المصدر- صحيفة الأهرام
-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
إنها إحدي قصص بطولات الشباب العربي.. قصة بطولة البطل المصري البدوي سليمان.. احد افراد المخابرات الحربية المصرية..
انها قصة الهروب الكبير.. قصة كفاح ذلك البطل سليمان.. فهو من الذين أقلقوا راحة العدو في اثناء احتلاله الأرض.. وايضا احد من ساعدوا بمعلومات استطلاعاتهم في إنجاح العبور العظيم واسترداد الأرض..
ان حكاية البطل سليمان وبطولته التي مرت بثلاث مراحل تعتبر من البطولات نادرة الحدوث.. فالمرحلة الأولي كانت هي مرحلة نشاطه الاستطلاعي عن قوات العدو وتفصيلات ذلك النشاط.. وكانت المرحلة الثانية هي مرحلة القبض عليه والتعذيب الوحشي الذي تعرض له.. ذلك التعذيب الشرس الذي تحمله برجولة فلم يبح أبدا باي اسم من أسماء المناضلين البدو الذين كانوا في مساعدته.. ثم كانت المرحلة الثالثة وما فيها من اثارة ومغامرات.. فقد كانت هي مرحلة هروبه من أيدي العدو.
لقد ظل العدو يطارد ذلك البطل الهارب بكلابه المدربة.. وكلابه البشرية وآلياته ومروحياته شهرا كاملا.. كانوا يطاردونه ويحاصرون مناطق اختفائه ولكن بذكائه كان يوقعهم في شراكه الخداعية القاتلة لجنوده والمدمرة لمعداته. كان كالشبح يظهر ويدمر ويقتل ويختفي في لحظة.. فظل مشتتا لقوات العدو الي ان وصل سالما الي احضان قواتنا داخل أرض سيناء
نشاط البطل في اثناء حرب الاستنزاف
كانت حرب الاستنزاف تقلق العدو الاسرائيلي بسبب عظم خسائره التي يتكبدها نتيجة نشاط ابطال تلك الحرب من الفدائيين المصريين الذين كانوا يتسللون الي الاراضي المحتلة ويضربون اهداف العدو فيها.. ومن المعروف انه لا صراع ولا حرب ولا انتصار عسكريا الا بمساعدة المعلومات.. فالمنتصر هو من يملك معلومات اكثر عن الطرف الذي يصارعه..
ومن هذا المنطلق كانت المخابرات الحربية قد تمكنت من تكوين فريق من أبناء الارض من البدو علي عمليات الاستطلاع وجمع المعلومات.. وكانت مهمة ذلك الفريق هي استطلاع تحركات العدو علي المحاور والطرق المهمة.. وكان ذلك الفريق مكونا من مجموعات تعمل كل منها علي حدة.. وكان عمل كل مجموعة هو مراقبة كل تحركات العدو.. ثم تجمع تلك المعلومات من كل المجموعات وترسل الي القيادةعيون الاستطلاع الخفية
كانت تلك المعلومات هي المرشد الأول لعمليات النسف والتدمير التي كان افرادها يتسللون الي الارض المحتلة لتفنيذ عملياتهم ضد العدو لذا كانت الضربات مؤثرة علي العدو تأثيرا قويا.. مما ادي الي استنجاد اسرائيل بأمريكا من اجل التدخل لإيقاف عمليات هؤلاء الابطال فكانت ما اطلق عليها مبادرة روجرز.
وبناء علي تلك المبادرة.. أوقف ذلك النشاط الفدائي في الأرض المحتلة ولكن ظلت عيوننا من فريق الاستطلاع بداخل الأرض.. منتشرة في كل مكان ومسيطرين علي جميع المحاور.. كانوا متوجدين حتي بداخل احشاء العدو يحصلون علي المعلومات.. وينقلونها للبطل سليمان بخطة سرية دقيقة.. يقوم هو بالتالي بتوصيلها لقيادة المخابرات بالقاهرة.
كانت خطة توصيل المعلومات الي سليمان تعتمد علي لقاءات سرية تتم في العريش كل يوم خميس من كل اسبوع.. كان بطلنا سليمان يقف في ذلك السوق متخفيا في صورة بائع مواش.. وكان افراد الاستطلاع يحضرون الي السوق كل بمفرده.. ويتوقف امام بائع المواشي.. ويتعامل معه كبائع ومشتر وبطريقة سرية يدفع اليه في الخفاء بتقرير المعلومات التي حصل عليها من مراقبته للعدو في محوره المكلف بمراقبته.. وفي نهاية اليوم.. يكون سليمان قد جمع كل المعلومات وصنفها.. وكتب بها تقريرا بالشفرة بحيث تكون جاهزة للارسال..
قبيل منتصف الليل بقليل.. كان ذلك الشبح.. شبح سليمان يتسلل من داره حيث يسير مستترا ببعض السواتر الطبيعية.. ككدي الارض وعشبها وشجيراتها.. الي ان يصل الي تلك الشجرة البعيدة في ذلك الوادي المنخفض قليلا عن الأرض.. وبعد ان يطمئن إلي انه غير مراقب.. ينحني علي الأرض ويمسك بيده حلقة اتقن اخفاءها بلصق كمية من رمل الارض واغصانه عليها.. بحيث تبدو كجزء من الأرض فيرتفع معها ذلك الجزء المربع من الصاج المموه علي شكل طبيعة الأرض بترابها وحصاها وحتي اعشابها..
ويهبط البطل سليمان في تلك الحفرة.. ويغلق خلفه ذلك الغطاء.. فتصبح قطعة من الأرض لا يفرقها انسان عن باقي ما حولها من الأرض.. ولكن بالداخل كانت حفرة بعمق مترين وبنفس الطول والعرض.. وينكب البطل سليمان علي الاتصال بالقيادة.. وعندما يسمع ردها يقوم بإرسال رسالته المشفرة.
كان ذلك هو الاسلوب العادي الروتيني المتبع للاتصال بين عيون مصر الراصدة للعدو.. وبين قيادة المخابرات الحربية.. ولكن كان هناك اسلوب آخر، فاحيانا ما، كان يعن للقيادة الاستفسار عن شئ ما.. ويكون مطلوبا بصفة عاجلة لذا كانت هناك تعليمات لسليمان.. ان يستمع يوميا وفي موعد محدد لإحد محطات الاذاعة المصرية التي تذيع لابناء الارض المحتلة لتصل بينهم وبين من لهم من اقارب خارج الأرض.. وكان ذلك البرنامج يذيع الاغاني المهداة من ابناء الارض المحتلة خارجها لذويهم بداخلها.. فاذا سمع سليمان المذيع يقدم اغنية معينة وكانت هي اغنية وردة علي الربابة باغني فذلك معناه ان يقوم سليمان فورا بالاتصال بالقيادة لاستقبال رسالتها اليه.
ويستمر الحال علي ذلك.. اتصالات عادية روتينية.. الي ان كان يوم الاربعاء الموافق2 من اكتوبر عام1973 وقبيل الغروب بقليل.. لحظة تلامس الشمس الغاربة مع الأفق.. في هذه اللحظات كان ذلك الرجل البطل سليمان يجلس بالقرب من باب داره الواقعة علي تلك الربوه متأملا جمال الغروب ومنتظرا اختفاء قرص الشمس.. عندها يبدأ في تناول افطاره بعد صيام اليوم فقد كان شهر رمضان.
وفي يوم بينما كانت عيون سليمان تتلذذ بذلك المنظر الجميل المبهر منظر الغروب.. كانت ايضا آذانه تستمع لتلك الاغاني المنبعثة من ذلك الراديو الصغير بجواره..
وفجأة حدث شيء ما نبه البطل سليمان وأخرجه من شروده.. كان شيئا ما سمعه من ذلك المذياع الصغير.. فانتبه وكان صوت المذيع يقدم الأغنية المتفق عليها..
نسي سليمان افطاره.. بل نسي حتي ان يشق ريقه.. ونظر حوله ليطمئن علي عدم وجود من يراقبه.. وتسلل الي الحفرة وهبط فيها واغلقها علي نفسه وقام بالاتصال بالقيادة.
ولحظات وتصله تلك الرسالة التي كان نصها كالآتي:[ افد عن اي تحركات للعدو وابلغ فورا مع مراعاة الحذر التام..]
