زي العادة- من أرشيف صحيفة الأهرام
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
كثيرا ما كان ليبا دومب يقول " أنا شيوعي لأني يهودي " وكان هذا هو التفسير التقليدي الذي يذكره يهود أوروبا الشرقية الذين رأوا في اعتناق الماركسية – أو مجرد ادعائها – خلاصهم من الاضطهاد في دول أوروبا الشرقية قبل الحرب العالمية الثانية . خلق الخوف متن المحرقة ثورة متأججة في أعماق "دومب" وكانت وكالات المخابرات ليست دول تغربل أوروبا بحثا عن واحد من أعتى الجواسيس على مدى الزمان
في عام 1925م كان دومب في سن التاسعة عشر وكان ثائرا يؤمن باستخدام العنف لتحقيق الأهداف الثانوية مما أدى الى فصله من مصنع جلود في وطنه بولندا.
في هذه السنة انظم الى الحزب الشيوعي البولندي , حيث برز حماسه الثوري وظهرت مواهبه الاستخبارية وقدراته القيادية الطبيعية وأثبتت أنه كفء لأمور أعظم . وفي نفس الوقت التفتت اليه أنظار السلطات البولندية فاعتقلته عام 1928م لأنشطته الثورية وصدر اليه بمغادرة البلاد بدلا من الحكم بالسجن فذهب الى مارسيليا بفرنسا ثم هاجر الى فلسطين وبمجرد وصوله الى فلسطين بدأ في تنظيم خلايا شيوعية مما عجل بلفت سلطات الانتداب البريطاني اليه فأبعدوه الى فرنسا حيث أصبح شخصية مرموقة في شعبة العمال اليهود المهاجرين بالحزب الشيوعي الفرنسي .
مرة أخرى تسببت مهارته التنظيمية وخبرته القيادية في إلقاء الضوء الساطع عليه فظهر خطره في وضوح للسلطات الفرنسية , لكن الحزب تحرك قبل أن تمسه الحكومة الفرنسية بسوء وأرسل دومب الى موسكو ليحظر تدريبا حزبيا أعلى في جامعة الأقليات الوطنية التابعة لمنظمة "ستالين" للأحزاب الشيوعية الدولية التي تشرف على أنشطة الحزب في كل أنحاء العالم
هذا يعني أن دومب يعتبر من ألمع نجوم الحزب , أنه يتدرب ويتهيأ ليقوم بدور قيادي مستقبلا لكن دوره القيادي في الحزب لم يتحقق لأن المخابرات الروسية تبهت الى قدراته لما كانت له أعمق الأثر في حياته نفس السمات التي أعجبت قيادة الحزب في دومب وهي الجرأة والقدرة على التوجيه والذكاء الخارق والشعور بالمسئولية ودقة الإنجاز نفس السمات والقدرات جذبت اليه اهتمام جان بيرزن رئيس المخابرات السوفيتية الذي كان يتمتع بقدرة فائقة على تمييز وتجنيد أبرع الجواسيس أكتشف في دومب ذلك المزيج من السمات الأساسية للجاسوس النموذجي :
برودة التفكير ودفء القلب وصلابة الأعصاب وقوة الشكيمة
بدأ دومب أنسب ما يكون الى الوظيفة الجديدة فهو قصير القامة قوي البنيان يشع شخصية قوية نشطة عدوانية تعكس انطباعا بأنه مستعد لاختراق حائط برأسه إذا كان ذلك ضروريا للحصول على ما يريد وكان مظهره يوحي بجرأة متناهية في تحدي الأشخاص وحتى التعاليم التي يعتقد أنها خاطئة.
صقلت دومب سنوات العمل الحزبي السري فأظهر رغبة حقيقية في أعمال الجاسوسية .
بعد فترة وجيزة من العمل مع شبكة صغيرة في فرنسا في أوائل الثلاثينات لتنشيط مهارته الجاسوسية أصبح مستعدا للدور الحقيقي الذي رسمه له بيرزن جاسوس مقيم , فقد كان بيرزن يرى أن المخابرات الروسية تحتاج بصفة عاجلة الى الاستعداد للحرب التي كان واثقا أنها ستشتعل خلال سنوات قلائل.
كانت ألمانيا محور الارتكاز لكن الحزب الشيوعي الألماني وشبكة الجاسوسية السوفيتية في ألمانيا كانا مرهقين بضغوط هتلر فكان من الضروري إعادة بناء جهاز مخابرات جديد تسهر عيونه لمراقبة أخطر أعداء الاتحاد السوفيتي.
.
