الغروب …وحشود الجماهير المتأنقة و…..قاعة المؤتمرات المعطرة بأريج الأغنياء الذي لم يتمكن من محو آثار الغبار السابحة في الجو المتعلقة بمخلفات الضوء التي ألقتها الشمس قبل أن ترحل تاركة الواقع في غيبوبة .
الطريق أمامها طويل ممتد يتلوى.. يصعد.. ويهبط ..كثعبان خبيث يقترب ببطأ من فريسته … يقترب ليضع النهاية على مسرح الأحداث ……
الصف السابع … وتهاوي " نبــع" فوق المقعد رقم 77 …أغمضت عينيها إنزلقت في مقعدها محاولة التخلص من دوامة التهاوي اليومية …تزيد من إلصاق ظهرها بالمقعد ..تريده أن يحتويها ..يحميها …يستوعبها كلها ..مدت يديها ببطأ وإحتضنت معطفها ..أحكمت غلقه حولها ..لم يستطع فصل الربيع أن يقنعها بالتخلي عن المعطف.
لم يستطع بألوانه المرسومه على وجوه الحضور …بأريج الزهور المنثورة في جنبات القاعة ..لم يستطيع أن يجعلها تميز لون عن لون …عطر عن عطر … وسط كل تلك الزخرفات والنقوش والعطور ..برز لون رمادي و عطر بدائي قوي … اعتدلت فجأة في جلستها ..تلف بعينيها خيوط المسك … تجوب بكل جوارحها أركان القاعة علها تلتقط نهاية طرف خيط المسك القوي …نهاية الطرف يشير الى الصفوف الأمامية …..,ويضع دائرة ضوء حول لون رمادى.
آااااااااااااه."هكذا تنهدت بحرقة" …قفزت بها تلك الرائحة الى سنوات طويلة ماضية ..أيام الكلية و الصبا ….مازالت عينيها معلقة …على الظهر العريض الرمادي ..تسلقت بمقلتيها الظهر العريض …كلما تقدمت خطوات سقطت أهدابها على عينيها فلا ترى إلا حافة المقعد الخاص بالرجل ذو الظهر الرمادي كأن عينيها لا تقوى على رحلة تسلق الجدار الأملس …كأن عينيها مخدرة ،تريد أن تنام، أو تستسلم للإغشاء ،….مازالت تقاوم …تحاول الوصول الى قمة الجدار …الى قمة الجبل … رائحة المسك تشدها …تشدها …تشدها ….الى أعلى ….القمة مزروعة بسنابل سوداء محاطة من الجانبين بعناقيد الفضة …شعر غزير ….ناعم … مألوف …نعم شعور غريب داهمها أنه مألوف …ما هذا الفضول الذي انتابها و هي تحاول إختلاس النظر الى هذا الرجل ؟ ثبتت نظرها عليه ..وبالتدريج تلاشى كل البشر من حولها …زالت كل الروائح بهتت كل الألوان ولم يبقى إلا عطره القوي ..لم يصمد إلا اللون الرمادي في مظاهرة الألوان.
أطفأت أنوار القاعة ----- فتحت الستائر ----- أفاقت على تصفيق الحضور …. وظهور الفرقة " الفلامنكو " سبعة رجال وفتاه واحدة ترتدى رداء الفلامنكو القرمزي الشهير و………..إنطلاقة صيحاتهم القوية و ……..خطواتهم المنظمة و…………………………….و ظلال ضوء المسرح على جانب وجهه ………………… لا تستطيع أن تميز الملامح في هذا الضوء الخافت ولكنها قطعا تعرفه ..تسارعت ضربات قلبها … اعتدل بوجهه مرة أخرى في اتجاه المسرح ..انتهت أول وصلة و تعالت الأيادي مصفقة معلنة إستحسانها لما سبق ….شعرت بالخجل من نفسها ..منذ متى تهتم بمن يجلس حولها ..إنها تتعمد أن تأتي الى تلك الحفلات وحيدة …تبعد عن كل أصدقائها حتى تستغرق تماما في الحفلات الموسيقية أو الأفلام ..تعودت أن تعيش بكل جوارحها في العروض التي تحضرها …تعودت أن تلقي بكل همومها على أعتاب المسارح أو السينمات … "ما هذا " هكذا وبخت نفسها اعتدلت في جلستها أسندت ظهرها على المقعد بكبرياء واعتداد بالنفس رفعت يديها وصفقت بحرقة بحماس شديد كأن كل كف تعاقب الأخرى و تصفعها أو تجلدها وتعاقبها على عدم التركيز ..