حقا كانت رسالة عادية كمثيلتها مما كان يتلقاه احيانا من القيادة.. ولكن ما لفت نظره وجعلها بالنسبة له غير عادية هي الفقرة الاخيرة من الرسالة وهي ابلغ فورا مع مراعاة الحذر.
عاد سليمان الي داره.. ولكنه لم ينم ليلتها.. كان يفكر في مدلول تلك الفقرة التي شدت انتباهه.. وفي الصباح خرج سليمان حيث قام بالمرور علي جميع نقط الرصد والملاحظة من زملائه البدو.. وسألهم عن اي تحركات للقوات الاسرائيلية.. وكانت الاجابة بلا.. فينبههم بان عليهم ابلاغه فورا عند ظهور اي تحركات للعدو.. ولا ينتظرون للموعد المحدد وهو يوم الخميس بسوق العريش.
كان سليمان قلقا.. فقد استنتج ان هناك شيئا ما سيحدث.. ولكن لم يتمكن من استنتاج كنهه.. وظل علي هذا القلق الي ان كان يوم6 اكتوبر قبيل الساعة الثانية بقليل.. وبينما كان سليمان ومجالسوه يتحدثون.. اذا به ومن معه يشعرون بشبه هزة ارضية.. وللوهلة الأولي اعتبرها الجميع زلزالا.. ولكن البطل سليمان وصل الي اذنيه ما يشبه صوت الضرب من علي بعد.. فأسرع بتحويل محطة الراديو الي اذاعة مصر.. وظل مبقيا عليها.. وفجأة ينطلق صوت المذيع بأول بيان عسكري من القيادة المصرية.. وكان البيان يقول( صرح الناطق العسكري المصري بما يلي.. قامت قوات العدو بالاعتداء علي قواتنا بالزعفرانة).
بعد ذلك البيان بقليل توالت البيانات العسكرية.. التي جنحت تقريبا الي الاشارة بأن العدو هو المعتدي.. الي ان كان ذلك البيان الذي يقول يحظر علي السفن الاقتراب من المياه الاقليمية المصرية).
هنا فهم وعرف البطل سليمان ان مصر هي التي هاجمت.. خصوصا عندما بدأت اصوات المدفعية المصرية تصل بوضوح الي موقع البطل سليمان.. ويهلل الجميع فرحا واستبشارا بالنصر المبكر.
اعتلي البطل سليمان تبة ونظر منها تجاه الشرق فشاهد الدخان والنيران المشتعلة من علي بعد كبير.. نتيجة الضربة الجوية التي قامت بها القوات الجوية المصرية علي مواقع العدو.. وعاد ونظر ناحية الغرب فشاهد مطار العريش.. حيث وجد ان العدو يقوم بسحب طائرات التدريب هيومانجستر علي الأرض.. ايضا بعض السيارات النقل للعدو كانت تنطلق في اتجاه العريش..
كان شعورا غريبا ذلك الذي شعر به البطل سليمان في تلك الساعة.. كان شعورا لا يوصف.. ادي به الي البكاء.. فقد كانت دموع الفرح بالنصر.. لحظتها اسرع سليمان الي المخبأ وفتح علي القيادة وارسل رسالته وبدأها بالتهنئة والدعاء بالنصر.. ثم سرد فيها ما شاهده.. خصوصا ما كان يحدث من العدو في مطار العريش.. وانتظر سليمان ثواني الي ان وصله رد القيادة حيث كانت رسالة قصيرة تقول( قواتنا في الطريق اليكم)
من هذه اللحظة اصبح سليمان وزملاؤه في حالة استعداد تام.. وبدأ الرجال يترددون علي مخبأ سليمان.. يبلغون عن تحركات العدو التي نشطت علي المحاور التي يراقبونها.. وكان سليمان يقوم بإرسال تلك المعلومات أولا باول الي القيادة بالقاهرة.
ومر يوم6 اكتوبر دون ان يظهر اي نشاط يذكر لطيران العدو.. ولكن منذ بداية يوم7 اكتوبر.. بدأت تظهر تحركات الطيران الاسرائيلي.. وكان سليمان يرصد نشاط ذلك الطيران.. فقد بدأت منذ الصباح موجات متلاحقة من الطائرات الاسرائيلية علي شكل اسراب.. كل سرب مكون من طائرتين فانتوم وخلفهما طائرتان سكاي هوك وكانت تأتي من شمال الشيخ زويد الي منطقة شريهات الي منطقة الريسان ومنها الي الجبهة.. وكانت تلك الاسراب متلاحقة بحيث كانت تشكل شبه سحابة من الطائرات تغطي السماء.
ايضا كان هناك طريق طيران آخر مكثف عن طريق جبل لبنه من تجاه البحر.. واسرع البطل سليمان بإبلاغ ذلك النشاط المكثف لطيران العدو الي القيادة..
كان العدو قد استوعب الموقف الحرج الذي هو فيه.. وأيضا كان قد استرد بعض انفاسه.. فأراد ان يدفع بمدرعاته الي الجبهة.. وفي نفس اللحظة التي قرر فيها العدو ذلك.. كان الخبر قد وصل الي القيادة في القاهرة عن طريق البطل سليمان ولكن كيف وصل الخبر بتلك السرعة؟
كانت المخابرات المصرية قد دفعت باحد رجالها للعمل بمعسكر اللواء190 مدرع الاسرائيلي.. لينقل لها أي معلومات أو تحركات.. وفعلا عندما تقرر الدفع بمدرعات العدو الي الجبهة.. كانت قيادة العدو قد وقع اختيارها علي دفع اللواء190 مدرع.. وعلي الفور تصرف رجل المخابرات الذي يعمل في المعسكر.. واسرع الي سليمان وابلغه بذلك.. فأسرع سليمان بدوره بابلاغ ذلك الي القيادة بالقاهرة.. أي وصلت المعلومة في لحظة تحرك اللواء المدرع190.
والأكثر من هذا ان توالت عيون الرصد من البدو متابعة هذا اللواء المدرع في خط سيره الي الجبهة.. وفي نفس الوقت كانت بعض المدرعات المصرية تتحرك ايضا تبعا لاشارات سليمان وبلاغاته عن خط سير اللواء الاسرائيلي وتقدمه..
وهناك في جبهة القتال كان في انتظار ذلك اللواء المدرع كمين من المدرعات المصرية.. وكانت معركة الدبابات الشهيرة.. وتعالت اصوات مدفعيات المدرعات في قصفها.. ولكن سرعان ما صمتت.. فقد تمكن ابطالنا المصريون من رجال المدرعات المصرية من الانقضاض علي ذلك اللواء المدرع للعدو وتم اسر قائده الشهير عساف ياجوري..
ظل الاتصال مستمرا بين البطل سليمان والقيادة حيث كان يبلغ عن كل تحركات العدو.. ذلك الي ان شاهد سليمان من موقعه طائرة كبيرة تطير علي ارتفاعات عالية جدا قادمة من تجاه البحر الابيض.. وتسير بمحاذاة الجبهة الي ان تصل الي البحر الاحمر.. ثم تعاود طريقها بالعكس..
ووصلت تلك المعلومة الي القيادة.. فقام خبراؤنا بعملية تحليل لها فتم التعرف علي نوع تلك الطائرة.. واتضح انها طائرة اواكس الامريكية.. وكانت مهمتها التجسس علي القوات المصرية بالجبهة.. وظلت تلك الطائرة تجوب المنطقة من البحر المتوسط الي البحر الاحمر بمحاذاة الجبهة.. الي ان حدث ما سمي الثغرة.
وتوقع العسكريون المصريون ان امريكا ستتدخل في المعركة.. وكان لابد من الحصول علي اكبر قدر من المعلومات بأقصي سرعة ممكنة عن أي تغيرات تحدث في جيش العدو..
وبناء علي ماسبق.. وصلت اشارة الي البطل سليمان من القيادة.. تطلب فيها ان يظل الاتصال مستمرا بينهما علي ان يبلغ أولا بأول باي تطورات فاستنتج سليمان من ذلك ان الموقف اصبح خطيرا..
