عرض مشاركة واحدة
قديم 14-11-2006, 01:39 PM   رقم المشاركة : 8
أشرف محمد كمال
( ود فعّال )
 
الصورة الرمزية أشرف محمد كمال
 






أشرف محمد كمال غير متصل

Icon5

الوجــوه الخــاوية
(3)
... عندما كنا صغاراً..كنا نشاهد جدتى وهى تجلس القرفصاء.. فى مكانها المعتاد خلف باب الدار..ترقب بعينين ذابلتين..ونظراً أضحى خافتاً..المارين فى طرقات البلدة..كان جسدها النحيل الصغير..بعظامه البارزة.. قد أنحنى بفعل السنين..وإمتلأ الوجه الذى لوحته الشمس بالأخاديد ..وتجاعيد أحزان وشجون لا حصر لها..وكانت قدماها جافتين كأعواد حطب مزروع فى اليابسة.
...وعلى الرغم من ذلك كنا نجد فى ذلك الجسد الهزيل حضنا وسيعاً.. يمتلأ بالأمان والدفء..وكنا نجد لديها آلاف من القصص والحكايات التى لا تنتهى ..وكنا نمتلئ بالكثير من علامات الإستفهام والتعجب..؟!
...كانت حواديتها لا تخلو أبداً من العظات والحكم..والخرافات والخزعبلات ..قصص أبطالها من الجان والمردة وبطلاتها من أمثال أمنا( الغولة) و(أم رجل مسلوخة)..كانت قادرة على أن تجذب انتباهنا تاركين لعبنا وركضنا خلف بعضنا وصياحنا الذى يغضب أباءنا فى قيلولة ما بعد الظهيرة.. وتجعلنا نلتف حولها ننصت إليها ..بأوجه تملأها البراءة..وعيون تتملكها الدهشة ..وعقول يسكنها الخوف وعشرات الصور المرعبة.
...كذلك كنا نجد لديها ..خزائن حلوى لا تنضب..حتى أننا كنا نتعجب من أين تأتيها كل هذه الحلوى..؟! لكن ولما العجب ..وهى تعرف كل خبايا الجن وأسرارهم..!!
...يكفى أن تمد يدها دخل طيات جلبابها حنى نجدها مفرودة أمامنا ملئ بتلك الحلوى المميزة بلونيها الأحمر والأبيض على هيئة مختلف الحيوانات..ناهيك عن أطنان الملبس والحمص..!!
...لا أتذكر أننى رأيتها يوماً على غير هيأتها تلك..حتى أننى كنت أحسب أنها ولدت على ذات نفس الشكل..فملامح ووجهها لا تتغير..ولا تبرأ أبداً من علاتها..ولا من صرخات آلام عظامها الهشة المستمره..لا أذكر أننى رأيتها تضحك بحق..أو شاهدت انبساطة أخاديد الألم فى الوجه..خلف ابتسامة ارتياح ..!! لم أكن اعرف ما هى علتها بالضبط..؟! لكننى كنت أتمنى لو أجد دواءً سحريا ..يشفيها من كل الآلام.
...حنى عيونها كنت أظنها تحجرت فيها الدموع..فلم أشاهدها تبكى قط ..إلى أن رأيتهما تتلألأن ذات يوم من الأيام ..عندما سمعت فى المذياع صوت (الكحلاوى) وهو ينشد((أنا جسمى عليل ودواه النبى....أديت رسالة الله .. يارسول الله )).. وتكرر سقوط حبات اللؤلؤ مرات عديده كلما سمعت نفس الأغنية ..حتى بت أناديها كلما وجدت تلك الأغنية تذاع فى المذياع أو التلفاز..لأسعد بتقلصات ذاك الوجه الذى أحب..!!
... ذات يوم .. أمسكت بى .. بينما كنت أركض خلف أقرانى نلعب (الست غمايه) – ولا أدرى لما اختارتنى أنا دون سائر أحفادها..؟! – وسألتنى:
- أنت بتحبنى يا مصطفى..؟!
أجبتها فى ضيق المتعجل بالذهاب:
- أيوه يا تيته..!!
استوقفتنى ثانية وسألتنى فى تأثر بالغ:
- يعنى هتزعل عليا لما أموت..؟
أجبتها فى استغراب من لم يفهم معنى السؤال :
- أيوه طبعاً..!!
فأردفت قائلة وهى تحتضننى فى شوق وتقبل رأسى:
- يعنى هتبقى تفتكرنى .. و تيجي تزورنى .. وتقول الله يرحمك يا ست...؟!
سألتها بسذاجة و عفوية الطفولة:
- أزورك فين...؟!
لكنها لم تجب أبداً عن هذا السوأل..أنما تركتنى لا أعرف وحدى فيما بعد الجواب..!!
... ماهى إلا أيام قليلة..حتى رقد الجسد الصغير المتعب رقدته الأخيرة على فراش المرض الطويل..لقد باتت غير قادره على اختلاق الحواديت..غير قادرة على إداء الصلاة جلوساً كما عودتنا..وعينيها علينا.. كثيراً ما كانت تقطع صلاتها لتنهرنا .. أذا ما وجدت أحدنا يحاول معرفة ما يوجد خلف عين أخيه..أو يشج رأس أحد أولاد أعمامه أو عماته..ويفجر نهر الدم معلناً عن اكتشاف جديد..ثم ماتلبث أن تعود.. لتكمل صلاتها فى خشوع تام ..!!
... رقدت تلفظ آخر الأنفاس والجسد مازال ينبض بالأسرار..انتابنى وقتها شعور غريب مبهم..بأننى عرفت صورة الموت..و حفرت ملامحه فى ذاكرتى منذ ذلك اليوم..!!
... وبرغم حداثة سنى فى ذلك الوقت ..إلا أننى لم أخف منه..حينما جاء ليخطف روح جدتى..بكل سهولة ويسر..بل أحسست أنه يحمل بين يديه حكمة لا يدركها العقل..ورحمة من الله وسعت كل شيء.. وراحة أبدية لا نهائية..ودواء لكل داء.. كثيراً ما فتشت عنه..!!
... أرتسم على ذلك الوجه الطفولى المتغضن شبح ابتسامة رضا.. وانبسطت أساريره فى ارتياح تام.. وسلام مع آخر الأنفاس ..وأكاد أقسم أننى رأيت عندها نوراً شفيفاً يصعد إلى السماء.






التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة


white heart