توالت الرقصات و هي تحاول جاهدة التركيز ..الاستغراق التام مع الفرقة ..مع الراقصة ..كانت جميلة ..شعرها ليل حالك السواد ..عيونها جريئة ..شامخة معتدة بنفسها ..تركل بقدميها كفرسة شاردة تنتظر لجامها …يلتف حولها رجال الفرقة بإصرار كأنهم في حرب وتنافس للفوز بها …..
لماذا غافلتها عينيها وتركت مكانها المركز على الفتاه وقفزت الى الصالة بين جماهير الحضور ..لماذا غافلتها وذهبت تفتش عن هذا الرجل الرمادي ….تنبهت لنفسها ولما فعلته عينيها بها وقررت الاستسلام لهم …ستتركهم معلقين بهذا الغريب …فلم تعد تستطيع التحكم بهم ..وربما لا تريد ذلك .
تململ الرجل في جلسته قليلا واتجه بوجهه نحو امرأة تجلس بجانبه وتبادلا بعض الكلمات البسيطة وكان نتاجها أن اتجه الرجل الى الناحية الأخرى مخفضا رأسه وهو يتكلم مع طفل أو طفلة صغيرة ..أنها لا تستطيع أن تميز جيدا …. وبين استدارة وجهه من اتجاه الى آخر …تنقشع الغيوم عن ذاكرتها ..وتزداد حاسة الشم أكثر …تخترق رائحة المسك أغشيتها … تنفذ ملامحه شبه كامله …تطفوا الصورة على وجدانها
………."مستحيل" …"مستحيل" ………..
اختلط صوت أقدام الراقصة مع صوت ضربات قلبها ارتفع الصوتين معا كأنه إنذار دفات الحروب على سلامها الداخلي …على واحة راحتها… هل يعقل ….بعد كل هذا العمر …بعد سبـــــــــــــع سنــــــــــوات …إنه "عباده نعمان الزيني " ……تسمرت في مكانها … ثلجت أقدامها …. ما الذي أتى به الى هنا ؟ هل إنتهى من منحته الدراسية في "لندن" ؟ ثم منذ متى و هو يقبل على تلك الحفلات ؟ استدار عبادة الى الوراء بحثا عن شئ ما ، لا تدرى لماذا خبأت وجهها بسرعة خاصة عندما أضيئت القاعة لاستراحة قصيرة …..
لماذا خيل إليها إنه قد يراها …لماذا تهربت من تلك الفكرة ؟ هل خافت أن ينكرها و يتجاهلها ؟ ولكن هل اعترف بها من قبل حتى ينكرها ؟ هل تتجنب سؤاله لها عن أخبارها و ما الذي أنجزته طوال تلك الأعوام السابقة؟
هل تريد أن تتجنب و تجنبه معا أن النتيجة …. كما هي محلك سر ! الوحدة و الوحدة و الوحدة اللانهائية حتى لو أقسم لها الجميع إنها مخلوقة فريدة نادرة الوجود ناجحة متألقة ؟ هل تتجنب النظر الى زوجته التي طالما حلمت بأن تراها أو ترى مجرد صورتها ؟طالما تساءلت " جمانه " تشبه من ؟ كان دائما يتجنب الكلام عن ابنة خالته كأنها ربة الصون و العفاف والتي لا يجب أن ينتشر اسمها بين العامة المصريين.
هكذا كان ذلك السوداني الخمري ..هكذا كان شديد الإعتداد بنفسه ووطنه …هل خافت من ردة فعل جمانة لو سلم عليها زوجها ؟ آه لو علمت تلك "الجمانة" ما الذى فعلته "نبع " من أجلها من أجل أن تحافظ لها على هذا الخمري الذي أفرزته الطبيعة السودانية الحارة من نسيجها الصافي …ذلك الحلـــم البعيد الذي ظنت يوما من الأيام إنه رؤيـــــــــا ؟ اختلف عبادة عن أقرانه المدللين من طلبة "الأكاديمية " كان محدثا هادئ النبرة ذو صوت رخيم ..عميق …ينفذ الى الأعماق …يخترق الوجدان بسهولة و إنسيابية … كانت له نظرة ثاقبة مشحونة ببريق يشع مهابة تمهد له الطريق قبل استهلال حديثه …فإذا بالكلمات الصادقة تنهمر من نهره العذب تروي القلوب المتعطشة لقطرة دم فصيلها الصدق ….كان نافذ البصيره …طوله الفرع و عرض منكبيه كان يضفي عليه سحر فرسان العرب …كان عنيد صلب الرأي ..