وهنا يتصرف البطل سليمان.. لقد فكر جيدا ودرس الموقف والأرض فوصل به تفكيره الي ان اي تطور سيحدث في قوات العدو وتحركاته ستكون بدايته من مطار العريش.. فقرر ان يقترب أكثر.. فاكتشف اكتشافا عاما كان العدو يحرص علي اخفائه.. لقد شاهد البطل نشاطا مكثفا في المطار.. لقد رصد عدد ثماني طائرات هيلوكوبتر ضخمة تأتي من تجاه البحر وتحط في غرب المطار.. ثم تحلق ثماني طائرات هيلوكوبتر ضخمة اخري من المطار في اتجاه الجبهة..
وابلغ سليمان بذلك.. ولكنه كان لايعرف ماتحمله تلك الطائرات القادمة من البحر ولا ما تحمله تلك الطائرات التي تحلق من مطار العريش.. واقترب سليمان أكثر فشاهد ما كانت تحمله تلك الطائرات القادمة من البحر.. وما كانت تحمله الطائرات الاخري وتطير به الي الجبهة.. فقد كانت عبارة عن معدات حربية من مدرعات وعربات مصفحة ومدفعيات.. لقد كان ذلك هو الجسر الجوي الذي قامت به امريكا لمعاونة اسرائيل.
قام سليمان بإرسال رسالة ابلغ فيها عن ذلك الجسر الجوي.. وما كاد سليمان ينتهي من ارسال اشارته الا وشاهد عددا من دوريات العدو تنتشر بسرعة حول المطار وكأنها تبحث عن شيء ما فعرف انهم يبحثون عنه.. فقد التقطوا اشاراته وعرفوا منها ان هناك من يتجسس عليهم ويذيع أولا بأول ما يحدث في مطار العريش.
واسرع البطل سليمان بدفن جهاز الاتصال في خرج الجمل بين كميات التبن التي تملأ الخرج.. واطلق لجمله العنان ليسير بمفرده.. فهذا لايلفت النظر في منطقة سيناء.. فهناك الجمال تسير بمفردها الي ان تصل الي ديار اصحابها.. اما سليمان فقد سار مترجلا مبتعدا عن ذلك الموقع.. وكان يسرع بالاختفاء كلما شعر بقرب سيارات دوريات العدو التي تبحث عنه.
وينجح سليمان في الوصول الي داره..وايضا يصل الجمل الي هناك وكان خبر الثغرة قد عرف.. وحزن البطل سليمان ومن معه.. ولكن ذلك الحزن لم يطغ علي فرحتهم بتمكن قواتنا المصرية من العبور وتحرير جزء من ارض سيناء.
كان سليمان وعيونه ورجاله مازالوا في الجزء المحتل.. عندما تم الاتفاق علي وقف اطلاق النار.. ولكن ظلت الاتصالات بين سليمان والقيادة في القاهرة الي ان توقف جهاز اللاسلكي الخاص به عن العمل..
عطل جهاز الإرسال
كان جهاز اللاسلكي الذي يعمل به سليمان من النوع ذي البطاريات التي تشحن باليد.. ويبدو ان تلك البطاريات قد انتهت مدة صلاحيتها الافتراضية.. فقد كانت سريعا ماتفرغ شحنتها.. ويضطر سليمان إلي شحنها باليد كل ربع ساعة تقريبا.. وتلك عملية متعبة جدا وغير عملية.. ومع ذلك كان سليمان يقوم بها الي ان اصبحت البطاريات لاتقبل الشحن تماما.. وانقطع الاتصال بينه وبين القيادة في القاهرة.. وظل علي ذلك مدة41 يوما الي ان انقطع نداء القيادة له فقد اعتقدوا ان سليمان قد قبض عليه من العدو الاسرائيلي.
محاولات اصلاح جهاز اللاسلكي
لم يستسلم سليمان.. بل قرر ان يقوم بمحاولة لاصلاح حال بطاريات الجهاز.. فقام بفتح الغلاف المغلف به الجهاز فوجد بداخله بطاريتين صغيرتين قوة كل منهما6 فولت.. وكانت الأملاح قد تراكمت عليهما.. وفسدتا تماما, وفكر سليمان.. ماذا لو تمكن من إحضار بطاريتين قوة كل منها6 فولت أو بطارية واحدة كبيرة قوة12 فولت.. ويقوم بدفنها في الأرض ويأخذ منها سلكين ويوصل أحدهما من سالب البطارية إلي سالب الجهاز, ومن موجب البطارية إلي موجب الجهاز.. وفعلا قام سليمان بتنفيذ فكرته فذهب إلي سوق العريش فلم يجد.. فاشتري بطارية كبيرة تستعمل في سيارات النقل ودفع ثمنها700 ليرة اسرائيلية.. وقام بشحنها شحنا قويا.. وحملها وعاد بها الي مخبأ الجهاز.. وقام بعمل التوصيلات.. ولكنه فوجئ بأن مؤشر الجهاز لم يتحرك.. رغم ان قوة شحن البطارية يمكن ان تدير موتور سيارة نقل كبيرة بسهولة.. واحبط سليمان... بعد ان فشلت محاولته وايضا خسر مبلغا من نقوده.. ولكنه لم ييأس وفكر مرة أخري..
اخذ سليمان احدي البطاريتين الاصليتين من الجهاز.. ووضعها في كيس من الورق.. فقد قرر الذهاب الي غزة.. لأنه استنفد البحث في سوق العريش وهو يعرف ان في غزة..يوجد ذلك المحل الكبير الذي يمول اسواق مدن سيناء كلها..
واستقل سليمان سيارة من العريش.. وعند منطقة ابو طويلة.. كانت هناك منطقة تفتيش اسرائيلية صعبة.. فترك سليمان السيارة قبل نقطة التفتيش بمسافة كيلو.. والتف حولها في الصحراء وخرج بعد نقطة التفتيش بمسافة كيلو متر قريبا.. ثم استقل احدي السيارات من علي الطريق.
وصل سليمان الي غزه.. وبحث عن محل البطاريات فوجده بشارع عمر المختار.. ودخل سليمان المحل واخرج بطارية الجهاز من كيسها وقدمها لصاحب المحل وطلب منه مثيلتها.
امسك صاحب المحل بالبطارية وصار يتمعنها باهتمام اقلق سليمان ثم نظر له وباستغراب سأله قائلا.. بطارية ايش دي؟ ورد عليه سليمان بانها بطارية يستخدمها في جهاز تسجيل عوضا عن البطاريات العادية التي تنتهي سريعا.. ولكن ظل صاحب المحل يقلب فيها باستغراب.. ثم يعود ليسأله بطارية ايش دي؟ ويعود سليمان وقلبه يدق خوفا بنفس الاجابة.. وتكرر ذلك عدة مرات.. حتي كاد سليمان يأخذ البطارية وينصرف.. ولكن صاحب المحل امسك بها واتجه الي التليفون.
وهنا وقع قلب سليمان في قدميه.. فها هو الرجل سيبلغ عنه.. خصوصا عندما سمعه يطلب تل ابيب.. وعندما سمع سليمان ذلك.. تسلل الي قرب باب المحل ووقف بخارجه.. وفكر ان ينطلق هاربا وسط زحام البشر..
ولكن لأن سليمان مناضل لاييأس.. فقد ابعد ذلك التفكير.. اي تفكير الهرب عن عقله.. وفقط وقف خارج المحل علي بعد قليل وعيناه علي الرجل بالداخل..فإذا تأكد أن الرجل قد ابلغ فانه من السهل ان يفر ويختفي بين زحام البشر.
وهو علي هذا الحال.. سمع سارينة سيارة شرطة قادمة من بعيد.. فتأكد ان الرجل ابلغ عنه.. وهم بالفرار ولكن سيارة الشرطة كانت اسرع منه فقد عبرت مكانه وانطلقت بعيدا.
هدأت انفاس سليمان مرة اخري.. وعاد ونظر علي الرجل صاحب المحل فوجده معلقا علي سلم ويبحث في الارفف العليا للمحل.. وبعد فترة نزل الرجل وبيده علبة بها بطارية وعرضها علي سليمان قائلا.. انها مثل بطاريته.
ويمسك بها سليمان ويجدها مختلفة في الشكل ويبدي تخوفه من ذلك للبائع الذي يؤكد له انها مثل بطاريته وستؤدي نفس الوظيفة بل هي أكفأ فالبطارية القديمة6 فولت9 أمبير.. اما هذه فهي7 فولت12 امبير.. وهنا يسأله سليمان بطارية ايش دي؟ فيجيبه الرجل انها بطارية موتوسيكل.
