كانت هذه هي كلمة السر التي أنهت واحدة من أكبر وأخطر عمليات رجال المخابرات المصرية, عيون مصر الساهرة.
هي الكلمة التي شكلت السطر الأخير في قصة مذهلة, تتابعت فصولها علي امتداد زمني طويل, وتضمنت مشاعر إنسانية مركبة أو معقدة, أفشت في كل وقائعها وجوانبها, معاني متضاربة عن الخيانة.. والسقوط.. والوطنية.. والكفاءة المهنية العالية!!
وقبل أن تتعاقب فصول هذه القصة علي الورق, والتي نحكيها ونحن نحتفل بالعيد الفضي لنصر أكتوبر العظيم, ربما يلزم أن نشير إلي بعض ملامحها, واطار العمليات التي تمت فيه.
فنحن أمام عملية أمنية بالغة التشابك, لم يتم خلالها ـ فقط ـ مراقبة أو متابعة الهدف أو الجاسوس, وانما تم استخدامه أيضا كقناة يتم ـ عبرهاـ تسريب المعلومات والبيانات المضللة إلي العدو حتي يتوه عن ساعة الصفر في حرب أكتوبر المجيدة, التي كانت آخر ما يفكر فيه, أو تخطر له علي بال.
ثم أننا أمام عملية دارت بعض وقائعها علي أرض أجنبية, وبالذات في العاصمة البريطانية لندن, ومن ثم فإن حجم الإنجاز المهني ـ إذا جاز التعبيرـ الذي حققه رجال المخابرات المصرية في المتابعة والمراقبة, ثم في إنهاء العملية والقبض علي الجاسوس ليلقي جزءه الرادع العادل, يعد ـ من الناحية الفنيةـ إعجازا حقيقيا, واستخداما نموذجيا لكل الإمكانيات والأدوات المتاحة,, لتحقيق النتيجة القصوي, والانتصار علي الموساد جهاز المخابرات الإسرائيلي في معركة أخري, ضمن معارك حرب الجاسوسية والمعلومات.
وأخيرا.. فإننا أمام عملية هي ـ في أبسط وصف لهاـ عمل من أعمال الحرب, لأنها ليست عملية جمع معلومات أو تجسس عادي, ولكن عملية كان لها مردود مباشر علي عمليات الحرب وعلي التشويش الكامل, علي المعلومات التي يستند إليها فكر الجيش الإسرائيلي في تشكيل أو اتخاذ قراره العملياتي المباشر علي الأرض..
هي واحدة من حكايات النصر.. نكشف عنها مع الاحتفالات بهذا النصر..
هي واحدة من أوراق كثيرة في ملفات المخابرات العامة, تشير ـ بكل الاعتزاز والفخارـ إلي قدرات الرجال الذين راقبوا وتابعوا بعيون الذئاب وسمع الثعالب, حتي أوقعوا بواحد من أخطر الجواسيس قبيل حرب تحرير التراب الوطني من بين براثن العدو عنوة واقتدارا, وابان معارك أكتوبر المجيدة التي صعدت بالكرامة العربية إلي أعنة الجبال الرواسي.
وعندما تأكد رجال المخابرات المصرية من أنهم قد استخدموا هذا الجاسوس في تحقيق كل أهدافهم من العملية, وسربوا عبر القناة التي يمثلها كل مايريدون تسريبه إلي إسرائيل, كانت ثمة كلمة واحدة تحمل إليهم التوجيه بإنهاء العملية والقبض علي الهدف لكي ينال قصاصه..
الكلمة كانت..(الصاعقة)!
ولن نحكي ـ هنا ـ الفصل الأخير من هذه القصة, التي تعد واحدة من أكثر قصص الجاسوسية إثارة, ولكننا سنحكي فصولها من البداية, ونكاد نحبس أنفاسنا ونحن نتابع وثائقها بالغة التشويق فصلا بعد فصل, ومطاردة بعد مطاردة, ومراقبات, ومداورات, ومراوغات في الخفاء والعلن, داخل فنادق العاصمة البريطانية, وشوارعها وحدائقها, حيث شهدت ساعة بساعة, ويوما بيوم فصول هذه القصة, والتي نكشف عنها الستار لأول مرة, بعد خمسة وعشرين عاما من وقوعها, وفي اليوبيل الفضي لنصر أكتوبر العظيم.
قصة بدأت بكلمة الخيانة.. وأنهتها ـ كالصاعقةـ كلمة الصاعقة.. تماما كما كانت ضربة الطيران الحاسمة , صاعقة حرب73 التي عجلت بنهاية الأسطورة الإسرائيلية.
علي الرغم من أن الجو كان ربيعا نموذجيا في لندن يوم16 مايو1972, وعلي الرغم من أنه خلا من أية برودة, فإن رعدة سرت في جسد هشام, وهو يقف علي عتبات كازينو البلاي بوي علي ناصية كيرزون ستريت, وبارك لين.
لم يكن يدري ـ كما قال بنفسه فيما بعد.. ما إذا كان هذا الإحساس وليد برودة داخلية أحس بها, أو شعور نشوة وإثارة احتل عقله وسكن قلبه الممتليء بخيالات وأطياف عن هذا المكان الذي كثيرا ما سمع عنه, وارتسمت في ذهنه صورة أسطورية له.
ولكن ما الذي دفع هشام ـ الشاب المصري الأسمرـ إلي عتبات هذا الكازينو الشهير التي كانت في الحقيقة عتبات طريق جديد وساحة مجهولة, يوشك أن يدلف إليها؟.
كانت قصة طويلة عرف بدايتها ولكنه لم يعرف كيف ستكون النهاية!
القصة تبدأ في يوم لم تطلع شمسه, ملبد السماء, قارس البرودة, من أيام شهر فبراير من العام نفسه, حين هبطت طائرة مصر للطيران في مطار هيثرو, ونزل علي سلمها شاب مصري, متوسط الطول, وإلي جواره زوجته الشابة تحاول معاونته, ومعاونة طاقم المضيفين في إنزال والده الجالس بجسده النحيل المتهالك علي كرسي ذي عجلات.
علي سلم الطائرة كان رأس الشاب ـ كما قال هو أيضا بعد ذلك ـ مهموما بحالة أبيه المريض, ضابط القوات المسلحة علي المعاش الذي أنهكه السرطان فطار مع ابنه عله يجد شفاء ـ أو حتي تخفيفا لآلامه ـ في مستشفيات لندن تاركا زوجته أم هشام في القاهرة.
بدأ هشام علي محجوب ـ وهذا هو اسمه كما هو مدون في جواز سفره ـ يرتدي معطفا أسود طويلا, كان يضعه علي يده, بمجرد خروجه من بوابة المطار الخارجية, بعد أن لفحه جو لندن القارس البرودة, بينما يده اليسري مشغولة بحقيبة يد.
