أخي المهاجر:
أطل عليك في موعد بلا وعد..في موعد صامت؛ صمته هدير بحور الأرض ، وصهيل أنواء البر وصعوق جنون الجو.
أطل عليك في موعد صامت..مرفرفاً على تضاريس جغرافيا ألمي ، جغرافيا ألمك بالذات.
الله...الله...الله ما أوسعها وما اشسعها جغرافيا ألمنا ، جغرافيا معاناتنا التي لا تطالها جغرافيا...؟...
أطل عليك غمامه..لعلها تهطل على ناظريك..تهطل غيثاً ونوراً وشوقاً وعطراً . وعساها تتلألأ على شفتيك ومضة ضوء ورحيق ونسائم وبلاسم. .................................................. .................................................. ..
الله !..يا مهجرنا الرهيب !..يا خنجراً اسرائيلياً آخر غرز في كبد أمتنا الطفلة الحزينة..
أيها النزيف العنيف الذي يصحر سهولنا ليخصب صحراء الغير..يصخر جلولنا ليفجر صخور الغير ماءً وشباباً وحياة.
أواه يا مهجرنا الرهيب !..يا أجهاض الثورة في الوطن ..بل يا نفي الثورة من الوطن.
أواه من التخلف المزمن الذي رافقنا نحن ..أجل نحن معشر المغتربين..رافقنا وعانقنا تحنطاً وتحنيطاً يضاهيان التحنط والتحنيط المصريين القديمين..رافقنا جميعاً وبدون أستثناء.
أواه من فقر مادي غدا بي غنياً من حيث الروح والسمو ، وعقراً ثورياً من حيث الابداع.
أواه من منابر لم تكن ألسنتها الا أفاعي تبتسم أبتسام المكر والعض والقض والهلاك..أنها لم تكن لتعض وتقض وتهلك الا نفسها بنفثها وسمها..وذاك من حيث تدري ولا تدري.
أواه من مسؤوليتنا التي أودعها الله لنا..ومن أمكاناتنا البسيطة الضعيفة...أواه...أواه...أواه..
أواه من شرر لم يحرث عتمنا الحالك..حرائق وزوابع وصواعق. ولكن شرف الشرر هو أن ينقدح..وفخر الفجر هو أن ينفجر ، وان لم تكن شرارة الأشتعال في هذه فستكون في تلك وتلكم . وان لم تكن في واحدة فستكون في اخرى . فالويل من الليل الذي لن يحرقه شرر ، ولن يكون نزيفة النار.
يا أخي المهاجر...بل يا أخي المنفي :
المنفي أجل المنفي .وكيف لا ؟.ونحن منفيون قبل أن نولد ؟
لقد طال النفي وحانت العودة الى النفس قبل العودة الى الوطن. وكلتاهما سماء تهف الى سماء.
لقد كتبت عبر نفيي الطويل الطويل الكثير الكثير..وها انا الآن من جديد وفي قارة نفيي الجديدة (قارة نفيك أنت) أتيتك بما كتبت من جديد..هذا البعض الجديد هو كلمات سلختها من أحشائي وقلبي وروحي وضميري ودمي.
هذه الكلمات البسيطة الصغيرة النحيلة المترجرجة التي تستقرئها عيناك : بذورها في الوطن وجذورها في الوطن ، صغتها جسراً لك حتى تعبر فوقه الى الوطن بعد أن حرمت أنا من الرجوع الى من أحببت والعيش في أحضان الوطن.
الشعر هو شعور..هو تيارات مشاعرية جنحتها الأحرف ومخرتها الموسيقى وأبرقتها الصور.وبين الشعر والنثر شعرة لا مرئية لا يبصرها الا الأحساس الشعري الرهيف ..الشعر هو أستخلاص الماس من جبال الكلمات وركامها..ومن ثم تنقيته وصقله وشعشعته ، والشاعر الشاعر قد تجود به أم في أمة من الأمم وقد لا تجود.
لقد آخيت الشعر منذ سنوات ..ولكنه لم يؤاخيني.كتبت من القصائد ومزقتها وما أعجبني بالأمس أخابني اليوم..لكأنني في جدلية عجيبة غريبة مع هذا الكائن العجيب الغريب ( ألا وهو الشعر) كأني طفل صغير يحلم في المستحيل تلو المستحيل وهو يعلم أن الوصول الى ركب ذاك الكائن يتطلب الكثير الكثير وربما أكثر من الحلم.
الشاعر الذي ينظر الى نفسه زهواً وأعجاباً وتبختراً لن يكون الا غريقاً يسقط في بحيرة جهله وفردانية انانيته.
الشعر هو نقفة في وتر..ورفة في جفن..وسحابة في عين ..ورقصة في قلب..وحرقة في كبد..وبركان في بؤبؤ..وزلزال في جسد..وما الشعر الا شعور فهو منبر الهمس وشلالات الأشراق.
ان الحمل الجنيني يستغرق تسعة أشهر حتى يرى النور..أما الحمل الشعري فقد يستغرق تسعات وتسعات.
أكتب شعري ..لا بل كلماتي البسيطة وأنا !..يد على قلبي ويد على ورقي ، ولكن عند طباعته تتقطع أنفاسي ، وما ترياقي مما أكتب سوى سرور قرائي ، فهم يعطونه وهم يصلونه ويواصلونه. وما تراه ( اخي القارىء المهاجر المنفي) في كلماتي ليس الا محاولة كمحاولات غيري للتحرر والأنطلاق من هذا الواقع التعيس الذي اعيشه أنا وأنت..أتقدم بها أليك فهي ليست سوى صدى صوتك وصوتي وليست سوى دوي زلزالي وزلزالك..فلئن وفقت في تقمص شعورك ووجدانك من خلال خضم الألم الذي يغمرنا جميعاً فوا نشوتي و واطوباي !!!!..........................................
والا فيكفيني شرف المحاولة.......................................... .....................
العرض الشجري