ابتسمت لتذكرها تمسكه بعطره النفاذ "المسك" رغم غرابته عن مجتمعنا السكندري وكيف كان مجال لدهشة الطلبة ولكن ما لبثوا أن استسلموا له ولعطره الذى يميزه..
تذكرت كيف كان اختلاط رائحة مسكه برائحة تبغه وتذكرت كيف كانت وهي جالسة بجانبه أثناء إعدادهم "ماكيت مشروع التخرج" كيف كانت تجثو أمامه كقطة وديعة تلاحق بزهو وإعجاب خيوط دخان التبغ التي تتوزع في الأركان ..تتذكر كيف كان ينظر إليها باندهاش من تحت نظارته ..وكانت تضحك وتبرر جلوسها على الأرض بأن القلم سقط منها وإنها تبحث عنه …تذكرت كيف كان يتعجب من كثرة سقوط أقلامها.
تذكرت دهشته حينما أكتشف ذات يوم إنها تحتفظ في علبة قطيفة سوداء برماد تبغه !!!!كأنها شبكتها !!!! آه لو كان يعرف له أن شؤونه الصغيرة التي يمر بها دون التفات ..تساوي لها حياتها …أشياءه الصغيرة التي لا تعني له شيئا كانت تبني منها قصور و تحيا عليها شهور وتغزل منها شال الذكريات الرمادي …برماد التبغ . كان ...وكان.... وكان.………ولكنه في النهاية مجـــــــرد رجــــل …
ويا للرجال من أشقياء …من جلادين ومجلودين ….ما أسهل اللعب على الأوتار العنترية …ما أسهل اعتقال حواس الرجل العنتري بسلاح الضعف و الدموع والتوسلات ..ما أسهل الألاعيب التي لاتفهم أبعادها إلا النساء ..وخاصة إذا اختارت رجل شهم تبكي على كتفيه ….آه لو تعرف تلك الجمانه البدائية أن هناك من جند نفسه لخدمتها للحفاظ لها على فارسها في أرض الغربة ..للإبقاء على العلم المرشوق في أرض احتكاره ...علم "جمانة السوداني".
تمنت أن تقول لها ... لابد أن تشكريني …لابد أن تكوني ممتنة لي …لقد فضلتك على نفسي …لقد قاومت وحاربت نفسي …حبستها أيام و ليالي …لقد تقلبت على جمر النار وكنت أستطيع بمنتهى البساطة أن أتنعم بنسيمه؟؟…لقد فضلت أن أقضي أيامي وعمري في حالة البرود القارص وكان بوسعي أن ألتف بأوصار الدفء …كل ذلك من أجلك أنت أيتها الساذجة المحظوظة… تمنت أن تقول لها أنها تحبها …نعم أنا أحبك يا "جمانة " ألست منه ؟ ألست إليه؟ ألست من دمه ؟ ألست امرأته .. زوجته ؟ كل ما ينتمي لعبادة أحبه و أقدره و أحميه ….يكفي إنه اختارك أو حتى وافق على اختيار القدر له ؟ نعم كان يتململ من فترة للأخرى ولكن تحت عنوان واضح وصريح هو إنك ماضيه العائلي وحاضره المفروض ومستقبله وقدره المحتوم …دائما أنت الثابتة في حياته …أنت الأقوى … أنت الذي كتب عليه أن يدور في مدارك في فلكك.
كان من الممكن أن أتشبث بكلمات الإعجاب و الإبهار التي كان يبثها برزانة في أذناي في كل الفرص ،،وكيف كان يعجب بإسمي "نبع " ويقول أنت فعلا نبع الخيرات والحنان …كانت تلك الكلمات تفرحني تارة وتشقيني تارة أخرى …كنت أريد أن أقول له …ماذا تعرف أنت عن نبعي أنت لم ترى إلا قطرات على سفحه... كان من الممكن أن أتمسك بهمساته الصامتة بأنني أنا من يتمناه ولم يتمنى سواي ..كان من الممكن أن أتسلح بأسلحة الحيات وأبث السم في قلبه تجاهك …تجاه جهلك به وبالدنيا ولكن هذا لم يحدث …
كنت أدعو لك في صلاواتي أن يحنن الله قلبه عليك …هل يصدق أحد إنني لم أطلب أن يحبني كما أحبه ؟ لم أطلب أن يبادلني إنشغاله بي …كأنه منطقة محرمة …أو كأنني صاحبة محل سافرت الى بلاد كثيرة وبحثت في كل المحلات وعند كل الحائكين على تلك القطعة الفنية ..قطعة واحدة موجودة في العالم ..ذلك المعطف الثري الغزير الفرو وضعته في فاترينة محجوز للبيع …مدفوع عربونه …كلمة شرف !!!! أتمناه من كل قلبي …أتمنى أن يجلب الدفء لأوصالي.