تاريخ ميلاده في جواز سفره يقول انه من مواليد6 مارس عام1941, يعني أنه عندما هبط في مطار هيثرو لأول مرة كان عمره واحدا وثلاثين عاما.. حيث استقل مع زوجته وأبيه تاكسيا من طابور التاكسيات الواقفة أمام بوابة الوصول, متوجها إلي الفندق الذي سينزل فيه مع أسرته في لندن.
طوال الطريق كان ذهنه يموج بأفكار صاخبة, وقد ثبت نظره علي زجاج نافذة سيارة الأجرة الانجليزية التقليدية السوداء.. فقد كان يتصور حين جاء إلي لندن للمرة الأولي ـقبل ذلك بشهورـ ليعمل ضابطا أول للعمليات الجوية في شركة مصر للطيران, مهمته رسم مسارات وارتفاعات الرحلات الجوية, ومتابعة تجهيز جداول نوبتجيات الطيارين والمضيفين والموظفين, انه قد بدأ طريقه ـبالفعلـ لتحقيق طموحه الكبير, في أن يصبح شيئا, ولكنه ماكاد يضع قدميه علي جادة الطريق, حتي فوجيء بالمرض القاتل ينقض علي أبيه, والذي لم تكن ظروفه المادية تسمح بالتصدي لمصاريف العلاج الباهظة.
ولقد استعان هشام ببعض أصدقائه من الأطباء المصريين في لندن لكي يقدموا له النصيحة بخصوص موضوع العلاج, وكان قد نجح في الحصول علي تذكرتين مخفضتين من مصر للطيران لوالده وزوجته, ولكن مسألة الإقامة وما تتكلفه من نقود, كان هو الموضوع الذي يشغل باله, ويقض مضجعه.. ويجثم علي قلبه.
أفاق هشام من استرسالاته, علي هزة عنيفة سببها توقف التاكسي أمام بوابة فندق رويال لانكستر بعدما عبر حديقة الهايدبارك إلي لانستر جيت في بيز ووتر.. بعدها حاسب السائق وساعده بعض العاملين في الفندق في نقل أبيه وأمتعته إلي الداخل.
فندق رويال لانكستر, كان هو الذي تنزل به مجموعات مصر للطيران, في العاصمة البريطانية ـ عادةـ وكان هشام دائم التردد عليه للقاء زملائه طوال فترة وجوده وعمله ثم كان ينزل به أحيانا كلما كان يعود إلي لندن مرة أخري قادما من القاهرة.
وفي هذا الفندق تعرف هشام علي مديره المصري رأفت ـ الذي كان يعمل لمصلحة الموساد ومتابعا من المخابرات المصريةـ ونشأت بينهما مباديء صداقة, ولاحظ أن رأفت كان دائما مايسعي إلي عقد صداقات مع أفراد طواقم مصر للطيران, تحت عنوان أنهم أبناء بلدي!!
كان رأفت متزوجا من انجليزية يهودية الديانة, وحكي لهشام ـ مرة ـ عن ثقة مالك الفندق فيه, الأمر الذي جعله يضع معظم قرارات العمل ـ بالفعلـ في يده, كما سمع هشام عن أن مالك الفندق الانجليزي هو من أصل يهودي.
وضمن سلسلة اقترابات لهشام من رأفت, أخبره مرة بأنه يستطيع مساعدته عندما يكون لديه أي ضيوف يريد أن ينزلوا في الفندق, ويعطيهم أسعارا مخفضة, ويقدم لهم أي خدمات خاصة.
وعندما نقل هشام والده وزوجته إلي غرفتيهما, عاد إلي صالة الاستقبال ليسأل عن رأفت, ولم يكن يدرك أن رأفت يجلس في ركن قصي من صالة الاستقبال, ويثبت عينيه عليه, منذ وصل إلي الفندق, هذه اللحظة, إذ كان علي علم بكل تفاصيل مرض الأب, وضائقة هشام من خلال لقاءاتهما السابقة.
أشارت موظفة الاستقبال إلي مكان رأفت, اندفع هشام إليه ليأخذه بالأحضان, ويجلس الاثنان علي مقعدين في بهو الاستقبال, وحكي هشام لرأفت عن كل شيء, وقال له انه يبحث عن مورد رزق يصرف منه علي رحلته مع أسرته في انجلترا, وعلاج أبيه.
وعلي الفور كان رأفت يتحدث إلي موظفي الاستقبال لإجراء تخفيض كبير في مصاريف الإقامة بالفندق.. ثم يتوجه إلي هشام الذي كان غارقا في شعوره بالامتنان والعرفان ليقول له
:
موضوع عملك ياهشام يحتاج إلي بعض التفاصيل ما رأيك أن نخرج من هنا لنجلس في مكان ظريف بعيدا عن جو الفندق والنزلاء والعمل؟
ووافق هشام وبدا غير قادر علي التعبير عن شكره لرأفت, الذي أصبح المنقذ وحلال كل العقد.
أما رأفت.. فقد كان يعرف مايفعل ـ بالضبطـ بل وبدت كل الوقائع التي تتابعت منذ هذه اللحظة, وكأنها تنفيذ حرفي لتوقعاته وتنبؤاته.
ذهب الاثنان بعد أن انتهي رأفت من وردية عمله في الفندق إلي بار في فندق كمبرلاند علي بعد حوالي خمسمائة متر من رويال لانكستر, وجلس الصديقان جلسة حرص ـ رأفت الذي أصبح الآن يمتلك كل مفاتيح الموقف النفسية والعاطفيةـ علي أن يجعلها مزيجا من المواساة القلبية لهشام, والتحرك العملي لمؤازرته.
وفي الجلسة حرص رأفت علي أن يستمع ـ مرة أخري ـ من هشام إلي تفاصيل طبيعة عمله ومؤهلاته, بحجة أن ذلك سيساعده في العثور علي عمل اضافي مناسب له.
وراح هشام يحكي لرأفت انه حصل علي شهادة الثانوية العامة عام1958, ثم شهادة اللاسلكي عام1959, وانه يعمل ضابط أول عمليات جوية.
وكان رأفت يقاطعه من آن لآخر, ذاكرا عبارات من طراز: انها وظيفة حيوية جدا.. لابد أنهم تأكدوا من كفاءتك قبل اختيارك.. هل يعني رسم مسارات وارتفاعات الرحلات الجوية أنك تتحكم ـ كذلك ـ في المساحة التي يمكن لك وللطيار مراقبتها علي الأرض؟!.. لابد أن عليكم قيودا شديدة هذه الأيام فالبلد في حالة حرب..
