خارجا من معدتي... و من فمي ... و الشيء الذي خرج من فمي كان صوتا مبحوحا ضعيفا مخنوقا سائلا : " ألن .. تتزوجا الليلة ؟ " سامر لم يجب مباشرة ، ثم قال : " إلا إذا عادت العروس و غيّرت رأيها قبل المساء ... " بعدما أنهيت المكالمة تهالكت على معقد قريب.. و أغمضت عيني .. كنت أريد فقط أن أتنفس .. كان صدري يتحرك بقوة ، تماما كقوة اندفاع الدم خارجا من قلبي ... رغد لن تتزوج الليلة ... رغد لا تزال طليقة .. رغد لا تزال بين يدي ... و شعرت بشيء يلامس يدي ... فتحت عيني و لساني يكاد يصرخ : " رغد ! " فوقعت عيناي على أروى .. واقفة أمامي مباشرة تلامس يدي .. و تقول بابتسامة ممزوجة ببعض القلق : " ما الأمر وليد ؟؟ " كدت أضحك ! نعم إنني أريد الآن أن أضحك لسخرية القدر مني ! بل بدأت بالضحك فعلا ... و أروى ضحكت لضحكي .. و هي تجهل ما حقائق الأمور ... قالت : " ما يضحكك وليد ؟ أضحكني معك ؟؟ " حدّقت بها فرأيت ما لم أتمنى أن أراه ... قلت : " أختي دانة ستتزوّج الليلة .. " اتسعت ابتسامتها و قالت : " صحيح ؟ أين ؟ مبروك ! " هززت رأسي ساخرا من حالي المضحك ، و قلت : " حفلة صغيرة جدا ، في الشقة التي يسكنون فيها.. و هي تريد مني الحضور " اتسعت ابتسامتها أكثر و قالت مبتهجة : " عظيم ! رائع ! أيمكنني الذهاب معك ؟؟ " ]]]يتبع]]] |
الحلقةالتاسعةوالعشرون
******** أعد الدقائق واحدة تلو الأخرى ، في انتظار وصول وليد... رغم أنها مجرد أيام، تلك التي فصلت بيننا مذ لقائنا الأخير ، ألا أنني أشعر بها كالشهور ...لا بل كالسنين ... نعم كالسنين التي قضيتها محرومة من رؤيته ، و معتقدة بأنه سافر يدرس.. بينما كان ... كلما جالت هذه الخاطرة برأسي طردتها مسرعة ، و أجبرت نفسي على الفرح .. فهو سيصل اليوم في أية لحظة... سامر تحاشى الحديث معي منذ الصباح، إنه فقط مهتم بالإعدادات للحفلة البسيطة ، و قد قام هو و دانة بترتيب مائدة في الصالة ، لاستقبال الرجال ، و أخرى في غرفة المجلس ، لاستقبال السيدات . حاولت مساعدتهم ألا أنني كنت متعبة من آثار الصدمة التي تلقيتها مؤخرا و لم تسعفني قواي البدنية على فعل شيء أكثر من المراقبة عن كثب.. بعد تأدية صلاة العشاء ، أتتني دانة لتتحدث معي الحديث الأخير... قبل فراقنا.. ابتداء من هذه الليلة ، سوف لن يكون لدي أخت ٌ أتشاجر معها ! من سيعلّق على مظهري كلما ارتديت شيئا جديدا، من سيوبّخني كلما أخطأت ! من سيغار مني و أغار منه؟؟ من سيعلمني أشياء أجهلها و يفتح عيني على الحياة... دانة كانت بالنسبة لي .. الباب إلى الحياة ، فأنا لم أعرف من هذه الدنيا شيئا إلا عن طريقها... و رغم أن الفرق بين عمرينا هو سنتان و نصف ، ألا أنني أشعر بنفسي صغيرة جدا أمامها .. و أحسها أختي الكبرى و معلّمتي الحبيبة ... لذا ، عندما دخلت الغرفة و أنا لا أزال مرتدية حجاب الصلاة و قالت : " سأتخلص منك أخيرا ! " انفجرنا ضحكا ، ثم بكاء ... شديدا جدا .. جعل سامر يقف عند الباب مذهولا حائرا ! " لمن ستتركينني دانة ؟ سأبقى وحيدة منعزلة عن العالم من بعدك ! " " هنيئا لك ! ستنفردين برعاية أبي و تدليله ! أنت مثل القطة رغد ! مهما كبرت تظلين تعشقين الدلال ! كان الله في عون الرجل الذي ستتزوجينه ! " الآن صارت تشير إليه بالمجهول ! لم تذكر اسم سامر .. فهي إذن اقتنعت أخيرا بأن سامر لم يعد لي ... نظرت أنا نحو سامر فوجدت وجهه المشوه غارقا في الحزن ... و كرهت نفسي... كرهت قدري.. و ظروفي التي انتهت بي و به إلى هذه الحال... أعدت نظري إلى دانة .. نظرة استغاثة.. استنجاد.. أريد من ينقذني من هذا كله.. فوجدت على وجهها ابتسامة خفيفة ، و سمعتها تهمس : " على كل ٍ ، هو يحب تدليلك كثيرا ! " ابتسمت ُ ، و ضممتها إلي ، و أنا أشعر بأنها المرة الأولى التي تفهمني فيها... رباه ! كيف تغيّرت بهذا الشكل بين ليلة و ضحاها ؟؟ هل يعني أنها موافقة على و راضية عن انفصالي عن سامر ، و ارتباطي بوليد؟؟ هل تدرك هي أنني أحب وليد و وليد فقط؟؟ وليد قلبي ... آه كم أنا متلهفة لرؤيتك ... عد بسرعة .. اظهر فورا .. فقد أضناني الشوق و الحرمان ... قمت بعد ذلك و لبست فستانا أهداني إياه سامر من أجل الحفلة ، و ووضعت بعض الحلي ، و التي أيضا أهداني إياها سامر... و ارتديت حذاء عالي الكعب جدا ، كالعادة ، و بصراحة .. أهداني إياه سامر أيضا ! ألا أنني لم أضع أيا من المساحيق على وجهي ، فأنا أريد مقابلة وليد قلبي وجها لوجه ... بدوت مسرورة ، أحوم حولهما كالفراشة ... و عندما حضر الضيوف أحسنت استقبالهم و قدت النساء إلى المجلس ... كانت أم نوار و أخواته، لمياء و بشرى و رحاب ، في غاية الأناقة و الجمال.. يرتدين ملابس مبهرة و حلي كثيرة .. و قد تلوّنت وجوههن بالماكياج المتقن جدا ! شعرت ببعض الخجل من نفسي لكوني بلا ألوان ! مع ذلك ، أبدو جميلة فلا تلتفتوا لهذا الأمر ! حضرت العروس بعد ذلك ، في قمة الأناقة و الروعة .. و أخذنا نلتقط العديد من الصور التذكارية ، و سأظهر جميلة رغم كل شيء ! مر الوقت .. و مع انقضاء كل ساعة ينقضي خيط أمل في حضور وليد.. لماذا لم يحضر بعد ؟؟ أحقا سيأتي أم أنه ... ذهبت إلى المطبخ لجلب المزيد من العصائر فإذا بي أصادف سامر هناك ، يحمل أطباق الجلي ... قلت : " ألم يحضر وليد ؟؟ " سامر تظاهر بالابتسام و قال : " ليس بعد " قلت : " هل أنت واثق من حضوره ؟ هل قال أنه آت ٍ بالفعل ؟؟ " " قال أن لديه ارتباطات و مشاغل أخرى ، لكنه سيحاول الحضور ... " نظرت إلى الساعة المعلقة على جدار المطبخ بيأس... قال سامر : " لا يزال الوقت مبكرا ... لا تقلقي... " ثم غادر المطبخ ... ~ ~ ~ ~ ~ ~ اعتقد إن من حقّي أن آخذ هذه المساحة بين السطور .. لأصف لكم مشاعري المجروحة ... إذا كان هناك رجل تعيس في الدنيا فهو أنا.. كيف لا و أنا أرى مخطوبتي.. محبوبتي رغد.. تعد الدقائق بلهفة في انتظار عودة وليد.. حبيب قلبها الغالي.. أصبت بجنون ما بعده جنون ، حين اعترفت لي و بلسانها أنها تحبه هو.. و أنه السبب في قرارها الانفصال عني ، بعد خطوبة استمرت أربع سنوات أو يزيد... أربع سنوات من الشوق و اللهفة.. و الحب و الهيام.. في انتظار الليلة التي تجمعنا أنا و هي.. عريسين في عش الزوجية.. ثم يأتي وليد.. و في غضون شهور أو ربما أيام .. يسرق قلبها مني ! رغد لم تقل لي من قبل : ( أنا أحبك ) ، و لكنها لم تقل : ( أنا لا أحبك ) .. بل كانت الأمور فيما بيننا تجري على خير ما يرام .. حتى أخبرني وليد نفسه ذات ليلة بأنها ترغب في تأجيل زواجنا... الشيء الذي لا أعرفه حتى هذه اللحظة ، ما إذا كان وليد يعرف بحبها له أو يبادلها الشعور ذاته ، أم لا ... أنا أعرف أنه يحبها و يهتم بها كأخت.. أو ابنة عم .. أما كحبيبة.. كزوجة .. فهذا ما لا أعرفه و لن أحتمل صدمة معرفته ، إن كان يحبها بالطريقة التي أحبها أنا بها.. أتذكر أنها في اليوم الذي عرض عليها ارتباطنا قبل سنين قالت : ( لننتظر وليد أولا ) و لأنه كان من المفترض ألا يعود إلا بعد أكثر من عشر سنين من ذلك الوقت، فإننا عقدنا قراننا بموافقة الجميع... و أنا أنظر إليها هذه اللحظة و هي تراقب الساعة ، أشعر بأن خلايا قلبي تتمزّق خلية ، بل ... و أنويتها تنشطر .. و ذراتها تتبعثر حول المجرّة بأكملها ... لماذا فعلت ِ هذا بي يا رغد ؟؟ إن كنت تجهلين ، فأنا أحبك حبا لا يمكن لأي رجل في الدنيا أن يحمل في قلبه حبا مثله.. حبا يجعلني أدوس على مشاعري و أحرق أحاسيسي رغما عنها ، لأجعلك تحيين الحياة التي تريدينها مع الشخص الذي تختارينه.. و ليته كان أنا... و إن اكتشفت أن وليد لا يكترث لك ، فإنني لن أقف صامتا ، و أدعك تبعثرين مشاعرَ أنا الأولى بها من أي رجل على وجه المعمورة ، بل سآخذك معي.. و أحيطك بكل ما أودع الله قلوب البشر من حب و مودة ، و أحملك إلى السحاب .. و إن شئت ِ .. أتحوّل إلى وليد .. أو إلى أي رجل آخر تريدين أن تصبي مشاعرك في قلبه ... فقط.. اقبلي بي... غادرت المطبخ على عجل ، لئلا أدع الفرصة لرغد لرؤية العبرة المتلألئة في محجري... نعم ، سأبكي لتضحكي أنت ... و سأحزن لتفرحي أنت .. و سأنكسر لتنجبري أنت .. و سأموت ... لتحيي أنت... يا حبيبة لم يعرف الفؤاد قبلها حبيبة .. و لا بعدها حبيبة .. و لا مثلها حبيبة... و سيفنى الفؤاد ، و تبقى هي الحبيبة .. و هي الحبيبة .. و هي الحبيبة ... عندما وصل وليد، كانت الساعة تشير إلى الحادية عشر و خمس و أربعون دقيقة، أي قبل ربع ساعة من ولادة يوم جديد.. خال من رغد ... قرع الجرس ، فأقبلت نحو الباب و سألت عن الطارق ، فأجاب : " أنا وليد " جمّدت مشاعري تحت طبقة من الجليد ، لا تقل سماكة عن الطبقات التي تغطي المحيط المتجمّد الجنوبي... و فتحت الباب .. تلك الطبقة انصهرت شيئا فشيئا ، لا بل دفعة واحدة حين وقعت عيناي على الشخصين الواقفين خلفه ، وليد ، و الفتاة الشقراء ! " مرحبا ، سامر ... " بصعوبة استطعت رد التحية و دعوتهما للدخول ... وليد كان يرى الدهشة الجلية على وجهي مجردة من أي مداراة مفتعلة ! قال ، و هو يشير إلى الفتاة الواقفة إلى جانبه تبتسم بهدوء : " أروى نديم ، تعرفها " قلت : " أأ .. أجل ... " قال : " خطيبتي " و من القطب الجنوبي ، إلى أفريقيا الاستوائية ! اعتقد أنكم تستطيعون تصوّر الموقف خيرا من أي وصف أنقله لكم ! " خـ ... طيبتك !! " " نعم ، ارتبطنا البارحة " نظرت إلى الفتاة غير مصدّق ، أطلب منها تأكيدا على الكلام ، ابتسمت هي و نظرت نحو وليد .. وليد قال : " أ لن تبارك لنا ؟؟ " " أأ ... نعم ...طبعا ... لكنني تفاجأت ، تفضلا على العموم ، مبروك لكما .. " و قدتهما أولا إلى المجلس ، حيث النسوة... طرقت الباب و أنا أنادي أختي دانة... ، فتحت هذه الأخيرة لي الباب و خرجت من فتحته الضيقة ، و حالما أغلقته انتبهت لوليد ... " وليد ! " أشرق وجهها و تفجرت الأسارير عليه .. ثم فتحت ذراعيها و أطبقت عليه معانقة إياه عناقا حميما... " نعم .. كنت أعلم بأنك ستأتي و لن تخذلني ، فأنت لم تخذلني ليلة خطوبتي.. أنا سعيدة جدا.. " وليد قال : " مبروك عزيزتي... أتم الله سعادتك و بارك لك زواجك .. " بعد ذلك ، رفعت رأسها لتنظر إليه ، ثم دفنته في صدره و هي تقول : " سامحني... لم أكن أعلم .. سامحني يا أخي الحبيب .. أنا فخورة بك.. و أتباهى أمام جميع المخلوقات .. بأن لي أخا مثلك.. سامحني .. " وليد ربت على ظهر دانة بحنان ، و إن كانت الدهشة و الحيرة تعلوان وجهه ، و قال مواسيا : " لا بأس عزيزتي .. لا تبكي و إلا أفسدت ِ زينتك ، و غير المغرور رأيه بك ! " رفعت دانة رأسها و انفجرت ضحكا ، و وكزته بمرفقها و هي تقول : " لم تتغير ! سوف أطلب من نوّار أن يضربك قبل خروجنا ! " قلت أنا : " احذري ! و إلا خرج عريسك بعاهة مستديمة ! " و ضحكنا بانفعال نحن الثلاثة... التفت وليد للوراء حتى ظهرت خطيبته الجديدة ، و التي كانت تقف على بعد خطوات ... قال : " اقتربي أروى " اقتربت الفتاة و هي تنظر نحو العروس ، و تحييها .. " مبروك دانة ! كم أنت جميلة ! " دانة حملقت في الفتاة قليلا ثم قالت محدثة وليد : " هل حضرت عائلة المزارع ؟؟ " وليد قال : " أروى فقط.. " فتعجبت دانة ، فوضّح : " خطيبتي " طغى الذهول على وجهها ربما أكثر مني ، قالت باستغراب شديد : " خطيبتك !! " قال وليد : " نعم ، عقدنا قراننا البارحة... باركي لنا " الاضطراب تملّك دانة ، و حارت في أمرها و لزمت الصمت لوهلة ، ألا أنها أخيرا تحدّثت : " فاجأتماني ...بشدّة ! ... مبروك على كل حال " و كان واضحا لنا، أو على الأقل واضحا لي استياؤها من المفاجأة... قلت : " فلتتفضل الآنسة ... " دانة التفتت إلى أروى و قالت : " تفضلي " و فتحت الباب لتسمح لها بالدخول ... و قالت مخاطبة إيّاي : " رغد في غرفتها .. ذهبت لاستبدال فيلم الكاميرا ... " و كان القلق جليا على ملامحها ... قال وليد : " جيد ! أ أستطيع رؤيتها ؟؟ " تبادلنا أنا و دانة النظرات ذات المعنى .. و قالت هي : " نعم ، سأدخل لأقدّم أروى للجميع " و دخلت الغرفة و أغلقت الباب تاركة إياي في المأزق بمفردي ! وليد التفت إلي و قال : " أريد إلقاء التحية عليها.. إن أمكن " أنا يا من كنت أدرك أنها تنتظره بلهفة منذ ساعات... و أنها ستطير فرحا متى ما رأته .. لم أملك من الأمر شيئا .. قلت باستسلام : " أجل ، تفضل ... " و قدت ُ بنفسي ، حبيب خطيبتي إلى غرفتها لكي تقابله ... طرقت الباب و قلت : " رغد .. وليد معي " قاصدا أن أنبهها لحضوره ، لكي ترتدي حجابها.. ألا أنني ما كدت أتم الجملة ، حتى انفتح الباب باندفاع سريع ، و ظهرت من خلفه رغد على حالها .. و هتفت بقوة : " وليد ! " أي رجل في هذا العالم ، يحمل ذرة حب واحدة لخطيبته ، أو حتى ذرة شعور بالملكية و الغيرة ، فإنه في لحظة كهذه سيرفع كفيه و يصفع وجهي الشخصين الماثلين أمامه في مشهد حميم كهذا ... ألا أنني أنا ... سامر العاشق المسلوب الحبيبة .. المغطّي لمشاعره بطبقة من الجليد .. وقفت ساكنا بلا حراك و بلا أي ردّة فعل .. أراقب خطيبتي و هي ترتمي في حضن أخي بقوة .. و تهتف بانفعال : " وليد .. لماذا لم تخبرني .. لماذا .. لماذا .. " ~ ~ ~ ~ ~ و إن كنت أتظاهر بالبرود و الصمود ، ألا أن ما بداخلي كان يشتعل كالحمم... و إن كنت أتظاهر بأنني فقط أود إلقاء التحية ، فإن حقيقة ما بداخلي هي أنني متلهف لرؤية صغيرتي الحبيبة و الإحساس بوجودها قريبة مني ... لقد كنت أسير خطوة خطوة.. و مع كل خطوة أفقد مقدارا من قوتي كما يفقد قلبي السيطرة على خفقاته ، فتأتي هذه الأخيرة عشوائية غير منظمة .. تسبق الواحدة منها الأخرى... و حين فتح الباب.. كنت قد أحرقت آخر عصب من جسدي من شدة التوتر.. لدرجة أنني لم أعد أحس بشيء.. أي شيء .. لم أع ِ إلا و قذيفة ملتهبة قوية تضرب صدري .. تكاد تكسر ضلوعي و تخترق قلبي... بل إنها اخترقته .. فرغد لم تكن تقف أمامي بل .. كانت تجلس في قلبي متربعة على عرش الحكم.. تزيد و تنقص ضرباته قدر ما تشاء .. تعبث بأعصابه كيفما تشاء.. تسيّر أحاسيسه حسبما تريد... و لأنني كنت مذهولا و فاقدا للسيطرة على حركاتي تماما ، فقد بقيت ساكنا.. دون أي ردّة فعل ... كان صدري مثل البحر .. غاصت صغيرتي في أعماقه و قطعته طولا و عرضا .. و خرجت منه مبللة بالدموع و هي تنظر إلي و تهتف : " لماذا لم تخبرني ؟؟ لماذا يا وليد ؟ لم أخفيت عنّي كل هذه السنين ؟؟ " شيء ما بدأ يتحرّك في دماغي المغلق .. و يفتح أبواب الوعي و الإدراك لما يدور من حولي ... بدأت أنتبه لما تقوله صغيرتي .. و بدأت أحس بأظافرها المغروسة في لوحي كتفي ّ كالمسامير ... و بدأت أرى اللآليء المتناثرة من محجريها ... أغلى ما في كوني ... لا شعوريا رفعت يدي إلى وجهها أردم سيل العبر ... " لا تبكي صغيرتي أرجوك .. " فأنا أتحمّل أي شيء في هذه الدنيا ، إلا أن أرى دموع غاليتي تتبعثر سدى... إنني أشعر بحرارة شديدة أجهل مصدرها الحقيقي ... أهو داخلي ؟ أم حضن صغيرتي ؟ أم الشرر المتطاير من عيني ّ أخي، اللتين تحملقان بنا بحدّة.. رغد أزاحت يديها عني ، و ابتعدت خطوة.. و ذلك أثار توترا في المسافة التي بيننا.. تماما كالتوتر الذي يولّده ابتعاد قطعة حديد صغيرة عن مغناطيس ! قالت : " لقد اكتشفت ذلك الآن فقط .. لماذا لم تخبرني بأنك .. بأنك .. كنت في السجن ؟؟ " و إن كانت مشاعري قبل قليل مخدّرة من تأثير قرب رغد ، فإنها استيقظت كلها دفعة واحدة فجأة.. و تهيّجت .. فصرت أشعر بكل شيء ، حتى بحرارة البراكين الخامدة في اليابان ! نقلت نظري من رغد ، إلى سامر ، إلى رغد ، إلى سامر ... و حين استقرّت عيناي عليه، رأيت قنبلة متوهجة ، على وشك الانفجار... لطفك يا رب ... قلت أخيرا : " أنت من أخبرها ؟؟ " سامر لم يجب بكلمة ، بل بإيماءة و تنهيدة قوية نفثها صدره .. و شعرت أيضا بحرارتها... أعدت النظر إلى رغد.. فاسترسلت في سؤال : " لماذا لم تخبرني؟؟ " أخبرك ؟؟ بأي شيء يا رغد ؟؟ أ لم تري الطريقة التي عاملتني بها دانة ، بل و الناس أجمعون؟ أتراك تنظرين إلي ّ الآن مثلهم ؟؟ لا يا رغد .. أرجوك لا .. قلت بلا حول و لا قوة : " ما حصل..، لكن... أرجو ألا يغيّر ذلك أي شيء ؟؟ " و انتظرت إجابتها بقلق... قالت : " بل يغيّر كل شيء ... " و أذهلتني هذه الإجابة بوضوحها و غموضها المقترنين في آن واحد... قالت: " وليد ... وليد أنا ... " و لم تتم ، إذ أن دانة ظهرت في الصورة الآن مقبلة نحو غرفة رغد.. و تكسوها علامات القلق... جالت بمقلتيها بيننا نحن الثلاثة و استقرت على سامر... شعرت أنا بأن هناك شيء يدور في الخفاء أجهله ... سألت : " ما الأمر ؟؟ " لم يجب أي منهم بادىء ذي بدء ألا أن دانة قالت أخيرا، مديرة دفة الحديث لمنعطف آخر: " رغد ! الكاميرا ! سنستدعي نوّار الآن ! " ثم التفتت نحو سامر : " إنه منتصف الليل ! هيا استدعه ! " و يبدو أن ترتيباتهم كانت على هذا النحو ، أن يدخل العريس إلى تلك الغرفة لالتقاط بعض الصور مع العروس و مع قريباته قبل المغادرة " سامر نطق أخيرا : " سأستدعيه... أخبريهن " و رغد تحرّكت الآن من أمامي متجهة نحو المنضدة و من فوقها تناولت الكاميرا و أقبلت نحو دانة و مدّت الكاميرا إليها ، فقالت دانة: " أعطها لسامر الآن .. " التفتت رغد نحو سامر .. و قدّمتها إليه... سامر نظر إلى رغد نظرة عميقة.. جعلتها تطأطىء رأسها أرضا ... أخذ سامر الكاميرا منها.. و قال .. " سنلتقط له معنا بعض الصور ثم نعيدها إليكن .. " قال ذلك و وجه خطاه نحو الصالة... هممت ُ أنا باللحاق به... ألا أنني توقفت ، و التفت إلى رغد ... و قلت : " كيف قدمك الآن ؟ " رغد و التي كانت لا تزال مطأطئة برأسها رفعته أخيرا و نظرت إلي مبتسمة و قالت : " طاب الجرح... " قلت : " الحمد لله " ثم أوليتها ظهري منصرفا إلى حيث انصرف أخي ... ~ ~ ~ ~ ~ ~ |
كنت مجنونة، لكنني لم أتمالك نفسي بعدما رأيت وليد يقف أمامي... بطوله و عرضه و شحمه.. جسده و أطرافه... و عينيه و أنفه المعقوف أيضا ...
كأن سنينا قد انقضت مذ رأيته آخر مرة ، ينصرف من هذه الشقة جريحا مكسور الخاطر ... اندفعت إليه بجنون... و أي جنون ! ظللت أراقبه و هو يوّلي .. حتى اختفى عن ناظري.. و بقيت محدّقة في الموضع الذي كان كتفاه العريضان يظهران عنده قبل اختفائه،و كأنني لازلت أبصر الكتفين لأمامي ! " رغد ! " نادتني دانة ، فحررت أنظاري من ذلك الموضع و التفت إليها... و رأيتها تحدّق بي و علامات غريبة على وجهها... أنا ابتسمت .. لقد قرّت عيني برؤية وليد قلبي.. و لأنه هنا ...، فقط لأنه هنا ، فإن هذا يعطيني أكبر سبب في الحياة لابتسم ! لا أعرف لم كانت نظرة دانة غريبة.. ممزوجة بالأسى و القلق.. قلت : " ما بك ؟ " " لا ... لا شيء " " سأغسل وجهي و أوافيكن... " و أسرعت قاصدة الحمّام ... طائرة كالحمامة ! بعد ذلك ، ذهبت إلى غرفة المجلس...مرتدية حجابي ، إذ أنني سأبقى لأتفرج على العريسين و لمياء تلتقط الصور لهما.. جميعهن كن يجلسن في أماكنهن كما تركتهن قبل قليل، نظرن إلي ّ جميعا حالما دخلت.. فابتسمت في وجوههن... فجأة لمحت وجها غريبا في غير موقعه ! وجه أروى الحسناء ! دُهشت و علاني التعجب ! وقفت هي مبتسمة و قائلة : " مرحبا رغد ! كيف حالك ؟ و كيف صحتك ؟؟ " " أروى ! " " مفاجأة أليس كذلك ؟؟ " اقتربت منها و صافحتها و الدهشة تتملكني...و نظرت في أوجه الأخريات بحثا عن وجه أم أروى ... أو حتى وجه العجوز ! قلت : " أهلا بك ! أحضرت ِ بمفردك ؟؟ " ابتسمت و قالت : " مع وليد " مع من ؟؟ مع وليد ؟؟ ماذا تقصد هذه الفتاة ؟؟ " مع وليد ؟؟ " ازدادت ابتسامتها اتساعا و حمرة وجنتيها حمرة و بريق عينيها بريقا ... و التفتت نحو دانة ثم نحوي و قالت : " ألم تخبرك دانة ؟؟ " التفت نحو دانة و أنا في غاية الدهشة و القلق.. و رميتها بنظرات متسائلة حائرة.. دانة أيضا نظرت إلي بنفس القلق.. ثم قالت : " إنها ... إنها و وليد... " و لم تتم... نظرت إلى أروى ، فسمعتها تقول متمة جملة دانة ، تلك الجملة التي قضت علي و أرسلتني للهلاك فورا : " ارتبطنا .. البارحة " عفوا ؟؟ عفوا ؟؟ فأنا ما عدت أسمع جيدا من هول ما سمعت أذناي مؤخرا ! ماذا تقول هذه الفتاة ؟؟ " ماذا ؟؟ " و رأيتها تبتسم و تقول : " مفاجأة ! أ ليس كذلك ؟؟ " نظرت إلى دانة لتسعفني ... دانة أنقذيني مما تهذي به هذه ... ما الذي تقوله فلغتها غريبة.. و شكلها غريب.. و وجودها في هذا المكان غريب أيضا... دانة نظرت إلي بحزن ، لا ... بل بشفقة ، ثم أرسلت أنظارها إلى الأرض... غير صحيح ! غير ممكن .. مستحيل ... لا لن أصدّق ... " أنت و .. وليد ماذا ؟؟ ار... تبطـ.. ـتما ؟؟ " " نعم ، البارحة ..و جئت معه كي أبارك للعريسين زواجهما.." خطوة إلى الوراء، ثم خطوة أخرى.. يقترب الباب مني، ثم ينفتح.. ثم أرى نفسي أخرج عبره.. ثم أرى الجدران تتمايل.. و السقف يهوي.. و الأرض تقترب مني.. و الدنيا تظلم.. تظلم.. تظلم..و يختفي كل شيء... " سامر .. تعال بسرعة" هتاف شخص ٌ ما.. يدوي في رأسي.. أيدي أشخاص ما تمسك بي.. أذرع أشخاص ما تحملني.. و تضعني فوق شيء ما.. مريح و واسع.. أكفف تضرب وجهي.. أصوات تناديني.. صياح.. دموع.. لا ليست دموع.. إنها قطرات من الماء ترش على وجهي.. أفتح عيني.. فأرى الصورة غير واضحة.. كل شيء مما حولي يتمايل و يتداخل ببعضه البعض.. الوجوه، الأيدي.. السقف.. الجدران.. أغمض عيني بشدة.. أحرّك يدي و أضعها فوق عيني ّ .. لا أتحمل النور المتسلل عبر جفنيّ .. أشعر بدوار.. سأتقيأ.. ابتعدوا.. ابتعدوا... ~ ~ ~ ~ ~ عندما استردّت رغد وعيها كاملا، كان ذلك بعد بضع دقائق من حضورنا إلى الممر و رؤيتنا لها مرمية على الأرض... كنا قد سمعنا صوت ارتطام ، شيء ما بالأرض أو الجدران ، ثم سمعنا صوت دانة تهتف : " سامر ..تعال بسرعة" قفزنا نحن الاثنان، أنا و سامر هو يهرول و أنا أهرول خلفه تلقائيا حتى وصلنا إلى هناك.. دانة كانت ترفع رأس رغد على رجلها و تضرب وجهها محاولة إيقاظها.. و رغد كانت مغشي عليها... أسرعنا إليها ، و مددت أنا يدي و انتشلتها عن الأرض بسرعة و نقلتها إلى سريرها و جميعنا نهتف " رغد.. أفيقي... " صرخت : " ماذا حدث لها ؟؟ " دانة أسرعت نحو دورة المياه، و عادت بمنديل مبلل عصرته فوق وجه رغد، و التي كانت تفتح عينيها و تغمضهما مرارا... استردت رغد وعيها و أخذت تجول ببصرها فيما حولها.. و تنظر إلينا واحدا عقب الآخر... قال سامر : " سلامتك حبيبتي... هل تأذيت ؟؟ " قالت دانة : " أأنت على ما يرام رغد ؟؟ " قلت أنا : " ما ذا حدث صغيرتي ؟؟ " نظرت رغد إلي نظرة غريبة.. ثم جلست و صاحت : " سأتقيأ " بعدما هدأت من نوبة التقيؤ ، وضعت رأسها على صدر سامر و طوقته بذراعيها و أخذت تبكي ... سامر أخذ يمسح على رأسها المغطى بالحجاب... و يتمتم : " يكفي حبيبتي، اهدئي أرجوك.. فداك أي شيء..." قلت : " صغيرتي ؟؟ " رغد غمرت وجهها في صدر سامر... مبلله ملابسه بالدموع.. " صغيرتي ..؟؟ " " دعوني وحدي.. دعوني وحدي .. " و أجهشت بكاء شديدا... لم أعزم الحراك و لم استطعه، ألا أن دانة قالت لي : " لنخرج وليد " قلت بقلق : " ماذا حدث يا دانة ؟؟ " قالت : " قلت لك... إنها مريضة! هذه المرة الثالثة التي يغشى عليها فيها منذ الأمس... " صعقني هذا النبأ.. قلت مخاطبا رغد: " رغد هل أنت بخير..؟؟ " لم تلتف إلي ، بل غاصت برأسها أكثر و أكثر في صدر سامر و قالت : " دعوني وحدي... دعوني وحدي.." يد دانة الآن أمسكت بيدي ، و حثّتني على السير إلى الخارج، ثم أغلقت الباب... حاولت التحدث معها ألا أنها اعترضت حديثي قائلة : " سوف أعود لأطمئن ضيفاتي.. وليد استدع نوّار ... " و انصرفت... بقيت واقفا عند باب غرفة رغد غير قادر على التزحزح خطوة واحدة.. ماذا حل ّ بصغيرتي ؟؟ و لماذا تتشبث بسامر بهذا الشكل ؟؟ هل صحتها في خطر؟ هل عدلت عن فك ارتباطها به ؟ ماذا يحدث من حولي..؟؟ لحظات و إذا بي أرى دانة تظهر من جديد " وليد أ لم تتحرك بعد ! هيا استدعه " " حسنا.. " و عدت إلى صالة الرجال، و رأيتهم أيضا متوترين يتساءلون عما حدث، طمأنتهم و استدعيت العريس و قدته إلى مجلس النساء.. حيث قامت والدته أو إحدى شقيقاته بالتقاط الصور التذكارية لهن مع العريسين... أروى كانت بالداخل أيضا.. عدت إلى بقية الضيوف و أنا مشغول البال .. بالكاد ابتسم ابتسامة مفتعلة في وجه من ينظر إلي... فيما بعد، جاء نوّار و قال : " سننطلق إلى الفندق الآن.." و كان من المفروض أن يسير موكب العريسين إلى أحد الفنادق الراقية، حيث سيقضي العريسان ليلتهما قبل السفر يوم الغد مع بقية أفراد عائلة العريس إلى البلدة المجاورة و من ثم يستقلون طائرة راحلين إلى الخارج... سامر كان من المفترض أن يقود هذا الموكب.. ذهبت إلى غرفة رغد.. و طرقت الباب.. " سامر.. العريسان يودان الذهاب الآن.." فتح الباب، و خرج سامر.. ينظر إلي بنظرة ريب .. قلت: " كيف رغد؟؟ " قال بجمود : " أفضل قليلا" أردت أن أدخل للاطمئنان عليها، لكن سامر كان يقف سادا الباب.. حائلا دون تقدّمي و تحرجت من استئذانه بالدخول.. قلت : " إنهما يودان الانصراف الآن... " سامر نظر إلي ّ بحيرة .. ثم قال : " أتستطيع مرافقتهما ؟؟ " " أنا ؟؟ " " نعم يا وليد، فرغد لن تتمكن من الذهاب معنا و علي البقاء معها " فزعت، و قلت: " أهي بحالة سيئة؟ " " لا، لكنها لن ترافقنا ، بالتالي سأبقى هنا " " إنني أجهل الطريق.. " " اطلب من أحد أخوته مرافقتكم..." لم تبد لي فكرة حسنة، قلت معترضا: " اذهب أنت يا سامر، و أنا باق هنا مع رغد و أروى..." أقبلت دانة الآن، و سألت عن حال رغد، ثم دخلت إلى غرفتها... ~ ~ ~ ~ ~ " أنا تعيسة جدا " كان هذا جوابي على سؤال دانة التي أتتني بقلق لتطمئن علي.. دانة جلست إلى جواري على السرير و أخذت تواسيني.. ألا أن شيئا لا يمكنه مواساتي في الصاعقة التي أحلّت بي... " أرجوك يا رغد.. كفى عزيزتي.. ألن تودّعينني ؟ إنني راحلة عنك للأبد ! " و جاءت جملتها قاصمة لظهري... " لا ! لا تذهبي و تتركيني ! سأكون وحيدة ! أريد أمي .. أريد أمي..." و بكيت بتهيج.. " يكفي يا رغد ستجعلينني أبكي و أنا عروس في ليلة زفافي التعسة ! " انتبهت لنفسي أخيرا.. كيف سمحت لنفسي بإتعاس أختي العروس في أهم ليالي عمرها؟ ألا يكفي أنها حرمت من حفل الزفاف الضخم الذي كانت تعد له منذ شهور... و خسرت كل ملابسها و حليها و أغراض زفافها.. و احترق فستان العرس تحت أنقاب المدينة المدمّرة !؟ طردت بسرعة الدموع المتطفلة على وجهي، و أظهرت ابتسامة مفتعلة لا أساس لها من الصحة و قلت : " عزيزتي سأفتقدك ! ألف مبروك دانة " تعانقنا عناقا طويلا.. عناق الفراق.. فبعد أكثر من 15 عاما من الملازمة المستمرة 30 يوما في الشهر، نفترق..و دموعنا مختلطة مع القبل... قدم سامر.. و قال : " هيا دانة .. " صافحتها و قبلتها للمرة الأخيرة... ثم جاء دور سامر، و من ثمّ الرجل الضخم الذي كان يقف في الخارج عند الباب مباشرة... لم استطع أن ألقي عليه و لا نظرة واحدة.. لم أشأ أن أنهار من جديد.. اضطجعت على سريري، و سحبت الغطاء حتى أخفيت وجهي أسفل منه... سمعت سامر يقول : " سآخذهما للفندق و أعود مباشرة.. وليد و خطيبته سيبقيان معك " و لم تهز في ّ هذه الجملة شعرة واحدة ، بل أغمضت عيني و أنا أقول : " سأنام.." أحسست بالجميع يغادرون الغرفة و يغلقون الباب، ثم اختفت الأصوات و الحركات.. لقد غادر جميع الضيوف.. و في الشقة لم يبق إلا أنا.. و وليد.. و الأجنبية الدخيلة... دخلت في نوم عميق أشبه بالغيبوبة.. ألا أنني في لحظة ما..