بوسعى أن أقتنيه قطعا فهو في أرضي ..في ملعبي …في بلدي …..ولكن كلمة الشرف تمنعني ،،،قررت أن أحول هزيمتى الى نصر ..قررت أن أنتصر و لكن على من ؟ على نفسي ….اتهمتها بالوضاعة وعدم القناعة … قررت أن أحافظ لك عليه، وضعي تحت كلمة لكي مليون خط وخط ….أحافظ لك وحدك أنت يا إبنة خالته ، يا نفس جنسيته ؟أحافظ لك عليه الى أن تتسلمي منى الراية الى أن تملى عليه جنبات نفسه و تملأى منزله بالأطفال … هل فهمت أحافظ لك وحدك وليس لسواك …
بالقطع أنت تعلمي مخالب حواء …وأظافر الغيرة التي قد أنبشهها في وجه أية لعينة صهيونية متطفلة تحاول الاقتراب من أرضك …
أنت يا جمانة الأمر المسلم به في حياته و حياتي معا … لو تعلمي كيف نذرت نفسي لخدمته ،،لحمايته بدون أن يدرك ذلك ….طبعا إنه شديد الحساسة و الاعتداد بنفسه …يذكرني بالصعايدة الأصلاء عندنا بالبلدى "راجل حمش" هنيئا لك به
كان عزائي إنني استشففت من كلماته القليلة المقتضبة عنك …إنك تحبينه ….يكفي هذا لأحبك أنا …يكفي هذا لأشعر بأنني "أمك " …هل تصدقي هذا ؟ نعم فأحيانا أشعر بأنني أريد أن أضمك الى صدري وأربت على كتفيك وظهرك ..تتخلل أناملي خصلات شعرك وأمسح دموعك …وأطمنئك بأنه لك ، لك وحدك وبأنني كفيلة بذلك …
وأقول لك لا تقلقي يا صغيرتي إذا ما أبدل بين أسمائنا حين يتكلم معك ؟ لا تقلقي فأنا لست مثلك أنا جريدة يومية ثرية ومثيرة بأبوابها المتعددة …جريده ملقاة على طاولة في كافيتريا أو مكتبـــــــــة عامـــــــــــة ..جريدة كٌتب عليها أن تكون ضمن خطـــــة ماما سوزان "القراءة للجميع" ….أما أنت فكتاب غال الثمن في رف عال في مكتبته اشتراك المكتبة معه فقط ..كتاب بعيد عن متناول الأيدي والأعين …ربما كان يغلفك التراب ولكن سيأتي اليوم القريب الذي سينفض عنك الغبار والأتربة … كل ما أتمناه من الزمن أن تكون صفحاتك ثرية ..بسيطة ..نافعة .
لا تقلقي مني فلست من هؤلاء الحيزبونات المخضرمات المحنكات المنتهزي الفرص …
…نعم كم حاربت بضراوة تلك الــ "نشوى" إبنة الدكتور "صديق النهراوي" تلك الفاتنة ذات الوجه الحالم الضعيف ….والتي لا تظهر إلا قرب مواعيد الإمتحانات ….تلك الناعمة الرقيقة يالها من واجهه لاتنبأ أبدا عن طغيان الجبروت ..