ما هو الجزاء الذي يمكن أن يقع علي الطاقم لو خرجت الطائرة عن مسارها واقتربت من منطقة عسكرية؟!.
كان رأفت يسأل.. ويسأل, وكان هشام يسترسل.. ويسترسل, بينما كانت كئوس النبيذ الفرنسي الشهير يوردو تدور بينهما كأسا بعد الأخري, فتفك عقدة الألسنة أكثر وأكثر..
وبينما كان هشام يعبث بحبات اللوز المملح الموضوعة في طبق من زجاج أمامهما علي البار, بادره رأفت قائلا: أعتقد أن مؤهلاتك وشطارتك تؤهلك لعمل مع أحد أصدقائي من رجال الأعمال المقيمين هنا في البلد.
وهنا كان هشام قد بدأ يقتنع أن رأفت هو هدية السماء له, وسأله بلهفة: متي ألقاه؟..
وابتسم رأفت, بعد أن أدرك أن فريسته قد أصبحت طوع بنانه تماما, وأراد أن يشعر هشام بأن لاشيء يأتي سهلا, كما أراد أن يتركه نهبا للإحساس بخطر الإفلاس مدة مناسبة, حتي يصبح جاهزا تماما للتعامل معه.
وأجاب: هو غير موجود في لندن الآن, وسيعود بعد حوالي عشرة أسابيع, هو رجل أعمال انجليزي من أصل لبناني مسيحي, وأعماله متناثرة في عدد كبير من البلاد, وتقتضي منه الغياب عن المركز الرئيسي لمدد طويلة علي هذا النحو, ثم أضاف بنبرة قصد أن تكون طبيعية, وفيها عدم اهتمام تجاه عنصر الوقت, الذي يعرف جيدا أنه ضاغط علي خلايا أعصاب هشام وذرات تفكيره:
علي أية حال يمكنك أن تستغل الفترة في متابعة علاج أبيك, ولا تحمل هما بشأن مصاريف الفندق, فسأحاول أن أجري لك تخفيضا اضافيا آخر.. وياسيدي.. اذا احتجت شيئا فأنا موجود!!
وأنهي رأفت لعثمة هشام وارتباكه أمام الفخ الذي يضعه له بعناية, بأن دفع الحساب, مع بقشيش كبير, بعد أن حرص علي أن يخرج حافظته, وبها قدر كبير من النقود أمام هشام الذي رآها وثيقة اعتماد مادية لقدرات رأفت الكبيرة, وان فعله سوف يكون علي قدر كلامه!!.
ووضع رأفت يده علي كتف هشام وخرجا يتمشيان حتي رويال لانكستر.
تعددت لقاءات هشام مع رأفت, حتي أخذت إيقاعا منتظما ويوميا, مرة علي إفطار ومرة علي كأس.. ومرة علي فنجان قهوة, وفي كل مرة يبدي رأفت اهتماما مبالغا فيه بحالة والد هشام الصحية, حتي لم يعد رأفت بالنسبة لهشام مجرد منقذ أرسلته عناية السماء, ولكنه أصبح الشقيق الذي يقاسمه آلامه وقلقه وظروفه القاسية!.
مرة علي إفطار ومرة علي كأس.. ومرة علي فنجان قهوة.. تعددت اللقاءات بين الشابين.
وحين هل الربيع, كان هشام يدرك أن اللحظة التي طال انتظارها مع رجل الأعمال صديق رأفت وشيكة, وسأل رأفت عن موعد وصوله, وكاد يطير فرحا حين أجابه لقد وصل بالأمس, وانهما سيلتقيان في الثامنة مساء الغد.
وفي الثامنة من يوم16 مايو كان هشام يقف في بهو الفندق, حليق الوجه, مرتديا حلة زرقاء داكنة, ورباط عنق يتمازج فيه اللونان الرمادي والنبيتي, في انتظار صديقه رأفت لكي يذهبا معا للقاء رجل الأعمال.. ولما طال الوقت سأل موظفة الاستقبال, فأخبرته بأن رأفت ترك رسالة له, فتحها هشام ليقرأ السطر التالي:
آسف لعدم حضوري في الموعد.. لدي عمل في بارك ستريت.. وسوف أذهب بعده ـمباشرةـ لانتظارك في كازينو البلاي بوي حيث سنلتقي بصاحبنا.. معذرة رأفت.
كان اسم البلاي بوي يعني عشرات الصور والأخيلة المثيرة بالنسبة لشاب مثل هشام31 عاما وقادم من مجتمع كان حتي هذا الوقت منغلقا إلي حد كبير.
كان في حد ذاته مجرد بداية سلسلة انبهارات قصدوا أن تسيطر علي هشام وتفكيره.
كانت البنات العاريات, وفيشات القمار, والمجلة التي تحمل نفس اسم الكازينو, هي المعاني التي استدعاها هشام إلي رأسه تلقائيا حين قرأ اسم البلاي بوي في الرسالة التي تركها له رأفت, والمؤكد أن اختيار ملهي البلاي بوي لأول لقاء بين هشام ورجل الأعمال, كان اختيارا مقصودا لإبهاره والتأثير عليه.
ركب هشام تاكسيا إلي بارك لين, ووصل إلي بوابة الكازينو, الذي يتكون من خمسة طوابق, الأرضي به بهو استقبال كبير, وبينهما الطوابق الأربعة المخصصة للعب القمار بأنواعه.
وعندما لم يجد هشام صديقه, لم يستطع أن يمسك نفسه, ويواصل الانتظار, ودخل إلي ساحة الاستقبال, حيث أخبره العاملون بأن دخول هذا الكازينو لايحتاج إلي بطاقة عضوية, ولكنه يحتاج إلي ملء استمارة دخول في كل مرة يأتي فيها الشخص إليه.. وبالطبع مرة أخري ـ فإن اختيار هذا الكازينو بالذات, من قبل رأفت وصديقه رجل الأعمال لم يجيء من فراغ, بل كان مخططا له, لأن الكازينوهات الأخري لها سجلات يفيد فيها عدد مرات المترددين عليها, وهذا ما لايريده رأفت!..
المهم أن هشام ملأ الاستمارة علي عتبات باب نادي القمار الشهير, والتي كانت تبدو كعتبات طريق جديد وساحة مجهولة يوشك أن يدلف إليها.
