أحلامٌ بلانهاية-
- الحلم الأول:
بعد وجبة عشاءٍ دسمة، شعر الجاحظ بتخمة مؤلمة. لم يلبث أن استسلم بعدها لنوم قلق. أحسَّ أنّ شيئاً مايضغط صدره بقوة، تقلّب في فراشه وهو يهذي بألفاظ غير مفهومة.. لا أحد يدري، أكانت تلك الألفاظ ليّنة مهذّبة، أم نابية قاسية. تقلّب في أحضان كوابيسه المتلاحقة، ثم راح يسمع صوت ضرباتٍ رتيبةٍ تقرع باب غرفته. تملّص من لحافه الخشن، زحف نحو الباب، فتحه بانفعال شديد، برز أمامه رجلٌ مسنّ منتصب القامة، فارع الطول، أزرق العينين، تزيّن سحنته الشقراء لحيةٌ مشعّثة، وخصلاتٌ مبعثرةٌ من شعر أشيب تتدلّى على عنقه وتتمرّغ فوق صلعته اللامعة.. فتح الجاحظ فمه مستغرباً والدهشة تأكل عينيه البارزتين.
ابتسم القادم الغريب وقال:
-...أأنت أبو عثمان، عمرو بن بحر.؟؟
أجاب الجاحظ بصوت متلجلج:
-... أجل. أنا عمرو بن بحر، الملقّب بالجاحظ.
أجاب القادم:
-... وجدتك أخيراً. كم بحثت عنك.. أنا وليم بن جون شكسبير.
-... وما الذي جاء بك في مثل هذه الساعة يا... ماذا قلت لي؟!! ماهو اسمك؟!!.. فأنا لم أرك ولم أسمع بك من قبل.!!
-... قلت: اسمي وليم شكسبير. أنت لاتعرفني، لأنّك أكبر منّي بمئاتٍ من السنوات. أمّا أنا فأعرفك جيداً. أعرف عنك الكثير الكثير. وقد آلمني جداً أن ينسى الناس اسمك الحقيقيّ ويلقبونك بالجاحظ...
ابتسم الجاحظ ملء فمه، وقد هدأ جيشان نفسه وابتردت دهشته، وقال لضيفه الذي كان يتملّى عينيه بشراهةٍ عجيبة:
-... أهلاً بك يا... ماذا قلت لي؟ مااسمك؟.
-... شكسبير.. شكسبير ياأبا عثمان.
-... تفضّل، اجلسْ ياشكسبير، اقترب منّي لنتحدث معاً.. حدثني عن نفسك أولاً..
-... أنا وليم شكسبير. أشهر أدباء الإنكليز وكتّابهم. ملأت الدنيا وشغلت الناس كصاحبكم هذا الذي أطلقتم عليه لقب المتنّبي.
كتبت قصائد لاحصر لها، وألّفت كتباً كثيرة. وكتبت مسرحيّاتٍ رائعةً مذهلة. و
قهقه الجاحظ ساخراً. غرس عينيه البارزتين في وجه محدّثه عاجله بسؤال فيه الكثير من التحدّي:
-... ماذا قلت؟! كتبت مسرحياتٍ رائعة!! ماذا تعني بذلك؟ ماهي المسرحية؟ هل هي شعرٌ أم نثر أم خطبة أم ماذا!!
كتم شكسبير غيظه، ثم قال بوقار مصطنع:
-... ما أغرب ما أسمع ياأبا عثمان. ألا تعرف ماهي المسرحية! سأحدّثك عنها فيما بعد، أما الآن فهناك ماهو أهمّ من ذلك وأعظم.
-... ماهو ذاك ياشكسبير، وقرون من الزمن تفصلني عنك.؟
أجاب شكسبير بهدوء ووقار كبيرين:
-... عرفت أنك مثيلي. فأنت كاتب العرب الأكبر وسيّد أدبائهم. وأنا مثلك سيّد كتّاب الإنكليز. متشابهان في أمور كثيرة. لقد طبّقت شهرتك الآفاق، وعرف الناس كلُّ الناس مبلغ ذكائك وسرعة بديهتك وفيض علمك وحبّك العميق جداً للعقل والعلم والبرهان..
كان الجاحظ يبتسم بثقةٍ كبيرة. وعيناه تدوران في محجريهما فخراً واعتزازاً. وراح شكسبير يتابع:
-... قرأت لك كتب الحيوان والبخلاء والبيان والتبيين وعشرات الكتب الأخرى.. كنت معجباً بك، راغباً في التزوّد منك والتلمذة على أدبك. عرفت فيك أحد رؤوس المعتزلة، متحرراً مما لايقبله العقل والبرهان. جريئاً في قول كلمة الحق والمعرفة. ولكن على الرغم من ذلك فبيني وبينك مفارقات شتّى، وخلاف في الرأي والأفكار. فقد اقتفيت آثار أخطائك واحدة واحدة. وكانت عديدة وكثيرة.. وها أنذا جئت إليك للحوار والمناظرة. فهل تستطيع أن تصمد لي..
انتفض الجاحظ كمن لسعته أفعى، وغاضت ابتسامته وازورّت عيناه. آلمه هذا التحدّي. اهتزّ جسده بعنفٍ واتكأ على راحتيه وهبّ واقفاً ليواجه زائره.. عجيبٌ جداً. تلفّت حوله. مسح المكان بعينين ازداد جحوظهما.. لا أحد أمامه. لقد تبخّر الضيف. ووجد نفسه يلملم جسده المتعب في فراشه، وحيداً في غرفةٍ يسودها الظلام وأشباح الكتب.. حكّ جبينه وصدغيه، وأيقن أنه كان يغطّ في أحداث حلم عميق...
قريبا جدا الحلم الثاني