سعد سليمان بذلك.. وطلب من الرجل واحدة اخري.. وشحن الاثنتين ودفع له المبلغ الذي طلبه واخذ منه فاتورة بذلك.. وخرج سليمان من المحل وسعي الي الاقتراب من مكان لتجميع الزبالة فأسقط خلسة البطارية القديمة.. لحظتها شعر سليمان بالراحة فقد اصبح الآن في مأمن.. فالبطاريات التي معه بطاريات موتوسيكل ومعه فاتورة من المحل الذي اشتراها منه, واستقل سيارة الي العريش.. وتوجه الي منزله.. وفي الليل تسلل الي مخبأ الجهاز وقام بتوصيله بالبطاريتين.. فعمل الجهاز.. وسعد سليمان.. وقام بارسال اول نداء الي القيادة بعد طول غياب...وكانت سعادته اكثر عندما سمع الرد وكان الصوت واضحا جدا..فطلب مهلة لإرسال اشارة.
اسرع سليمان بكتابة الاشارة حيث ابلغ فيها بالعطل الذي كان بالجهاز وانه تمكن من التغلب علي ذلك العطل.. وانه مستعد للعمل من الآن.. ويصله رد القيادة بسعادتها لسلامته وعودته للعمل.
وعادت الاتصالات بين سليمان والقيادة مرة اخري.. والعجيب ان تلك البطاريات ظلت تعمل بكفاءه لمدة ثلاثة اشهر.. كان سليمان خلالها دائما علي اتصال بالقيادة والقيادة دائما علي اتصال به.. تطلب منه احتياجاتها من معلومات عن العدو ويجيبها سليمان بمعلومات تغطي تلك الاحتياجات.
لم يكن سليمان يعرف ان العدو قد تمكن باجهزة التقاطه من التقاط اشاراته المشفرة.. ولم يكن يعرف ان العدو يحاول المستحيل من اجل الوصول الي مصدرها.. فقد كانت دوريات العدو من آن لآخر تجوب المنطقة بالقرب من مكان مخبأ الجهاز.. ومعها الاجهزة التي تلتقط الاشارات..
وفي احد الايام.. بينما كان سليمان بداخل المخبأ يرسل رسالته.. اذا به يسمع اصوات جنود العدو ووقع اقدامهم فوقه.. اي فوق غطاء المخبأ.. فوقف عن الإرسال واطفأ الجهاز.. وحاول جنود العدو المستحيل اكتشاف المكان حقا كانوا يقفون فوقه مباشرة.. ولكنهم لم يكتشفوه لجودة التموية..إلي ان يئسوا فانصرفوا وخرج سليمان وامتنع عن الإرسال والاستقبال لمدة اسبوع.
القبض علي سليمان
كان العدو قد قام بتحرياته في تلك المنطقة.. ووجد ان بيت سليمان هو اقرب مكان للموقع الذي حددته اجهزة التقاط الاشارات اللاسلكية.. وفي احد الايام.. بينما كان سليمان داعيا بعض الاعراب علي الغداء.. اذا بسيارات العدو وجنوده تحاصر المنزل.. ثم قاموا بشن الهجوم عليه.
قام رجال العدو بتفتيش المنزل بدقة بحثا عن جهاز اللاسلكي.. وعندما لم يعثروا عليه.. وبعد ان يئسوا من جعل سليمان يعترف بوجود جهاز لديه.. قاموا ببإلقاء القبض عليه.. وتم حبسه في سجن العريش.
عمليات التعذيب
في تلك الزنزانة الضيقة بذلك السجن.. سجن العريش.. كان سليمان جالسا علي الأرض منتظرا ما سيحدث له.. وكان الانتظار صعبا.. فالانتظار دائما ما يوصل الإنسان الي نوع من التوتر النفسي.. وفعلا هذا ما حدث لسليمان بعد مضي ثماني ساعات.. بعدها فتحت عليه الزنزانة ودخل ذلك الضابط الإسرائيلي وكان خلفه عدد من الجنود.
ظل الضابط مركزا نظره علي سليمان لفترة.. ثم أمره بالوقوف.. فوقف سليمان.. طلب منه الضابط ان يلف لفة كاملة حول نفسه وهو واقف في مكانه فلف سليمان.. طلب منه أن يظل يلف حول نفسه دون توقف فنفذ سليمان وظل يلف.. وكان من الطبيعي انه بعد عدد من تلك اللفات يشعر بالدوخة فتوقف.. ولكن صراخ الضابط كان يدفعه الي استمرار اللف الي ان وقع علي الأرض مغشيا عليه.
وعندما عاد سليمان الي وعيه.. وجد نفسه مربوطا علي مقعد.. وامامه ضابط آخر يجلس علي مكتب.. عرف سليمان بعد ذلك انه ضابط من الاستخبارات الاسرائيلية امان أي ضابط من المخابرات العسكرية الاسرائيلية كان ذلك الضابط يضع علي شفتيه ابتسامه صفراء خبيثة.. حيث اشار لأحد الجنود.. فأسرع الجندي بفك وثاق سليمان.. بعدها طلب منه الوقوف.. وقف سليمان.. حاول أن يتكلم ولكنه لم يستطع حتي الكلام.. فقد كان حلقه جافا تماما وايضا لسانه..واقترب منه الضابط ليعرف ما يريد سليمان قوله.. فسمع بالكاد صوت سليمان بوهن حيث كان يسأل الضابط..
سليمان: عايزين ايه؟
سمع الضابط ذلك السؤال من سليمان.. فأبدي سعادته وفرحته.. اقترب منه ودار بينهما الحوار الآتي:
الضابط: كنا عايزينك تسأل السؤال ده؟
سليمان: عايزين ايه؟
الضابط: عايزينك تقولنا علي مكان جهاز اللاسلكي
سليمان: مااعرفش
الضابط:( وببرود شديد) طبعا.. أنا كنت عارف انك حتقول كده.. طيب ياسليمان نجرب معاك طريقة ثانية.
ويشير الضابط للجنديين.. فيسرعان إلي سليمان ويجردانه من كل ملابسه ويتقدم ذلك الضابط من سليمان.. ويخرج من جيبه قلما جافا.. وانحني قليلا وازاح عنه القطعة الاخيره من ملابسه الداخلية.. وفجأه وبقسوه وضع غطاء القلم الجاف في فتحه البول لسليمان الذي صرخ صرخة مدوية.. واغمي عليه فورا.
ويفيق سليمان علي تلك المياه البارده التي دفعت إلي وجهه وصدره وعندما فتح عينيه.. وجد الضابط واقفا والقلم الجاف بيده.. وبابتسامة يسأل سليمان...
الضابط: هاه ياسليمان..حتقول الجهاز فين؟
سليمان: ما اعرفش حاجة
ويعاود الضابط الكرة مره اخري.. ويصرخ سليمان.. ويغمي عليه.. وظل الحال علي ذلك لمدة يوم كامل.. سليمان معلق من يديه لأعلي.. وغطاء القلم الجاف يستعمل كل مرة يفيق فيها سليمان.. إلي ان فاق سليمان فوجد نفسه علي الارض في الزنزانة ومعه طبيب يضمد له جراحه من اثر ما حدث.. ثم يخرج الطبيب ويبقي سليمان بمفرده في الزنزانة.
تماسك سليمان.. ونظر حوله فوجد طبقا من اللبن وقطعة من الخبز المقدد.. وبرغم تلك الآلام التي كان يشعر بها.. فإنه قام بوضع الخبز في اللبن المثلج وابتلعه.. فقد كان يريد ان يستعيد بعض قوته ليقاوم.
سليمان عاد وتمدد علي أرض الزنزانة.. محاولا النوم.. وفجأه وكأن سقف الزنزانة قد فتح فيه طاقة واسعة نزل منها الماء المغلي عليه.. فقفز سليمان من مكانه مبتعدا وهو ينظر للسقف.. فوجد ما يشبه الدش يندفع منه الماء الساخن.. فأسرع بالابتعاد عنه الي ركن آخرمن الزنزانة.. ولكن يفاجأ باندفاع ماء مثلج من دش آخر في ذلك الركن.. ظل سليمان يهرب من دش ماء مغلي الي ركن آخر في الزنزانة فيفتح عليه دش ماء مثلج.. وهكذا في جميع أركان الزنزانة وحتي في منتصفها.. واستمر ذلك لمده تقرب من الثلاث ساعات إلي ان وقع ولم يشعر بشيء.