وفي الداخل, راح هشام يتجول بعينيه داخل صالات القمار والمطاعم المزدحمة التي تقدم أفخر أنواع الأطعمة والمشروبات والمناضد المتناثرة في الصالات ذات الأنوار الخافتة.. وراح يتأمل ـفي نشوة فوارة ـ المضيفات اللاتي يرتدين ملابس الأرنب المشهورة ـ رمز البلاي بوي ـ وآذان الأرانب تبدو من فوق رءوسهن وقطعة الفراء المستديرة ـالتي تمثل ذيل الأرنب تعلو الأرداف والسيقان عارية, إلا من جوارب علي شكل شبكة موشاة من خيوط سوداء وذهبية.
واتسعت حدقتا عينيه وهو يري أثرياء المنطقة يخسرون أمامه في دور من أدوار الروليت- ووسط هذا العالم السحري الأسطوري- آلاف الجنيهات الاسترلينية, وهم يضحكون ويشربون, ولا تهتز رموشهم أو جفونهم.
وفي صالة البلاك جاك, حيث تطير مئات من الجنيهات الاسترلينية وتتبخر في الهواء.. فوجيء هشام بيد تربت علي كتفه برفق, وتوقظه من استرسالاته وخيالاته, والتفت خلفه, ليجد صديقه رأفت الذي همس في أذنه: آسف تأخرت لدقائق.. الرجل ينتظرنا في المطعم.
يتبع-------
هبط الرفيقان علي السلم إلي أحد مطاعم الكازينو, وفي ركن بعيد, علي احدي المناضد كان شخص في العقد الخامس من عمره يجلس في ضوء خافت, لم يظهر ملامحه بشكل كامل.
تقدم رأفت إليه محييا, ومقدما هشام إليه, بعبارة دالة تقول كلماتها تستطيع أن تعتمد عليه في كل شيء, ثم وجه كلامه إلي هشام قائلا: أقدم لك صديقا عزيزا.. ادوارد كوشير رجل أعمال انجليزيا من أصل عربي لبناني.
ووسط التصافح والتمتمة بعبارات المجاملة التقليدية, كانت نظرات كوشير تكتسح هشام من قمة رأسه إلي أخمص قدمه.
جلس الثلاثة علي المائدة حيث وافق كوشير ورأفت علي الشراب الذي طلبه هشام دون تردد.. في مجاملة مقصودة, وبينما راح الثلاثة يحتسون كئوس الويسكي بلاك ليبل, لم يتوقف رأفت عن الثرثرة في مرح مفتعل, ومحاولة لتذكير هشام ببعض النكات السياسية التي كانت مصر تعج بها في هذا الوقت, وتسخر من الرئيس السادات وعدم قدرته علي الحرب, كما تسخر من الجيش المصري وهزيمته المروعة في1967!!
كان هشام يشترك في الضحك من كل مايحكيه رأفت, فقد كان علي استعداد للمجاملة إلي آخر مدي, ولو بوطنه, أو برموز هذا الوطن.
وكان رأفت ينظر من آن لآخر إلي كوشير ليريه أن الضحية وصلت إلي أقصي درجات الاستعداد للارتماء في أي حضن, والاستسلام لأي ضغط.
وبعد أن تجرع رأفت ماتبقي من خمر في كأسه دفعة واحدة, استأذن في القيام, متعللا بأنه يريد أن يصرف ما معه من جنيهات في صالة القمار.. وغمز بطرف عينه إلي كوشير الذي ابتسم ابتسامة لزجة لا مشاعر فيها!!
كان ادوارد كوشير لطيفا وناعما جدا في حديثه إلي هشام الذي راح يعلق علي بعض مفردات اللهجة العربية الشامية التي يتحدث بها كوشير.
قال ادوارد انه يعمل قومسيونجيا, ووكيلا لعدة شركات, وهو يريد التعامل مع السوق المصرية, ولكن تنقصه معلومات كثيرة عن أحوال التجارة في مصر, وما اذا كان من الممكن استثمار أموال في مصر أم لا..
وكان هشام يحاول ـ رغم عدم خبرته في مسائل الاستثمار والاقتصاد أن يشترك في الحديث, بأية كلمات, يحاول ـ من خلالهاـ أن يثبت لكوشير انه متحرك وشاطر.
وبيما كان الرجلان يحتسيان القهوة بعد العشاء, راح هشام يحاول الاستزادة عن تفاصيل العمل, وادوارد يحاوره ولا يعطيه اجابة كاملة تريحه, وما أن فرغا من احتساء القهوة, حتي طلب ادوارد من هشام أن يلقاه في اليوم التالي في الموعد نفسه ولكن في فندق سيلفريدج.
ودهش هشام جدا, حين طلب منه ادوارد ألا يخبر رأفت بأي شيء عن موعد لقائهما المقبل, لأنه ـ علي حد تعبيره ـ رجل طماع وسيحاول أن يحشر نفسه في هذا البيزنيس الجديد دون داع.
وعلي الرغم من دهشة هشام إلا أنه وافق.. فقد بدأ ومنذ شهور رحلة الموافقة.. يوافق علي أي شيء.. يوافق علي كل شيء.. وهو في هذه الليلة باع صديقه.. أو ما يتصور أنه صديقه.. في طريقه لأن يبيع أشياء أخري أعز وأثمن.
يتبع---------
اليوم17 مايو1972
الساعة: السابعة وخمس وأربعون دقيقة.
المكان: فندق سيلفريدج الملتصق بالمتجر الشهير الذي يذهب إليه المقتدرون ـ من وجهة نظر هشام ـ في مصر للشراء والتسوق وعمر هذا الفندق ـ وقتها ـ سبعون عاما.
جاء هشام مبكرا ربع ساعة, حتي يتجول داخل الفندق الشهير, وتمشي من عند الساعة الشهيرة التي تعلو مدخل المتجر الرئيسي في شارع اكسفورد, ثم انعطف يمينا ليدخل إلي ديوك استريت, الشارع العريق الذي تأسس عام1728 وأشهر مبانيه ـ تاريخياـ ووتر هاوس وهو ـ الآن ـ الكنيسة الكندية.
دخل هشام من باب الفندق الدوار ذي اللون البني الغامق, حيث كان يقف أمامه حارس يرتدي حلة خضراء غامقة وقبعة عالية من نفس اللون, صديرية حمراء, أطرافها خيوط من القصب.. وفي وسط المدخل منضدة مستديرة من الماهوجني الأنتك, تعلوها آنية زهور شينواه كبيرة تزدحم بعيدان باقة ضخمة من زهور الداليا البيضاء.
إلي اليسار حامل خشبي بني قديم, رصت عليه الصحف البريطانية الشهيرة ومنضدة خشبية غامقة يقف خلفها موظفا الاستقبال, وبنتان للاستعلامات والمحاسبة, تعلوها ساعة عتيقة علي يمينها ويسارها لوحتان زيتيتان عريقتان, احداهما للورد أبرستون ترجع إلي عام1715, والأخري لليدي أبرستون في عام1760, وليس للشخصين أي ارتباط بفندق سيلفريدج ولكن تم اقتناؤهما لقيمتهما الأثرية.