راعى بيرزن في خطته تجنب أخطار محاولة بناء شبكته في الدولة النازية وبدلا من ذلك اعتمد على سلسلة من أجهزة مخابرات صغيرة خارج حدود ألمانيا على أن تكون أهمها في بلجيكيا وفرنسا وأن يبنيها دومب بنفسه.
.
ذهب دومب الى بروكسل في مايو عام 1939م وبدأ العمل بمجرد وصوله .
كان عليه أن ينشئ عددا من الأغطية التجارية في أنحاء أوروبا تصل مجساتها الى داخل ألمانيا النازية نفسها .
ومن أجل ذلك انتحل شخصية رجل أعمال كندي المولد اسمه " جين جيلبيرت" وأسس شركة تجارية سماها " سيميكسكو" وفي العام التالي أنشأ شركة " سيميكس" في باريس ونشط في تجنيد العملاء وما أن نشبت الحرب العالمية الثانية حتى كان قد أسس شبكة محكمة التنظيم من خلايا تجسس تتكون من وكلاء مدنيين محترفين وشيوعيين محليين وامتدت سلسلة خلاياه من بحر الشمال الى سويسرا واشتملت على خلية صغيرة داخل ألمانيا تتكون من فريق شيوعيين ألمان أخفوا ميولهم السياسية وحصلوا على وظائف حكومية .
بلغ عدد عملاء دومب حوالي 200 عميل يحتلون مراكز في –أو قرب - ما كان يسميها نقاط التشغيل أو مراكز تجمع وتجميع وتوزيع المعلومات .
آمن دومب بأن المعلومات الحيوية يمكن وجودها حتى في أبسط المكاتب الحكومية المغمورة بشرط أن يعرف العملاء ضالتهم.
أثبت دومب صحة نظريته هذه بالتطبيق في فرنسا حيث كان معظم أفضل عملائه بعد الغزو الألماني اكتشف أن أحسن طريقة للحصول على معلومات عن مواقع ونظم القوات الألمانية في فرنسا كانت عن طريق وكالة صغيرة غير مشهورة اسمها المكتب الفرنسي لاسكان الجنود وهي وكالة في فيشي تعمل في مجال تنظيم إسكان قوات الاحتلال الألمانية وفقا لنظم إسكان الجيش الفرنسي مع تزويدهم بتسهيلات مدنية . ومن خلال العملية كانت الوكالة تعرف تحركات واتجاهات كل الوحدات الألمانية في البلاد وبنفس الطريقة كانت شبكة من موظفي السكك الحديدية الفرنسية الذين يعملون مع الألمان في تحريك القطارات العسكرية الألمانية بالنظام الفرنسي ومن خلال ذلك يعرفون تحركات الوحدات الألمانية داخل فرنسا وخارجها.
تبنى دومب أيضا إنشاء شركة هامة كغطاء لنشاطه التجسسي تعمل مع منظمة تودت الألمانية لتأدية جميع أعمال البناء العسكري سواء منها مباني المكاتب والإيواء أو القواعد الحربية وكل ما يتعلق بماكينة الحرب الألمانية وكان ممثلو شركة سيميكس يحصلون على جوازات مرور من السلطات العسكرية الألمانية تسمح لهم بدخول المناطق العسكرية الممنوعة وهي أقصى ما يحلم به الجواسيس.
خلال الأشهر الثمانية عشر الأولى من الحرب لم يدر الألمان بشيء عن شبكة دومب المنتشرة في أوروبا المحتلة . كان دومب حذرا يعلم أن أجهزة اللاسلكي التي يستخدمها في إرسال المعلومات الى موسكو تمثل أهم نقاط ضعفه لأن فرق الاهتداء الى أجهزة اللاسلكي- الألمانية – كانت على جانب عالي من المهارة والخبرة فكان دومب يغير أماكن أجهزته على فترات قصيرة ينقل بعدها الأجهزة الى مواقع جديدة.
في عام 1940أثمرت معلومات دومب عن تحركات القوات الألمانية في فرنسا وبلجيكيا حينما اكتشف عملاءه تحرك القوات الألمانية المفاجئ نحو الشرق . وطالما أن بولندا لم تكن في خطر هجوم وشيك , استنتج دومب أن هتلر قد حول انتباهه عن بريطانيا الى الاتحاد السوفيتي وتمكن دومب بالاشتراك مع مخابرات أخرى في ديسمبر 1940م أن يرسل قدرا ضخما من المعلومات من أجهزته المتنقلة عن عملية بارباروسا خطة هتلر لغزو الاتحاد السوفيتي في ربيع 1941م بما في ذلك الوحدات الألمانية المخصصة للعملية وزود موسكو بنظام المعركة كاملا.