سليمان لم يعرف كم من الوقت مضي عليه بعد تلك الاغماءة الاخيرة ولكنه شعر بأنه قد استرد بعض تركيزه... فيبدو انه ترك لينام فتره ما.. وعندما افاق وجد نفسه جالسا علي مقعد ويديه مقيدتين للخلف.. وامامه ذلك الضابط الإسرائيلي المكلف باستجوابه وتعذيبه.. ويعود الضابط لسؤاله..
الضابط: الجهاز فين ياسليمان؟
سليمان: ما اعرفش..
ويشير الضابط لأحد الجنود كان ممسكا بطرفي سلك ويتقدم من سليمان ويضع كل طرف علي احدي قدمي سليمان ويلصقهما ببلاستر..وبواسطة زر موصل بالكهرباء يضغط الجندي فتسري الكهرباء في جسد سليمان فيصرخ.. يشير الضابط للجندي.. فيوقف التيار الكهربائي.. ويسأل سليمان
الضابط: الجهاز فين يا سليمان؟
سليمان مااعرفش..
ويشير الضابط للجندي فيوصل التيار.. ويظل الحال علي ذلك لمدة تقرب من ساعتين الي أن فقد سليمان الوعي تماما.. وعندما افاق.. وجد ذلك الطبيب بجواره.. يكشف عليه..
خرج الطبيب من الزنزانة.. واشار الضابط للجنود. فأجلسوا سليمان علي مقعد وقيدوا يديه من الخلف.. كان الضابط يقف امامه وهو يدخن سيجارة ويوجه حديثه لسليمان محاولا إقناعه بأن يعترف ويصرح بمكان الجهاز.. والا فإنهم سيستمرون في تعذيبه الي ان يموت.. ويرد عليه سليمان بأنه لا يخشي الموت بل انه يتعجله.. ويقترب منه الضابط وبهدوء ليقول له انه سيموت ببطء.. وفجأه يلقي بالسيجاره المشتعلة في صدر سليمان.. فتستقر بين لحمه وملابسه.. ويتململ سليمان من لسع تلك السيجارة ويصرخ.. ويتركه الضابط علي هذا الوضع الا ان تخترق شعلة السيجارة ملابس سليمان وتسقط علي الارض ومعها سليمان..
يقوم الجنود برفع سليمان الي المقعد المقيد عليه.. وكان الضابط يشعل سيجارة اخري.. ويقترب من سليمان ويظل يتحدث معه عن فوائد اعترافه والمكاسب التي ستعود عليه لأنه سيصبح رجلهم.. ولكن سليمان يظل علي موقفه.. فيقوم الضابط بإسقاط السيجاره في صدر سليمان.. وظل ذلك الضابط يستخدم صدر سليمان كطفاية سجائر عدة مرات.. ولكن ابدا لم ينطق سليمان.. بل كان يفقد النطق والوعي ويغمي عليه..
تعامل العدو مع البطل سليمان بكل انواع التعذيب القاسية.. ولكن ابدا سليمان لم يعترف.. وعلي قدر احتمال البطل سليمان للتعذيب الوحشي وعدم خضوعه واعترافه.. كان غضب ضابط مخابرات العدو منه أقوي.. فقد اثبت لهم بطولته بالرغم من كل قسوتهم.. لقد تغلب عليهم سليمان رغم جبروتهم وضعفه لقد أجبرهم البطل علي ان ييأسوا منه.. واصبحوا في حيرة من امره..
ويشاء ان تصل الي العدو معلومات تفيد ان هناك بدويا يدعي محمد الخضيري هو علي علاقة نسب بالبطل سليمان.. وان هذا الرجل كان يتعامل مع المخابرات المصرية.. وبما انه بدوي من الرحل.. فالعدو لايعرف مكانا ثابتا له وهنا ارادوا ان يصيبوا عصفورين بحجر.. أولا الاستفادة من سليمان ليدلهم علي مكانه.. والآخر ان يصيبوا سليمان في بطولته امام اهله وعشيرته.. عندما يصطحبونه ليدلهم علي مكانه ويعرف ان سليمان هو الذي ابلغ عنه.
كان سليمان قد وصل الي اقصي درجات الضعف والإعياء.. اصبح لا يحتمل أي تعذيب آخر.. فأخذوه امام ضابط مخابرات.. وسأله عن محمد الخضيري نسيبه..
ولم يستطع سليمان إنكار نسبه لذلك الرجل.. فهو قريبه فعلا فطلب ضابط المخابرات من سليمان ان يدلهم علي مكان محمد الخضيري هذا, ووعده ان دلهم علي مكانه فانهم سيوقفون التعذيب عنه.. حقا كان ضابط المخابرات متأكدا من ان سليمان سيرفض ذلك.. فتجربه قسوه تعذيبه لم ترجعه عن الاصرار علي عدم الادلاء بأي معلومات يعرفها..
ولكن كانت المفاجأة لضابط المخابرات ان وافق سليمان علي ذلك.. حقا تعجب ضابط المخابرات لموافقة سليمان..وحقا كان ذلك عجيبا من سليمان..
ولكن العدو لحظتها لم يعرف ما كان يفكر فيه سليمان.. فهو لن يدلهم علي شيء.. ولكنه قرر أن يبدأ لعبة القط والفأر بذكاء مع العدو.. قرر ان يحاول الهرب.. فحساباته تقول انه مقتول مقتول بيد العدو.. سواء دلهم علي مكان الرجل المطلوب أو لم يطاوعهم حقا هو في داخله متأكد ان نجاحه في الهروب لايزيد علي10%.. ولكن في النهاية سيقتلونه وهو يحاول الهروب.. اذن فعليه ان يحاول..
ترك سليمان في زنزانته ليلتها.. فنام كفايته.. ولكنه لم يكن نائما طوال الوقت.. بل بعض الوقت فقط. اما باقي الوقت فقد كان يفتعل النوم بينما كان يضع لنفسه خطه الهروب من العدو..
***
في صباح اليوم التالي اخذ سليمان الي ذلك الضابط.. وابدي استعداده الي مصاحبته الي المكان الذي يختفي فيه محمد الخضيري.. ولكن يجب ان ينتظروا الي المساء حتي يستتروا بالظلام..
وفي نفس الليلة اصطحب ضابط المخابرات سليمان.. وكان معه قوة مكونة من ثلاثة ضباط وعدد16 جنديا.. كلف منها جنديان بحراسه سليمان المقيد اليدين من الخلف.. وانطلقت بهم عدد خمس سيارات جيب الي المكان الذي سيدلهم عليه سليمان..
دخل بهم سليمان في مدقات وعرة في صحراء سيناء.. وسار بهم مسافة تقرب من عشرة كيلو مترات.. ثم طلب سليمان من الضابط ان يتوقف.. ويوقف الركب كله.. وتطفأ أضواء السيارات ويلتزم الصمت التام.. وذلك لأن المكان الذي به محمد الخضيري علي مسافة كيلو متر واحد ومن الاصلح ان يترجلوا.
واطفئت اضواء السيارات.. وطلب الضابط من الجميع الترجل.. وطلب من سليمان ان يتقدمهم بين حارسيه.. وبعد ان سار بهم مسافة طويلة.. توقف واشار للضابط علي بيت من الصفيح علي بعد حوالي خمسين مترا من المكان الذي توقفوا عنده.
***
قام ضابط الاستخبارات بتوزيع الجنود.. وكأنه سيشن هجوما علي جيش فبعضهم حاصر المكان من جميع الاتجاهات..والبعض الآخر كان يشكل قوة الهجوم.. وامر الضابط بالتحرك.. ولكن سليمان رفض وطلب من الضابط ان يترك مكانه مع حراسته. فهو لا يريد ان يظهر أمام نسيبه عند القبض عليه ولكن هذه المرة الضابط هو الذي رفض.. فهو اصلا يقصد ذلك فامر الجنديين بان يجروا سليمان بالرغم منه.. فصاروا يجرونه في الارض مع تقدمهم الي ذلك البيت الصفيح.