وكان تسكع هشام داخل الفندق قد أتاح له قدرا لا بأس به من الفرجة علي مفرداته وأثاثه, وجوه المميز الفريد, حيث تتناثر علي امتداد صالة الاستقبال بضعة مقاعد جلدية زيتي غامق وإلي جوارها مناضد أنتيك وأباجورات شينواه, وإلي اليمين صعد هشام سلما كبيرا بدرابزين نحاسي, وجوانبه مشغولة بالفير فورجيه الأسود, ترصعه بادجات نحاسية كبيرة عليها حرف S الذي يرمز لاسم المحل.
السلم أوصله إلي مدخل صغير تتوسطه نجفة أثرية عظيمة, وإلي اليمين مدخل أوركاردتيراس, وهو مطعم جريل يطل علي أوركارد ستريت, فيه تناثرت مناضد مربعة ذات مفارش خضراء, تعطي إحساسا كبيرا بالبهجة, وسط الجو المتزن الوقور الذي يوحي به اختيار الأثاث الستيل والأنتيكة في بقية أرجاء الفندق.
وعلي احدي هذه المناضد كان اللقاء الثاني بين هشام وادوارد.
عندما صافح ادوارد ضحيته ثبت نظراته إلي عيني هشام, الذي تعلق به في نظرة رجاء طويلة, وأبدي ترحيبا مبالغا فيه.
وعلي عشاء فاخر من الأسماك والقشريات البحرية, مصحوبا بزجاجة نبيذ فرنسي شابليه أبيض فاخر دار الحديث حول تفاصيل العمل, الذي كان هشام يتوق إليه.
قال ادوارد لهشام: أنا وكيل شركة بلجيكية للجرارات الزراعية, وهي تريد أن تقيم لها مصنعا في القاهرة, وقد تقدمت بطلب بهذا الخصوص بالفعل, ولم أحصل بعد علي الرد وسوف تكون أنت وكيل هذه الشركة في القاهرة, وسوف نفتح لك مكتبا لادارة أعمالها.. ولكن في البداية نريد منك معلومات عن أسعار الأراضي في مصر, وكم سيتكلف شراء أرض لاقامة مصنع للجرارات.
كان هشام يريد أي عمل والسلام, ومن ثم فقد أجاب علي كل أسئلة ادوارد, بما يفيد أنه يقدر علي تلبية احتياجاته جميعا.
أما ادوارد ـ وطبقا لتحليلات الخبراءـ فقد كان يود اختبار قدرة هشام أولا علي جمع معلومات عادية, وقدراته علي تسهيل بعض الاجراءات في مصر وذلك قبل أن يدخل معه في تفاصيل أكثر جدية, عن هذا العمل, الذي كان مازال يبدو غامضا.
انتهي اللقاء الثاني بعد ساعات ثلاث أمضياها في الأكل والأنخاب المرحة, والمحاولات المستعرة من هشام أن يثبت أنه علي قدر الشغل, ويوفي بمتطلباته.
وجاء اللقاء الثالث بعد ذلك في ليلة الثامن والعشرين من مايو, في الفندق نفسه.. اذ كان ادوارد مستمرا في تشويق هشام للعمل, ومن ثم للمال, حتي يضمن انهياره الكامل, وفي الوقت نفسه استغل ادوارد الفترة الزمنية الفاصلة بين اللقاءين, لاختبار قدرة هشام علي الكتمان, حيث ظل رأفت يلاحق هشام ويسأله ما اذا كان يري ادوارد أو يتصل به, بينما هشام ينكر تماما, مرة ومرتين, وهو فائق أو وهو سكران.. حتي تأكد ادوارد تماما من أن هشام ينفذ تعليماته بحذافيرها, حتي وهو لايعلم طبيعة الوعاء الذي تصب فيه هذه التعليمات.
الموعد التالي كان في مطعم فليدجر في فندق سيلفريدج..
وحين وصل هشام إلي الفندق كان متعجلا, عصبيا, يريد أن يحضر ادوارد, وأن يكلفه بعمل محدد, وأن يعطيه, ولو مقدما من أجره عن هذا العمل.
اخترق صالون الفندق, ولم ينتبه إلي كل التفاصيل من حوله, أو إلي الحركة التي كان الصالون يعج بها.. ومنظر أكياس سيلفريدج التقليدية الصفراء وقد تركها رواد الفندق ونزلاؤه إلي جوار المقاعد, والفوتيهات المذهبة, ذات الألوان الزيتي الغامق والنبيتي, والتي ألقيت عليها حشيات غامقة اللون برتقالية, وتيركواز, وكل منضدة تتوسط منظومة من المقاعد والأرائك, عليها فازة بيضاء صغيرة فيها زهرة قرنفل واحدة, وفي أركان الصالون نباتات ظل تتدلي من أوان حجرية غامقة.
صعد هشام ـ في عجالة ـ عدة درجات سلم في نهاية هذا الصالون حتي كاد يسقط متعثرا من فرط اندفاعه, ودخل إلي مطعم فليدجر العتيق علي اليسار, حيث تربض كراسيه الفخيمة التي يشبه كل منها عرشا ملكيا صغيرا, بينما غطي الجدران ورق حائط منقوش داكن, انجليزي تقليدي.
وطوال العشاء الذي كره هشام اجراءاته الطويلة المتمهلة كان ادوارد يسرب إليه كلمة, ثم يتركه يحترق في فضول ولهف.. ثم كلمة أخري.. وهكذا حتي ماكاد العشاء ا ن يقترب من نهايته حتي كان هشام قد وصل إلي حالة من اليأس الشديد, فاذا بادوارد يبادره برغبته في أن يؤجر للشركة مقرا في القاهرة, وأن يمده بخطوط تليفونية.
ثم أومأ: نحن مستعدون لتقديم رشاوي لتركيب هذه الخطوط التليفونية.
وبالطبع كان هشام يعرف صعوبة تركيب مثل هذه الخطوط ـفي ذلك الوقت ـ وسط الأزمة الخانقة التي شهدتها تليفونات مصر في السبعينيات, ولكنه أبدي استعداده للانجاز ليظهر شطارته, ويستعجل التوظيف.
ولكن هل صحيح أن شركة بلجيكية تقدمت لاقامة مصنع للجرارات الزراعية في مصر؟
الجواب: كانت الشركة الوحيدة التي أقامت مصنعا للجرارات الزراعية في مصر في ذلك الوقت, هي شركة ماجيروس المجرية, في اطار خطط التصنيع في مصنع شركة النصر لصناعة السيارات.