تكلف دومب مجهودا جبارا لإرسال كل المعلومات في رسائل قصيرة لكنه شعر أن العمل يستحق ما بذل فيه من جهد طالما أن الاتحاد السوفيتي قد أدرك الخطر وكم كان فزعه كبيرا حينما رفض ستالين تصديق تقاريره واستنتاجاته ولشدة اقتناعه بأن الألمان لن يهاجموا الاتحاد السوفيتي علق تقرير المخابرات السوفيتية القادم من دومب بضرورة معاقبة كاتب التقرير . ومن حسن حظ دومب أن قيادة المخابرات السوفيتية تحملت مخاطر تجاهل هذا التعليق.
لم يتوقف دومب عن تغذية موسكو بسيل متصل من المعلومات عن الحشود العسكرية للغزو المرتقب الذي استمر ستالين في تجاهله.
وفجأة تغير كل ذلك صباح 22 يونيو 1941م حينما غزت ألمانيا الاتحاد السوفيتي وهنا فقط ثبت صدق تقارير دومب فانهالت عليه طلبات مركز المخابرات السوفيتية في موسكو لإرسال كل قصاصة معلومات يمكنه جمعها عن الآلة الحربية الألمانية واستجابة لذلك اشتغلت أجهزة اللاسلكي التابعة لدومب على مدار الساعة تقريبا تضخ المعلومات نحو الشرق واستطاع أن يحذر من خطة ألمانيا لهجوم نحو موسكو وفي شهر نوفمبر استطاع أن يعرف تفاصيل خطة ألمانيا العدوانية على القوقاز التي انتهت في ستالينجراد .
عند هذا الحد أدرك دومب أن عمليته تفقد قيمتها تدريجيا كان يعلم أن نجاحه المستمر في بث المعلومات إلى موسكو هو ذاته بذرة هدم شبكة مخابراته بأسرها لأن فرق البحث الألمانية عن أجهزته اللاسلكية كانت على وشك أن تهتدي إليها وتوقع بها .
المأزق لا مخرج منه ....
في تلك الساعة الحرجة كان الاتحاد السوفيتي في أمس الحاجة إلى المعلومات التي يرسلها دومب . ولم يكن أمامه خيار إلا أن يشغل أجهزته اللاسلكية الساعات تلو الساعات وهذا يعني إعطاء الفرصة لفرق البحث الألمانية عن أجهزته اللاسلكية للعثور عليها.
كان الألمان يقتربون منها بالفعل .
فقد ظلت محطات البحث الألمانية تستكشف الرسائل اللاسلكية الشفرية المتجهة إلى الشرق من عدة أجهزة إرسال في الغرب منذ عام 1941م ورجحت أنها تابعة للمخابرات السوفيتية وعلى الرغم من عجز الألمان عن حل الشفرة إلا انهم واصلو بذل الجهد للبحث عن الأجهزة وعن المرسلين وخصصوا لذلك عملية مضادة للجاسوسية مشتركة بين الجستابو والمخابرات الألمانية.
في يونيو 1941م اتضح للألمان أن البث بدأ فجأة يمتد لعدة ساعات في نوبة الإرسال الواحدة مما أتاح لفرق البحث اللاسلكي وقتا أطول لتتبع مصدر الإشارات وكعادتهم في استخدام مصطلحات موسيقية لتسمية عمليات البث السري الحديثة أطلقوا على عملية شبكة دومب ( الأوركسترا الحمراء ) وهو الاسم الذي عرفت به بين الأساطير الجاسوسية .
حينما اقترب الألمان من محطات دومب اتخد تدابير فك شبكته وهرب .
أخفى شخصيته تحت أسماء مستعارة مختلفة بما فيها الاسم الأكثر استخداما وهو (جين جيلبرت ) أو ( مسيو جيلبرت ) الذي قيل أنه توفي فجأة وفاة طبيعية وكان لدومب –بالطبع- شاهد مقبرة يحمل هذا الاسم أعد لمدفن فارغ في مقابر باريس .
حدد دومب يناير 1942موعدا أقصى لإنهاء تصفية شبكته .
لكن في 13 ديسمبر 1941م عثر الألمان على إحدى محطات الإرسال الهامة في بيت بمدينة بروكسل ..
أغاروا على البيت وقبضوا على أعضاء كثيرين من الشبكة ومشغل لاسلكي يعمل على الجهاز والأغرب من ذلك أن دومب نفسه حضر إلى البيت أثناء الغارة ..