تقدم الضابط وقوة الهجوم بهدوء ليفاجئوا الرجل.. وتم اقتحام المكان ولكن لم يكن به سوي رجل مسن يقرب من الثمانين عاما.. كان هو عم الرجل المطلوب..وبصعوبة فهم منه الضابط ان محمد الخضيري لم يحضر الي ذلك المكان منذ حوالي شهر..وحقا كان سليمان يعرف ذلك..
بكل الغضب أمر ضابط الموساد بإحضار سليمان.. وواجهه بالرجل المسن ولكن سليمان نظر الي الضابط بنظرة معينة.. فخرج به الي الخارج.. وهمس سليمان للضابط بأنه يعرف المكان البديل الذي يختفي فيه محمد الخضيري..
سار بهم سليمان لمسافه خمسين مترا من ذلك البيت في اتجاه الشرق ثم اشار لهم علي منطقة منخفضة في آخرها بيت من الشعر.. بالقرب منه شجرة عبل كبيرة.
وتقدم الضباط وخلفهم الجنود.. وسليمان بين الجنديين يسحبانه بالقوه الي ان هبطوا إلي المنطقة المنخفضة.. وبعد نحو400 متر تقريبا من الهبوط.. كان هناك مكان من خوص يشبه العش... وتوقف الضابط وامر جنوده بتطويق ذلك المكان المنخفض.. وتفتيش ذلك العش.. بينما انطلق هو واربعة من الجنود الي ذلك البيت من الشعر.
ظل الجنديان يجران سليمان بصعوبة حتي وصلا به الي ذلك البيت من الخوص.. وكان محاطا بسور من زعف النحيل.. واشار الضابط الي الجنديين المكلفين بحراسة سليمان ان يتوقفا به عند ذلك البيت من الخوص.. وانطلق هو وجنوده لمهاجمة بيت الشعر.. والقي الجنديان بسليمان بجوار صخره مدببة..
كان سليمان مقيد اليدين من الخلف بالحبال.. وعندما دفع به الجنديان الي تلك الصخرة حقا تألم.. وشعر بوخزة في ظهرة.. وعندما التفت وجدها قطعا من الصخر البارز المدببة.. فصار يحك الحبل الموثق بيديه في تلك الصخرة.
وإذا انتقلنا الي داخل البيت من الشعر.. لوجدنا الضباط والقوة التي داهمته تعثر علي ثلاثة رجال من البدو نائمين.. ايقظهم الجنود بضربهم بقواعد البنادق.. وسألهم الضابط عن محمد الخضيري.. يداه معرفتهم بمكانه.. فأمر الجنود بضربهم.. وكانت اصوات صراخهم تصل الي سليمان في مكانه مع حراسه بجوار ذلك البيت من الخوص.
لم يكن جنديا الحراسة علي سليمان يعرفان انه قد تمكن من قطع الحبل المقيد به يداه بواسطة تلك الصخره المدببة التي كان يرتكن عليها.. كانا قد أهملاه متكلين علي قيوده المقيد بها..
كان الضابط والجنود بداخل الشعر يحاولون استجواب الرجال الثلاثة عن مكان محمد الخضيري.. واكتشف الضابط من اقوالهم.. ان الخضيري هذا مختف من سيناء كلها منذ بضعة أشهر.. وان آخر اخباره انه كان يعمل في تل ابيب.. هنا شعر ضابط المخابرات ان سليمان قد خدعه..
ولنسرع الي سليمان في الخارج قبل ان يسرع اليه الضابط.. كان سليمان في هذه اللحظات قد عاين بنظره الحاد تلك المنطقة المحيطة.. فشاهد علي بعد مائه متر من مكانه منطقة عشب كثيفة ومرتفعة.. فلو تمكن من الوصول اليها والدخول فيها فانه من الممكن ان يختفي عن الجنود..
ونظر سليمان لحارسيه فوجدهما مشغولين عنه. وشاهد ذلك الخنجر في وسط احدهما.. كان ظهره له.. وفجأه انقض سليمان كالوحش علي ذلك الجندي وفي نفس الوقت سحب الخنجر.. وغرزه في ظهره.
وفطن الحارس الآخر لذلك وسريعا ما وجه بندقيته لسليمان. واطلق.. ولكن لم تصب الطلقة سليمان فقد كان الاخير قد اسرع بضرب الجندي بقدمه في وجهه.. ثم غرس الخنجر في قلبه ولكن تلك الطلقة قد نبهت ضابط المخابرات وباقي القوة.. فخرجوا من بيت الشعر.. وكان سليمان قد أطلق ساقيه للريح في اتجاه الاحراش..
لم يكن يعرف اذا كان فعلا يجري ام انه يخيل له ذلك.. فكل ما كان يعيه انه يقترب شيئا فشيئا من منطقة العشب.. وفي نفس اللحظة كان ضابط المخابرات قد سحب بندقية من يد احد الجنود.. واطلق منها طلقة اصابت سليمان فوقع علي الارض علي بعد قليل قبل وصوله لتلك الاحراش..
سمعت باقي القوة طلق النار فانهال من اسلحتهم وابل من النيران في اتجاه سليمان الذي ظل يزحف علي الأرض محاولا الوصول الي داخل تلك الاحراش. وبصعوبة دخلها سليمان..
ظل سليمان لفترة منبطحا علي الارض.. وايضا كانت الطلقات تنهمر عليه من كل جانب.. وتمر من حول جسده.. وبعد لحظات استرد فيها انفاسه ظل يزحف علي الارض الي ان وصل الي نهاية منطقة الاحراش. فوجد امامه منطقة رمال مكشوفة تماما.. وكانت الطلقات تقترب منه.. وايضا اصوات الجنود وهم يصرخون عليه بالتوقف..
كانت اصابة سليمان تؤلمه وتحد من حركته.. فقام بقطع قطعة من قماش عمامته وقام بربط ما قبل الجرح بقليل ربطة قوية لمنع النزيف.. واثناء ذلك كان يسمع اقتراب أصوات مطارديه وطلقات اسلحتهم المستمرة.. فقرر لحظتها الاستمرار في محاولة الهرب.. انه لن يتوقف حتي يقتلوه أو ينجح في الهرب منهم..
زحف سليمان علي الأرض مستترا بهذه الاعشاب الكثيفة.. ولكنه شعر بقربهم منه جدا..فنظر حولة فوجد شجرة عبل فتوجه الي اسفلها وصار يحفر بيديه بقوة حبه للحياه وبسرعة لهاثه.. حتي تمكن من عمل حفرة بالكاد يضع فيها جسمه.. ثم نزل فيها.. وسحب بيديه الرمال عليه.. أي أنه دفن نفسه في الرمال.
كل ذلك وطلقات الرصاص لم تنقطع.. وأصوات صرخات الجنود علي بعضهم وهم يبحثون عنه بين الأحراش تقترب.. الي ان شعر سليمان انهم وصلوا لأقرب مكان منه.. فقام بدفن رأسه ووجهه في الرمال.. ووصلوا فعلا الي مكانه واصبحوا بالقرب من منطقة الرمال المكشوفة.. ولكن يشاء الله ان يعميهم عنه فلم يكتشفوا مخبأه..
***
بعد لحظات شعر سليمان وهو غير مصدق.. ان الاصوات تبتعد قليلا عنه وكان قد اصبح لا يستطيع كتم انفاسه.. فرفع رأسه قليلا ليلتقط بعض الهواء فشاهد الجنود يتراجعون بعد ان يأسوا من العثور عليه.. فمنطقة الرمال امامهم مكشوفة.. ولكن كانت اقدام احد الجنود مازالت بالقرب منه.. وفي متناول يده وشاهد سليمان خنجرا في جراب بساق الجندي.. وبمبدأ ياقاتل يامقتول.. أمسك سليمان قدمي الجندي وبقوة الخوف الهستيري ولواهما.. فوقع الجندي علي الارض.. فخطف سليمان الخنجر من ساقه واسرع وأجهز عليه به..