ولا شيء أكثر من ذلك.
الأمر كله ـ اذن ـ كان مجرد بالونة اختبار لصديقنا هشام محجوب في جمع المعلومات, حتي لو كان بسيطا في البداية, مثل: معلومات أسعار الأراضي, أو اختبار قدرته في الحركة, مثل رشوة أشخاص حكوميين لتركيب خطوط للتليفون وسط ذروة أزمتها.
ثم أن هشام بعد أن يمر في هذا الاختبار ويؤسس المكتب, سوف يمتلك قاعدة للتحرك والاتصال في مصر تمكنه من جمع المعلومات حول أمور أخري, غير تلك التي خطط ادوارد لها من خلال وظيفته في مصر للطيران!!.
وحين كان ادوارد ينهي هذا اللقاء ويعد هشام بموعد آخر, كان هشام يتوسل إليه في ضراعة حقيقية أن يكلفه بالعمل مباشرة وألا يجعله ينتظر أكثر من ذلك.. وهنا ابتسم ادوارد وأكد له أنه سيكلفه بالعمل في المرة القادمة, بعد أن يتأكد من كفاءته واخلاصه, وقد خطط لأن يجعل منه شيئا كبيرا بالفعل!!.
علي أية حال فقد كان الموعد الرابع والأخير بعد يومين, بما لم يرهق هشام في الانتظار كثيرا, وعلي الرغم من أن الموضوع حتي هذه المرحلة لم يتجاوز الحدود التي تبدو طبيعية, فقد كان هشام يتلفت حوله أثناء حديث ادوارد الهامس إليه في صالون الفندق, بشكل تلقائي, اذ كان يشعر أن العاملين بالفندق الذين يتحركون حوله يسترقون السمع, وكذلك النادلات اللاتي يرتدين جونلات سوداء, وجاكيتات من اللون, نفسه وبلوزات بيضاء وبابيون أسود, والبنات اللاتي يقمن بالتنظيف مرتديات أثوابا خضراء ومرايل بيضاء وهن منهمكات في ازالة كل ذرة تراب تكون قد علقت بأي شيء, والحمالون يرتدون حللا زيتية غامقة يزينها القصب, وتحتها قمصان بيضاء وروابط عنق سوداء.
جميعا كان هشام ينظر إليهم باسترابة.
لقد كان هناك من يراقبه فعلا.. ولكن ليس هؤلاء..
ففي ركن قصي من الصالون كان أحد شهود المخابرات المصرية يربض مستوعبا كل حركة وسكنة, متظاهرا بتقليب الشاي في فنجان من الطاقم الصيني التقليدي للفندق من نوع دادسون.
في هذه الليلة كشف ادوارد عن جانب من أنيابه, عندما طلب من هشام أن يطير إلي القاهرة لكي يجمع المعلومات المطلوبة, ويعود بها إليه في لندن خلال شهرين.
قال ادوارد لهشام: لقد عيناك بمرتب شهري قدره600 دولار واذا قدمت لنا المعلومات المطلوبة سوف نرفع مرتبك.. ثم سلمه600 دولارا بايصال بدون تاريخ محدد وقعه هشام وأعطاه رقم تليفون للاتصال به عند عودته من القاهرة خلال شهرين.
أصاغ هشام السمع لصوت وقع حذائه علي أرضية الرصيف, وهو يأخذ طريقه إلي فندق رويال لانكستر, زفر زفرة ارتياح بعد أن أحس أنه علي وشك انطلاقة كبيرة, ولكنه لم يكن يدري لماذا أحس بهاجس الملاحقة, فراح يتلفت من فوق كتفه بين الحين والآخر, بينما نسمة ربيعية لندنية تعبث بشعره!..
في إحدي حجرات مبني المخابرات العامة, كان أفراد المجموعة التي تتابع الموضوع, قد انهمكو في مناقشة تفاصيل هذه العملية, التي اكتملت بداياتها, وتنبيء بأن الموساد وجد منفذا إلي عميل جديد.
وكانت كل الاحتمالات موضوعة علي المائدة, أحدها أن تتم متابعة تحركات هشام في القاهرة, فإذا ما أخذت عملية جمعه للمعلومات بعدا معينا, يتم القبض عليه متلبسا, ويواجه باتصاله بعناصر الموساد في لندن, أما الاحتمال الثاني فكان أن يترك لينفذ كل تكليفات الموساد, ومن هذه العملية يتعرف أفراد الجهاز المصري, علي نقاط اهتمام وتركيز العدو, والمعلومات المطلوب وصولها إليه أما الاحتمال الثالث فأن يتقدم هشام للابلاغ عما حدث ويعتبر بذلك مواطنا مصريا يتمتع بالوطنية فيتم تكليفه بالعمل كعميل مزدوج.
ثم كان الاحتمال الرابع, الأكثر تعقيد, والذي يقوم علي فكرة الاستخدام العكسي للجاسوس, أو معرفة طبيعة التكليفات الموكلة إليه, دون أن يدري ثم إمداده بمعلومات مضللة, بما يربك قيادة العدو, ويشوش تفكيرها أي اعتبار الجاسوس كالقناة, كما تنقل خلالها تكليفات من جانب العدو, يتم تسريب معلومات كاذبة ـ خلالها ـ من جانبنا الي العدو.
وهشام حتي هذه المرحلة, لم يتورط في شيء, فقد كان ماحدث هو مجرد لقاءات ووعود, وستمائة دولار دفعت بإيصال, كما لم يتلق الجانب الإسرائيلي بعد أية معلومات, بل ولم يشرع في إعطاء هشام التكليفات الحقيقية الكبيرة اذن.. الفأر مازال طليقا حرا لم يدخل بعد إلي المصيدة, وإنما كان قد تلقي الطعم وابتلعه.
ولأن مثل هذه المساحات ليس فيها مجال للهزل, أو التراخي, فإن التحرك يحسب علي احتمال الواحد في الألف, ومن ثم فقد بدأت المراقبة المستمرة للهدف, بدءا من اتصاله بضابط الموساد الاسرائيلي, الذي حمل اسم ادوارد كوشير, وصفته رجل اعمال انجليزي مسيحي من أصل لبناني!
كان الاسم الكودي الذي أطلق علي هشام في جهاز المخابرات العامة المصري هو( السنجاب), تشبيها له بذلك الحيوان الذي يمضي وقته في جمع ثمار البندق والكستناء في حدائق لبنان, ليخزنها ويخبئها ويستعملها فيما بعد, بالضبط مثلما يفعل الجاسوس حين يجمع المعلومات,.