حبي له وزمالتي لها طوال سنوات الدراسة جعل قرون الإستشعار تنشط داخلي …جعل جرس الإنذار ينطلق في جنبات نفسي ينذرني بمستعمر جديد متمرس …..كانت نشوى تعرف سر اللعبة الشهيرة …وكان عبادة لا يفقه شيئا عن أساليب النساء …الخطة الشهيرة …التي لا تخيب أبدا …..مظهر خارجي رقيق ضعيف ..يثير عنترية أي رجل …استكانة …ونظرات شاردة مدروسة …وألفاظ تنم عن نقمها عن الحياة …دموع …وتردد في إبداء أسباب الدموع والشجن ….فيصحو أحمس بداخل صدره ليطرد هكسوس حظها التعس ….ويعرض المساعدة ويقسم على كتمان السر ….وتبدأ الدائرة وتبدأ الفريسة في لف الشباك حول صائدها وتنعكس الأوضاع …. المفروض إنها تلجأ له لطلب النصيحة ؟ تشتكي له ظلم الأيام ووحدتها و غربتها حتى مع زوجها وطفلتها الرضيعة رغم قصة حبهم المشهورة ؟ وكيف إنه منشغل عنها بأسفاره و أصدقائه ويتركها ككم مهمل في المنزل؟ كيف أن حياتها تجمـدت في ثلوج الصمت ؟؟كيف إنه لو تكلم زوجها لا يخرج من فمه إلا جحيم …زلازل …وهكذا
صدقيني لقد حاولت بشتى الطرق أن ألهيها ..أن أتصادق عليها ..أشغل وقت فراغها …حاولت أن أصالحها على زوجها –والذي تبين بعد ذلك أنه لم يكن يدري أساسا أن هناك مشكلة – حاولت أن ألعب دور الناصحة و لكن بطريقة غير مباشرة …كنت أراها كيف تحاول بجرأة شديدة – مع الإحتفاظ بالإنكسار الخارجي – أن تلفت نظره ومن التلميح الى التصريح كانت تدور الدوائر ..كنت ألاحظ إشاراتهم لبعض …إشارات الأنامل المسروقة …كنت أرى ضحكات العيون وتلميحاتها المخفية تحت زجاج النظارات الشمسية ..حاولت بشتى الطرق معها بأن أخرج سيرته عن دائرة الهالة القدسية التي كان يحيط بها نفسه ..وفعلا نجحت في إخراج مشاعرها حتى لو كانت كأنها لعبة أو ضحكات مفتعلة …
لن أنسى أبدا ذلك اليوم الذي أقام لها ذلك المسكين المخدر ..زوجها ..حفل عيد ميلادها ..أغرقها بالورود الجميلة التي تحبها وتعلن للعالم أجمع إنها تحبها …لن أنسى انسلالها من بين الحضور ودخولها الى غرفة مظلمة وأدارت بأناملها الرقيقة أقراص التليفون … وبالطبع أمطرته بالأكاذيب عن تجاهل ذلك الزوج لها في عيد الميلاد … وربما إستدركته هو حتى يطلب منها موعد صداقي أخوي برئ جدا ليساعدها أليس هو مثل أخيها ..أليس الإنسان بموقفه في الأزمات ….لم ولن أنسى أبدا ضحكتها العالية الشريرة بعد إغلاق السماعة ،ولم لا ألم تحقق نصر جديد ، ألم تضيف حبة جديدة في مسبحتها ؟؟؟
مسكين لم يكن يعرف إنه واحد من ضمن آخرين .
ومع ذلك يا جمانه كنت أشفق عليها في قرارة نفسي ..فأكيد هي ليست انسانة سوية …أنا أؤمن بالضعف الإنساني ولكن للوضاعة حدود ؟؟ إنها متزوجة ..وأم لطفلة جميلة …بل لم تعلن الحرب الحقيقة على زوجها ؟
أنا أعرف أن مبدأها أن "الرجالة يستاهلوا إلي يحصل لهم " ولكن لماذا يا نشوى عبادة بالذات ؟ هو مميز بالفعل ولكنك تعرفي إنه لن يكون لك بحكم وضعك ووضعه الإجتماعي ..بحكم الجنسية وتمسكهم بالزواج من نفس جنسيتهم وأقاربهم وطقوسهم ومشاكل الزواج من الأجانب ….
ربما كانت على حافة الهاوية فعلا …ولكنه أيضا كان يجب عليه الانتباه ..بالتأكيد هو يعرف جيدا ..بالتأكيد له خبرة و لو بسيطة ..أن هذا الطريق قد يؤدي الى عذاب للطرفين .. فحاجة الإنسان الى من يتفهمه يجعله يدمنه و يتشبث به ….فلو كان يعرف ذلك …فلماذا يكرر التجربة…لماذا يكررها إلإ إذا كان ذلك إرضاءا لغروره كرجل قوي تلجأ إليه الأنثى الضعيفة ؟ رجل جذاب تتهافت النساء على نصب شباكها عليه ؟؟؟؟ كان يتعمد أن يتكلم معنا نحن الإثنتين ربما ليوهم كل واحدة إنه يقصدها وحدها ..أو ربما ليثير غيرة الإثنتين ….كأنه لاعب بلياردو يضرب كرة ليرمي بالأخرى في الهدف والأدهى أن الكرة المضروبة ربما كانت تشعر بأنه يربت عليها ولا يضربها أويضرب بها الأخرى .