نهض سليمان.. وسحب الجندي الذي قتله الي الحفرة التي دفن نفسه بها حيا.. فدفن فيها الجندي قتيلا.. ووقف يتنصت علي مطارديه فوجدهم يبتعدون عن مكانه.. فخرج الي المنطقة الرملية المكشوفة وسار للامام عشر خطوات ثم بدأ يتراجع للخلف وتعمد ان يضع قدميه وهو يتراجع مكان قدميه وهو يتقدم وذلك حتي لايعرف من سيقتفي اثره انه تراجع فيتوقع انه اتجه للامام فيذهب للبحث عنه في هذا الاتجاه..
وعندما وصل الي أولي خطواته.. توقف وقطع قطعة من فروع شجر العشب واستدار للخلف وصار يتراجع جهة اليمين وهو يمسح آثار أقدامه إلي ان وصل الي منطقة ارض طينية صلبة لا يظهر فيها الاثر.. وكانت ترتفع لأعلي علي شكل تبة صغيرة.. وفي اعلاها نظر فوجد مطارديه مندفعين في الاتجاه الامامي حيث خدعهم بأقدامه التي افتعلها في هذا الاتجاه..
كان الجنود مازالوا يبحثون عنه بين الا حراش.. واثناء ذلك مر احد الجنود في المكان الذي دفن فيه سليمان ذلك الجندي الذي قتله.. فتعثر في جثته وعندما حاول الوقوف كانت بعض الرمال قد انزاحت من علي الجندي القتيل ودقق النظر فيه فشاهد زميله المدفون تحت طبقة خفيفة من الرمل.. وفجأه انطلقت من الجندي صرخة مدوية.. لا احد يعلم اذا كانت صرخة فزع من رؤية زميله مقتولا.. او انها صرخة للفت انتباه باقي القوة اليه ليسرعوا نحوه.. وايا كانت اسباب الصرخة فقد اسرع عدد من الجنود اليه ووجدوا زميلهم مقتولا..
جن جنون ذلك الضابط.. فالهارب سليمان لم يكتف بالهرب بل قتل ثلاثة من جنوده ايضا.. فأمر الضابط بسرعة اقتفاء اثر الهارب.. وتقدم احد الجنود وهو من قصاصي الاثر.. فوجد اثار أقدام سليمان تتقدم إلي الأمام.. فنادي عليهم وأسرعوا إليه في نفس اللحظة كان سليمان مازال مختبئا في الجهة اليمني ووجدها فرصة سانحة فتسلق تلك التبة.. ووصل الي قمتها.. وكان علي بعد منه ذلك البيت البدوي المصنوع من الخيط.. والذي سبق وفتش فيه العدو عن محمد الخضيري.. فدخل سليمان الي ذلك البيت وحقا كانت فكرة سليمان ماكرة فالعدو لن يتصور ان يلجأ سليمان الي ذلك البيت من الخيط ليختبئ فيه.. فهم قاموا بتفتيشه من قبل ولم يجدوا فيه سوي ذلك الرجل المسن..
ظل العدو يبحث في جميع انحاء المنطقة.. وكان الليل قد أسدل ظلامه فأطلقوا القذائف المضيئة واستمروا في البحث عن سليمان.. إلي ان انتابهم اليأس فعادوا الي سياراتهم واستقلوها.. وقبل ان يتركوا المنطقة.. سلطوا كشافات السيارات الجيب علي كل المنطقة بحثا عن الهارب.
نعود إلي سليمان في ذلك البيت من الخيط.. حيث كان يعاني اثر تلك الطلقة التي اصيب بها في ساقه.. وكان لابد من إخراجها... وتولي الرجل المسن اخراج تلك الطلقة من ساق سليمان.. ذلك بعد ان وجد منه استعدادا لتحمل الالم.. فاحمي الرجل خنجرا في النار.. ووضع في فم سليمان قطعة من الخشب ليعض عليها.. وتمكن العجوز من إخراج الرصاصة.. ثم قام بكي الجرح وكانت قوة احتمال سليمان للالم قد نفذت فأغمي عليه.
لم يفق سليمان من اغمائه سوي قرب الفجر.. حيث وجد ذلك الرجل المسن بجواره.. وكان سليمان قد استرد بعض قوته.. فأراد ان يخرج من البيت الشعر حتي يستكمل هروبه.. وبحث مع ذلك الرجل المسن الذي كان يمثل الاستضعاف امام العدو عندما هاجم البيت من الشعر اول مرة..والذي ثبت انه علي دراية كاملة بالمنطقه.. فهو ايضا من المجاهدين..وبحث معه سليمان أي الطرق التي يمكن ان يجتازها دون ان يشعر به العدو..
أجابه الرجل المسن بأن أأمن طريق يمكن منه الهرب هو ان يتجه شرقا وراجعه سليمان بأن ذلك الاتجاه عبارة عن منطقة مكشوفة.. فأجابه المسن بانه من اجل ذلك يختار له هذا الاتجاه.. ولو ان تلك المنطقه التي يفضل له الاتجاه اليها عبارة عن حقل ألغام.. لذا فهي لاتصلح للهرب.. وبالتالي فجميع الاتجاهات مغلقة في وجهه..
وفكر سليمان فيما قاله الرجل.. ثم سأله اذا كان يعرف شيئا عن خريطه حقل الألغام هذا.. فأجاب الرجل بانه هو الذي زرعه.. ويجلس في ذلك البيت المشرف عليه ليري بنفسه نتيجة عمله.. ليري العدو يدخل في ذلك الحقل وتنفجر فيه الالغام التي زرعها.. وعجبا لهؤلاء البدو الوطنيين.. الرجل يعرف انه مسن وغير قادر علي محاربة رجال العدو.. فزرع الالغام وعاش بجوارها حتي يري بنفسه نتيجه عمله عندما تحصد تلك الالغام جنود العدو.. كانت تلك امنية ذلك الرجل المسن..
وفكر سليمان ان يحقق لهذا الرجل أمنيته.. وطلب منه ان يدله علي الطريق الآمن بين تلك الالغام ولمسافة100 متر فقط. فأجابه الرجل بالإيجاب وعلي الارض الرملية رسم له المسن الطريق بين الالغام..
وعليه قام سليمان وارتدي حذاءه.. وتقدم مسترشدا بارشاد الرجل وصار يخطو بين الالغام.. الي ان وصل الي الحد الذي طلب منه الرجل التوقف.. هنا بدأ سليمان يتراجع للخلف وأثناء تراجعه كان يحرص علي ان يضع اقدامه مكان كل قدم تقدم به.. كما فعل من قبل وذلك ليخفي رجوعه.. ووصل الي اول الحقل..وطلب من الرجل المسن أن يرشده لمكان آمن يختبأ فيه..
أخذ الرجل المسن سليمان من يده.. ودخل به الي ذلك البيت من الشعر وأزاح عن الارض ما يطلق عليه بالحصيرة.. وفي ركن من المكان.. رفع غطاء مموها بشكل الارض.. ونظر فيه سليمان فوجدها حفره عمقها حوالي مترين وعرضها نحو مترين.. فاطمأن سليمان علي مكان اختفائه من العدو لو داهم ذلك البيت مره اخري.
واستفسر الرجل المسن منه عن الغرض الذي قام من اجله بدخول حقل الالغام ثم رجوعه بهذه الطريقه.. وشرح له سليمان.. فعند بزوغ ضوء النهار ستعود قوات العدو للبحث عنه.. ولا شك انهم سيعثرون علي آثار اقدامه داخل تلك المنطقه الملغمة التي لايعرفون شيئا عن تلغيمها.. وعليه فإنهم سيتقدمون فيها وبالتالي سيقعون في شرك حقل الالغام..
عم ضوء النهار المكان.. وجلس ذلك الرجل البدوي المسن خارج البيت امام راكية من نيران العشب كان يضع عليها كوزا به الشاي كعادة البدو.. وفي الحقيقة كان يراقب الطريق لينبه سليمان لوصول العدو.. وسمع العجوز أصوات قادمة من بعيد.. فنظر في اتجاه الصوتا.. فشاهد علي بعد قولا من سيارات الجيب محملة بأعداد من جنود العدو.
كان ذلك الرجل المسن يجلس خارج البيت أمام راكية من نيران العشب عليها كوز به الشاي كعادة البدو.. وفي الحقيقه كان يراقب الطريق لينبه سليمان لوصول العدو.. وعلي بعد شاهد الرجل قولا من سيارات الجيب محملة بأعداد من جنوده.. ومن مكانه دون ان يتحرك اعطي اشارة لسليمان الذي كان يقبع بداخل البيت من الشعر وينظر من فتحة منه وسريعا اختفي سليمان في تلك الحفرة المموهة..