ومن ثم فقد وضع السنجاب تحت المراقبة الكاملة, لمعرفة أي تطورات تطرأ علي علاقته بالاسرائيليين.
وفي الاسبوع الأول من يونيو عام1972 عاد هشام محجوب إلي القاهرة, ومعه والده الذي كان مازال يتلقي علاجا بالمواد الكيمائية وذلك لاستكمال علاجه بالقاهرة.
كانت القاهرة تصطخب بمشاعر وأفكار عجيبة, إذ كانت ـ علي الرغم من مرور شهور سته ـ مازالت تحت تأثير مظاهرات الطلبة والعمال الهائلة, واعتصام ميدان التحرير الشهير, وصيحات الاحتجاج, والاتهامات بالتراخي, بسبب عدم قدرة القيادة السياسية علي أن تبر بوعدها في أن يكون عام1971 هو عام الحسم!!
بلد بأكمله يقف علي أطراف أصابعه, وتشكل مانشيتات الصحف منظر حياته اليومية, وحالته العصبية والمزاجية الجماعية!!
الجرائد هذه الأيام كانت تعج بأخبار وأفكار ساخنة:
محمد حسنين هيكل يكتب في مقاله بصراحة متناولا كيف هزمنا في عام1967 ولماذا هزمنا, وما الذي هزم فينا, وأين الطريق لتصحيح الهزيمة؟ ويقول أن هذه الأسئلة راودته ولم يتوصل لإجابات كاملة عنها!!.
والأهرام يعلن عن أجرأ عملية فدائية في أرض العدو.. وأن ثلاثة يابانيين من صفوف المقاومة الفلسطينية حولوا مطار اللد إلي جحيم من النيران,27 قتيلا بينهم أكبر علماء الجيش الإسرائيلي.. الجرحي أكثر من80 نصفهم في حالة خطرة.. عاصفة من التفجيرات تستقبل نيكسون,12 تفجيرا أصاب أحدها مستشار الرئيس الأمريكي لشئون إيران.. العراق تؤمم شركة النفط العراقية.. وسوريا هي الأخري تؤمم شركة النفط السورية.. القذافي يعلن أن مفتاح حل مشكلة احتلال الأراضي العربية في يد السادات الذي تتوافر لديه استعدادات للمعركة أكثر من أي وقت مضي.. مسئول مصري يعلن أن المناورات العسكرية المصرية مستمرة منذ6 شهور.. زلزال في القاهرة شعر به كل السكان لقوته.. غرق معدية في النيل تحمل50 شخصا قرب بنها إسرائيل تهاجم لبنان بقوات برية وجوية وتأسر5 ضباط سوريين, وآخر لبنانيا, وتتسبب في مصرع18 شخصا.. مجهول يلقي قنبلة علي السفارة المصرية في روما.. رئيس الأركان الاسرائيلي يشير الي حشود مصرية علي الحدود, ويطالب برفع درجة الاستعداد).
كان هذا هو شكل مصر المحروسة وقت أن عاد هشام علي محجوب إليها محملا بأول تكليف لجمع المعلومات حتي وإن كان بريئا,. حتي وإن كان محدودا., إذ أن الموضوع كله كان بالون اختبار لقدرات هشام, ولمدي التفات المخابرات المصرية إليه وإلي بدء إتصالاته بالموساد.
وفي الغرفة التي اجتمع فيها أفراد المجموعة المكلفة بالعملية, كانت الخطط قد وضعت لمطاردة السنجاب في القاهرة, والوقوف علي كل تفاصيل تحركاته.
في بداية وصول هشام للقاهرة, نزل في فندق كليوباترا في ميدان التحرير لمدة ثلاثة أيام حتي ينتهي من مهمته, لم يكن يدري أنه يقوم بمهمة ذات طابع سري, ولكن فقط كان يود أن ينجز بسرعة, وبكفاءة بعيدا عن ضجة البيت عند أمه وزيارات الأقارب والأصدقاء.
وفي الفندق كان أحد رجال المخابرات المصرية, يجلس في صالة الاستقبال كواحد من موظفيه, لاستلام هشام عندما يدخل, وعندما يخرج يسلمه لزميل له علي مقعد سيارة أجرة في منطقة انتظار السيارات ليبدأ في ملاحقته من ساعة خروجه من الفندق, وركوبه سيارته, أو أول سيارة أجرة, وكانت السياره الأجرة الواقفة في أول طابور انتظار التاكسي ـ نفسها ـ بقيادة أحد رجال جهاز الأمن المصري.
ولم يتركوه لحظة واحدة, وهو يتجول علي مكاتب السماسرة, للسؤال عن أسعار الأراضي., أو مكاتب موظفي التليفونات للبحث عن خط تليفوني بطرق ملتوية إبان ازمة التليفونات المستعصية بل أنهم لم يتوقفوا عن متابعته حتي إذا صعد أحد مكاتب السماسرة, حيث كان لابد أن يصعد وراءه أحد رجالنا ليعرف بالضبط أين صعد, ومع من تكلم أو تعاقد, وحتي مكتب السمسرة نفسه سوف يكون موضع تحقيق دقيق بعد انصراف الشخص المراقب!
حتي احتمال أن يكون رجل الموساد قد درب هشام بعيدا عن أعين رجال المخابرات المصرية علي فنون الهروب من مطاردة السيارات, لم يترك دون احتياط, فإذا لجأ هشام إلي إجراءات تأمينية ليعرف ما إذا كان أحد يلاحقه أم لا, كان يدخل ـ مثلا ـ في شارع سد بالسيارة, ليعرف ما إذا كانت السيارة خلفه ستدخل هي الأخري أم لا, أو أن يقوم باللف حول ميدان مرتين أثناء قيادته للسيارة, أو حتي بالتاكسي الذي يركبه فإذا قامت السيارة خلفه باللف مرتين عرف أنها كانت تتابعه وتطارده, وبالتالي يتجه وجهة اخري أو يعود أدراجه, وهنا يجب أن ينسحب رجل الأمن ويتصل بسيارة أخري من أقرب نقطة لتتولي من جهتها المراقبة والمتابعة.
وعلي الرغم من أنه ثبت أن هشام لم يدرب علي تقنيات الهروب من المتابعة إلا أن المراقبة إستمرت لحظة بلحظة, وكانت حصيلتها بالتحديد أن معظم الأماكن التي سأل هشام عن أسعار إيجارات المكاتب فيها والتي أخبره إدوارد أنها ستكون مناسبة لمقر الشركة, كانت تقع علي طرق رئيسية التي درجت القوات المسلحة علي استخدامها ليلا لنقل العتاد والجند, أثناء التحركات أو المناورات.
