إنها تشكو إلى الله أرحاماً تقطعت، وأواصر تمزقت، وخلوها من الزوار، فبعد أن كانت تغصّ بالحاضرين من أقارب وزائرين أصبحت تجأر بالشكوى والأنين،
وبعد أن كانت مسرحاً لاجتماع شمل الأسرة كل أسبوع، ورمزاً لتواصل القلوب وتقارب الأجساد، بين المرء وذوي رحمه، وبين الصديق والصديق، خلت إلا من القليل، رحماك يا الله..
لقد طغت على معظمنا ماديات الحياة، وأنستنا مشاغلها وهمومها بعضاً من قيم الإسلام الجميلة التي كانت راسخة من قبل في كل وجدان، وغطى عليها ركام الأيام وغبار الطريق فأخطأنا من حيث لا ندري في تحديد الأولويات، وغفلنا عن أجمل وأحلى ما في الحياة، وصار كل منا مشغولاً بنفسه منهمكاً في عمله حتى في العطل والإجازات!
تفكك أسري
وانتقل إلينا داء الأمم الغربية من تفكك أسري وقطيعة أرحام، لا توصل إلا في المناسبات! ففاتنا من الخير الكثير، وضاقت بتلك القطيعة الأرزاق، و"إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه" (أحمد).
وفقد بعضنا أخلاقاً جميلة كالإيثار فصرنا نركض في الدنيا بحثاً عن لقمة العيش كما نقول ركض الوحوش، وغرق كثير منا في الديون ومطالب الحياة، فكل يعيش لنفسه وبيته وأولاده، وليس عندنا وقت للسؤال عن المدين أو غيره من الأرحام، إلا من رحم ربك.
كنا منذ زمن ليس بالبعيد نجد لزيارات الأهل والأقارب لذة، وللأعياد فرحة، وللأمراض تداعياً، وللمصائب مشاركة، وللأسرة اجتماعاً وألفة، ولم تكن سبل الاتصالات ميسرة، فلم نك نملك السيارات أو الهواتف كما نملكها الآن، لكنا كنا نملك قلوباً متآخية ونفوساً تواقة لفعل الخير، وأسراً مترابطة، وهذا أعظم وأهم.
لقد حرص الإسلام على التعارف بين الناس فقال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى" وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا..) (الحجرات:13). وحث على الإخاء والمحبة والتراحم فقال: (إنما المؤمنون إخوة) (الحجرات:9). وذكر أولي الأرحام في أكثر من آية في القرآن الكريم، وخص صلة الرحم دون جميع الصلات برعاية أكبر وعناية أعظم، وأعطاها من المكانة الحجم الكبير، وحذر من قطعها تحذيراً شديداً.
وإذا كانت عيادة المريض والزيارة في الله من الأعمال الصالحة التي بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلها بالأجر الجزيل، حين قال: "من عاد مريضاً أو زار أخاً له في الله ناداه مناد أن طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلاً" (الترمذي)، فإن زيارة أولى الأرحام وصلتهم أولى، والقيام بحقهم آكد وأوجب، لمَ لا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله" (البخاري). فيا للفجيعة لقاطع رحمه، أتتحمل قطيعة الله لك، أتعيش في دنياك بغير معيته سبحانه وتعالى فلا يخشع قلبك ولا تدمع عينك ولا تشبع نفسك، فتركبك الهموم وتطاردك وساوس الخوف من المستقبل، والجزاء من جنس العمل!
والأرحام هم ذوو قرابتك الذين تجمعك وإياهم رحم واحدة، ويأمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بالتعرف على أنسابنا لنستطيع أن نصلهم، ففي الحديث: "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر" (الترمذي). وتصلهم بأن تعين فقيرهم وترشد جاهلهم، وتقضي حوائجهم، وتتفقد غائبهم، وتعود مريضهم، وتشاركهم أفراحهم وأحزانهم.
نحن بحاجة إلى الارتقاء بنفوسنا وأخذها إلى الحق أخذاً جميلاً، والعودة بها إلى منابع ديننا الصافية فننهل منها ما ينفعنا في ديننا ودنيانا، وحين ينشأ أولادنا في أسرة متواصلة وبين أفراد متحابين فإن هذا درس بليغ للأجيال من بعدنا يسيرون عليه ويدعون إليه من أجل أسرة أتقى وأمة أقوى.
إيمان المغازي الشرقاوي
(( منقووول ))