فكر بسرعة واستطاع أن يفلت منهم مدعيا أنه بائع أرانب متجول فلم يتعرض له الجستابو بسوء وتركوه يمضي في سبيله.
أسفر تعذيب العملاء المقبوض عليهم عن سرعة التعرف على حقيقة بائع الأرانب المتجول فاتجهت قوات الجستابو إلى الانتشار في كل مكان لصيد دومب وفي الوقت نفسه بدأ الألمان يحطمون شبكة الأوركسترا الحمراء حتى انهارت تماما في كل أنحاء أوروبا بانتصاف عام 1942م واستطاع دومب أن يتهرب من الاعتقال حتى أكتوبر عام 1942م حين تعرف الألمان على أحد أسمائه المستعارة وتعقبوه إلى عيادة أسنان في باريس حيث جلس على مقعد العلاج ينتظر الطبيب ليخلع ضرسا مريضا ..
قال لوكلاء المخابرات الألمانية وهم يقبضون عليه:
" أهنئكم . لقد أجدتم العمل".
ظل ما حدث بعد ذلك موضع جدل .
قال الألمان : كانت المخابرات الألمانية تطمح إلى تنفيذ خطة ذكية في تقديرهم أن موسكو تعرف أن الأوركسترا الحمراء آيل إلى الانهيار . لكنها لا تعرف الفروع التي سقطت كما لم تعرف بعد أن دومب نفسه وقع في الأسر .
خطة المخابرات الألمانية تقضي باستخدام دومب مخلب قط يغذي موسكو بمعلومات خادعة .
ادعى الألمان أن دومب رحب بالفكرة بل وافق على خيانة الأعضاء الباقيين من الأوركسترا وأعضاء المقاومة الفرنسية الذين خدموا كعملاء لشبكته .
قال دومب فيما بعد انه وافق أن يشترك مع الألمان في لعبة اللاسلكي الصغيرة على أمل تحذير موسكو في أول فرصة وأنكر خيانته لأي عميل من عملاء الأوركسترا .
بدأ الألمان بث المعلومات المزيفة إلى موسكو موقعة باسم دومب , كانت ردود السوفيت توحي بأن موسكو ابتلعت الطعم .
لكن الحقيقة هي أن المخابرات السوفيتية شعرت من أول لحظة بسقوط المحطة عن طريق الإشارات السرية وأدركت أن دومب أصبح يعمل تحت سيطرة الألمان .
لذا استمر الروس في اللعبة إلى النهاية وطلبوا المعلومات عن الخطوط العسكرية الألمانية وفي يونيو 1943م أدركت المخابرات الألمانية بطريقة ما أن الروس يخدعونها فأنهوا المباراة .
ومهما تكن خطة الانتقام التي دبرها الألمان ضد دومب فقد تفاداها بالهروب فجأة من قبضة الألمان إذ طلب من حراسه مرافقته إلى صيدلية لشراء عقار لقلبه وتسلل من الباب الخلفي بينما هما ينتظران خروجه من الباب الأمامي واختفى تحت أرض باريس ولم يظهر إلا بعد التحرير .
بعد عدة أشهر من التحرير طلبته موسكو لمناقشة موضوعات غير محددة .
وعندما وصل ارتكب خطأ الشكوى من تجاهل معلوماته عن عملية ( برباروسا) وإصرار موسكو على إطالة فترات البث مما عرض الشبكة إلى الانفضاح بواسطة الألمان ...
وجهوا إليه تهمة خيانة الأوركسترا لصالح الألمان وصدر ضده حكم بالسجن 10 سنوات وافرج عنه في أعقاب وفاة ستالين عام 1953م وأذنوا له بالهجرة إلي وطنه بولندا .
تخلص دومب من الشيوعية وتحول إلى قضية الصهيونية وأصبح زعيم البقية الباقية من أفراد الطائفة اليهودية البولندية .
وسرعان ما اصطدم بالسلطات حينما رفضت الحكومة السماح للطائفة اليهودية بالهجرة إلي إسرائيل وكاد دومب أن يغيب في السجن مرة أخرى لولا أنقذته المخابرات الروسية اذ بدأت حملة دعاية تجلو فيها صور جواسيسها بنشر تفاصيل بطولات أشهرهم ومن بينهم دومب وهكذا أنقذه النشر من السجن في بولندا .
لكن السلطات ظلت متمسكة بعدم السماح له بالهجرة إلي إسرائيل ليعيش سنوات عمره الأخيرة وأخيرا – تحت ضغط من موسكو- أذنوا له بالهجرة عام 1974م وتوفي في القدس عام 1983م.
انتهى ..........