أحسست بدخول شخص ما إلى الغرفة.. و اقترابه مني.. ثم شعرت بيد تمتد إلى لحافي فتضبطه فوقي، ثم تمسح على رأسي من فوق حجابي الذي لم أنزعه، ثم توهمت سماع همس في أذني ... " أحلام سعيدة يا حبيبتي" و ابتعد المجهول.. و سمعت صوت انغلاق الباب.. فتحت عيني الآن فوجدت الغرفة غارقة في السكون و الظلام.. هل كان ذلك وهما؟؟ هل كان تهيؤا ؟؟ حلما؟؟ لست أكيدة.. و إن كان حقيقة ، فالشيء الذي سأكون أكيدة منه ، هو أن الشخص كان سامر... ~ ~ ~ ~ ~ ~ استخدمت غرفتي السابقة بينما جعلت أروى تستعمل غرفة العروس، للمبيت تلك الليلة... لقد كنت شديد القلق على صغيرتي .. و لم أنم كما يجب.. كنا قد قررنا البقاء ليومين قبل معاودة الرحيل، و كان هذان اليومان من أسوأ أيام حياتي ! رغد كانت مريضة جدا و ملازمة للفراش، و سامر كان يمنعني من الدخول إلى غرفتها أغلب المرات، و في المرات القليلة التي سمح لي بإلقاء نظرة، كنت أرى رغد شاحبة جدا و مكتئبة للغاية ، ترفض الحديث معي و تطلب منا تركها بمفردها ضاق صدري للحالة التي كانت عليها و سألت سامر: " ماذا حدث لها ؟ هل حدث شيء تخفونه عني؟ لم هي كئيبة هكذا؟؟ هل آذاها أحد بشيء ؟؟ " قال سامر : " إنها كئيبة لفراق دانة ، فكما تعرف كانت تلازمها كالظل... " " لكن ليس لهذا الحد.. أنا أشعر بأن في الأمر سر ما.. " نظر إلي شقيقي نظرة ارتياب و قال : " أي سر؟؟ " قلت : " ليتني أعرف... " كنا خلال هذين اليومين نتناول وجباتنا أنا و أروى في المطاعم، و في الليلة الأخيرة، عندما عدنا من المطعم ، وجدنا رغد و سامر في غرفة المائدة يتناولان العشاء... فرحت كثيرا، فهي علامة جيدة مشيرة إلى تحسّن الصغيرة.. قلت : " صغيرتي.. حمدا لله على سلامتك، أتشعرين بتحسّن ؟؟ " رغد نظرت نحوي بجمود ، ثم نحو أروى ، ثم وقفت ، و غادرت الغرفة ذاهبة إلى غرفة نومها... وقف سامر الآن و نظر إلي بعصبية : " أ هذا جيّد؟ ما كدت أصدق أنها قبلت أخيرا تناول وجبة.. " قلت بانزعاج : " هذه حال لا يصبر عليها، لسوف آخذها إلى الطبيب.. " و سرت مسرعا نحو غرفتها ، فأقبل شقيقي من بعدي مسرعا : " هيه أنت.. إلي أين ؟؟ " التفت إليه و قلت : "سآخذ الفتاة للمستشفى " قال بغيظ : " من تظن نفسك؟ ألا تراني أمامك؟؟ خطيبتك هي تلك و ليست هذه " قلت مزمجرا : " قبل أن تكون خطيبتك هي ابنة عمّي ، و إن كنت نسيت فأذكرك بأنها ستنفصل عنك، و لتعلم إن كنت جاهلا بأن أمورها كلها تهمني و أنا مسؤول عنها كليا ، مثل والدي تماما " و هممت بمد يدي لطرق الباب و من ثم فتحه ، ألا أن سامر ثار... و أمسك بيدي و أبعدها بقوة.. تحررت من مسكته و هممت بفتح الباب ألا أنه صرخ : " ابتعد " و قرن الصرخة بانقضاض على ذراعي، و سحب لي بقوة... دفعت به بعيدا عني فارتطم بالجدار، ثم ارتد إلي و لكمني بقبضته في بطني لكمة عنيفة... اشتعلت المعركة فيما بيننا و دخلنا في دوامة جنونية من الضرب و الركل و اللطم و الرفس.. أروى واقفة تنظر إلينا بذهول.. و باب غرفة رغد انفتح .. و ظهرت منه رغد مفزوعة تنظر إلينا باستنكار و توتّر " سامر... وليد... يكفي ... " ألا أن أحدنا لم يتوقّف... في العراك السابق كان سامر يستسلم لضرباتي .. أما الآن ، فأجده شانا الهجوم علي و يضربني بغيظ و بغض.. كأن بداخله ثأرا يود اقتصاصه مني... بعد لحظات من العراك، و يد الغلبة لي، و أنا ممسك بذراع أخي ألويها للوراء و أؤلمه ، جاءت رغد تركض نحوي صارخة : " أترك خطيبي أيها المتوحّش " و رأيت يديها تمتدان إلي ، تحاولان تخليص سامر من بين يدي... أمسكت بذراعي و شدّتني بقوة، فحررت أخي من قبضتي و استدرت لأواجهها... صرخت بوجهي : " وحش.. مجرم.. قاتل.. أكرهك.. أكرهك.. أكرهك " و بقبضتيها كلتيهما راحت تضربني على صدري بانفعال ضربة بعد ضربة بعد ضربة... و أنا وقف كالجبل بلا حراك.. أشاهد.. و اسمع.. و أحس.. و أتألم.. و أحترق... و أتزلزل ... و أموت.... ]]]يتبع]]] |
الساعة الآن 09:02 PM. |