توقفت قوات العدو قرب بيت الشعر.. حيث كان يجلس ذلك الرجل المسن الذي كان يمثل الضعف والوهن.. وسأله الضابط اذا كان قد شاهد رجلا هاربا في المنطقة.. وبصوت واهن أبلغه الرجل ان نظره ضعيف.. ولم ير شيئا ولكنه لم يشعر برجل غريب في تلك المنطقة.. وفي اثناء ذلك اسرع اليه احد الجنود وابلغ الضابط بأن قصاص الاثر عثر علي اثر لأقدام الهارب..
أسرع الضابط الي مكان قصاص الاثر.. الذي اشار له مؤكدا انها آثار أقدام الهارب.. وانه هرب في هذا الاتجاه أي الي داخل حقل الألغام.. وان ذلك كان تقريبا قرب الفجر أي منذ عدة ساعات. وعليه فإنه لابد وان يكون قد قطع مسافة كبيرة في هذا الاتجاه..
أمر القائد جنوده بأن يتسلقوا المركبات ويسرعوا ليلحقوا بالهارب وتقدم هو بسيارته الجيب.. وباقي القوات بالسيارات خلفه داخل حقل الألغام.. وهنا بدأت الألغام تنفجر في السيارات ومن عليها الواحدة تلو الاخري.. الا أن ذلك الضابط توقف في مكانه بالسيارة.. وفهم الخدعة.. وتمكن بصعوبة ان يعود الي خارج حقل الألغام.. بينما بعض الألغام تنفجر في بعض جنوده.. وسريعا مابلغت الاشارات وسريعا ما وصلت سيارات الإسعاف.. وسريعا ما وصلت قوات الكشف عن الألغام.. وايضا سريعا ما وصل بعض كبار المسئولين..
وارتبكت الأمور وكان ضابط المخابرات هذا قد نجا فعلا ولكنه بغبائه ومكر سليمان أوقع بعدد كبير من جنوده قتلي.. فكان في أقصي درجات الغيظ من سليمان الهارب.. وأمر بإحضار ذلك الرجل المسن الذي يقيم في ذلك البيت من الشعر.. ولكن أبدا لم يعثروا عليه فقد اختفي تماما دون ترك اي اثر..
أما سليمان الهارب الماكر.. فقد فكر في حيلة أخري لاستكمال هربه.. انه عندما بدأ هروبه كان يتجه الي الشرق.. فماذا لو عكس اتجاهه وهرب الي الغرب أي الي داخل عمق العدو الذي لن يتصور ابدا ان الهارب سيعود الي المكان الذي هرب منه..
الهروب إلي الداخل
وقرر سليمان ان يهرب الي الداخل وليس الي الخارج.. فليعد أدراجه الي المكان الاول الذي خدع العدو به.. علي انه مكان محمد الخضيري.. وفعلا بدأ رحله العودة.. كان كلما يقطع مسافة في العودة وهو مختفي يري سيارات الاسعاف وسيارات الجيش والقوات تتجه مسرعة الي مكان حادث حقل الالغام.. كان لحظتها يشعر بكل السعادة.. فرغم انه فرد واحد وهارب ويقاوم جيشا فإنهه تمكن من ايقاع خسائر كبيرة بالعدو.. ووصل سليمان في سيره الي منطقة كثيفة العشب.. فقرر الاختفاء فيها الي أن يحل الظلام ليستأنف رحلة الهروب.
وحل الليل.. وكان سليمان قد حصل علي بعض الراحة.. وكان العدو قد بدأ يستجمع شتات نفسه بعد ذلك الحادث الكبير.. فبدأ مطاردته للهارب سليمان مرة أخري.. ولكن هذه المرة استخدم العدو الطائرات المروحية وكشافات الاضاءة التي كان يسقطها منها.. بينما كان سليمان يواصل هروبه داخل تلك الاحراش.. الا ان وصل الي الطريق الذي يوصل الي مدينة العريش..
***
كان هذا الطريق مكشوفا تماما.. فخشي سليمان من تلك الكشافات الضوئية التي تلقيها الطائرات للبحث عنه واكتشاف مكانه.. فظل مختبئا إلي توقفت تلك المروحيات وبالتالي توقف نشاط مطارديه.. فانطلق سليمان يسير بسرعة علي جانب ذلك الطريق المؤدي إلي العريش.. كان يقفز في هروبه من شجرة الي شجرة.. إلي ان شاهد علي بعد منطقة زراعة زيتون.. وكان يعرف مسبقا انها قريبة جدا من مدخل مدينة العريش..
دخل سليمان بين شجر الزيتون وجلس ليستريح.. ولكن فجأة يسمع سليمان اصوات المروحيات تقترب.. ومعني ذلك ان العدو قادم بسياراته الجيب ومن المؤكد ان العدو سيتوقع مكان اختفائه بين شجر الزيتون.. وبالتالي سيتم تفتيش منطقة الزيتون تلك تفتيشا دقيقا وفكر سليمان بسرعة.. ثم تحرك الي مكان تقل فيه كثافة شجر الزيتون..
كان سليمان يسير علي عكس التفكير المنطقي للعدو.. فالمنطق لشخص يريد الاختفاء ان ينتقي مكان كثيف الاشجار ليختفي فيها.. إلا ان سليمان انتقي مكانا كثافة اشجاره قليلة.. وبه مناطق مكشوفة وخالية.. تماما كما فعل عندما سار في هروبه الـي الداخل تجاه الشرق.. بينما العدو كان يبحث عنه في اتجاه الغرب..
سمع سليمان صوت محركات سيارات العدو تقترب.. فأسرع بالاستلقاء علي ظهره.. وبدأ يحفر في الأرض مرة أخري ليدفن نفسه فيها.. ولكن هذه المرة من المؤكد أنه سيضطر ان يبقي مدفونا تحت الارض مدة طويلة.. فبدأ يجهز لذلك بيديه يحفر اسفل جسمه بسرعة وقوة.. وكان يأخذ ناتج الحفر ويغطي به نفسه..
ولكنه اكتشف ان الرمال التي في باطن الارض يختلف لونها عن الرمال التي فوق الارض.. فالاخيرة بيضاء اما الاولي التي في باطن الارض فهي حمراء.. فقام بجمع بعض الرمال البيضاء من فوق الارض ووضعها بالقرب من يديه.. ثم استأنف الحفر حول جسده.. الي أن تمكن من دفن جسده تماما.. ثم بدأ ينثر الرمال البيضاء فوقه ليصبح كقطعة من الارض وبلونها.. ايضا كان قد حفر مكانا سيقوم بدفن رأسه وكان أصلا مستعدا بقطعة من البوص حتي اذا اقترب العدو من مكانه سيقوم بدفن راسه في التراب وسيستعين بقطعة صغير من البوص ليأخذ من خلالها بعض الهواء ليتنفس به.
وفعلا بعد دقائق من دفن نفسه في الرمال.. بدأ سليمان يسمع أصوات الجنود علي الأرض.. فقد انتشروا في محيط مكان اختفائه.. ودخل عدد منهم منطقة زراعة الزيتون المختبئ فيها ليبحثوا عنه.. ظل سليمان متماسكا الي ان أصبحت اصوات اقدامهم قريبة منه جدا.. فقام بدفن راسه وكان طرف صغير من البوصة فقط هو الظاهر. ولكن ابدا لا احد كان سيلاحظ ذلك.
كان علي سليمان ان يحبس انفاسه للحظات طويلة.. وكان عندما يضطر لإخراجها في عملية الزفير.. يخرجها ببطء شديد حتي لاتتحرك الرمال من فوقه ويكتشف مكانه.. ظل علي هذا الوضع لفترة كانت عليه أطول من كل ايام حياته وكان بعض جنود العدو يطأون مكانه بأقدامهم ولكنهم لم يشعروا به تحتها.
وظل سليمان محتملا ذلك علي اعصابه إلي ان انتهي جنود العدو من تفتيش المنطقة بكاملها دون جدوي.. ثم بدأ العدو الانسحاب من منطقة اختفاء سليمان.. وأيضا ابتعدت الطائرات.. فقد بدأ ضوء الفجر يظهر..