لا تؤاخيني إذا لم أستطع أن أواجههم فأنا كنت أمشى على سلك رفيع أخاف من التصريح فأجرحهم معا …كنت أحاول …أصلي …أدعوا الله أن يرحمنى و لايعذبني به و بك أكثر من ذلك فلم أكن لأتركه أبدا لأحد سواك يا أمرنا الُمسلم به ….فهل كنت أعذب نفسي من أجل احد سواك …
وحتى الآن لم أتيقن إذا ما كان ما بينهم فاق همس الأنامل عبر قرص الأثير …لا أعرف إذا كانوا تقابلوا صدفة أو عمدا لا أتيقن بالرغم من تزامن أوقات غيابهم معا ….
و……يتوافد الجموع من جديد بعد الأستراحة ..تنزلق بسرعة في مقعدها …لتتوارى عنه حتى لا يلاحظها …يجلس من جديد في مقعده بجانب زوجته ذات الشعر الكستنائي الناعم ..تخفت الأضواء و يبدأ العرض من جديد
إنطلاق صوت الموسيقى الغجرية من الجيتار الأسباني أشعل في أوصالها الحرارة … قفزت في مخيلتها فكرة مجنونة مجنونة …لماذا لاتذهب إليه وتستأذنه لحظة واحدة من جمانـــــــة وتصرخ به وتقول له "أحبـــــــــــــــــك " ماذا سيحدث ؟
ستقولها و تطلق ساقيها للرياح ستركض بعيدا عن المكان كله …وتتركه من جديد الى عالمه …فماذا ستخسر …وما الذي كسبته طوال تلك السنوات التي كتمت فيها حبها ؟ ما الذي جنته إحترامه لها ؟ إحترامها لنفسها ؟وفائها لإمرأة لا تدرك أساسا وجودها ؟ ماذا ستخسر إذا كانت لا تتوقع أي مكسب .؟ ..نعم ستفعل ذلك بلا شك فلتقولها ثم لتهرب أو حتى لتموت ؟ إنها لن تجنى شيء ولن تعذبه و ربما لن تضيف شيئا جديدا الى معلوماته ولكنها فقط سترتاح من جنون كلامها مع نفسها كل ليلة من جنون كلامها مع مرآتها ...نعم لو قالتها ستشفى منه ؟؟فقيمته ليست إلا في قدسية سره والسر لم يدفن و يتحلل في وجدانها بل هو موؤود بل مازال حيا في صدرها ...نعم ستقولها و ليحدث ما يحدث ....
إنسجمت جدا لتلك الفكرة المجنونة الحماسية ....تلاقت كفوفها تصفق بحماس شديد للفرقة الأسبانية وكأنها تشكر لهم موسيقاهم الغجرية التى أيقظت التمرد داخلها ...هبت واقفة .. بعدت بظهرها عن المقعد فليس ظهر المقعد هو الذي سيحميها بل صرختها المكبوته هي التي ستحييها ...
زحام شديد …الحضور ينصرفوا …حركة في جميع الاتجاهات حركة ما بين الصعود والهبوط …كانت تحرك ذراعيها بين الناس …تزاحمهم كأنها مجداف مركب صغيرة تشق الأمواج بسرعة لتصل الى بر الأمان …. أنهم يتحركون أمامها يصعدون ويهبطون على سلالم القاعة ….شعرت من جديد أن الطريق المفروش بالسجاجيد في طرقات القاعة مازال أمامها طويل ممتد يتلوى.. يصعد.. ويهبط ..كثعبان خبيث يقترب ببطىء من فريسته … يقترب ليضع النهاية على مسرح الأحداث ……
ووقعت الفريسة في يد ثعبان القدر …...
كادت أن تقترب منه فتحت فمها لتناديه و الضحكة تعلوا شفتيها "عبـــــــ………………" وماتت الكلمة على شفتيها
عبادة كان يمسك بطفلة جميلة وطفل جميل ويحيط بذراعيه ذلك الخصر الدقيق لزوجته …..أنها نشوى ".