أما أماكن قطع الأراضي التي كلفوه بالسؤال عنها لبناء المصنع, فكانت كلها تقريبا في دائرة واحدة, تقع حول, أو في منطقة كوم أوشيم بمحافظة الجيزة, وهي تلك المنطقة التي توجد بها قاعدة, تدخل ضمن نطاقات الدفاع الجوي عن القاهرة الكبري!!
وبعد أن أمضي هشام محجوب ثلاثة أيام في الفندق, ذهب إلي شقة أسرته وأمضي هناك بقية أيام الشهرين اللذين أمضاهما في القاهرة.
في أواخر أيام الاجازة كان هشام تواقا للعودة الي لندن, وتوصيل المعلومات المطلوبة إلي إدوارد كما يتحصل منه علي دفعة مالية جديدة وبخاصة أن زوجته كانت قد اتصلت به من لندن وطلبت منه مبلغا إضافيا لمصاريف العلاج.
لم يعد هشام ملتفتا في الكثير أو القليل, إلي عمله في مصر للطيران, كل ذرة من تركيزه كانت منصبة علي العمل مع إدوارد, وذلك الجو الفخيم, المليء بموائد العشاء الفاخر, في أكبر الفنادق, وأهم أنواع النبيذ, ونوادي القمار, وآفاق الأهمية التي تنبيء بها.
وطوال المسافة التي قطعتها الطائرة به في نهاية إجازته إلي لندن, لم يكن في ذهنه شيء سوي مدي رضاء إدوارد عنه, عندما يعود اليه بالمعلومات ولم يكن في ذهنه أن عيون رجال المخابرات المصرية تتابعه خارج وداخل البلاد.
يتبع--------
هذه المرة حمله التاكسي من المطار إلي فندق شديد الفخامة إسمه السافوي كورت, وكان إدوارد قد اتفق معه علي أن ينزل فيه لدي عودته من القاهرة, وأن( الشركة) ستقوم بدفع الحساب!!
والحقيقة أن إدوارد كان يحرص من وراء اختياره لهذا الفندق بالذات, إلي تحقيق عدة أهداف في وقت واحد: أولها أنه بعيد عن فندق رويال لانكستر, الذي اعتادت أفواج مصر للطيران النزول فيه في ذلك الوقت, والذي كان هشام دائم التردد عليه للالتقاء مع أعضاء الأطقم أو إاصطحابهم إلي الخارج.. ثم أنه فندق مبهر بالفعل والاقامة الملوكي فيه تدخل خطة إبهار هشام التي بدأت بكازينو البلاي بوي, وهو ـ كذلك ـ يقع أمام فندق ستراند مباشرة( وهو فندق كما سنري له مداخل ومخارج مختلفة وعجيبة, يمكن أن تستخدم بنجاح في عمليات تأمين اللقاءات وأخيرا فإن وجود المدخل الخاص( حارة صغيرة) في فندق سافوي كورت يجعل أية عملية مراقبة ـ إذا أراد صاحبها ألا تنكشف ـ أن تبدأ من شارع ستراند, أي خارج الممر, وبالتالي فإن هشام أو إدوارد, يمكن أن يستقل تاكسيا من داخل هذا الممر ويمرق به إلي الشارع العمومي من دون أن يلاحظه أي مراقب!!
أنهت موظفة ااستقبال إجراءات تسجيل وصول هشام, بينما, هو يلقي بنفسه علي أحد المقاعد المتناثرة في الصالة علي أرضية مربعات من الرخام الأبيض والأسود, تناثرت عليها سجاجيد قديمة, ورفع ناظريه إلي السقف الذي ترصعه12 نجفة أثرية من الزجاج المصنفر والنحاس الأوكسيديه, وأخذ يسلي نفسه بمراقبة الداخل والخارج من البابين الدوارين, اللذين تعلو كل منهما من الداخل نصف دائرة من زجاج أخضر فاتح, واللذين يفضيان إلي الممر الخارجي, حيث يوجد سافوي تياترو, أو مسرح سافوي ومجموعة من المتاجر الفخيمة,وموقف لسيارات الأجرة السوداء التقليدية, يعلوه سقف شفاف من الزجاج المصنفر.
كانت التعليمات إلي هشام واضحة.. الا يتصل بإدوارد وأن ينتظر أن يتصل به إدوارد, بحجة أن رأفت دائم التردد علي مكتب إدوارد ولا يجب أن يعرف شيئا عن اتصال هشام بالمكتب, حتي لايقحم نفسه علي البيزنيس الجديد.
إذن فسوف يبقي هشام أسيرا داخل هذا الفندق الجميل, إلي أن يحدث الإتصال الموعود.
ومر يوم بأكمله دون أن يحصل هشام علي الاتصال, وبدأ هشام يمضي معظم الوقت في غرفته, إذا هاجمته هواجس مبررها أنه إذا جلس في صالة الاستقبال, فقد لايسمع النداء الصوتي إذا ما جاءته المكالمة.
وحين رن جرس التليفون في غرفته, في اليوم التالي, كان أجمل ماسمع هشام في حياته, قفز من علي سريره, والتقط السماعة بفرح فوار, وعلي الجانب الآخر من الخط كان صوت إدوارد, يسأله عن صحته, وهل أنجز جمع المعلومات اللازمة.. ثم يضرب له موعدا في مطعم ريفر, ولما سأله هشام عن مكان هذا المطعم, ضحك بصوت عال, قائلا إنه تحتك يا هشام, في نفس الفندق.
وفي الثامنه مساء( الموعد المضروب) كان هشام قد ارتدي حلة رمادية غامقة ورابطة عنق فاخرة الألوان, وهبط إلي مطعم ريفر, حيث مدخله من ردهة الاستقبال, حيث هبطت به عشر درجات سلم, إلي باب خشبي بزجاج علي شكل مربعات.. وبينما علي جانبي السلم درابزين من الحديد الأسود المشغول, والمجموعة كلها ـ أفضت به إلي بهو رحب جدا تتوسط سقفه نجفة اثرية ضخمة جدا, وتتناثر فيه المقاعد, والأرائك ذات الألوان الداكنة وفي الركن ساعة أثرية ايضا( تيمفوس فوجيتسل), ووراء هذا الباب بيانو أسود حوله جدران مغطاة بورق حائط مشغول منه فيه, باللون السالمون الفاتح, وحول هذه القاعة25 عمودا رخاميا من الجرانيت الوردي الفاتح المعروق بعروق غامقة.
وبعد هذه الردهة كان المطعم الكلاسيكي الجميل( ريفر).
حياة هشام الآن ـ أصبحت الفرجة والإستمتاع, بهذه المطاعم والفنادق, ومحاولة إرضاء إدوارد والحصول علي ثقته.
يتبع-------------